وبعبارة أخرى يمكن القول: الموارد مختلفة تماماً ولكل ميدان من ميادين القتال وشرائطه ووضع العدو حكمه الخاص، ولكن غالباً إن كان الميدان بعيداً عن مركز الحكومة واشترك رئيس الحكومة فيه وقتل أدّى إلى عدّة مشاكل، ومن هنا نهى الإمام (عليه السلام) الخليفة عن حضور ميدان القتال بنفسه.

—–

 

2 ـ شبهة أخرى

لعل هناك من يشكل: كيف قدم الإمام(عليه السلام) هذه النصيحة الودّية والمشفقة للخليفة مع أنّه يرى الحكومة من حقوقه المسلمة وقد صرّح النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والآيات القرآنية بهذا المعنى في أنّ الولاية لعلي (عليه السلام)؟

الجواب على هذا السؤال واضح وهو أنّ الإمام (عليه السلام) إنّما يفكر في المصير النهائي للإسلام والمسلمين لا في شخصه، وهو يعلم أنّ الخليفة الثاني قد تربع على مسند الحكومة وتسلم زمام الأمور وقد وقف إلى جانبه عوام الناس وطائفة من الخواص، فانّ تعرض في ظل هذه الظروف إلى أزمة عظيمة وقتال خطير ساد الهرج والمرج البلاد وعمتها الفوضى وتعرض كيان الإسلام للخطر، فروح علي (عليه السلام) العظيمة تقتضي نسيانه لكل شيء وإيثاره لخير المسلمين على كل شيء.

—–

 

3 ـ الأمانة في الاستشارة

الكلام المذكور درس لجميع المسلمين بتقديم الخير والصلاح حين المشورة دون الأخذ بنظر الاعتبار قضية المستشار وكيفية العلاقة به.

[ 317 ]

بعبارة أخرى: إمّا يرفض المشورة وإمّا أنّ يقبلها ويؤدّي حقها، فقد ورد في الحديث أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «اعْلَم أَنَّ ضَارِبَ عَلِيٍّ بِالسَّيفِ وَقَاتِلَهُ لَو إِتَمَنَني واستَنصَحَنِي وَاستِشارَنِي ثُمَّ قَبِلْتُ ذَلِكَ مِنْهُ لأَدَّيتُ الأَمـانَةَ»(1).

—–

 

4 ـ إستنتاج خاطىء

أراد بعض المخالفين التشبث بكلام الإمام (عليه السلام) ليقيموا الدليل على أحقيّة الخليفة الثاني بالخلافة وعلى لسان علي (عليه السلام)، ولكن من الواضح أنّ هذا الاستنباط خاطىء، لأنّ الوظيفة الشرعية والعقلية وحفظاً لمصالح المسلمين تتطلب من كل شخص في مثل ظروف علي (عليه السلام) أن يقدم النصح لمن كان يمر بظروف عمر، فينطق لسانه بخير المسلمين وصلاحهم، وإن جرت الأمور على خلاف مصالحه الشخصية، بل إن كانت بضرورة، والعبارة: «لَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ»، لا تعني قط أنّك أصلح الاُمة، بل معناها أنّ الناس عرفوك في ظلّ الظروف الفعلية ـ حقّاً أم بغير حق ـ بهذه الصفة فان قتلت تطلبت البيعة لآخر زماناً طويلاً وهنا تنهار الاُمة.

—–


1. تحف العقول /374.

[ 318 ]

[ 319 ]

 

 

الخطبة(1) 135

 

 

 

وَمِنْ كَلام لهُ (عليه السلام)

 

وقد وقعت مشاجرة بينه وبين عثمان

فقال المغيرة بن الأخنس لعثمان: أنا أكفيكه، فقال علي(عليه السلام) للمغيرة:

 

