![]() |
![]() |
—–
1. نهاوند مدينة معروفة غرب ايران وهى الآن تابعة لمحافظة همدان ولا تبعد عنها كثيراً.
2. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9/96 ـ 102; وتاريخ الطبري 3/202.
وَمِنْ خُطبَة لهُ (عليه السلام)
في الغاية عن بعثة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وأهميّة القرآن، والإخبار عن المستقبل
تتألف هذه الخطبة من عدّة أقسام:
القسم الأول: إشارة إلى أهداف بعثة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ودور القرآن في هداية الناس.
القسم الثاني: يخبر فيه الإمام (عليه السلام) عن الفتن القادمة ويتحدث عن وقت يغرق الناس فيه بالذنوب والمعاصي وينسون القرآن.
القسم الثالث: إنذار الناس والتذكير بعاقبة الأقوام السابقة التي صب عليها البلاء.
القسم الرابع: بين فيه الإمام (عليه السلام) بعض المواعظ الموثرة والمفيدة وقد دعى الناس إلى إتباع القرآن وأهل البيت(عليهم السلام)من أجل النجاة من الفساد.
—–
1. سند الخطبة:
نقلها قبل السيد الرضي باختلاف طفيف المرحوم الكليني في كتاب روضة الكافي، وقد اُشير في الخطبة 237 إلى جزء من هذه الخطبة كما وردت إشارة إلى جانب منها في قصار الكلمات، الكلمة 98 (مصادر نهج البلاغة 2/331).
«فَبَعَثَ اللّهُ مُحَمَّداً صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، بِالْحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الاَْوْثَانِ إِلَى عِبَادَتِهِ، وَمِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى طَاعَتِهِ، بِقُرْآن قَدْ بَيَّنَهُ وَأَحْكَمَهُ، لِيَعْلَمَ الْعِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ، وَلِيُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ، وَلِيُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْكَرُوهُ. فَتَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ، بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ، وَخَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ، وَكَيْفَ مَحَقَ مَنْ مَحَقَ بِالْمَثُلاَتِ، وَاحْتَصَدَ مَنِ احْتَصَدَ بِالنَّقِمَاتِ!».
—–
الشرح والتفسير
أشار الإمام (عليه السلام) في هذا القسم من الخطبة ـ كما ذكر ذلك الشارح البحراني ـ إلى بعثة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ثم شرح أهداف البعثة، ثم أشار إلى الوسيلة التي اعتمدها لتحقيق ذلك الهدف وهى القرآن الكريم فقال: «فَبَعَثَ اللّهُ مُحَمَّداً صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، بِالْحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الاَْوْثَانِ إِلَى عِبَادَتِهِ، وَمِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى طَاعَتِهِ»، يالها من عبارة بليغة رائعة وقصيرة بشأن الهدف من بعثة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والتي تستند إلى ركنين:
الأول: ترك عبودية الأصنام والتمسك بالتوحيد في العبادة، أي عبادة الله.
الثاني: التحرر من طاعة الشيطان والاقبال على طاعة الله سبحانه وتعالى.
لا شك أنّ طاعة الشيطان نوع من الوثنية، وعليه فهى داخلة في مفهوم العبارة الاُولى يعني عبادة الأوثان، إلاّ أنّ تقابل هاتين العبارتين يفيد أنّ العبادة قد استعملت في معناها الخاص، والمراد طاعة الشيطان، إتباع أوامره لا عبادته، على كل حال فانّ للأوثان والشيطان في هاتين
العبارتين مفهوم واسع يشمل كل معبود غير الله سبحانه وتعالى ويضم شياطين الانس والجن، وبناءاً على هذا يدخل في مفهوم هذه الجمل التسليم لحكام الظلم والجور وطاعة أوامرهم والاستسلام للاستعمار والاستغلال والانصياع للقوانين غير الشرعية، وهذا هو هدف البعثة والذي يتمثل بالتحرر من كل هذه الأمور.
