[281]
وروى علي بن زيد عن ابي نضرة قال : أسلم علي عليه السلام وهو ابن أربع عشرة سنة ،
وكان له يومئذ ذؤابة يختلف إلى الكتاب .
وروى عبدالله بن زياد عن محمد بن علي قال : أول من آمن بالله علي بن أبي طالب عليه السلام
وهو ابن إحدى عشرة سنة .
وروى الحسن بن زيد قال : أول من أسلم علي بن أبي طالب عليه السلام وهو ابن خمس
عشرة .
وقد قال عبدالله بن أبي سفيان :
وصلى علي مخلصا بصلاته * لخمس وعشر من سنيه كوامل
وخلى اناسا بعده يتبعونه * له عمل أفضل به صنع عامل
وروى سلمة بن كهيل عن أبيه عن حبة بن جوين العرني قال : أسلم علي صلوات
الله عليه وكان له ذؤابة يختلف إلى الكتاب .
على أنا لو سلمنا لخصومنا ما ادعوه من أنه عليه السلام كان له عند المبعث سبع سنين
لم يدل ذلك على صحة ما ذهبوا إليه من أن إيمانه على وجه التلقين ( 1 ) دون المعرفة
واليقين ، وذلك أن صغر السن لا ينافي كمال العقل ( 2 ) ، وليس دليل وجوب التكليف
بلوغ الحلم فيراعى ذلك ، هذا باتفاق أهل النظر والعقول ، وإنما يراعى بلوغ الحلم
في الاحكام الشرعية دون العقلية ، وقد قال سبحانه في قصة يحيى ( وآتيناه الحكم
صبيا ( 3 ) ) وقال في قصة عيسى : ( فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا *
قال إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني
بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ( 4 ) ) فلم ينف صغر سن هذين النبيين عليهما السلام كمال
عقلهما أو الحكمة التي آتاهما الله سبحانه ، ولو كانت العقول تحيل ذلك لاحالته في كل
أحد ( 5 ) وعلى كل حال ، وقد أجمع أهل التفسير إلا من شذ عنهم في قوله تعالى : ( وشهد
___________________________________________________________
( 1 ) في المصدر : كان على وجه التلقين .
( 2 ) في المصدر : لا يدل على ما ينافى كمال العقل .
( 3 ) سورة مريم : 12 .
( 4 ) سورة مريم : 29 31 .
( 5 ) في المصدر : لاحالته على كل أحد .
[282]
شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد
من دبر فكذبت وهو من الصادقين ( 1 ) ) أنه كان طفلا صغيرا في المهد أنطقه الله عزوجل
حتى برأ يوسف من الفحشاء وأزال عنه التهمة .
والناصبة إذا سمعت هذا الاحتجاج قالت : إن هذا الذي ذكرتموه ( 2 ) فيمن عددتموه
كان معجزا لخرقه العادة ودلالة لنبي من أنبياء الله عزوجل ، فلو كان أميرالمؤمنين عليه السلام
مشاركا لمن وصفتموه في خرق العادة لكان معجزا له عليه السلام وللنبي صلى الله عليه وآله ، وليس يجوز
أن يكون المعجزله ، ولو كان للنبي لجعله في معجزاته واحتج به في جملة بيناته ، ولجعله
المسلمون في آياته ، فلما لم يجعله رسول الله صلى الله عليه وآله لنفسه علما ولا عده المسلمون في
معجزاته ، علمنا أنه لم يجر فيه الامر على ماذكرتموه ، فيقال لهم : ليس كل ما خرق الله
به العادة وجب أن يكون علما ، ولا لزم أن يكون معجزا ، ولا شاع علمه في العالم ، ولا
عرف من جهة الاضطرار ، وإنما المعجز العلم هو خرق العادة عند دعوة داع أو براءة
معروف ( 3 ) يجري براءته مجرى التصديق له في مقاله ، بل هي تصديق في المعنى وإن لم
يكن تصديقا بنفس اللفظ والقول ، وكلام عيسى عليه السلام إنما كان معجزا لتصديقه له في
قوله : ( إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ) مع كونه خرقا للعادة وشاهدا لبراءة
امه من الفاحشة ، ولصدقها فيما ادعته من الطهارة ، وكانت حكمة يحيى عليه السلام في حال صغره
تصديقا له في دعوته في الحال ولدعوة أبيه زكريا ، فصارت مع كونها خرق العادة ( 4 )
دليلا ومعجزا ، وكلام الطفل في براءة يوسف إنما كان معجزا لخرق العادة بشهادته
ليوسف عليه السلام للصدق في براءة ساحته ، ويوسف عليه السلام نبي مرسل ، فثبت أن الامر على
ما ذكرناه ، ولم يك كمال عقل أميرالمؤمنين عليه السلام شاهدا في شئ مما ادعاه ( 5 ) ولا استشهد
___________________________________________________________
( 1 ) سورة يوسف : 26 و 27 .