نظرة إلى الخطبة

صرّح ابن أبي الحديد وآخرون أنّ هذا الكلام لم يكن بحضرة عثمان، وإن أفادت عبارات الخطبة أنّ هذه المشاجرة كانت بحضرة عثمان، فقد جاء في الخبر أنّ عماراً لما سمع بخبر وفاة أبي ذر ترحم عليه بحضور عثمان، فغضب عثمان وقال: انفوه إلى الربذة، فقال عمّار: مجالسة الكلاب والخنازير أحبّ إليَّ من مجالستك قال ذلك وخرج، فعزم عثمان على نفيه، فذهب بنو مخزوم إلى علي (عليه السلام) وشكوا له ضرب عثمان لعمار وهو عازم الآن على إبعاده فسألوه أن يكلم عثمان وإلاّ وقعت فتنة عظيمة، فذهب الإمام علي (عليه السلام) إلى عثمان وقال له: نفيت أبي ذر إلى الربذة حتى مات غريباً وهو من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد نقم عليك الناس ذلك، وتريد الآن نفي عمار.

فغضب عثمان وقال: لابدّ من نفيك أولاً لكي لا يجرأ عمار، ففسادهم منك، فقال علي (عليه السلام): لا تقدر على ذلك وفساد أمثال عمار بسبب أعمالك، فأنت تعمل خلاف دين الله تعالى فنقم


1. سند الخطبة:

لم ينقل صاحب كتاب مصادر نهج البلاغة من نقل هذه الخطبة سوى أحمد بن أعثم الكوفي في كتاب الفتوح، لكنّه أورد بعض التوضيحات بشأن وورد الخطبة عن كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

[ 320 ]

الناس عليك، قال ذلك ثم خرج من عند عثمان، وقد أحاط الناس به وقالوا فليبعدنا عثمان جميعاً لنموت بعيداً عن أهلنا، فقال الإمام (عليه السلام) قولوا لعمار يلازم بيته ولا يخرج.

فقال بنو مخزوم: إن كنت معنا فليس لعثمان أن يفعل شيئاً، فلما بلغ ذلك عثمان شكى علياً (عليه السلام)إلى الناس، فقال له زيد بن ثابت وكان من شيعته وخاصته: أفلا أمشي إليه فأخبره بموجدتك فيما يأتي إليك، قال: بلى، فأتاه زيد معه المغيرة بن الأخنس(1) وعداده بني زهرة واُمّه عمة عثمان، فحمد زيد الله وأثنى عليه ثم قال: أمّا بعد فانّ الله قدم لك سلفاً صالحاً في الإسلام، وجعلك من الرسول بالمكان الذي أنت به، فأنت للخير كل الخير أهل، وأميرالمؤمنين عثمان ابن عمك ووالي هذه الاُمة، فله عليك حقان، حق الولاية وحق القرابة، وقد شكا إلينا أنّ علياً يعرض لي، ويرد أمري عليَّ، وقد مشينا إليك نصيحة لك، وكراهية أن يقع بينك وبين ابن عمك أمر نكرهه لكما، فحمد علي (عليه السلام) الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال: أمّا بعد، فوالله ما أحبّ الاعتراض ولا الردّ عليه، إلاّ أن يأبى حقّاً لله لا يسعني أن أقول فيه إلاّ بالحق، ووالله لأكفنّ عنه ما وسعني الكف.

فقال المغيرة بن الأخنس وكان رجلاً وقاحاً، وكان من شيعة عثمان وخلصائه: إنّك والله لتكفن عنه أو لتكفن، فانّه أقدر عليك منك عليه.

فقال له (عليه السلام): يابن اللعين الأبتر، والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع...(2).

بناءاً على هذا فخلاصة الكلام أنّه اعتراض شديد على المغيرة بن الأخنس الذي نطق بكلام أكبر منه واعتقد أنّ له منزلة أعظم ممّا في نفسه.

—–


1. المغيرة بن الأخنس وأبوه أحد المنافقين وهو غير المغيرة بن شعبة المعروف بنفاقه وعداوته لأهل البيت(عليهم السلام).

2. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8/301 ـ 302; والفتوح لابن أعثم الكوفي 1/16 طبقاً لنقل شرح نهج بالبلاغة للمرحوم التستري 9/261.