نقل المرحوم الكليني في الكافي العبارات المذكورة بهذه الصيغة: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعالى بَعَثَ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) بِالحَقِّ لِيُخرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَة عِبَادِهِ إِلى عِبَادَتِهِ وَمِنْ عُهُودِ عِبَادِهِ إِلى عُهُودِهِ وَمِنْ طَاعَةِ عِبَادِهِ إِلى طَاعَتِهِ وَمِنْ وِلايَةِ عِبَادِهِ إِلى وَلايَتِهِ»(1).
وهكذا بيّن الإمام الهدف الأصلي لبعثة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والذي تعود إلى سائر الأهداف بهذه العبارات المختصرة وقد أماط كل إبهام.
ثم أشار (عليه السلام) إلى الوسيلة اللازمة لتحقيق هذا الهدف السامي فقال: «بِقُرْآن قَدْ بَيَّنَهُ وَأَحْكَمَهُ، لِيَعْلَمَ الْعِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ، وَلِيُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ، وَلِيُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْكَرُوهُ».
لا شك أنّ مشركي العرب كانوا يؤمنون بالله ويعترفون بوجوده وأنّه خالق السماوات والأرض ويرون الأوثان شفعائهم إليه، ولكن ليس لهذا الاعتقاد الممزوج بالشرك أية قيمة، وقد بعث الله نبيّه الأكرم (صلى الله عليه وآله) ليطهّر أرواحهم وأفكارهم من أدران الشرك والوثنية ويشدهم نحو التوحيد والعبودية الخالصة، وهذا في الواقع وظيفة كافة الأنبياء والمرسلين في تطهير التوحيد من رواسب الشرك.
وقال (عليه السلام) في تعريفه للقرآن وآثاره البنّاءة في الفكر والعمل: «فَتَجَلَّى(2) لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ، بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ».
والعبارة إشارة إلى آيات التوحيد وبيان أسماء الله وصفاته والتي تفعل مثل هذا الفعل في الإنسان حين يتأملها وكأنّه يرى الله سبحانه وتعالى جهرة، نعم يراه ولكن بالبصيرة لا
1. الكافي 8/386.
2. «تجلى»: من مادة «تجلي» وأصل جلو على وزن دلو بمعنى الظهور والبروز، وتجلى الله بمعنى أنّ آياته على درجة من الوضوح وكأنّه يمكن رؤيته من خلالها.
بالبصر، احتمل البعض أنّ المراد بالكتاب هنا كتاب عالم التكوين المملوء بآيات الله سبحانه بحيث نشاهدها أينما نظرنا(1)، ولكن يبدو هذا المعنى مستبعداً بالاستناد إلى العبارة السابقة التي أشير فيها إلى القرآن في العبارة اللاحقة إلى الإنذار الإلهي، والمراد بالكتاب القرآن الكريم، ولما كان تجلي الله بواسطة الآيات القرآنية قد يوهم إمكانية رؤية الله بالعين، فقد صرّح عقيب ذلك مباشرة بأنّ هذا التجلي يحصل دون رؤية بالبصر.
وأشار في العبارة القادمة إلى جانب آخر من آيات القرآن الكريم وهى آيات الإنذار والتخويف، فقال (عليه السلام): «وَخَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ»، ثم تطرق بعد ذلك إلى القصص الأليمة للأقوام السابقة وما تنطوي عليه من دروس وعبر فقال: «وَكَيْفَ مَحَقَ(2) مَنْ مَحَقَ بِالْمَثُلاَتِ(3)، وَاحْتَصَدَ(4) مَنِ احْتَصَدَ بِالنَّقِمَاتِ!».
وأخيراً مازال هناك احتمال في تفسير العبارات المذكورة في أنّ الله تعالى قد تجلى في كتابه بجميع هذه الموارد (آيات القدرة والتخويف من السطوة والقصص الأليمة للأقوام العاصية).
