[241]
أحدهما معلوم أنه لم يرده لبطلانه في نفسه كالمعتق ( 1 ) والمالك والجار والصهر والخلف
والامام إذا عدا من أقسام المولى ، والآخر أنه لم يرده من حيث لم يكن فيه فائدة
وكان ظاهرا شائعا وهو ابن العم ، والقسم الثالث الذي يعلم بالدليل أنه لم يرده هو
ولاية الدين والنصرة فيه والمحبة أو ولاء العتق ، والدليل على أنه صلى الله عليه وآله لم يرد ذلك
أن كل أحد يعلم من دينه وجوب تولي المؤمنين ونصرتهم ، وقد نطق الكتاب به ( 2 ) ،
وليس يحسن أن يجمعهم على الصورة التي حكيت في تلك الحال ويعلمهم ما هم
مضطرون إليه من دينه ، وكذلك هم يعلمون أن ولاء العتق لبني العم قبل الشريعة
وبعدها ( 3 ) ، وقول ابن الخطاب في الحال - على ما تظاهرت به الرواية - لامير المؤمنين
عليه السلام " أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن " يبطل أن يكون المراد ولاء العتق ، وبمثل
ما ذكرناه في إبطال أن يكون المراد بالخبر ولاء العتق أو إيجاب النصرة في الدين
استبعد أن يكون أراد به ( 4 ) قسم ابن العم ، لاشتراك خلو الكلام عن الفائدة بينهما ،
فلم يبق إلا القسم الرابع الذي كان حاصلا له ويجب أن يريده ، وهو الاولى بتدبير
الامر وأمرهم ونهيهم انتهى ( 5 ) .
أقول : أكثر المخالفين لجؤوا في دفع الاستدلال به إلى تجويز كون المراد الناصر
___________________________________________________________
( 1 ) على صيغة الفاعل ، واما وجه البطلان فانا نعلم بالضرورة ان رسول الله صلى الله عليه
وآله لو كان معتقا لاحد فلا يصح أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام أيضا معتقا له ، وكذا سائر
الموارد وإن لا يخلو بعضها عن تأمل .
( 2 ) حيث قال عز من قائل " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض " سورة التوبة : 71 .
( 3 ) اعلم أن المباشر للعتق لو كان رجلا فالولاء ثابت له ما دام حيا فيرث ممن أنعم عليه ،
فاذا مات المنعم فولاء مولاه يجرى مجرى النسب ويرثه من يرث من ذوى الانساب على حد واحد
إلا الاخوة والاخوات من الام أو من يتقرب بها من الجد والجدة والخال والخالة وأولادهما
وفى أصحابنا من قال : ان النساء لا يرثن من الولاء شيئا وانما يرثه الذكور من الاولاد والعصبة ،
وأما إذا كان المباشر للعتق امرأة فالولاء ثابت لها ما دامت حية ، وإذا ماتت ورث ولاء مواليها
عصبتها من الرجال دون اولادها مطلقا .
فقوله قدس سره " ان ولاء العتق لبنى العم " أى ثابت
لهم إذا لم يكن للميت وارث اقرب منهم لا انه ثابت لهم دون غيرهم كما يوهمه ظاهر العبارة .
( 4 ) في المصدر : استبعد أن يريد اه ، والمراد من قسم ابن العم القسم الثانى من القسم الثانى .
( 5 ) الشافى : 136 .
[242]
والمحب ، ولا يخفى على عاقل أنه ما كان يتوقف بيان ذلك على اجتماع الناس لذلك
في شدة الحر ، بل كان هذا أمرا يجب أن يوصي به عليا عليه السلام بأن ينصر من كان الرسول
صلى الله عليه وآله ينصره ويحب من كان يحبه ، ولا يتصور في إخبار الناس بذلك فائدة يعتد
بها ، إلا إذا اريد بذلك نوع من النصرة والمحبة يكون للامراء بالنسبة إلى رعاياهم ،
أو اريد به جلب محبتهم بالنسبة إليه ووجوب متابعتهم له حيث ينصرهم في جميع المواطن
ويحبهم على الدين ، وبهذا أيضا يتم المدعى .
