![]() |
![]() |
1. «غرض»: الهدف الذي يرمى بالسهام.
2. «شرق»: له معنى مصدري يعني الاختناق بالماء.
3. «غصص»: له معنى مصدري ويعني الاختناق بالطعام.
«مَعَ كُلِّ جَرْعَة شَرَقٌ، وَفِي كُلِّ أَكْلَة غَصَصٌ! لاَ تَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلاَّ بِفِرَاقِ أُخْرَى»، فلعله يغص بالطعام ويموت رغم لذّته وشوقه إليه، وأخيراً أشار إلى تنافر النعم الدنيوية المادية فصرّح بتعذر جمعها، فما إن ينال واحدة حتى تفارقه أخرى، مثلاً يحرم من نعمة الولد فيهبه الله الولد لكنه يسلبه الهدوء والراحة، أو أنّه فقير لا مال لديه ويعيش ظروفاً صعبة فيهبه الله المال، ولكن الحرص على هذا المال وكيفية التصرف به لا تدع له مجالاً للراحة، ليس لديه وسيلة نقلية فهو يعاني من المصاعب وما إن يحصل عليها حتى يعاني من مشاكل جديدة من قبيل إنفاق المال عليها وكيفية المحافظة عليها، وهكذا فهو لا يحصل على نعمة إلى بفراق أخرى.
والعبارة تنتضل بالنظر إلى أنّها تستعمل بشأن الأفراد الذين يشتركون في مسابقات الرمي فهى تشير إلى آفات الدنيا وكأنّها تتسابق لاستهداف حياة الإنسان، والعبارة منايا جمع منية بمعنى الموت إشارة إلى اختلاف أنواع الوفيات سواء الفردية أو الجماعية والتي اُشير إليها في الخطبة، قد يتصور أحياناً أنّ العبارة «لاَ تَنَالُونَ مِنْهَا...»، تعبير آخر عن الجملة «مَعَ كُلِّ جَرْعَة شَرَقٌ...»، والحال العبارتان مختلفتان، فالعبارة مع كل جرعة شرق إشارة إلى أنّ بانتظار كل نعمة آفة كامنة، وأمّا العبارة لا تناولوا منها... فهى تشير إلى أنّه لو لم يكن هنالك من آفة فانّ النعم لا تجتمع، فلا تنال واحدة إلاّ بمفارقة أخرى.
ثم واصل الإمام (عليه السلام) كلامه بشرح رائع للعبارة السابقة حين قال لا تنالون نعمة إلاّ بفراق أخرى، فبيّن خمسة نماذج واضحة في خمس عبارات فقال: «وَلاَ يُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْكُمْ، يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ، إِلاَّ بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ، وَلاَ تُجَدَّدُ لَهُ زِيَادَةٌ فِي أَكْلِهِ، إِلاَّ بِنَفَادِ مَا قَبْلَهَا مِنْ رِزْقِهِ. وَلاَ يَحْيَا لَهُ أَثَرٌ إِلاَّ مَاتَ لَهُ أَثَرٌ. وَلاَ يَتَجَدَّدُ لَهُ جَدِيدٌ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَخْلَقَ(1) لَهُ جَدِيدٌ. وَلاَ تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ إِلاَّ وَتَسْقُطُ مِنْهُ مَحْصُودَةٌ(2)».
نعم، للإنسان حيوية خاصة حين الطفولة فان انتقل إلى مرحلة الشباب ودبّ فيه نشاطه تزوال عنه حيوية الطفولة، فان اتّجه نحو مرحلة الشيخوخة وأصبح وجوده مجموعة من
1. «يحلق»: من مادة «خلوق» بمعنى يبلى ويخلق من مادة خلق المراد المعنى الأول في الخطبة.
2. «محصودة»: من مادة «حصد و حصاد» على وزن غصب بمعنى حصاد الشيء.
التجارب والخيرات فقد نشاط الشباب، وهكذا يمنح الله الإنسان نعمة الولد ولا تمضي مدّة حتى يفقد أباه ويتعرف على أصدقاء جدد، في حين يسلب القدماء من أصدقائه، وهكذا يحصل على نعمة ويفقد أخرى، وهذه هى طبيعة الحياة الدنيا والنعم المادية، فهى لا تجتمع لأحد في أي زمان ومكان فلا تنال نعمة إلى بفراق نعمة أخرى، وهذا بحدّ ذاته إنذار لكافة الناس بعدم التعلق بنعم الدنيا وربط القلب بها، والعبارة «وَلاَ يَحْيَا لَهُ أَثَرٌ...»، إشارة إلى أنّ الإنسان إن خلّف بعض الآثار ـ سواء كانت هذه الآثار علمية أم خيرية ذات النفع العام ـ فانّه يفقد قطعاً من أجلها طاقة من حيث الفكر والبدن، والعبارة «وَلاَ تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ...»، يمكن أن تكون إشارة إلى نعمة الولد والحفيد حيث كلما كبر هؤلاء فقدوا بالتدريج قرابتهم الأكبر، كما يمكن أن تكون إشارة إلى كل نمو وتقدم، مثلاً يغرس الإنسان بذور جديدة في جانب من بستانه في حين يعاني جانب أخر من ذبول الأشجار وموتها الواحدة بعد الأخرى.