—–
كما شحن كتاب عالم التكوين بآثار عظمة الله وقدرته في آيات الآفاق والأنفس وفي السماوات والأرض وفي أكثر المنظومات والكرات السماوية وفي أصغر ذرات وجودنا، وكما صور ذلك الشاعر بأنّ كل نبات يخرج من الأرض يهتف وحده لا شريك له، وكذلك الذات الإلهيّة متجلية في القرآن الكريم، حين يتحدث عن آياته في السموات والأرض وحين يستعرض نعم الجنان ونقم النيران وحين يتحدث عن قدرته الباهرة في الخلق وحين يكشف اللثام عن صفات جلاله وجماله ورحمانيته، فذاته ظاهرة متجلية في كل هذه الآيات وقد قال
1. قال الشاعر:
وله في كل شيء آية *** تدلّ على أنّه واحد
2. «محق»: من مادة «محق» على وزن خلق بمعنى المحو الكامل أو إزالة بركة الشيء.
3. «المثلات»: جمع «مثلة» على وزن عضلة بمعنى العقوبة.
4. «احتصد»: من مادة «حصد» بمعنى القطف.
بعض الأعلام أنّ أغلب المكاشفات تتم حين تلاوة القرآن الكريم والتدبير في مفاهيمه، أجل لا يمكن رؤية الله سبحانه بهذه العين، بينما يمكن رؤيته بعين القلب ومن خلال آياته القرآنية، فما أحرانا بالنظر إلى عالم التكوين والتفكير وفي أسرار الوجود ومن ثم نفتح القرآن الكريم ونطالع آيات التكوين في الكتاب التدوين، حقّاً لو كان لنا مئة ألف عين لشاهدنا مئة ألف تجلي من تجليات الحق تبارك وتعالى.
—–
«وَإِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ، وَلاَ أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَلاَ أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ; وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ، وَلاَ أَنْفَقَ مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ; وَلاَ فِي الْبِلاَدِ شَيْءٌ أَنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَلاَ أَعْرَفَ مِنَ الْمُنْكَرِ! فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ، وَتَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ; فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذ وَأَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيَّانِ، وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ، فِي طَرِيق وَاحِد لاَ يُؤْوِيهِمَا مُؤْو. فَالْكِتَابُ وَأَهْلُهُ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَلَيْسَا فِيهِمْ، وَمَعَهُمْ وَلَيْسَا مَعَهُمْ! لاَِنَّ الضَّلاَلَةَ لاَ تُوَافِقُ الْهُدَى، وَإِنِ اجْتَمَعَا. فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ، وَافْتَرَقُوا عَلَى الْجَمَاعَةِ، كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلاَّ اسْمُهُ، وَلاَ يَعْرِفُونَ إِلاَّ خَطَّهُ وَزَبْرَهُ. وَمِنْ قَبْلُ مَا مَثَّلُوا بِالصَّالِحِينَ كُلَّ مُثْلَة، وَسَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اللّهِ فِرْيَةً، وَجَعَلُوا فِي الْحَسَنَةِ عُقُوبَةَ السَّيِّئَةِ».
—–
الشرح والتفسير
تحدّث الإمام (عليه السلام) في القسم المذكور عن ظهور الإسلام والهدف من بعثة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)والآثار العظيمة للقرآن في الهداية، ثم واصل (عليه السلام) كلامه في هذا القسم بالحديث عن زمان لا يبدو بعيداً وسيشهد تغيراً تاماً في الأوضاع بما يهدد بالخطر جهود النبي (صلى الله عليه وآله) فينذر كافة المؤمنين بالالتفات إلى الأخطار التي تتربص بهم، فاستهل (عليه السلام) كلامه ببيان الوضع في ذلك الزمان بسبع عبارات قصيرة بليغة فقال: «وَإِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ
شَيْءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ، وَلاَ أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَلاَ أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ»، كما ليست لدى الناس من سلعة أبور من القرآن الكريم آنذاك إن فسّر وتلي حق تلاوته، بينما يزداد الإقبال عليه إن حرّف عن معناه الحقيقي: «وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ(1) أَبْوَرَ(2) مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ، وَلاَ أَنْفَقَ(3) مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ; وَلاَ فِي الْبِلاَدِ شَيْءٌ أَنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَلاَ أَعْرَفَ مِنَ الْمُنْكَرِ! فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ، وَتَنَاسَاهُ(4) حَفَظَتُهُ».