[ 321 ]

 

 

«يَابْنَ اللَّعِينِ الاَْبْتَرِ، وَالشَّجَرَةِ الَّتِي لاَ أَصْلَ لَهَا وَلاَ فَرْعَ، أَنْتَ تَكْفِينِي؟ فَوَاللّهِ مَا أَعَزَّ اللّهُ مَنْ أَنْتَ نَاصِرُهُ، وَلاَ قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنْهِضُهُ. اُخْرُجْ عَنَّا أَبْعَدَ اللّهُ نَوَاكَ، ثُمَّ ابْلُغْ جَهْدَكَ، فَلاَ أَبْقَى اللّهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ!».

—–

 

الشرح والتفسير

أنت عاجز

كان علي (عليه السلام) الكهف الحصين للمظلومين والمحرومين على عهد الخلفاء الثلاث سيّما على عهد الخليفة الثالث عثمان الذي جاوزت بطانته الحدّ في الظلم والجور، فلم ترحم صغيراً ولم توقر كبيراً، فكان (عليه السلام) من يوصل نداء المظلومية للخليفة، فمن الطبيعي أن يسبب له هذا الأمر بعض المشاكل حيث كان يجند الاُمة ضد الخلافة الحاكمة.

فقد عرض الإمام (عليه السلام) بهذا الردّ على تهديد المغيرة بن الأخنس بالذم له والاستخفاف به، فأشار بادىء الأمر إلى جذور فساده ونقاط ضعفه ليخلص إلى نتيجة تفيد عجزه عن القيام بأي عمل ضد الإمام (عليه السلام) فقال: «يَابْنَ اللَّعِينِ الاَْبْتَرِ، وَالشَّجَرَةِ الَّتِي لاَ أَصْلَ لَهَا وَلاَ فَرْعَ، أَنْتَ تَكْفِينِي؟»، والتعبير عن المغيرة بن الأخنس باللعين كونه من رؤوس النفاق حيث أظهر الإسلام في فتح مكة وأبطن الكفر، وقد حاول رسول الله (صلى الله عليه وآله) إستمالة قلبه فأعطاه سهماً كبيراً من غنائم حنين، وأخوه أبو الحكم الذي قتله علي (عليه السلام) يوم اُحد، ومن هنا حقد المغيرة على علي(عليه السلام)(1).

وأمّا وصف الإمام لأبيه بالأبتر لا أنّه لم يكن له عقب، بل الأبتر هنا تعني انقطاعه عن الخير والسعادة، أو أبتر من حيث النسب حيث كان أولاده ممن لا خير فيهم فكانوا كالعدم،


1. يقال إنّ عداء آل المغيرة استمر ضد علي (عليه السلام) حتى شهد ولده عبد الله المعركة الجمل فقتل فيها (شرح نهج البلاغة للمرحوم التستري 9/266).

[ 322 ]

وأمّا قوله والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع فهو كناية عن وضاعة هذه الاُسرة وبُعدها عن القيم والمثل، فالواقع أنّ قول الإمام (عليه السلام) إقتباس من الآية الشريفة: (وَمَثَلُ كَلِمَة خَبِيثَة كَشَجَرَة خَبِيثَة اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الاَْرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَار)(1).

ثم قال الإمام (عليه السلام): «فَوَاللّهِ مَا أَعَزَّ اللّهُ مَنْ أَنْتَ نَاصِرُهُ، وَلاَ قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنْهِضُهُ(2)»، العزّة والقدرة بيد الله سبحانه ذلك طبقاً للآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)(3).

وقوله تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاَْشْهَادُ)(4)، فالعزّة لله لا للمنافقين، ثم إختتم الخطبة باستخفافه الشديد بالمغيرة فقال: «اُخْرُجْ عَنَّا أَبْعَدَ اللّهُ نَوَاكَ(5)، ثُمَّ ابْلُغْ جَهْدَكَ، فَلاَ أَبْقَى اللّهُ عَلَيْكَ(6) إِنْ أَبْقَيْتَ!».

إشارة إلى أنّك لأصغر من أن تهدد علياً (عليه السلام)، فافعل ما بوسعك لترى إنّك لا تقوى على شيء، وبائس هو الفرد الذي أنت ناصره.

