[531]


أبواب الامور والفتن الحادثة بعد الرجوع عن قتال الخوارج

[533]


الباب الثلاثون : باب الفتن الحادثة بمصر وشهادة محمد بن أبي بكر ومالك الاشتر رضي الله عنهما وبعض فضائلهما وأحوالهما وعهود أميرالمؤمنين عليه السلام إليهما 

720 - قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : روى إبراهيم بن محمد الثقفي في كتاب الغارات ووافق ما رأيته في أصل كتابه روى بإسناده عن الكلبي أن محمد بن حذيفة هو الذي حرض المصريين على قتل عثمان وندبهم إليه وكان

________________________________________________________
720 - رواه الثقفي رحمه الله في الحديث : ( 101 ) وما بعده من كتاب الغارات : ج 2 ، ص 205 ط 1 .
ورواه عنه ابن أبي الحديد في شرح المختار : ( 67 ) من نهج البلاغة : ج 2 ص 298 ط الحديث ببيروت .
وأكثر ما رواه الثقفي رحمه الله رواه أيضا الطبري في حوادث سنة : ( 36 ) من تاريخه : ج 5 ص 23 .

[534]


حينئذ بمصر فلما ساروا إلى عثمان وحصروه وثب هو بمصر على عامل عثمان عليها وهو عبدالله بن سعد بن أبي سرح فطرده عنها وصلى بالناس فخرج ابن أبي سرح من مصر وقال به صر إلى مصر ونزل على تخوم أرض مصر مما يلي فلسطين وانتظر ما يكون من أمر عثمان فلما وصل إليه خبر قتله لحق بمعاوية .
وولى علي عليه السلام قيس بن سعد بن عبادة مصر وقال له : ضر إلى مصر فقد وليتكها واخرج إلى ظاهر المدينة واجمع ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتى تأتي مصر ولك جند فإن ذلك أرعب لعدوك وأعز لوليك فإذا أنت قدمتها إنشاءالله فأحسن إلى المحسن وشد على المريب وارفق بالعامة والخاصة فإن الرفق يمن .
فقال قيس : رحمك الله يا أميرالمؤمنين قد فهمت ما ذكرت فأما لجند فإني أدعه لك فإذا احتجت إليهم كانوا قريبا منك وإن أردت بعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا لك عدة ولكني أسير إلى مصر بنفسي وأهل بيتي وأما ما أوصيتني به من الرفق والاحسان فالله تعالى هو المستعان على ذلك .
قال : فخرج قيس في سبعة نفر من أهل بيته حتى دخل مصر فصعد المنبر وأمر بكتاب معه يقرأ على الناس فيه : من عبدالله علي أميرالمؤمنين عليه السلام إلى من بلغه كتابي من المسلمين سلام عليكم فإني أحمدالله إليكم الذي لا إله إلا هو .
أما بعد فإن الله بحسن صنعه وقدره وتدبيره اختار الاسلام دينا لنفسه وملائكته ورسله وبعث به أنبياءه إلى عباده فكان مما أكرم الله هذه الامة وخصهم به من الفضل أن بعث محمدا صلى الله عليه وآله إليهم فعلمهم الكتاب والحكمة والسنة والفرائض وأدبهم لكيما يهتدوا وجمعهم لكيما لايتفرقوا وزكاهم لكيما يتطهروا فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله إليه فعليه صلوات الله وسلامه ورحمته ورضوانه .

[535]