وأيضا نقول : على تقدير أن يراد به المحب والناصر أيضا يدل على إمامته عليه السلام
عند ذوي العقول المستقيمة والفطرة القويمة بقرائن الحال ، فإنا لو فرضنا أن أحدا من
الملوك جمع عند قرب وفاته جميع عسكره وأخذ بيد رجل هو أقرب أقاربه وأخص الخلق
به وقال : من كنت محبه وناصره فهذه محبه وناصره ثم دعا لمن نصره ووالاه ولعن من
خذله ولم يواله ثم لم يقل هذا لاحد غيره ولم يعين لخلافته رجلا سواه فهل يفهم
أحد من رعيته ومن حضر ذلك المجلس إلا أنه يريد بذلك استخلافه وتطميع الناس في
نصره ومحبته وحث الناس على إطاعته وقبول أمره ونصرته على عدوه ؟ وبوجه آخر
نقول : ظاهر قوله : من كنت ناصره فعلي ناصره ، يتمشى ( 1 ) منه النصرة لكل أحد كما
كان يتأتى من النبي صلى الله عليه وآله ولا يكون ذلك إلا بالرئاسة العامة ، إذ لا يخفى على منصف
أنه لا يحسن من أمير قوي الاركان كثير الاعوان أن يقول في شأن بعض آحاد الرعايا
من كنت ناصره فهذا ناصره ، فأما إذا استخلفه وأمره على الناس فهذا في غاية الحسن ،
لانه جعله بحيث يمكن أن يكون ناصر من نصره .
المسلك الثالث : ما سبق في كلام الصدوق من وجود القرينة في الكلام على أن
المراد بالمولى : الاولى ، وبه يثبت أنه الامام ، وهو العمدة في هذا المقام ، ولا ينكره إلا
جاهل بأساليب الكلام أو متجاهل لعصبيته عما تتسارع إليه الافهام ، قال السيد
في الشافي :
فأما الدلالة على أن المراد بلفظة مولى في خبر الغدير الاولى فهو أن عادة
___________________________________________________________
( 1 ) في ( م ) : هو أنه يتمشى اه .
[243]
أهل اللسان في خطابهم إذا أوردوا جملة مصرحة وعطفوا عليها بكلام محتمل لما تقدم
التصريح به ولغيره لم يجز أن يريدوا بالمحتمل إلا المعنى الاول ( 1 ) ، يبين صحة
ما ذكرناه أن أحدهم إذا قال مقبلا على جماعة مفهما وله عدة عبيد : " ألستم عارفين
بعبدي فلان ؟ " ثم قال عاطفا على كلامه : " فاشهدوا أن عبدي حر لوجه الله " لم يجز
أن يريد بقوله : " عبدي " بعد أن قدم ما قدمه إلا العبد الذي سماه في أول كلامه دون
غيره من سائر عبيده ، ومتى أراد سواه كان عندهم لغوا خارجا من طريق البيان .
ثم اعترض بأن ما ذكرتم من المثال إنما يقبح أن يريد غير ما مهده سابقا من
العبيد ( 2 ) لانه حينئذ تكون المقدمة لغوا لا فائدة فيها ، وليس الامر في خبر الغدير
كذلك ، لانه يمكن أن يكون المعنى : إذا كنت أولى بكم وكانت طاعتي واجبة عليكم
فافعلوا كذا وكذا ، فإنه من جملة ما آمركم فيه بطاعتي ، وهذه عادة الحكماء فيما
يلزمونه من يجب عليه طاعتهم ، فافترق الامران ، ثم أجاب بأنه لو كان الامر على ما
ذكرت لوجب أن يكون متى حصل في المثال الذي أوردناه فائدة لمقدمته وإن قلت أن
يحسن ما حكمناه بقبحه ووافقتنا عليه ، ونحن نعلم أن القائل إذا أقبل على جماعة فقال :
" ألستم تعرفون صديقي زيدا الذي كنت ابتعت منه عبدي فلانا الذي صفته كذا وكذا
وأشهدناكم على أنفسنا بالمبايعة ؟ فاشهدوا أني قد وهبت له عبدي أو قد رددت إليه
عبدي " لم يجز أن يريد بالكلام الثاني إلا لعبد الذي سماه وعينه في صلب الكلام ( 3 )
___________________________________________________________
( 1 ) المصرح به .