نعم، ستظهر غيوم الجاهلية ثانية في سماء الإسلام فتحجب شعاع شمس النبوّة والقرآن فيتغير كل شيء وتنطمس حقائق الإسلام ويستولي سليلوا أئمّة الكفر والشرك والوثنية على الحكومة الإسلامية فتعاني الاُمة من ظلمات الجهل والجور، والسؤال المطروح أي زمان هذا الذي أشار إليه الإمام (عليه السلام)؟ هل المراد زمان معين؟ أم الحكومة مفهوم عام ويشمل مختلف الأزمنة حتى زماننا الحاضر؟ هناك خلاف بهذا الشأن بين شرّاح نهج البلاغة، ولكن بالنظر إلى العبارة «سيأتي» التي تفيد عادة الإخبار عن المستقبل القريب والتعبير بـ«عليكم» ومن بعدي التي تشير إلى درك مخاطبيه له، يبدو أنّه إشارة إلى زمان سيطرة بني اُمية ومعاوية ويزيد وسائر حكامهم الذين تنطبق عليهم هذه الصفات، نعم، فهؤلاء الذين كتموا الحق وقطعوا رقبة كل من تعصب له، إلى جانب ذلك فقد إتسق سوق الكذابين والوضاعين والمتملقين لبني اُمية ممن اندفع في مدحهم والثناء عليهم، فقد ظهرت المنكرات في كل مكان وضاع المعروف.
طبعاً لا ننكر أنّ هذا الأمر حدث ويحدث في سائر الأزمنة وحتى في عصرنا، مع ذلك فمراد الإمام (عليه السلام) من هذه العبارات العصر المظلم لبني اُمية.
ثم خاض الإمام (عليه السلام) في وضع القرآن وأصحابه في ذلك الزمان المظلم وشرح علّة بؤس الناس آنذاك والتي تتمثل بابتعادهم عن القرآن: «فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذ وَأَهْلُهُ طَرِيدَانِ(5) مَنْفِيَّانِ(6)،
1. «سلعة»: المتاع والبضاعة.
2. «أبور»: من مادة «بوار» شدّة كساد الشيء والأرض البائر والبوار الميتة الخالية من النبات.
3. «أنفق»: فعل تفضيل من مادة «نفاق» لها معاني مختلفة واُريد بها هنا غلاء السلعة ورواجها.
4. «تناسا»: من مادة نسيان.
5. «طريدان»: مثنى «طريد» من مادة طرد ومعناها معروف.
6. «منفيان»: من مادة «نفي» بمعنى الابعاد.
وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ، فِي طَرِيق وَاحِد لاَ يُؤْوِيهِمَا(1) مُؤْو».
ثم أكّد (عليه السلام) قائلاً: «فَالْكِتَابُ وَأَهْلُهُ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَلَيْسَا فِيهِمْ، وَمَعَهُمْ وَلَيْسَا مَعَهُمْ!»، فهم يتلون القرآن في دورهم وعلى منابرهم، ويقبّلونه ويتبركون به، بينما ليس هنالك أدنى أثر لتعاليمه ومفاهيمه في حياتهم الفردية والاجتماعية، فقد اكتفوا من القرآن بغلافه وتركوا مضمونه، إنهمكوا بالألفاظ وأهملوا المعاني.
ثم خاض (عليه السلام) في الدليل قائلاً: «لاَِنَّ الضَّلاَلَةَ لاَ تُوَافِقُ الْهُدَى، وَإِنِ اجْتَمَعَا». نعم، فالضالون في وادي والهدى وأتباعه في وادي آخر، وإن كانوا معاً في الظاهر، والدليل الآخر المهم لشقائهم: «فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ، وَافْتَرَقُوا عَلَى الْجَمَاعَةِ، كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ»، بعبارة أخرى فقد اتفقوا على أن لا يتفقوا، وقد أدّت هذه الفرقة إلى أن يفسّر كل القرآن حسب رغبته، أو بعبارة أخرى فقد أسسوا بنيانهم على التفسير بالرأي، يأخذون ما ينسجم مع رغباتهم من آيات بينما يسعون لتوجيه البعض الآخر من الآيات التي تتعارض وأهوائهم بما يتفق ورغباتهم، فهم يجعلون أنفسهم أئمة القرآن بدلاً من أن يكون القرآن الكريم إمامهم، ولذلك فهم لا ينتفعون بالقرآن، بل يجعلونه الموجّه لضلالهم، فيزدادوا ضلالاً وبعداً عن القرآن الكريم.