ثم إختتم الإمام (عليه السلام) كلامه بالقول: «وَقَدْ مَضَتْ أُصُولٌ نَحْنُ فُرُوعُهَا، فَمَا بَقَاءُ فَرْع بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِهِ!»، فقد ذهب أباؤنا وأسلافنا وصاروا إلى الزوال فلا ينبغي لنا إنتظار البقاء، لأنّ الفرع الزائد على الأصل ليس بممكن، وبناءاً على هذا سنلحق بهم عاجلاً أم آجلاً.
—–
لقد رسم الإمام (عليه السلام) صورة واضحة ودقيقة في هذا القسم من الخطبة عن الدنيا، نعم، فلهذه الدنيا نعيش فيها آفاق تختلف تماماً عن واقعها، أفاق القصور والثروات والنعم والجمال والنشاط ولكن ما إن نقترب منها حين نصطدم بصورتها القبيحة، فالإنسان من جانب ـ كما أشار الإمام (عليه السلام) ـ هو هدف دائم لسهام الآفات والبلاء، بحيث لا يسعه التهكن بمستقبله لما بعد ساعة، ومن جانب أخر فإلى جانب كل نعمة مصيبة وإلى جانب كل وردة شوكة وأخيراً لا ننال نعمة حتى نفقد أخرى، نعيش حياة متواضعة، لكنّها مفعمة بالاستقرار، نتمنى سعة هذه المعيشة، إلاّ أننا إن نلنا منيتنا طالعتنا العديد من المشاكل، حفظ المال والثروة بحدّ ذاته مشكلة كبيرة، إلى جانب عين الحسّاد التي تصوب نحوه وأماني الأشرار بزواله واللصوص الذين يتربصون به، وأحياناً خيانة الزملاء والأصدقاء وهكذا سائر المشاكل التي تصب على رأسه من كل حدب وصوب والتي تقضي على استقراره بصورة تامة، ناهيك عن مختلف الأمراض
التي تعرض للإنسان بفعل الجهاد، إننا خام ما دمنا شباباً فان نضجنا وعجزنا، وآنذاك يسعنا الاستفادة الصحيحة من الأموال بينما أيدينا خالية، فان أصبحنا نملك شيئاً لم يسعنا الاستفادة منه، فهل يمكن التعلق بمثل هذه الدنيا والوثوق بها؟ يقال إنّ أحدهم طلب من ملك أن يجلس على عرشه ساعة ويسلمه مقاليد الحكم ويأتمر بأمره الحرس والغلمان، فأجابه الملك لكنه أمر أن يعلق فوق رأسه بشعرة، فلما جلس على العرش شعر بالفرح الشديد، فوقعت عينه على الخنجر وأنّه معلق بشعرة فارتعش، لأنّه ظن سيقع عليه في كل لحظة، فلمّا همّ بالهروب قيل له لم تنتهي ساعتك، فجلس خائفاً ينتظر انتهاء المدّة وهو يدعو إلى إنتهائها، ففهم إن كان السلطة من جمال فهى تشتمل على آلاف الأخطار، ولعل هناك من يهم بقتله من أقرب مقربيه كما يفيد التاريخ ذلك، ورغم كل هذه المشاكل فليس هناك من بقاء وخلود في الحياة الدنيا ليسعى إليها الإنسان ويجهد نفسه من أجلها، وما عليه إلاّ السير نحو الآخرة، وكما قال آخر خلفاء بني اُمية «لَمّا حَلا لَنا الدَّهرُ خَلا مِنّا»(1).
—–
1. في ظلال نهج البلاغة 4/389.
منهَا: «وَمَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ. فَاتَّقُوا الْبِدَعَ وَالْزَمُوا الْمَهْيَعَ. إِنَّ عَوَازِمَ الاُْمُورِ أَفْضَلُهَا، وَإِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا».
—–
الشرح والتفسير
يعالج هذا الكلام من الخطبة قضية مهمّة وهى قبح البدع، وعلى ضوء عدم الإرتباط الواضح بين هذا القسم والذي سبقه فالذي يبدوا أنّ بين هذين القسمين أقسام حذفها المرحوم السيد الرضي (رضي الله عنه)، ولابدّ من تغير مفردة البدعة على أساس اللغة والشرع ليتضح لدينا مضمون هذا القسم من الخطبة: فالبدعة لغوياً تعني كل تجدد والذي يمكنه أن يكون حسناً أو سيئاً، حسب ما صرّح به أرباب اللغة: «البدعة إنشاء أمر على غير مثال سابق».