( 2 ) متعلق بقوله " يريد " وقد ذكر في المصدر قبل هذا الاعتراض اعتراضا آخر ، وحاصله
أن لفظة " أولى " لم تتكرر في الحديث كما تكررت لفظة " عبد " في المثال ، نعم لو قال في
الحديث ايضا ثانيا " فمن كنت أولى به من نفسه فهذا أولى به من نفسه " لتم الاستدلال ، ولكن
قال فيه " فمن كنت مولاه فهذا مولاه " فيمكن أن يريد به غير ما أراد من الجملة الاولى ، بخلاف
المثال فانه لا يمكن فيه ذلك لتكرر اللفظ بعينه ، فافترق الامران .
واجاب عن هذا الاعتراض
بما حاصله أن الفرق غير حاصل بين الامرين ، فان في المثال ايضا قد ذكرت لفظة " عبد " أولا
موصولة بقوله " فلان " وموصوفة بصفة لم تذكر هذه الصفة ثانية ، فصارت كأنها لفظة اخرى
يحتمل ما تقدم ويحتمل غيره ، وجرت مجرى لفظة " مولى " من خبر الغدير في احتمالها لما تقدم
ولغيره ، فلا فرق بين الامرين .
( 3 ) في المصدر : في صدر الكلام .
[244]
وإن كان متى لم يرد ذلك يصح أن يحصل فيما قدمه فائدة ، لانه لا يمتنع أن يريد
بما قدمه من ذكر العبد تعريف الصديق ويكون وجه التعلق بين الكلامين أنكم إذا
كنتم قد شهدتم بكذا وعرفتموه فاشهدوا أيضا بكذا ، وهو لو صرح بما قدمناه حتى
يقول بعد المقدمة : فاشهدوا أني قد وهبت له أو رددت إليه عبدي فلانا الذي كنت ملكته
منه - ويذكر من عبيده غير من تقدم ذكره - يحسن وكان وجه حسنه ما ذكرناه ( 1 ) ،
انتهى كلامه نور الله ضريحه .
أقول : فإذا ثبت أن المراد بالمولى ههنا الاولى الذي تقدم ذكره والاولى
في الكلام المتقدم غير مقيد بشئ من الاشياء وحال من الاحوال فلو لم يكن المراد
العموم لزم الالغاز في الكلام المتقدم ، ومن قواعدهم المقررة أن حذف المتعلق من غير
قرينة دالة على خصوص أمر من الامور يدل على العموم ، لا سيما وقد انضم إليه قوله
صلى الله عليه وآله : " من أنفسكم " فإن للمرء أن يتصرف في نفسه ما يشاء ويتولى من أمره ما
يشاء ، فإذا حكم بأنه أولى بهم من أنفسهم يدل على أن له أن يأمرهم بما يشاء ويدبر
فيهم ما يشاء في أمر الدين والدنيا ، وأنه لا اختيار لهم معه ، وهل هذا إلا معنى الامامة
والرئاسة العامة ؟
وأيضا لا يخفى على عاقل أن ما قررهم صلى الله عليه وآله ( 2 ) إنما أشار به إلى ما أثبت
الله تعالى له في كتابه العزيز حيث قال " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ( 3 ) " وقد
___________________________________________________________
( 1 ) الشافى : 134 و 135 .
وحاصل ما ذكره اخيرا في رد الاعتراض أن ملاك الحسن
والقبح ليس وجود الفائدة وعدمها حتى تدعون أن في المثال لو لم يكن المراد من لفظة " عبدى "
ثانيا ما تقدم اولا لما كانت لذكرها أولا فائدة وهذا قبيح من المتكلم العاقل ، بخلاف الحديث
فانه لو كان المراد من لفظة " مولى " غير ما ذكر أولا لا يخلو عن فائدة فلا يكون قبيحا ، فان
الملاك لو كان ما ذكر لجاز عند وجود فائدة وإن قلت أن يكون المراد من لفظة " عبدى " ثانيا
غير ما ذكر أولا ، والفائدة موجودة في المقام ومع ذلك لا يجوز ، فنستكشف أن الملاك غير ما
ذكر بل فهم العرف وعامة الناس ، وهم لا يفرقون بين الامرين ، ويفهمون من الكلمة الثانية
عين ما فهموه من الاولى ، فتدبر .