ثم إن المسلمين من بعده استخلفوا أميرين منهم صالحين أحييا السيرة ولم يعدوا السنة ثم توفيا فولي بعدهما .
من أحدث أحداثا فوجدت الامة عليه مقالا فقالوا ثم نقموا عليه فغيروا ثم جاؤني فبايعوني وأنا أستهدي الله للهدى وأستعينه على التقوى .
ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسوله والقيام بحقه والنصح لكم بالغيب والله المستعان وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وقد بعثت لكم قيس بن سعد الانصاري أميرا فوازروه وأعينوه على الحق وقد أمرته بالاحسان إلى محسنكم والشدة على مريبكم والرفق بعوامكم وخواصكم وهو ممن أرضى هديه وأرجو صلاحه ونصحه نسأل الله لنا ولكم عملا زاكيا وثوابا جزيلا ورحمة واسعة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وكتب عبيدالله بن أبي رافع في صفر سنة ست وثلاثين .
فلما فرغ من قراءة الكتاب قام قيس خطيبا فحمدالله وأثنى عليه وقال : الحمدلله الذي جاء بالحق وأمات الباطل وكبت الظالمين أيها الناس إنا بايعنا خير من نعلم بعد نبينا صلى الله عليه وآله فقوموا وبايعوا على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله فإن نحن لم نعمل فيكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله فلا بيعة لنا عليكم .
فقام الناس فبايعوا واستقامت مصر وأعمالها لقيس وبعث عليها عما له إلا أن قرية منها قد أعظم أهلها قتل عثمان وبها رجل من بني كنانة يقال له يزيد بن الحارث فبعث إلى قيس : إنا لا نأتيك فابعث عمالك فالارض أرضك ولكن أقرنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس .
ووثب مسلمة بن مخلد الانصاري به فنعى ودعا إلى الطلب بدم عثمان فأرسل إليه قيس ويحك أعلي تثب والله ما أحب أن لي ملك الشام ومصر وإني قتلتك فاحقن دمك فارسل إليه مسلمة أني كاف عنك ما دمت أنت والي

[536]


مصر .
وكان قيس ذا رأي وجزم فبعث إلى الذين اعتزلوا أني لا أكرهكم على البيعة ولكني أدعكم وأكف عنكم فهادنهم وهادن مسلمة بن مخلد وجبى الخراج وليس أحد ينازعه .
قال إبراهيم : وخرج علي عليه السلام إلى الجمل وقيس على مصر ورجع إلى الكوفة من البصرة وهو بمكانه وكان أثقل خلق الله على معاوية لقرب مصر وأعمالها من الشام فكتب معاوية إلى قيس وعلي عليه السلام يومئذ بالكوفة قبل أن يسير إلى صفين : من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد [ فإنكم ] إن كنتم نقمتم على عثمان في أثرة رأيتموها أو ضربة سوط رأيتموه ضربها أو في شتمه أو تمييزه أحدا أو في استعماله الفتيان من أهله فإنكم قد علمتم إن كنتم تعلمون أن دمه لم يحل لكم بذلك فقد ركبتم عظيما من الامر وجئتم شيئا إدا فتب يا قيس إلى ربك إن كنت من المجلبين على عثمان إن كانت التوبة قبل الموت تغني شيئا وأما صاحبك فقد استيقنا أنه أغرى الناس به وحملهم على قتله حتى قتلوه وأنه لم يسلم من دمه عظم قومك فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل وبايعنا على علي في أمرنا هذا ولك سلطان العراقين إن أنا ظفرت ما بقيت ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان وسلني من غير هذا تجب مما تحب فإنك لاتسألني من شئ إلا أوتيته واكتب إلي برأيك فيما كتبت إليك والسلام .
فكتب إليه [ قيس ] أما بعد فقد وصل إلي كتابك وفهمت الذي ذكرت من أمر عثمان وذكر أمر لم أقاربه وذكرت أن صاحبي هو الذي أغرى الناس بعثمان ودسهم إليه حتى قتلوه وهذا أمر لم أطلع عليه وذكرت لي أن عظم عشيرتي لم تسلم من دم عثمان فلعمري أن أولى الناس كان في أمره عشيرتي .
وأما ما سألتني من مبايعتك على الطلب بدمه وما عرضته علي فقد فهمته

[537]