ثم رسم صورة واضحة عن مصير القرآن في ذلك العصر والزمان بعبارة رائعة لا تماثلها عبارة فقال (عليه السلام): «فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلاَّ اسْمُهُ، وَلاَ يَعْرِفُونَ إِلاَّ خَطَّهُ وَزَبْرَهُ(2)»، فقد يسطر القرآن بخطوط غاية في الجمال وتذهب صفحاته وغلافه ويبتدعوا روائع الفن بهذا الخصوص وتتداول الأيدي القرآن ويتلى في المساجد بمختلف الأصوات بصورة فردية وجماعية، ولكن دون أن يكون هناك أدنى خبر عن مضمونه ومحتواه، بالضبط كالدواء الشافي الذي يوضع في زجاجة جميلة تترك على الرف دون أن يتناول المرضى منها شيئاً، وهنا يبرز هذا السؤال: هل الصالحون والمؤمنون وأصحاب القرآن صامتون في ذلك الزمان؟ كأنّ الإمام (عليه السلام) أجاب في
1. «يؤوي»: من مادة «ايواء» بمعنى الملاذ والملجأ.
2. «زبر»: بالفتح الكتابة (وقد جاء بالمعنى المصدري واسم المصدر).
العبارة الأخيرة على هذا السؤال فقال: «وَمِنْ قَبْلُ مَا مَثَّلُوا(1) بِالصَّالِحِينَ كُلَّ مُثْلَة، وَسَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اللّهِ فِرْيَةً(2)، وَجَعَلُوا فِي الْحَسَنَةِ عُقُوبَةَ السَّيِّئَةِ».
فالعبارة إشارة إلى التاريخ الأسود لبني اُمية الذين مثلوا بالصالحين من العباد لما رأوهم يشكلون خطراً عليهم، حتى قيل بلغ تعداد من قتلهم معاوية ما يزيد على الأربعين ألف من المهاجرين والأنصار.
ولا نرى من حاجة لاستعراض تلك الفاجعة التي إرتكبها ولده يزيد بحق الحسين(عليه السلام)وأنصاره في كربلاء، كما لا يمكن إحصاء من قتلهم عبدالملك بن مروان وعامله الحجاج من أهل العراق والحجاز(3)، وهكذا أخمدوا كل دعوة حق وقطعوا كل لسان صدق ومهدوا السبيل لإملاء أفكارهم ورغباتهم.
—–
لا شك إنّ عصر حكومة بني اُمية من أبشع العصور التي شهدتها الاُمة الإسلامية، ويشترك حكام بني اُمية من معاوية حتى أخرهم الذي بعرف بمروان الحمار في ثلاث خصال هى: الجلافة والقسوة المتناهية وحبّ الحكومة والذوبان فيها مهما كان الثمن لبلوغها وحسن الثأر والانتقام، ومن هنا فقد ضحوا بكل معاني الحق والعدل والشرف والإنسانية من أجل حكومتهم المقيتة فارتكبوا من الظلم والجور ما لم يرد مثيله في التاريخ، وقد أذاقوا دعاة الحق وصحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأمرّين بين قتل وتشريد وقطع الرأس ونفي وصلب وحصار في البيت من أجل تلك الحكومة، وهذا ما أشآر إليه الإمام (عليه السلام) في عباراته الأخيرة من هذا القسم
1. «مثلوا»: من مادة «تمثيل» وأصلها «المثلة» بمعنى التنكيل والتشنيع.
2. «فرية»: من مادة «فري» على وزن فرد تعني في الأصل القطع، ولما كان قطع الشيء يؤدّي إلى فساده غالباً، فهى تطلق على كل خلاف ومنه الكذب والتهمة.
3. روى ذلك المرحوم العلاّمة الحلي في كتاب «كشف الحق» عن كتاب «الهاوية» (شرح نهج البلاغة للعلاّمة الخوئي 9/70).