( 2 ) قرره بالامر : جعله يعترف به .
وفى ( م ) : ان ما قررهم عليه اه .
( 3 ) سورة الاحزاب : 6 .
[245]
أجمع المفسرون على أن المراد به ما ذكرناه ، قال الزمخشري في كتاب الكشاف :
النبي أولى بالمؤمنين في كل شئ من امور الدين والدنيا من أنفسهم ، ولهذا اطلق
ولم يقيد ، فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ،
وحقه آثر لديهم من حقوقها ، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها ، وأن يبذلوها دونه
ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب ( 1 ) ، ووقاءه إذا لحقت حرب ، وأن لا يتبعوا ما
تدعوهم إليه نفوسهم ولا ما تصرفهم عنه ، ويتبعوا كل ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وآله
وصرفهم عنه ، إلى آخر كلامه ( 2 ) ونحوه قال البيضاوي ( 3 ) وغيره من المفسرين .
وقال السيد : فأما الدليل على أن لفظة أولى يفيد معنى الامامة فهو أنا نجد
أهل اللغة لا يضعون هذا اللفظ إلا فيمن كان يملك ما وصف بأنه أولى به ، وينفذ فيه
أمره ونهيه ، ألا تراهم يقولون : السلطان أولى بإقامة الحدود من الرعية ، وولد الميت
أولى بميراثه من كثير من أقاربه ، ومرادهم في جميع ذلك ما ذكرناه ، ولا خلاف بين
المفسرين في أن قوله تعالى : " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " المراد به أنه أولث
بتدبيرهم والقيام بأمرهم حيث وجبت طاعته عليهم ، ونحن نعلم أنه لا يكون أولى
بتدبير الخلق وأمرهم ونهيهم من كل أحد إلا من كان إماما لهم مفترض الطاعة عليهم .
فإن قال : سلمنا أن المراد بالمولى في الخبر ما تقدم من معنى الاولى ، من أين
لكم أنه أراد كونه أولى بهم في تدبيرهم وأمرهم ، ونهيهم ؟ دون أن يكون أراد به أولى بأن
يوالوه ويحبوه ويعظموه ويفضلوه ؟ قيل له : سؤالك يبطل من وجهين : أحدهما أن
الظاهر من قول القائل : فلان أولى بفلان أنه أولى بتدبيره وأحق بأمره ونهيه ، فإذا
-بحار الانوار مجلد: 33 من ص 245 سطر 19 الى ص 253 سطر 18
انضاف إلى ذلك القول أولى به من نفسه زالت الشبهة في أن المراد ما ذكرناه ، ألا تراهم
يستعملون هذه اللفظة مطلقة في كل موضع حصل فيه محض التدبير والاختصاص بالامر
والنهي كاستعمالهم لها في السلطان ورعيته والوالد وولده والسيد وعبده ؟ وإن جاز أن
___________________________________________________________
( 1 ) اعضل الامر : اشتد واستغلق .
والخطب : الامر العظيم .
( 2 ) الكشاف 2 : 424 .
( 3 ) راجع تفسيره 2 : 107 .
[246]
يستعملوها مقيدة في غير هذا الموضع إذا قالوا : فلان أولى بمحبة فلان أو بنصرته أو
بكذا وكذا منه ، إلا أن مع الاطلاق لا يعقل عنهم إلا المعنى الاول .
والوجه الآخر أنه إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله أراد بما قدمه من كونه أولى بالخلق
من نفوسهم أنه أولى بتدبيرهم وتصريفهم من حيث وجبت طاعته عليهم بلا خلاف ، وجب أن
يكون ما أوجبه لامير المؤمنين عليه السلام في الكلام الثاني جاريا ذلك المجرى ، يشهد بصحة
ما قلناه أن القائل من أهل اللسان إذا قال : " فلان وفلان - وذكر جماعة - شركائي في
المتاع الذي من صفته كذا وكذا " ثم قال عاطفا على كلامه : " من كنت شريكه فعبدالله
شريكه " اقتضى ظاهر لفظه أن عبدالله شريكه في المتاع الذي قدم ذكره وأخبر أن
الجماعة شركاؤه فيه ، ومتى أراد أن عبدالله شريكه في غير الامر الاول كان سفيها
عابثا ملغزا .