وهذا أمر لي فيه نظر وفكر وليس هذا مما يعجل إلى مثله وأنا كاف عنك وليس يأتيك من قبلي شئ تكرهه حتى ترى ونرى إنشاءالله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
فلما قرأ معاوية كتابه لم يره إلا مقاربا مباعدا ولم يأمن أن يكون مخادعا مكائدا فكتب إليه أما بعد فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدك سلما ولم أرك تتباعد فأعدك حربا أراك كخيل الحرون وليس مثلي من يصانع بالخدائع ولا يخدع بالمكائد ومعه عدد الرجال وأعنة الخيل فإن قبلت الذي عرضت عليك فلك ما أعطيتك وإن أنت لم تفعل ملات مصر عليك خيلا ورجالا والسلام .
فلما قرأ قيس كتابه وعلم أنه لا يقبل منه المدافعة والمطاولة أظهر له ما في نفسه .
فكتب إليه من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فالعجب من استسقاطك رأيي والطمع في أن تسومني - لا أبا لغيرك - الخروج من طاعة أولى الناس بالامر وأقولهم بالحق وأهداهم سبيلا وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسيلة وتأمرني بالدخول في طاعتك طاعة أبعد الناس من هذا الامر وأقولهم بالزور وأضلهم سبيلا واتاءهم ( 1 ) من رسول الله صلى الله عليه وآله وسيلة ولديك قوم ضالون مضلون طواغيت من طواغيت إبليس .
وأما قولك : إنك تملا علي مصر خيلا ورجالا فلئن لم أشغلك عن ذلك
.
-بحار الانوار مجلد: 30 من ص 537 سطر 19 الى ص 545 سطر 18 حتى يكون منك إنك ذو جد والسلام .
فلما أتى معاوية كتاب قيس آيس منه وثقل مكانه عليه وكان أن يكون مكانه غيره أعجب إليه لما يعلم من قوته وبأسه ونجدته فاشتد أمره على معاوية فأظهر للناس أن قيسا قد بايعكم فادعوا الله له وقرأ عليهم كتابه الذي لان

________________________________________________________
( 1 ) كذا في أصلي وفي شرح نهج البلاغة : وأذناهم .
وفي طبعة سابقة : واناهم .
وفي الغارات والطبري : وأبعدهم .

[538]


فيه وقاربه واختلق كتابا نسبه إلى قيس فقرأه على أهل الشام .
فشاع في الشام كلها أن قيسا صالح معاوية وأتت عيون علي عليه السلام إليه بذلك فأعظمه وأكبره وتعجب له ودعا إبنيه حسنا وحسينا وابنه محمدا وعبدالله بن جعفر فأعلمهم بذلك وقال ما رأيكم فقال : عبدالله بن جعفر : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك اعزل قيسا من مصر .
قال علي عليه السلام : والله إني غير مصدق بهذا على قيس فقال عبدالله : اعزله يا أميرالمؤمنين فإن كان حقا ما قد قيل لا يعتزلك إن عزلته .
قال : فإنهم لكذلك إذ جاءهم كتاب من قيس بن سعد [ وفيه ] : أما بعد فإني أخبرك يا أميرالمؤمنين أكرمك الله وأعزك أن قبلي رجالا معتزلين سألوني أن أكف عنهم وأدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس وترى ويرون وقد رأيت أن أكف عنهم ولا أعجل بحربهم وأن أتألفهم فيما بين ذلك لعل الله أن يقبل بقلوبهم ويفرقهم عن ضلالتهم إنشاءالله والسلام فقال عبدالله بن جعفر : يا أميرالمؤمنين إنك إن أطعته في تركهم واعتزالهم استسرى الامر وتفاقمت الفتنة وقعد عن بيعتك كثير ممن تريده على الدخول فيها ولكن مره بقتالهم فكتب إليه : أما بعد فسر إلى القوم الذين ذكرت فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون وإلا فناجزهم والسلام .
فلما أتى هذا الكتاب قيسا فقرأه لم يتمالك أن كتب إليه : أما بعد ، يا أميرالمؤمنين فالعجب لك تأمرني بقتال قوم كافين عنك لم يمدوا يدا للفتنة ولا أرصدوا لها فأطعني يا أميرالمؤمنين وكف عنهم فإن الرأي تركهم والسلام .
فلما أتاه الكتاب قال عبدالله بن جعفر : يا أميرالمؤمنين ابعث محمد بن أبي بكر إلى مصر واعزل قيسا فبلغني والله أن قيسا يقول : إن سلطانا لايتم إلا بقتل مسلمة بن مخلد لسلطان سوء والله ما أحب أن لي سلطان الشام مع سلطان مصر وأني قتلت ابن مخلد .