أمّا المعنى السائد بين الفقهاء العلماء ـ كما ذكرنا ذلك في شرح الخطبة السابعة عشرة ـ إدخال شيء في الدين أو إخراجه دون قيام دليل معتبر على ذلك، ولما كانت تعاليم الإسلام وأحكامه خالدة ونازلة عن طريق الوحي فكل بدعة كبيرة، وإليها تعود كل فرقة واختلاف أصاب الاُمة الإسلامية، نعود الآن إلى شرح كلام الإمام (عليه السلام) فقد قال: «وَمَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ».
ثم نصح باجتناب البدع وضرورة السير على النهج المستقيم فقال (عليه السلام): «فَاتَّقُوا الْبِدَعَ
وَالْزَمُوا الْمَهْيَعَ(1). إِنَّ عَوَازِمَ(2) الاُْمُورِ أَفْضَلُهَا، وَإِنَّ مُحْدَثَاتِهَا(3) شِرَارُهَا».
فقد اتضحت حقيقة ما قيل في هذه العبارة في كيفية ترك سنّة حين ظهور بدعة، وكيف تكون البدعة شرّ الاُمور، لأنّه لو سمح للأفراد أن ينقصوا من الدين شيئاً أو يضيفوا له شيئاً على ضوء ذوقهم وفكرهم القاصر، لما بقي من أحكام الدين وتعاليمه شيئاً خلال مدّة وجيزة ولإنقلب كل شيء رأساً على عقب، وفقد اعتباره وأصالته، ولإستبدلت التعاليم الأصلية للدين بسلسلة من الأفكار المنحرفة والواهية ولحل السراب محل العين الزلال، طبعاً إن كان التجدد وليد البحث والتحقيق والدقيق في أدلة أحكام الشرع وكشف حقائق حديثة من خلال الكتاب والسنّة والدليل القاطع للعقل، فليس هذا من البدعة في شيء فحسب، بل سيكون سبب رفعة الدين وإزدهاره.
وبعبارة أخرى: فانّ الكشف شيء جديد، أمّا المكشوف فهو موجود سابقاً في الدين، أمّا إن كان الذوق الشخصي والاستحسان الظني هو دعامة وأساس التجدد فليس له من نتائج سوى الظلال ومسخ الصورة الحقيقية الناصعة للدين ويتضح ممّا مرّ معنا عدم صواب ما أورده شرّاح نهج البلاغة للعبارة المذكورة من أن كلّ بدعة خلاف لسنّة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)الذي حرم البدعة، وعليه فالسنّة تترك بظهور البدعة، بل المراد أنّ لكل موضوعه في الإسلام حكم، وكل بدعة تعارض ذلك الحكم، إذن فبظهور البدع تترك الأحكام الأصلية للدين ـ كما تبيّن جسامة خطأ ما أورده بعض شرّاح نهج البلاغة مثل ابن أبي الحديد الذي قسم البدع إلى حسنة وسيئة، فاعتبر مثلاً صلاة التراويح (تلك الصلاة المتسحبة التي كان يصليها الناس فرادا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ليالي رمضان وقد ابتدع عمر أن تصلى جماعة) من البدع الحسنة، وذلك لأنّه بهذه البدعة ترك سنّة، وترك سنّة استحباب الإفراد في الصلاة المستحبة، وعليه فليس لدينا بدعة حسنة، وإن أقررنا البدعة الحسنة كان ذلك الإقرار بأنّ السنّة قد تكون
1. «المهيع»: من مادة «هيع» على وزن رأي بمعنى الطريق الواسع والواضح.
2. «عوازم»: جمع «عازمة أو عوزم» على وزن جوهر تعني في الأصل المسن من الإنسان أوالحيوان وتطلق على كل شيء قديم، وتعني هنا الأمور التي كانت موجودة منذ زمان النبي وأصالتها ثابتة في الدين.
3. وردت حدثات بكسر الدال في النسخة المعروفة لصبحي الصالح فلها معنى اسم الفاعل، وردت مفتوحة في أغلب النسخ بمعنى الحدوث وهذا هوالصحيح.
حسنة وقد تكون سيئة، كما اتضح المعنى الذي أراده بعض العلماء للبدعة حين أجروا عليها الأحكام الخمسة من أن بعض البدع واجبة وبعضها محرمة، فانّما أرادوا المعنى اللغوي لا الشرعي باضافة أو طرح أشياء من الدين وأحكامه ومن هنا ورد في الحديث عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «ألاّ وَكُلُّ بِدعَة ضَلالَةٌ، ألا وَكُلُّ ضَلالَة فِي النَّارِ»(1).