فإن قيل : إذا نسلم لكم انه عليه السلام أولى بهم بمعنى التدبير ووجوب الطاعة من
أين لكم عموم وجوب الطاعة في جميع الامور التي تقوم بها الائمة ؟ ولعله أراد به أولى
بأن يطيعوه في بعض الاشياء دون بعض ، قيل له : الوجه الثاني الذي ذكرناه ( 1 ) في
جواب سؤالك المتقدم يسقط هذا السؤال ، ومما يبطله أيضا أنه إذا ثبت أنه عليه السلام
مفترض الطاعة على جميع الخلق في بعض الامور دون بعض وجبت إمامته وعموم فرض
طاعته وامتثال تدبيره ، فلا يكون إلا الامام لان الامة مجمعة على أن من هذه صفته
هو الامام .
ولان كل من أوجب لامير المؤمنين عليه السلام من خبر الغدير فرض الطاعة على
الخلق أوجبها عامة في الامور كلها على الوجه الذي يجب للائمة ولم يخص
شيئا دون شئ ، وبمثل هذا الوجه نجيب من قال : كيف علمتم عموم القوم لجميع الخلق
مضافا إلى عموم إيجاب الطاعة لسائر الامور ولستم ممن يثبت للعموم صيغة في اللغة فتتعلقون
بلفظة " من " وعمومها ؟ وما الذي يمنع على اصولكم من أن يكون أوجب طاعته على
واحد من الناس أو جماعة من الامة قليلة العدد ؟ لانه لاخلاف في عموم طاعة النبي
___________________________________________________________
( 1 ) وملخصه أن كل ما ثبت للنبى صلى الله عليه وآله من كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ثابت
له عليه السلام من دون استثناء .
[247]
صلى الله عليه وآله وعموم قوله من بعد : " فمن كنت مولاه " وإلا لم يكن العموم للعموم صورة ، وقد بينا
أن الذي أوجبه ثانيا يجب مطابقته لما قدمه في وجهه وعمومه في الامور ، وكذا يجب
عمومه في المخاطبين بتلك الطريقة ، لان كل من أوجب من الخبر فرض الطاعة وما يرجع
إلى معنى الامامة ذهب إلى عمومه لجميع المكلفين كما ذهب إلى عمومه في جميع الافعال ،
انتهى ( 1 ) .
وأما ما زعم بعضهم من أن قوله صلى الله عليه وآله : " اللهم وال من والاه " قرينة على أن
المراد بالمولى الموالي والناصر فلا يخفى وهنه ، إذ لم يكن استدلالنا بمحض تقدم ذكر الاولى
حتى يعارضونا بذلك ، بل إنما استدللنا بسياق الكلام وتمهيد المقدمة والتفريع عليها
وما يحكم به عرف أرباب اللسان في ذلك ، وأما الدعاء بموالاة من والاه فليس بتلك
المثابة ، وإنما يتم هذا لو ادعى أحد أن اللفظ بعد ما اطلق على أحد معانيه لا يناسب
أن يطلق ما يناسبه ويدانيه في الاشتقاق على معنى آخر ، وكيف يدعي ذلك عاقل مع
أن ذلك مما يعد من المحسنات البديعية ؟ بل نقول تعقيبه بهذا ، يؤيد ما ذكرناه
ويقوي ما أسسناه بوجوه :
الاول أنه لما أثبت صلى الله عليه وآله له الرئاسة العامة والامامة الكبرى وهي مما يحتاج
إلى الجنود والاعوان وإثبات مثل ذلك لواحد من بين جماعة مما يفضي إلى هيجان
الحسد المورث لترك النصرة والخذلان لا سيما أنه صلى الله عليه وآله كان عالما بما في صدور المنافقين
الحاضرين من عدواته وما انطوى عليه جنوبهم من السعي في غصب خلافته عليه السلام أكد ( 2 )
ذلك بالدعاء لاعوانه واللعن على من قصر في شأنه ، ولو كان الغرض محض كونه صلى الله عليه وآله وسلم
ناصرا لهم أو ثبوت الموالاة بينه وبينهم كسائر المؤمنين لم يكن يحتاج إلى مثل تلك
المبالغات والدعاء له بما يدعي للامراء وأصحاب الولايات .