من الخطبة، إلاّ أنّ أهم كهف كانت تلوذ به الاُمة الإسلامية والذي يشكل أكبر عقبة تعترض طريقهم إنّما هو القرآن، القرآن الذي أعلن الحرب ضد الظلمة، والطغاة وهدد دائماً عروش الغاشمين، وكان المعيار لتمييز الحكومة الإسلامية من الحكومالت الغاصبة والظالمة والكافرة، فما كان من اُولئك الطغاة إلاّ أن وظفوا أشباه العلماء ووعاظ السلاطين ويهدف إزالة تلك العقبة عن طريقهم بتفسير القرآن حسب أهوائهم، في أنّ آياته تشهد بحقانية اُولئك الغرباء على القرآن والبعيدين عن الحق تبارك وتعالى، كما منعوا من يرون تلاوة القرآن حق تلاوته، وهكذا لم يبق من القرآن سوى اسمه ورسمه فحكم عليه بأن يصبح كالسجين الذي أودع زنزانة إنفرادية مخيفة ليبعد عن أفكار الناس، وهو الأمر الذي أشار إليه الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة.
فقد جاء في الخبر أنّ معاوية حين قدم المدينة مرّ بمجلس من كبار قريش، فلما رأواه قاموا له خوفاً سوى ابن عباس، فقال له مالك لا تقوم يابن عباس أهى صفين، فقد قتل عثمان مظلوماً (وهذا ما دفعنا للقتال).
فقال ابن عباس: فقد قتل عمر بن الخطاب مظلوماً (لماذا لم تقم لنصرته)، فقال معاوية: إنّ كافراً قتل عمر. قال ابن عباس: فمن هم قتلة عثمان، قال معاوية: المسلمون. قال ابن عباس: فهذه عليك لا لك.
قال معاوية: لقد أمرنا بعدم ذكر فضائل علي وأهل بيته فاحفظ لسانك. قال ابن عباس:، أتمنعنا من قراءة القرآن؟ قال: لا. قال ابن عباس: تمنعنا من تأويله؟ قال معاوية: بلى، لك القراءة دون التأويل، وإن كان ولابدّ فلا تحدث بفضائل أهل البيت.
ثم أمر لابن عباس بمئة ألف درهم (ليمزج الترهيب والترغيب ليتمكن بكل الوسائل من إسكات ابن عباس)(1)، ومن أراد المزيد بشأن جنايات بني اُمية والتعرف عليهم بدقّة على ضوء القرآن وأخبار العامّة والأعمال التي قاموا بها من أجل مسخ المعارف الإسلامية وتحريفها فليراجع المجلد الثالث من هذا الكتاب.
—–
1. بحار الانوار 44/124.
ما أورده الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة بشأن العصر المظلم للحكومة الاُموية بأنّ لا يبقى من القرآن إلاّ اسمه لا يقتصر على ذلك الزمان، والمؤسف له أنّ ذلك الأمر قد تكرر في مختلف النقاط وإن لم يبلغ ما بلغه أبان الحكومة بني اُمية، وما زلنا نلمس نماذج ذلك حتى في عصرنا.
وقد وردت للإمام (عليه السلام) عبارة أشمل في قصار كلماته بهذا الخصوص إذ قال: «يَأتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يَبقَى فِيهِن مِنَ القُرآنِ إِلاّ إِسمُهُ وَمِنَ الإسلامِ إلاّ إِسمُهُ وَمَسَاجِدُهُم يَومَئِذ عَامِرَةٌ مِنَ البِنَاءِ خَرابٌ مِنَ الهُدى، سُكَّانُها وَعُمَّارُها شِرُّ أَهلِ الأَرضِ مِنهُم تَجرُجُ الفِتنَةُ وَإِلَيهِم تَأَوى الخَطِيئَةُ».(1)
—–
1. بحار الانوار 44/124.
«وَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَتَغَيُّبِ آجَالِهِمْ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ الْمَوْعُودُ الَّذِي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ، وَتُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ، وَتَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ وَالنِّقْمَةُ».