ومن أراد الوقوف على المزيد بشأن البدعة فليراجع المجلد الأول من هذا الكتاب ذيل الخطبة السابعة عشرة.
—–
1. ورد مثل هذا المعنى في الأمالي للشيخ المفيد(رحمه الله)، ص188 مع اختلاف طفيف كما ورد في مصادر العامّة (الموسوعة الفقهية الكويتية 8/24).
وَمِنْ كلام لهُ (عليه السلام)
وقد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه
هناك خلاف بين المؤرخين في أنّ هذه الاستشارة بخصوص الحضور في معركة نهاوند أو القادسية، ويرى الطبري حسب قول ابن أبي الحديد أنّها في معركة نهاوند، بينما يراها المدائني في كتاب «الفتوح» بشأن معركة القادسية(2)، وخلاصة ما ورد في تاريخ الطبري أنّ عمر حين عزم على الشخوص بنفسه لقتال العجم طلب مشورة الصحابة فتقدم طلحة والزبير وقالا رأيهما، إلاّ أنّ عمر استشار علياً (عليه السلام) فأشار (عليه السلام) بعدم الشخوص بنفسه كما في الخطبة، قال المرحوم الشيخ المفيد (رحمه الله) في «الإرشاد»، ورد عن أبي بكر الهذلي أنّ من بين الاُمور التي نقلت عن أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) في إرشاد الناس لما فيه مصلحتهم ولولا إرشاده لكان فسادهم أنّ فريقاً من أهل همدان والري وإصفهان ودامغان ونهاوند تكاتبوا بينهم وبعثوا الرسل فرأوا أنّ الإسلام قد فقد زعيمه (النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)) وخلفه من لم يستمر، ثم خلفه من طال عمره وقد
1. سند الخطبة:
روى جانباً من هذه الخطبة أبو حنيفة الدينوري في كتاب «الأخبار الطوال» وأحمد بن أعثم الكوفي في كتاب «الفتوح» والطبري في تاريخه والمعروف في حوادث عام 27 هـ (الصحيح عام 21 هـ كما ورد في تاريخ الطبري) وذكرها الشيخ المفيد(رحمه الله) في «الإرشاد» (مصادر نهج البلاغة 2/325).
2. شرح ابن أبي الحديد 9/97.
هجم على مدننا وإنّه لن يتركنا ما لم نخرجه، فلمّا بلغ عمر الخبر فقدم إلى المسجد وأطلع الصحابة بالخبر، فقال كل رأيه، فأشار علي (عليه السلام) (كما ورد في هذه الخطبة) بما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، قال الشيخ المفيد: انظر كيف بيّن الإمام (عليه السلام) رأيه الصائب في تلك الظروف الحساسة وأنقذ المسلمين(1)، على كل حال فانّ هذه الخطبة تعالج بمجموعها موضوعاً واحداً، وهو أنّ حضور رئيس الدولة في الحرب في بعض الظروف أمر خطير جدّاً من شأنه أن يؤدّي إلى مشكلتين، أحدهما إتحاد أفراد العدو فيما بينهم وبذل قصارى جهدهم من أجل قتله، فيضطرب الجيش ويختل نظمه، والأخرى على فرض عدم حدوث مثل هذا الخطر فلعل إخلاء الجبهة الداخلية يشجع العدو على الهجوم على المراكز الأصلية للبلاد من كافة الجهات فتنجم من جراء ذلك الأخطار الشديدة التي تهدد كيان الإسلام والمسلمين، وتشير هذه الخطبة بوضوح إلى أنّ علياً (عليه السلام) أنّه كان يقف حتى إلى جانب أعدائه إذا اقتضت ذلك مصالح الإسلام والمسلمين حرصاً على الدين وكيانه.
طبعاً هذا الكلام لا يعني أنّ رئيس الدولة لا ينبغي أن يشخص بنفسه قط في ميدان القتال فقد شخص أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بنفسه في معارك الجمل وصفين والنهروان، وأعظم من ذلك حضور النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في الغزوات، فالشرائط متفاوتة تماماً بحيث كانت تتطلب عدم حضور الخليفة الثاني في الميدان.
والجدير بالذكر أنّ المعارك قد تقع أحياناً بالقرب من البلاد الإسلامية وفي المناطق القريبة منه فانّ حضور المعركة من قبل رئيس الدولة لا يترتب عليه أية مخاطر في مثل هذه الظروف، في حين تبرز مثل هذه المخاطر في المناطق البعيدة وتجاه عدو قوي يمتلك جيشاً كبيراً، وقد تحدثنا في مثل هذا الأمر في شرحنا للخطبة 134.