—–

 

سلوك الإمام (عليه السلام) تجاه الفرد العديم المنطق

لو أنعمنا النظر في شأن وورد هذا الكلام للإمام (عليه السلام) وتتبعنا بدقة مساره التاريخي لرأينا كيف اصطدم الإمام (عليه السلام) بصورة منطقية بالانحرافات في عصر الخلفاء ولا سيّما على عهد عثمان، فلم يتوان في تقديم الوعظ والنصح من أجل منع أي توتر واضطراب حيث كان يكتفي بالحدّ الأدنى من التذكير، أمّا حين كان يصطدم بالمنافقين والجهّال عديمي المنطق، فقد كان يقف بوجههم بكل شدّة وصلابة حتى لا يقتدح في أذهانهم التفكير بالأعمال الطائشة والخطيرة، وصدر وذيل الكلام المذكور خير شاهد على السلوكين.


1. سورة ابراهيم / 26.

2. «منهض»: من مادة «نهض» القيام من المكان ومنهض من باب إفعال الشخص الذي يساعد غيره لينهض.

3. سورة محمّد / 7.

4. سورة غافر / 51.

5. «نواك»: من مادة «نوا» والكاف ضمير متصل تعني في الأصل غاية المسافر بعيدة كانت أم قريبة.

6. فالعبارة لا أبقى الله عليك تطلق حين اللعن ليبعد عن رحمة الله، والعبارة إن بقيت تعني لا رحمك الله إن رحمتني، فهى في الواقع استخفاف بالمخاطب، فافعل ما شئت إنّك لا تقدر على شيء.

[ 323 ]

 

 

الخطبة(1) 136

 

 

 

وَمِنْ كَلام لهُ (عليه السلام)

 

في أمر البيعة

 

نظرة إلى الخطبة

أشار الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة إلى أمور:

الأول: أنّ بيعتي لم تكن صدفة بعيدة عن تفكير الناس وتخطيطهم، وعليه فلا يحق لأحد نقضها لأنّها بيعة عامّة.

الثاني: أنّي أريدكم جنوداً لتبلور الأهداف الربانية، لكنّكم تريدونني من أجل ضمان منافعكم الدنيوية.

الثالث: أبغي من كل الافراد النصرة لاستنقاذ حق المظلوم من الظالم، ويبيّن الإمام (عليه السلام)عزمه القاطع بهذا الشأن

—–


1. سند الخطبة:

قال المرحوم الشيخ المفيد(رحمه الله) في كتاب «الإرشاد» أنّ الإمام علي (عليه السلام) أورد هذا الكلام إمتنع البعض عن بيعة الإمام (عليه السلام) ـ حسب رواية الشعبي ـ ومنهم عبدالله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وحسان بن ثابت واسامة بن زيد، فخطب الإمام (عليه السلام) لبيان أحقيّة بيعته (مصادر نهج البلاغة 2/306) وهكذا نقل هذه الخطبة الشيخ المفيد في إرشاده وقد عاش قبل السيد الرضي، وكذلك أشار إليها ابن الأثير في كتاب «النهاية» في مادة (فلت).

[ 324 ]

[ 325 ]

 

 

«لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً. إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لاَِنْفُسِكُمْ.

أَيُّهَا النَّاسُ، أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَايْمُ اللّهِ لاَُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلاََقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً».

—–

 

الشرح والتفسير

أنصف المظلوم من الظالم

كما ورد سابقاً فانّ الإمام أورد هذا الكلام ـ بعبارة أخرى هذا المقطع من الخطبة ـ حين إمتنع بعض صحابة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عن بيعته، فأتمّ الإمام (عليه السلام) الحجة عليهم بهذا الكلام فقال: «لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً»، بل حين رأيتم المشاكل الناشئة من بيعة الخلفاء السابقين ولاسيّما بيعة الخليفة الثالث وما ترتب عليها من آثار فقد عزمتم على الإقبال عليَّ فأبيتم أمراً جديداً في مسألة البيعة، وبناءاً على ما تقدم فانّ الأقلية لا تمتلك الحق في نقض البيعة التي سارعت إليها الأكثيرة من الاُمة.

وبالنظر إلى أنّ الفلتة تعني العمل الذي يقع بغتة دون روية وتدبر فقد أراد الإمام:

أولاً: يوضح أنّ بيعته كانت دقيقة جدّاً وقد حصلت بعد مشورة الاُمة وزعماء القبائل مع بعضهم.