—–
الشرح والتفسير
أنذر الإمام (عليه السلام) الجميع في هذا المقطع من الخطبة ودعاهم لتأمل تاريخ الاُمم السابقة ويفكروا في أسباب بؤسهم وشقائهم فيعتبروا بذلك حيث قال: «وَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَتَغَيُّبِ آجَالِهِمْ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ الْمَوْعُودُ»، المراد بالهلك في قوله إنّما هلك حسب ما ذهب إلى جمع من شرّاح نهج البلاغة الهلاك المعنوي يعني الضلالة التي ينتج عنها العذاب الاُخروي، ولكن لا يبعد أن تشمل الهلاك المعنوي والاُخروي وكذلك المادي والدنيوي، أي أنّ طول الأمل ونشيان أجل الحياة والغرق في الشهوات، إنّما يفسد الآخرة ويحط من قدر وعظمة الإنسان في الدنيا، وبالتالي تعرضهم لأنواع العذاب الدنيوي من قبيل طوفان قوم نوح وزلزلة قوم لوط والصواعق السماوية التي أصابت الأقوام الأخرى.
نعم، فتغيب الآجال أحد آثار طول الأمل والذي يعد من أعدى أعداء سعادة الإنسان، لأنّه يلقي بحجاب ضخم على بصيرة العقل ويجعل الهوى حاكماً عليه ويقذف بالإنسان في مستنقع الذنوب والمعاصي، وهذا ما ورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين علي (عليه السلام): «وَأَمّا طُولِ الأَمَلِ فَيُنسِي الآخِرَةَ»(1)، ويفهم من العبارة: «حَتّى نَزَلَ بِهِم المَوعُودُ»، أنّ اُولئك
1. الخطبة 42; بحار الانوار 70/91.
الأفراد يفيقون في تلك اللحظة، أجل يفيقون، ولكن حيث لا ينفعهم ذلك، ولذلك قال الإمام(عليه السلام): «الَّذِي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ، وَتُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ، وَتَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ(1) وَالنِّقْمَةُ(2)».
نعم، فمصدر كل تلك الجنايات والمخالفات التي ورد الكلام عنها في القسم السابق من الخطبة إنّما يكمن في حبّ الدنيا وطول الأمل ونسيان الأجل، الأجل الذي لا رجعة فيه ولا يمكن تدارك ما فرط من الإنسان فيه.
—–
1. «قارعة»: من مادة «قرع» على وزن فرع بمعنى ضرب شيء بآخر وتطلق القارعة على كل حادثة مهمّة ومهلكة.
2. «النقمة»: تعني في الأصل استقباح الشيء بحيث تحصل أحياناً باللسان وأخرى بصورة عقوبة علمية، ومن هنا غالباً ما تستعمل هذه المفردة بمعنى العقوبة.
«أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ مَنِ اسْتَنْصَحَ اللّهَ وُفِّقَ، وَمَنِ اتَّخَذَ قَوْلَهُ دَلِيلاً هُدِيَ (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ); فَإِنَّ جَارَ اللّهِ آمِنٌ، وَعَدُوَّهُ خَائِفٌ; وَإِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللّهِ أَنْ يَتَعَظَّمَ، فَإِنَّ رِفْعَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا عَظَمَتُهُ أَنْ يَتَوَاضَعُوا لَهُ، وَسَلاَمَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُهُ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لَهُ. فَلاَ تَنْفِرُوا مِنَ الْحَقِّ نِفَارَ الصَّحِيحِ مِنَ الاَْجْرَبِ، وَالْبَارِي مِنْ ذِي السَّقَمِ. وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ، وَلَنْ تَأْخُذُوا بِمِيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ، وَلَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ، حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَبَذَهُ. فَالَْتمِسُوا ذلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ، فَإِنَّهُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْجَهْلِ. هُمُ الَّذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ، وَصَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ، وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ; لاَ يُخَالِفُونَ الدِّينَ وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ; فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ».