—–
1. إرشاد المفيد، ص120 بتصرف.
«إِنَّ هذَا الاَْمْرَ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُ وَلاَ خِذْلاَنُهُ بِكَثْرَة وَلاَ بِقِلَّة. وَهُوَ دِينُ اللّهِ الَّذِي أَظْهَرَهُ، وَجُنْدُهُ الَّذِي أَعَدَّهُ وَأَمَدَّهُ، حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ، وَطَلَعَ حَيْثُ طَلَعَ; وَنَحْنُ عَلَى مَوْعُود مِنَ اللّهِ، وَاللّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، وَنَاصِرٌ جُنْدَهُ. وَمَكَانُ الْقَيِّمِ بِالاَْمْرِ مَكَانُ النِّظَامِ مِنَ الْخَرَزِ يَجْمَعُهُ وَيَضُمُّهُ: فَإِنِ انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ الْخَرَزُ وَذَهَبَ، ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِيرِهِ أَبَداً. وَالْعَرَبُ الْيَوْمَ وَإِنْ كَانُوا قَلِيلاً، فَهُمْ كَثِيرُونَ بِالاِْسْلاَمِ، عَزِيزُونَ بِالاِجْتَِماعِ! فَكُنْ قُطْباً، وَاسْتَدِرِ الرَّحَى بِالْعَرَبِ، وَأَصْلِهِمْ دُونَكَ نَارَ الْحَرْبِ، فَإِنَّكَ إِنْ شَخَصْتَ مِنْ هذِهِ الاَْرْضِ انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ الْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَأَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ مِنَ الْعَوْرَاتِ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ».
—–
الشرح والتفسير
صرّح الإمام (عليه السلام) في البداية بهدف عدم رعب المسلمين بفعل كثرة جيوش العدو في تلك المعركة القاسية، سيّما ما ذكرته بعض التواريخ من أنّ رأي عثمان حين أشار عليه الخليفة الثاني كان مقبولاً، فقال: «إِنَّ هذَا الاَْمْرَ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُ وَلاَ خِذْلاَنُهُ بِكَثْرَة وَلاَ بِقِلَّة. وَهُوَ دِينُ اللّهِ الَّذِي أَظْهَرَهُ، وَجُنْدُهُ الَّذِي أَعَدَّهُ وَأَمَدَّهُ، حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ، وَطَلَعَ حَيْثُ طَلَعَ»، في إشارة إلى أننا كنّا دائماً قلّة مقابل العدو في الحروب التي خضناها على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مع ذلك فقد انتصرنا وشملنا الله برحمته وعنايته، وقد لمسنا هذا الفضل دائماً، وعليه فلا تخشوا من كثرة العدو وامضوا بعد التوكل على الله تعالى.
والعبارة هذه تذكّر بنصر المسلمين في بدر والأحزاب وأمثالهما.
ولعل الفارق بين العبارتين بلغ ما بلغ وطلع حيث طلع أنّ العبارة الثانية تخبر عن انتشار الإسلام والأولى عن منتهى منطقة نفوذ الإسلام، كما يحتمل أن تكون العبارة الاُولى إشارة إلى المناطق التي نفذ إليها الإسلام، والعبارة الثانية إلى المناطق التي ذاع فيها صيت الإسلام وشع عليها بما يمهد السبيل أمامه وإن لم ينفذ إليها بعد، أو أنّ العبارة الاُولى إشارة إلى قوّة الإسلام وقدرته، والثانية إلى سعة الإسلام وانتشاره.
ثم قال (عليه السلام) مؤكداً ذلك الكلام: «وَنَحْنُ عَلَى مَوْعُود مِنَ اللّهِ، وَاللّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، وَنَاصِرٌ جُنْدَهُ»، إشارة إلى الآية الشريفة: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(1). والآية: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاَْشْهَادُ)(2).
نعم، فقد وعدنا في ظل الإيمان بالنصر في الدنيا والآخرة وتشهد سائر الآيات القرآنية على هذا المعنى، وما إن فرغ الإمام (عليه السلام) من بيان هذه المقدمة بهدف الاستقرار الروحي للخليفة والحاضرين حتى تطرق إلى الموضوع الأصلي للمشورة في حضور عمر بنفسه في المعركة فقال: «وَمَكَانُ الْقَيِّمِ بِالاَْمْرِ مَكَانُ النِّظَامِ(3) مِنَ الْخَرَزِ(4) يَجْمَعُهُ وَيَضُمُّهُ: فَإِنِ انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ الْخَرَزُ وَذَهَبَ، ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِيرِهِ(5) أَبَداً»، يا له من تعبير رائع وتشبيه جميل فالقائد والزعيم لبلد بمنزلة خيط المسبحة أو القلادة بفضله رمز الوحدة وإنسجام والأمّة، كما تحمل الزعيم قضية في أن يتحلى بسعة الصدر ووسع الفكر بحيث يستطيع استقطاب كافة الأفراد وصهرهم في كتلة متحدة.