ثانياً: التلميح إلى بيعة أبي بكر التي حصلت في أجواء متوترة مغلقة من قبل قلّة قليلة حتى قال عمر بهذا المضمون: «إِنَّ بَيعةَ أبي بَكر كَانتْ فَلتَةً، وَقى اللهُ شرّها»(1)، كما ورد في بعض الروايات في ذيل هذا الحديث «فَمَن عـادَ إِلى مِثلِها فاقتُلُوهُ»(2)، وسنقدم شرحاً وافياً لهذا الموضوع في البحث اقادم.

ثم قال الإمام (عليه السلام) في مواصلة كلامه: «وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً، إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلّهِ،


1. صحيح البخاري 6/2505 طبعة دارالنشر بيروت وصحيح ابن جبان 2/148، طبع مؤسسة الرسالة.

2. بحار الانوار 10/248 (نقلاً عن مناقب ابن شهر آشوب).

[ 326 ]

وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لاَِنْفُسِكُمْ»، فلست من قبيل طلاب الدنيا من الحكّام الذين ينشدون من وراءها تأمين جلالهم وأبهتهم ومصالحهم الشخصية، فما أريده هو إقامة الدين بواسطتكم وأن اُؤدّي حقوق الناس وأفوز برضى الله سبحانه، ولكنكم تريدونني لمصالكم الشخصية كالحصول على سهم كبير من بيت المال أو نيل المناصب والمقامات والرفاه في الحياة، وبالإلتفات إلى الاختلاف بين هاتين النظرتين فمن الطبيعي ألا تتساوى المسارات تبعاً لوسائل العمل، ثم دعاهم لإصلاح أنفسهم بعد أن وبّخهم وأيقظهم فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ»، في إشارة إلى أنّ مدرستي التربوية معدة لإصلاحكم، فما اُريده منكم وبقبول نصائحي ـ التي تستند إلى مصدر الوحي والقرآن الكريم وتعاليم النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) ـ الإلتحاق بها والتعاون معي، فانّ لم يكن لديكم الإندفاع فلا جدوى من أي برنامج، ثم أشار في الختام إلى نقطة مهمّة ووضح عزمه الراسخ فيها وهى مسألة بسط العدالة في كافة أرجاء البلد الإسلامي مقاتلة الظلمة فقال: «وَايْمُ اللّهِ لاَُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلاََقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ(1) حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ(2) الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً»، فهذا التشبيه الرائع للظلمة بالبعير الجامح الذي يمتنع حتى من شرب الماء ويريد صاحبه أن يورده مشربه كرهاً ويرويه، يفيد أنّ الهدف من مقارعة الظلمة لا يقتصر على استرداد حقوق المظلومين فحسب، بل أنّ هذا العمل بنفعهم أيضاً، لأنّ الظالم إن جاوز الحدّ فانّ التمرد والعصيان العام سيكون كألسنة اللهب التي تحرق الأخضر واليابس وأنّ الظلمة أول من تحرقهم تلك النار، الأمر الذي وقع في عصر عثمان قبيل حكومة الإمام (عليه السلام) كما يفيد من جانب آخر أنّ أهم هدف اجتماعي للإمام (عليه السلام) بسط العدل وأخذ حق المظلومين، وهذا هو الدواء الشافي المرير على ألسنة أغلب الأفراد الجهّال، وهذا أهم هدف لبعثة الأنبياء والذي صوره القرآن الكريم بالقول: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...)(3).


1. «خزامة»: بالكسر حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير ليشد فيها الزمام ويشهل قياده، وقال البعض إن كان جنس الحلقة من النحاس قيل لها البرة وإن كانت من الشعر فهى الخزامة.

2. «منهل»: من مادة «نهل» على وزن جهل بمعنى الشربة الأولى ويطلق المنهل على الموضع الذي يمكن الاستفادة منه من ماء النهر (لابدّ من الالتفات إلى أنّ سطح ماء أغلب الأنهار أكثر انخفاضاً من الساحل وعادة ما يشقون بعض الأماكن لوصول الماء ليبلغه الناس والحيوانات بسهولة ويقال لمسير هذه الأماكن الشريعة وآخرها المنهل.