والثاني أنه يدل على عصمته اللازمة لامامته عليه السلام لانه لو كان يصدر منه
المعصية لكان يجب على من يعلم ذلك منه منعه وزجره وترك موالاته وإبداء معاداته
___________________________________________________________
( 1 ) الشافى : 135 و 136 .
( 2 ) جواب لما .
[248]
لذلك ( 1 ) ، ودعاء الرسول صلى الله عليه وآله لكل من يواليه وينصره ولعنه على كل من يعاديه
ويخذله يسلتزم عدم كونه أبدا على حال يستحق عليها ترك الموالاة والنصرة .
والثالث أنه إذا كان المراد بالمولى الاولى - كما نقوله - كان المقصود منه
طلب موالاته ومتابعته ونصرته من القوم ، وإن كان المراد الناصر والمحب كان المقصود
بيان كونه صلى الله عليه وآله ناصرا ومحبا لهم ، فالدعاء لمن يواليه وينصره واللعن على من
يتركهما في الاول أهم وبه أنسب من الثاني ، إلا أن يؤول الثاني بما يرجع إلى
الاول في المآل كما أومأنا إليه سابقا ( 2 ) .
المسلك الرابع أن الاخبار المروية من طرق الخاصة والعامة الدالة
على أن قوله تعالى : " اليوم أكملت لكم دينكم " نزلت في يوم الغدير تدل على أن
المراد بالمولى ما يرجع إلى الامامة الكبرى ، إذ ما يكون سببا لكمال الدين وتمام
النعمة على المسلمين لا يكون إلا ما يكون من اصول الدين بل من أعظمها ، وهي
الامامة التي بها يتم نظام الدنيا والدين ، وبالاعتقاد بها تقبل أعمال المسلمين ، وقال
الشيخ جلال الدين السيوطي - وهو من أكابر متأخري المخالفين - في كتاب الاتقان :
أخرج أبوعبيدة عن محمد بن كعب قال : نزلت سورة المائدة في حجة الوداع فيما بين مكة
والمدينة ، ومنها " اليوم أكملت لكم دينكم " وفي الصحيح عن عمر أنها نزلت عشية
عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع ( 3 ) ، لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أنها
نزلت يوم غدير خم ، وأخرج مثله من حديث أبي هريرة انتهى .
( 4 ) .
وروى السيوطي
أيضا في الدر المنثور بأسانيد أن اليهود قالوا : لو علينا نزلت هذه الآية لاتخذنا
يومها عيدا ( 5 ) .
وروى الشيخ الطبرسي في مجمع البيان ، عن مهدي بن نزار الحسيني ، عن
___________________________________________________________
( 1 ) اى لاجل صدور المعصية .
( 2 ) من أنه على فرض التسليم ايضا يدل على امامته عليه السلام عند ذوى العقول المستقيمة .
راجع المسلك الثانى .
( 3 ) في المصدر بعد ذلك : وله طرق كثيرة .
( 4 ) الاتقان 1 : 19 .
( 5 ) الدر المنثور 2 : 258 .
[249]
عبدالله الحسكاني ( 1 ) ، عن أبي عبدالله الشيرازي ، عن أبي بكر الجرجاني ، عن أبي
أحمد الانصاري البصري ، عن أحمد بن عمار بن خالد ، عن يحيى بن عبدالحميد الحماني
عن قيس بن الربيع ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله
صلى الله عليه وآله لما نزلت هذه الآية قال : الله أكبر الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة
ورضى الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي ، وقال : من كنت مولاه فعلي
مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله .
قال : وقال
الربيع بن أنس : نزل في المسير حجة الوداع ، انتهى ( 2 ) .
وقد مر سائر الاخبار في ذلك .