ثم خاض الإمام ثانية في رفع معنوياتهم على أنّ العرب اليوم هم الكثرة رغم قلّتهم وما
1. سورة التوبة / 33.
2. سورة غافر / 51.
3. وإن كان لهذه المفردة مفهوم كلي لكنّها تعني هنا السلك ينظم فيه الخرز.
4. «خرز»: بمعنى حبات السبحة وتكون نفيسة، كما تكون عادية ويصنع منها المسبحة وأصلها «الخرز» على وزن الفرض بمعنى ثقب الجلد أو شيء أخر.
5. «حذافير»: جمع «حذفور و حذفار» على وزن مضمار بمعنى جانب الشيء وناحيته وحذافير بمعنى جميع الجوانب.
ذلك إلاّ بالإسلام فقهم عزيزون ومقتدرون في ظل اجتماعهم واتفاقهم في ظل هذا الدين: «وَالْعَرَبُ الْيَوْمَ وَإِنْ كَانُوا قَلِيلاً، فَهُمْ كَثِيرُونَ بِالاِْسْلاَمِ، عَزِيزُونَ بِالاِجْتَِماعِ!».
فخلص من ذلك إلى نتيجة أصلية: «فَكُنْ قُطْباً، وَاسْتَدِرِ الرَّحَى بِالْعَرَبِ، وَأَصْلِهِمْ(1)دُونَكَ نَارَ الْحَرْبِ».
ثم ذكر دليل ذلك فقال (عليه السلام): «فَإِنَّكَ إِنْ شَخَصْتَ(2) مِنْ هذِهِ الاَْرْضِ انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ الْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَأَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ مِنَ الْعَوْرَاتِ(3) أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ»، إشارة إلى أنّ الإسلام في بداياته لحدّ الآن، وما زال المنافقون وسليلوا عصر الجاهلية في صفوف العرب وهم يتربصون الفرصة لطعن المسلمين من الخلف، فلو انطلق القائد وصحبه الأوفياء إلى نقطة بعيدة يكون الميدان قد خلى للمفسدين والمنافقين، ولعلهم يسببون بعض الأخطار التي تفوق أخطار العدو الخارجي، أضف إلى لذلك فلو اصطدم الجيش بمشكلة في الجبهات، كان بإمكان القائد إن استقر في المركز أن يعبىء جيشاً جديداً ويبعث به إلى ميدان القتال، بينما ينهار سند الجيش إن حضر بنفسه الميدان.
والجدير بالذكر أنّ العرب في العبارة «وَالْعَرَبُ الْيَوْمَ...» تختلف عن العرب في العبارة «انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ الْعَرَبُ...» فالمراد بالاُولى المخلصون من المؤمنين، والثانية المنافقون الذين يظهرون الإيمان، أو المسلمون الضعاف.
—–
1. «اصل»: من مادة «صلي» على وزن سعي بمعنى دخول النار أو الاحتراق فيها، وإن استعملت في باب الأفعال عن القذف في النار، والعبارة إشارة إلى أنّ الجيش حين ينشغل بالحرب عليك بالابتعاد عنهم حتى لا يتمكن العدو من إصابتك.
2. «شخصت»: من مادة «شخوص» على وزن خلوص تعني في الأصل الخروج من المنزل أو المدينة، ولما كان الإنسان يظهر حين الخروج فقد أطلقت على قامة الإنسان والمرتفعات التي تلوح من بعيد، ويقال للمسافر شاخص حيث يبيّن حين دخوله المدينة، وتطلق هذه المفرادة على كل شيء مرتفع.
3. «عورات»: جمع «عورة» تعني في الأصل العيب والعار ولما كان إظهار الآلة الجنسية مدعاة للعيب والعار فقد اطلقت عليها العرب العورة، ولكن لهذه المفردة معنى أوسع وأشمل وهى النقطة التي يمكن اختراقها وما يخشاه الإنسان ويقلق منه، وحيث كانت حدود كل بلد من المناطق التي يمكن إلحاق الصدر بها والمقلقة فقد استعملت بهذا المجال، إلاّ أنّها لا تعني الحدود خلافاً لما أورده أغلب شرّاح نهج البلاغة، والمراد بها النقاط المضطربة داخل البلد الإسلامي والتي يمكن هجوم المنافقين عليها، والشاهد على ذلك العبارة ما تدع وراءك، لأنّ الجيش حين يتحرك نحو عدو خارجي لا يبقى خلفه سوى الجبهة الداخلية للبلاد.