[539]


وكان عبدالله أخا محمد لامه وكان يحب أن يكون له إمرة وسلطان .
فاستعمل علي عليه السلام محمد بن أبي بكر على مصر لمحبته له ولهوى عبدالله بن جعفر أخيه فيه وكتب معه كتابا إلى أهل مصر .
فسار حتى قدمها فقال له قيس : ما بال أميرالمؤمنين عليه السلام ما غيره فغضب وخرج عنها مقبلا إلى المدينة ولم يمض إلى علي عليه السلام بالكوفة .
فلما قدم المدينة جاءه حسان بن ثابت شامتا به وكان عثمانيا فقال له : نزعك علي بن أبي طالب وقد قتلت عثمان فبقي عليك الاثم ولم يحسن لك الشكر فزجره قيس وقال : يا أعمى القلب يا أعمى البصر والله لولا أن ألقى بيني وبين رهطك حربا لضربت عنقك ثم أخرجه من عنده ثم إن قيسا وسهل بن حنيف خرجا حتى قدما على علي عليه السلام الكوفة فخبره قيس الخبر وما كان بمصر فصدقه وشهد مع علي عليه السلام بصفين هو وسهل بن حنيف وكان قيس طوالا أطول الناس وأمدهم قامة وكان سناطا ( 1 ) أصلع شجاعا مجربا مناصحا لعلي عليه السلام ولولده ولم يزل على ذلك إلى أن مات .
أقول : هذه الاخبار مختصر مما وجدته في كتاب الغارات وقال فيه :

________________________________________________________
[ و ] كان قيس عاملا لعلي عليه السلام على مصر فجعل معاوية يقول : لا تسبوا قيسا فإنه معنا فبلغ ذلك عليا فعزله وأتى المدينة فجعل الناس يغرونه ويقولون له : نصحت فعزلك .
فلحق بعلي عليه السلام .
وبايعه إثنا عشر ألفا على الموت [ بعدما ] أصيب علي عليه السلام وصالح الحسن معاوية ( 2 ) فقال لهم قيس إن شئتم دخلتم فيما دخل فيه الناس فبايعه من معه إلا خثيمة الضبي .

________________________________________________________
( 1 ) السناط - بكسر السين وضمه - : الكوسج الذي لالحية له أصلا ، أو الخفيف العارض ولم يبلغ حد الكوسج أو من لحيته في الذقن وما بالعارض شئ .
( 2 ) ما بين المعقوفين زيادة يستدعيها السياق .
وفي الاصل : وأصيب عليا .

[540]


وعن هشام بن عروة عن أبيه قال : كان قيس بن سعد بن عبادة مع علي بن أبي طالب عليه السلام على مقدمته ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رؤوسهم .
أقول : وجدت في بعض الكتب أن عزل قيس عن مصر مما غلب أمير المؤمنين عليه السلام أصحابه واضطروه إلى ذلك ولم يكن هذا رأيه كالتحكيم ولعله أظهر وأصوب ( 1 ) .
ثم قال إبراهيم : وكان عهد علي عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر : هذا ما عهد عبدالله علي أميرالمؤمنين إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر أمره بتقوى الله في السر والعلانية وخوف الله تعالى في المغيب والمشهد .
وأمره باللين على المسلم والغلظة على الفاجر وبالعدل على أهل الذمة وبالانصاف للمظلوم وبالشدة على الظالم وبالعفو عن الناس وبالاحسان ما استطاع والله يجزي المحسنين ويعذب المجرمين .
وأمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة والجماعة فإن لهم في ذلك من العافية وعظم المثوبة مالا يقدر قدره ولا يعرف كنهه وامره أن يجبي خراج الارض على ما كانت تجبى عليه من قبل لاينتقص ولا يبتدع ثم يقسمه بين أهله كما كانوا يقسمونه عليه من قبل وإن لم تكن لهم حاجة .
وأمره أن يلين لهم جناحه وأن يواسي بينهم في مجلسه ووجهه ليكون القريب والبعيد عنده في الحق سواء وأمره أن يحكم بين الناس بالحق وأن يقوم بالقسط وأن لايتبع الهوى وأن لايخاف في الله لومة لائم فإن الله مع من

________________________________________________________
( 1 ) أقول : وبمثل ما أفاده قدس سره رواه ابن سيرين كما رواه بسنده عنه البلاذري في الحديث : ( 466 ) من ترجمة أميرالمؤمنين عليه السلام من كتاب أنساب الاشراف : ج 1 ، ص 407 ، وفي ط 1 : ج 2 ص 405 ط بيروت .
ورواه أيضا ابن أبي شيبة المتوفى عام : ( 230 ) في كتاب المصنف : ج 11 / الورق 205 / ب / .