المسلك الخامس : أن الاخبار المتقدمة الدالة على نزول قوله تعالى : " يا
أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالتي والله يعصمك من
الناس " مما يعين أن المراد بالمولى الاولى والخليفة والامام ، لان التهديد بأنه إن
لم يبلغه فكأنه لم يبلغ شيئا من رسالاته وضمان العصمة له يجب أن يكون في إبلاغ
حكم يكون بإبلاغه إصلاح الدين والدنيا لكافة الانام ، وبه يتبين الناس الحلال والحرام
إلى يوم القيامة ، ويكون قبوله صعبا على الاقوام ، وليس ما ذكروه من الاحتمالات في
لفظ المولى مما يظن فيه أمثال ذلك إلا خلافته وإمامته عليه السلام ، إذ بها يبقى ما بلغه صلى الله عليه وآله
من أحكام الدين ، وبها ينتظم امور المسلمين ، ولضغائن الناس لامير المؤمنين كان
مظنة إثاره الفتن من المنافقين ، فلذا ضمن الله له العصمة من شرهم .
قال الرازي في تفسيره الكبير في بيان محتملات نزول تلك الآية : العاشر :
نزلت هذه الآية في فضل علي عليه السلام ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال : من كنت
مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، فلقيه عمر فقال : هنيئا لك يا ابن
أبي طالب أصحبت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب
ومحمد بن علي ( 3 ) .
وقال الطبرسي رحمه الله : روى العياشي في تفسيره بإسناده عن ابن أبي عمير ،
___________________________________________________________
( 1 ) في المصدر : عن عبيدالله بن عبدالله الحسكانى .
( 2 ) مجمع البيان 3 : 159 .
( 3 ) مفاتيح الغيب 3 : 433 .
[250]
عن ابن اذينة ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس وجابر بن عبدالله قال :
أمر الله تعالى ( 1 ) أن ينصب عليا للناس فيخبرهم بولايته ، فتخوف رسول الله صلى عليه وآله وسلم
أن يقولوا : حابى ابن عمه ( 2 ) ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله إليه الآية ( 3 ) ،
فقام صلى الله عليه وآله بولايته يوم غدير خم .
وهذا الخبر بعينه حدثناه ( 4 ) السيد أبوالحمد عن
الحاكم أبي القاسم الحسكاني بإسناده عن ابن أبي عمير في كتاب شواهد التنزيل لقواعد
التأويل ( 5 ) ، وفيه أيضا بالاسناد المرفوع إلى حيان بن علي العنزي ( 6 ) ، عن أبي
صالح ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في علي عليه السلام فأخذ رسول الله صلى الله وآله وسلم بيده
فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه .
وقد أورد هذا
الخبر ( 7 ) أبوإسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي في تفسيره بإسناده مرفوعا إلى ابن
عباس قال : نزلت هذه الآية في علي عليه السلام امر النبي صلى الله عليه وآله أن يبلغ ( 8 ) فأخذ رسول الله
صلى الله عليه وآله بيد علي عليه السلام فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من
عاداه .
وقد اشتهرت الروايات عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام أن الله أوحى إلى نبيه
صلى الله عليه وآله أن يستخلف عليا عليه السلام فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه ، فأنزل
الله سبحانه هذه الآية تشجيعا له على القيام بما أمره بأدائه ، والمعنى : إن تركت تبليغ
ما انزل إليك وكتمته كنت كأنك لم تبلغ شيئا من رسالات ربك في استحقاق العقوبة ( 9 ) .
المسلك السادس هو أن الاخبار الخاصية والعامية المشتملة على صريح
النص في تلك الواقعة إن لم ندع تواترها معنى مع أنها كذلك فهي تصلح لكونها قرينة
___________________________________________________________
( 1 ) كذا في النسخ ، وفى المصدر و ( ت ) : قالا أمر الله تعالى محمدا اه .
( 2 ) حابى الرجل : نصره .
اختصه دون سواء .
( 3 ) في المصدر : هذه الاية .
( 4 ) : قد حدثناه .
( 5 ) : لقواعد التفضيل والتأويل .
( 6 ) : حيان بن على الغنوى .
( 7 ) : هذا الخبر بعينه .
( 8 ) : أن يبلغ فيه .
( 9 ) مجمع البيان 3 : 223 .