ما يستفاد من هذه العبارات دورس مهمّة في مجال الإدارة والقيادة وتصريف شؤون البلاد:
أولاً: حفظ القائد والزعيم للاُمّة لا من منظار شخصي بل كونها قضية اجتماعية تعدّ من أهم الواجبات، وذلك لأنّه رمز وحدة الاُمة وتماسكها، ومن هنا لابدّ من الأخذ بنظر الاعتبار جميع التدابير للازمة من أجل حفظه ودفع أي احتمال يمكنه أن يشكل خطراً عليه، سيّما أنّ العدو ومن خلال الاطلاع على هذا الموضوع يسعى لاستهداف شخص القائد قبل كل شيء، وقد دلت التجربة التاريخية أنّ أقصر طريق لهزم جماعة يتمثل بدك موقع القيادة واستهداف القائد، ولعلنا نلمس هذا الأمر في قضية بني اسرائيل وقتالهم لجالوت التي عرضها القرآن الكريم حيث استهدف داود شخص جالوت فقتله فانهزم الجيش إثر ذلك.
ثانياً: على القائد أن ينظر باحدى عينيه إلى العدو الخارجي وبالاُخرى إلى الاعداء في داخل البلاد، حتى ورد في هذه الخطبة وكما دلّت التجارب التاريخية الكثيرة على خطر العدو الداخلي الذي يفوق الخطر الخارجي، وذلك لأنّ الذي يأتي من الخارج معروف، بينما يتمثل العدو الداخلي عادة بالمنافقين الذين يتخفون بين أبناء المجتمع، فانّ سنحت لهم أدنى فرصة سددوا سهام حقدهم وضربوا ضربتهم، إضافة إلى أنّهم على علم تام بمواقع الخلل في الداخل وكيفية التسلل إلى المناطق، ومن هنا عبّر الإمام (عليه السلام) عنهم وعن أخطارهم المتوقعة بالعورات وعد أخطارهم من أهم الأخطار.
—–
«إِنَّ الاَْعَاجِمَ إِنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَداً يَقُولُوا: هذَا أَصْلُ الْعَرَبِ، فَإِذَا اقتطعتموه ]قَطَعْتُمُوهُ [اسْتَرَحْتُمْ، فَيَكُونُ ذلِكَ أَشَدَّ لِكَلَبِهِمْ عَلَيْكَ، وَطَمَعِهِمْ فِيكَ. فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَسِيرِ الْقَوْمِ إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ; فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ، هُوَ أَكْرَهُ لِمَسِيرِهِمْ مِنْكَ، وَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَغْيِيرِ مَا يَكْرَهُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَدَدِهِمْ، فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُ فِيَما مَضَى بِالْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ!».
—–
الشرح والتفسير
هذا المقطع من الخطبة في الواقع تأييد وتأكيد للقسم الأول، وقد أشار إلى ثلاث نقاط، الأولى: الدليل الذي أقامة الإمام (عليه السلام) على عدم حضور الخليفة في ميدان الحرب فقال: «إِنَّ الاَْعَاجِمَ إِنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَداً يَقُولُوا: هذَا أَصْلُ الْعَرَبِ، فَإِذَا اقتطعتموه ]قَطَعْتُمُوهُ [اسْتَرَحْتُمْ، فَيَكُونُ ذلِكَ أَشَدَّ لِكَلَبِهِمْ(1) عَلَيْكَ، وَطَمَعِهِمْ فِيكَ».
الثانية: «فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَسِيرِ الْقَوْمِ إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ; فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ، هُوَ أَكْرَهُ لِمَسِيرِهِمْ مِنْكَ، وَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَغْيِيرِ مَا يَكْرَهُ»، وتشير العبارة إلى أنّ عمر قال سابقاً بأنّ الأعاجم قد زحفوا نحونا وينوون قتالنا وهذا يدلّ على ما يرونه في أنفسهم من قوّة، ولعل الأمر كان كذلك حسب الظاهر وما تفيده الشواهد التاريخية، إلاّ أنّ الإمام (عليه السلام) ذكر بقدرة الله الخاصة من أجل رفع معنوياته وهو الأمر الذي لمسه المسلمون كراراً في غزواتهم، ومن
1. «كلب»: بمعنى الأذى.
الطبيعي أن يتعقد الأمر لو بقي المسلمون في ديارهم وهجم عليهم العدو فما أمراهم لو توكلوا على الله وتصدوا للعدو خارج بلادهم.
الثالثة: أنّ الخليفة الثاني كان يخشى عدم التكافىء وموازنة القوى بين المسلمين والأعداء، فرد عليه الإمام (عليه السلام) بالقول: «وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَدَدِهِمْ، فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُ فِيَما مَضَى بِالْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ!»، فقد كان عمر يرى قوّة العدو واقتداره في أمرين، أحدهما كثرتهم وزيادة عددهم، والآخر حركتهم وهجومهم على بلاد الإسلام.