3. سورة الحديد / 25.

[ 327 ]

 

 

الخطبة(1) 137

 

 

 

وَمِنْ كَلام لهُ (عليه السلام)

 

في شأن طلحة والزبير وفي البيعة له

 

نظرة إلى الخطبة

المحاور الأصلية للخطبة هى:

1 ـ نقض طلحة والزبير للبيعة لحجّة اشتراك علي (عليه السلام) في قتل عثمان، والحال هم كانوا يحرضون الناس للقيام على عثمان.

2 ـ النصيحة المشوبة بالتهديد لطلحة والزبير ليكفا عن الفتنة، ويلتحقا بصفوف عامّة المسلمين.

3 ـ الإشارة إلى مسألة البيعة وأنّ الإمام (عليه السلام) لم يكن طالباً للحكومة، بل هم الذين أصروا عليه بقبول البيعة.

4 ـ لعن الإمام (عليه السلام) في ختام الخطبة طلحة والزبير وهو الأمر الذي جرى عليهما عملياً فساءت عاقبتهما.

—–


1. سند الخطبة:

رواها ابن عبد البر من علماء العامّة للقرن الخامس في كتاب «الاستيعاب» في شرج سيرة طلحة، كما رواها ابن الأثير من علماء القرن السابع في «اسد الغابة»، ونقلها المرحوم الشيخ المفيد (رحمه الله) في كتاب «الجمل» عن الواقدي، كما فسّر بعض أجزاءها ابن أبي الحديد عن أبي مخنف وكذلك ابن الأثير في كتاب «العوذ» (مصادر نهج البلاغة 2/309).

[ 328 ]

[ 329 ]

 

 

القسم الأول

 

«وَاللّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً، وَلاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ نِصْفاً. وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ، وَدَماً هُمْ سَفَكُوهُ، فَإِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ، فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانُوا وَلُوهُ ]وُلُّوهُ [دُونِي فَمَا الطَّلِبَةُ إِلاَّ قِبَلَهُمْ. وَإِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُكْمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. إِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي; مَا لَبَسْتُ وَلاَ لُبِسَ عَلَيَّ. وَإِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ; فِيهَا الْحَمَأُ وَالْحُمَةُ، وَالشُّبْهَةُ الْمُغْدِفَةُ; وَإِنَّ الاَْمْرَ لَوَاضِحٌ; وَقَدْ زَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغَبِهِ. وَايْمُ اللّهِ لاَُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ، لاَ يَصْدُرُونَ عَنْهُ بِرِيٍّ، وَلاَ يَعُبُّونَ بَعْدَهُ فِي حَسْي!».

—–

 

الشرح والتفسير

الحاقدون الظالمون

لا شبهة ولا شك أنّ طلحة والزبير كانا من بين اُولئك الذين أثاروا الناس ضد عثمان ويجمع العدو والصديق على اشتراكهما في قتل عثمان، كما أعلنت عائشة صراحة اعتراضها على عثمان، إلاّ أنّ العجيب ما إن هبت الاُمة لمبايعة علي (عليه السلام) فتسلم زمام الأمور حتى وقف بوجهه طلحة والزبير وكذلك عائشة، والأعجب من ذلك أنّ حجّتهم لذلك الوقوف هو الطلب بدم عثمان، ولا زال التاريخ يحفل بالكثير من هذه العجائب والأفراد الذين يحرصون على الدنيا وزخارفها، على كل حال فانّ الإمام (عليه السلام) أشار في هذه الخطبة إلى هذا المطلب فقال: «وَاللّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً، وَلاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ نِصْفاً(1)»، ثم أضاف قائلاً: «وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ، وَدَماً هُمْ سَفَكُوهُ».


1. «نصف»: بكسر النون وضمها الإنصاف.