—–
الشرح والتفسير
تحدّث الإمام (عليه السلام) في هذا القسم السابق عن فئة ضالة ومستبدة غيرت جميع الحقائق وإرتكبت أفضع الجرائم، ثم حل أجلها ولم تتب إلى ربّها فسارعت إلى عالم آخر ليصب عليها العذاب، فأبان الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع سبيل النجاة حتى لا يبتلى الآخرون بذلك المصير الأسود فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ مَنِ اسْتَنْصَحَ اللّهَ وُفِّقَ، وَمَنِ اتَّخَذَ قَوْلَهُ دَلِيلاً هُدِيَ (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)»، نعم، هذه هى الخطوة الاُولى من أجل الإهتداء إلى الحق والصراط المستقيم ثم استدلّ على ذلك بقوله: «فَإِنَّ جَارَ اللّهِ آمِنٌ، وَعَدُوَّهُ خَائِفٌ».
وأضاف بعد ذلك بهدف استماع الناس للمواعظ الإلهيّة ويبعدوا عنهم الكبر والغرور ويسلموا لأوامر الله: «وَإِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللّهِ أَنْ يَتَعَظَّمَ، فَإِنَّ رِفْعَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا عَظَمَتُهُ أَنْ يَتَوَاضَعُوا لَهُ، وَسَلاَمَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُهُ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لَهُ»، في إشارة إلى أنّ اُولئك الذين يعيشون الغرور والتكبر غافلون عن عظمة الله سبحانه، والذين يغترون بقدرتهم جاهلون بقدرة الله تعالى، أمّا من عرف الله وقدرته فهو يدرك أنّه لا شيء تجاهه، عليه فلا داعي لهذا الكبر والغرور الفارغ.
ثم قال على سبيل الاستنتاج: «فَلاَ تَنْفِرُوا مِنَ الْحَقِّ نِفَارَ الصَّحِيحِ مِنَ الاَْجْرَبِ، وَالْبَارِي(1) مِنْ ذِي السَّقَمِ»، إشارة إلى أنّ سعادتكم وفلاحكم وسلامتكم في إتباع الحق، وأنّ النزوع نحو الباطل نوع من أنواع المرض والسقم، لكن من المؤسف هناك من يهرب من الحق وكأنّه يفر من مرض معدي، أو حسب تعبير القرآن الكريم: (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَة)(2).
ثم عرض الإمام (عليه السلام) في الخطوة التالية سبيلاً واضحاً بهدف هداية مخاطبيه إلى الحق وإبعادهم عن الباطل فقال: «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ، وَلَنْ تَأْخُذُوا بِمِيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ، وَلَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ، حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَبَذَهُ»، والواقع هذا هو أحد طرق معرفة الحق والباطل والذي ينطوي تحت القاعدة المعروفة: «تعرَفُ الأَشياءُ بِأضدَادها»، فالإنسان يجهل معنى العافية ما لم يمرض ولا يدرك مفهوم الضياء ما لم يرى الظلمة، فقد اعتبر الإمام (عليه السلام) ـ في هذا المقطع من الخطبة كما ورد في العبارة المذكورة ـ التعرف على تاركي الحق ومخالفيه كطريق بلوغ الحق، فأشار إلى ثلاث طوائف: طائفة تركت الحق، وطائفة نقضت ميثاق القرآن، والطائفة الثالثة التي نبذته وراء ظهرها، والفارق بين هذه الطوائف الثلاث واضح، فالبعض يترك الحق دون أن يحضره والبعض الآخر يحقره علاوة على تركه، وأخيراً هناك من ينقض عهود الله ومواثيقه، والذي وردت الإشارة
1. «البارىء»: من مادة برء على وزن قفل لها معنيان: الأول: بمعنى الخالق والايجاد ومن هنا يقال لله الباريء، والآخر: بمعنى الابتعاد عن الشيء ولذلك تستخدم بمعنى العافية والبعد عن المرض وهذا هو المعنى المراد بها في عبارة الخطبة.
2. سورة المدثر / 50 ـ 51.
إليه في الآية القرآنية الشريفة: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ...)(1)، والآية صادقة على الآخرين وإن كانت في الظاهر في بني اسرائيل.
نعم، يمكن الظفر بسبيل الحق من خلال معرفة هؤلاء التاركين للحق والناقضين لمواثيق الله والمحقرين لكتاب الله، ومعرفة المبادىء التي تسود حياتهم.
![]() |
![]() |