وقد صرح الإمام(عليه السلام) إننا لم نقاتل العدو وننتصر عليهم بهذه القوّة الظاهرية، وقد أيدنا الله بنصره ومدده العيني في جميع مواقف القتال، وقد انتصرنا رغم قلّة العدد وكثرة العدو وهجومه علينا، وهكذا شجعه الإمام (عليه السلام) على مواجهة العدو، وأكد وأيضاً عدم حضوره شخصاً في الحرب، واستجاب له عمر وكان النصر حليف المسلمين.
—–
وقعت معركتان مهمتان بين المسلمين والساسانيين على عهد عمر القادسية(1) في عام 14 هـ ومعركة نهاوند عام 21 هـ، وقد استشار عمر بشأن حضوره القتال، وقد مرّ علينا في الخطبة أنّ الإمام (عليه السلام) منعه من ذلك بعد ذكره للأدلة المحكمة، بينما أشار عليه الآخرون بالحضور، فقبل من الإمام (عليه السلام) وبقي في المدينة، وذهب بعض المؤرخين إلى أنّ هذه المشورة كانت في معركة نهاوند، على كل حال حين عزم عمر على عدم الحضور في القادسية ولى سعد بن أبي وقاص إمرة الجيش، بينما نصب يزدجرد الساساني رستم فرخزاد، فبعث سعد رسوله النعمان بن المقرن إلى يزدجرد، فعنفه حيث لم يتوقع ذلك من العرب آنذاك وقال له لولا أنّك رسول لقتلتك، ثم أمر بذر التراب على رأسه وطرده من المدائن، وقال له أنّ رستم سيدفن قائد عسكركم في خندق القادسية، فلما عاد النعمان إلى سعد، فقال سعد، ابشر أن وضعوا التراب على رأسك فاننا سنملك بلدهم، والعجيب أنّ رستم كان يخشى قتال المسلمين رغم تعداد جيشه الذي بلغ
1. القادسية كانت من المدن الإيرانية الغربية ولم تكن تبعد كثيراً عن الكوفة (ذكر البعض أنّها تبعد تسعين كليومتراً) وهى الآن من مدن العراق.
120 ألف بينما كان عدد جيش المسلمين بضع وثلاثين ألف.
وأخيراً تقاتل الجيشان، وفي اليوم الأول هجم الساسانيون بفيلهم على المسلمين، ولكن المسلمين تمكنوا من قطع خراطيمها وقد قتل من العدو في ذلك اليوم 2000 ومن المسلمين 500، وفي اليوم الثاني تقدم أبوعبيدة الجراح بجيش من الشام لنصرة سعد بن أبي وقاص فقتل من الساسانيين عشرة آلاف بينما قتل ألفان من المسلمين، وفي اليوم الثالث إشتد القتال واستمر القتال حتى اليوم الرابع فبان الضعف على العدو، فهبت ريح شديدة فهجم المسلمون على خيمة رستم، فحاول الهرب لكنه صرع تحت حوافر الخيل، فانهزم الجيش الساساني فلما بلغ الخبر عمر أمر بعدم تعقيب العدو وأن تستقر الجيش هناك فبقي سعد هناك في الكوفة فعلاً فبنى مسجداً وباشر بناء الكوفة، أمّا معركة نهاوند(1)، فقد ذكر الطبري أنّ عمر أراد أنّ يشخص لقتال الجيش الساساني في نهاوند فأشار عليه الصحابة حتى خطب الإمام (عليه السلام)فوافقه عمر وقال هذا هو الصواب.
ثم أمرّ النعمان الذي كان والي البصرة، فواجهة لقتال الفيروزان قائد جيش كسرى في نهاوند، فان قتل خلفه حذيفة ومن بعده نعيم، كما وجه معه طلحة بن خويلد وعمرو بن معدي كرب العارفين بالقتال ثم أمره بمشورتها، وقد قتل النعمان في المعركة، فحمل الراية حذيفة حتى قتل الفيروزان ودخل المسلمون نهاوند وحصلوا عن غنائم كثيرة فبعثوا بها إلى عمر، فلما رآى عمر الغنائم بكى فسألوه عن ذلك، قال: أخشى خداع الناس من هذا الثراء.
قال بعض المؤرخين: أنّ هذه المعركة حدثت عام 21 هـ لسبع سنوات بعد القادسية وقد انهزم الساسانيون ودخل المسلمون ايران، فما كان من الايرانيين المعروفين بالفطنة إلاّ أنّ تعرفوا على الإسلام واعتنقوه فأصبحوا من رواد العلوم الإسلامية.
![]() |
![]() |