[ 330 ]

ثم استدلّ بدليل واضح على ذلك فقال: «فَإِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ، فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانُوا وَلُوهُ ]وُلُّوهُ [دُونِي فَمَا الطَّلِبَةُ إِلاَّ قِبَلَهُمْ. وَإِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُكْمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ»، قطعاً ليس الإمام (عليه السلام) من يد في قتل عثمان، وإن اعتبر أغلب الصحابة أنّ عثمان يستحق القتل، إلاّ أنّ الإمام (عليه السلام) ليس فقط لن يشترك في هذا العمل فحسب، بل بعث بولديه الحسن والحسين(عليهما السلام) للدفاع عنه، مع ذلك صرّح تجاه ذرائع طلحة والزبير وبغية سلبهم حق المطالبة فقد قال لم يقل أحد بأنّي كنت الوحيد في قتل عثمان على فرض أنّي اشتركت في قتله، فقد شركتموني فيه، وعليه فأي منطق يستول لكم مطالبة الآخرين بأمر اشتركتم فيه معهم، وإن كنتما لوحدكما من فعل ذلك، فالعقاب يقتصر عليكم، وعليكم أن تدينوا أنفسكم قبل أي شخص، فالمتعارف بين الساسة الشياطين أنّهم يسعون لخلق بعض الذرائع التي يستحسنها العوام بغية التشنيع على منافعهم، فهم يبذلون قصارى جهدهم لإتهام منافسهم بما يشوه سمعتهم لدى الرأي العام، وفي ظلّ هذه الأجواء تغيب معاني المنطق والعدالة والوجدان والشرف، فالهدف إقصاء المنافس الخصم مهما كان الثمن، وهذا بالضبط هو المنهج الذي مارسه طلحة الزبير وعائشة بعد بيعة الاُمة لعلي (عليه السلام) فألبّوا الكثير من الناس لقتاله (عليه السلام) حتى احترقوا بنيران تلك المعارك، على كل حال فانّ الإمام (عليه السلام) سلب من خصومه الحجّة وأفشل خططهم ليعلم الناس أنّهم قتلة عثمان وقد تذرعوا بالمطالبة بدمه وهدفهم ضمان مصالحهم الشخصية، فهم لا يفكرون في الناس ولا يهتمون بدم الخليفة المظلوم.

ثم واصل الإمام (عليه السلام) كلامه بالإشارة إلى حديث النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بشأن أصحاب الجمل الذين ينقضون البيعة: «إِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي(1); مَا لَبَسْتُ وَلاَ لُبِسَ عَلَيَّ. وَإِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ; فِيهَا الْحَمَأُ وَالْحُمَةُ، وَالشُّبْهَةُ الْمُغْدِفَةُ; وَإِنَّ الاَْمْرَ لَوَاضِحٌ; وَقَدْ زَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغَبِهِ(2)».

فهذا الكلام إشارة للحديث المعروف عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «لا تَذهَب اللّيالِي وَالأَيّامُ حتّى تَتنابَحَ كِلابُ مـاء بِالعِراقِ يُقَالُ لَهـا الحَوأَبُ إِمرَأَةً مِنْ نِسـائِي فِي فِئَة بَاغِية»(3).


1. أوردنا شرحاً تاماً للعبارة «إنّ معي لبصيرتي» في هذا الكتاب 1/481.

2. «شغب»: مصدر وبمعنى تهييج الشر والفساد.

3. منهاج البراعة 8/338; الاحتجاج 1/165.

[ 331 ]

فالحديث يشير إلى الحادثة المعروفة لأصحاب الجمل حين قدموا من المدينة إلى البصرة، فلمّا بلغوا الحوأب نبحت عائشة كلابها، فتذكرت حديث النبي (صلى الله عليه وآله) فقالت: إرجعوني إلى المدينة، لكن الساسة المحترفين جندوا أهل تلك المنطقة ليشهدوا بأنّ تلك المنطقة ليست الحوأب(1).

وروى ابن عساكر في «تاريخ دمشق» ومتقى الهندي في كنز العمال أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه السلام): «يَا عَلَيُّ ستُقاتِلُ الفِئَةِ البَاغِيةِ وَأَنتَ عَلَى الحَقِّ فَمَن لَم يَنصُركَ يَومَئذ فَلَيسَ مِنِّي»(2)، ومن هنا قال الإمام (عليه السلام) إنّ معي لبصيرتي ما لبست ولا لبس عليَّ، فالعبارة: «فِيهَا الْحَمَأُ وَالْحُمَةُ»، بالنظر إلى أنّ الحمأ بمعنى المستنقع والمادة الغامقة في جرف الأحواض والجداول، والحمة بضم ففتح بمعنى الإبرة اللاسعة للعقرب والحية، فهى كناية عن الأفراد الأرجاس والخطيرين الذين كانوا من مثيري فتنة الجمل.

وهنا تفسير آخر لهاتين المفردتين في أنّ الحمأ بمعنى القرابة الحميمة والحمة بمعنى الزوج وهى كناية عن الزبير بن العوام ابن عمة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وعائشة إحدى أزواج النبي (صلى الله عليه وآله)، والعبارة الشبهة المغدقة بالنظر إلى أنّ المغدقة من مادة أغداق تعني في الأصل التغطية إشارة إلى الضجة التي أقامها أصحاب الجمل بعنوان المطالبة بدم عثمان والحال أيديهم ملطخة بدم عثمان، بينما صوروا أنفسهم من حماته، وهذه العبارة لا تنافي العبارة اللاحقة التي قالت بوضوح المطلب، لأنّ المراد هو عدم خفاء الأمر على الأفراد من ذوي العقول والإدراك، لأنّهم كانوا على علم بمؤامرات أصحاب الجمل ودعاياتهم المغرضة الكاذبة.

ثم إختتم الإمام (عليه السلام) كلامه بتوجيه تهديد شديد استهله بالقسم فقال (عليه السلام): «وَايْمُ اللّهِ


1. أورد ابن الأثير في المجلد الثاني، ص315 عن الكامل شرحاً مفصلاً لقضية نباح كلاب الحوأب وصراخ عائشة وعزمها على الرجوع وشهادة البعض على كذب من قال تلك المنطقة هى الحوأب.

2. تاريخ دمشق 32/171، طبعه بيروت; كنز العمال 12/211 طبعة حيدر آباد (مطابق نقل أحقاق الحق 17/166).

[ 332 ]

لاَُفْرِطَنَّ(1) لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ(2)، لاَ يَصْدُرُونَ عَنْهُ بِرِيٍّ(3)، وَلاَ يَعُبُّونَ(4) بَعْدَهُ فِي حَسْي!(5)».

كما أوردنا في الخطبة العاشرة التي تشبه إلى حدّ بعيد هذه الخطبة، مراد الإمام (عليه السلام) من هذه العبارة أنّي سأجعل من ميدان معركة الجمل مستنقعاً خطيراً مملوءاً بالماء بحيث لا يسعهم الهروب منه وأخمد الفتنة في مهدها حتى لا يفكروا قط في العودة إلى مثل ذلك الميدان، وكما ورد في التواريخ فانّ الإمام (عليه السلام) حقق عملياً ما قاله، فقد قتل زعماء الجمل وعادت عائشة مخذولة إلى المدينة وافتضح أصحاب الفتنة وتشتتوا في البلاد.

—–


1. «افرطن»: من مادة «افراط» تعني في الأصل تجاوز الحدّ، لكنّها وردت أحياناً بمعنى القيام بالحدّ الأكثر من العمل وقد جاءت بهذا المعنى في العبارة، يعني سأملأ حوض المعركة للخصوم (طبعاً المراد حوض المنية) بحيث لا يبقى أمامهم من سبيل للنجاة، وبناءاً على هذا فلا مجال لطرح مثل هذا السؤال أو يمكن  للإمام (عليه السلام) أن يفرط في شيء.

2. «ماتح»: من مادة «متح» على وزن مدح بمعنى سحب الماء من الأعلى كسحب الماء من البئر بواسطة الدلو، وعليه فالماتح تطلق على من يطرح الدلو بواسطة الحبل في البئر ويسحب منه الماء.

3. «ريّ»: اسم مصدري ومصدره «ري» على وزن حي والباء للمعية.

4. «يعبون»: من مادة «عبّ» بمعنى شرب الماء أو مانع أخر دون تنفس.

5. «حسي»: السهل من الأرض الذي يتجمع فيه الماء.

[ 333 ]

 

 

القسم الثاني