( 2 ) في المصدر : أن الذى ذكرتموه .
( 3 ) كذا في النسخ ، وهو سهو ، والصحيح ما في المصدر ( أو براءة مقذوف ) وقذفه .
رماه
واتهمه بربية .
( 4 ) في المصدر : مع كونها خرقا للعادة .
( 5 ) في المصدر : ممادعا عليه .
[283]
هو عليه السلام به فيكون مع كونه خرقا للعادة معجزا ، ولو استشهد به عليه السلام أو شهد على حد
ما شهد الطفل ليوسف وكلام عيسى له ولامه وكلام يحيى لابيه بما يكون في المستقبل
والحال لكان لخصومنا وجه للمطالبة بذكر ذلك في المعجزات ، لكن لاوجه له على ما
بيناه .
على أن كمال عقل أميرالمؤمنين لم يكن ظاهرا للحواس ولا معلوما بالاضطرار فيجري
مجرى كلام المسيح وحكمة يحيى وكلام شاهد يوسف فيمكن الاعتماد عليه في المعجزات ،
وإنما كان طريق العلم به مقام الرسول صلى الله عليه وآله ( 1 ) والاستدلال الشاق بالنظر الثاقب
والسبر ( 2 ) لحاله عليه السلام وعلى مرور الاوقات بسماع كلامه والتأمل لاستدلالاته والنظر
فيما يؤدي إلى معرفته وفطنته ، ثم لا يحصل ذلك إلا لخاص من الناس ( 3 ) ومن عرف وجوه
الاستنباطات ، وما جرى هذا المجرى فارق حكمه حكم ما سلف للانبياء من المعجزات
وما كان لنبينا صلى الله عليه وآله من الاعلام ، إذ تلك بظواهرها تقدح ( 4 ) في القلوب اسباب اليقين
وتشترك الجميع في علم الحال الظاهرة منها المنبئة عن خرق العادات ، دون أن تكون
مقصورة على ما ذكرناه من البحث الطويل والاستقراء للاحوال على مرور الاوقات أو الرجوع
فيه إلى نفس قول الرسول صلى الله عليه وآله الذي يحتاج في العلم به إلى النظر في معجز غيره والاعتماد
على ما سواه من البينات ، فلا ينكر أن يكون الرسول صلى الله عليه وآله إنما عدل عن ذكر ذلك
واحتجاجه به في جملة آياته لما وصفناه .
وشئ آخر وهو أنه لا ينكر ( 5 ) أن يكون الله سبحانه علم من مصلحة خلقه الكف
من رسول الله صلى الله عليه وآله عن الاحتجاج بذلك ، والدعاء إلى النظر فيه ، وأن اعتماده على ما ظاهره
خرق العادة أولى في مصلحة الدين ، وشئ آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وإن لم يحتج
به على التفصيل والتعيين فقد فعل ما يقوم مقام الاحتجاج به على البصيرة واليقين ، فابتدأ
___________________________________________________________
( 1 ) في المصدر : قول رسول الله .
( 2 ) السير : التجربة والاختبار .
( 3 ) في المصدر : الالخلص من الناس .
( 4 ) أى تؤثر .
( 5 ) في المصدر : لاننكر .
[284]
عليا عليه السلام بالدعوة قبل الذكور كلهم ممن ظاهره البلوغ ، وافتتح بدعوته قبل أداء رسالته
واعتمد عليه في إيداعه سره ، وأودعه ما كان خائفا من ظهوره عنه ، فدل باختصاصه بذلك
على ما يقوم مقام قوله صلى الله عليه وآله : إنه معجز له وإن بلوغ عقله علم على صدقه ، ثم جعل
ذلك من مفاخره وجليل مناقبه وعظيم فضائله ، ونوه بذكره وشهره بين أصحابه ، واحتج
له به في اختصاصه ، وكذلك فعل أميرالمؤمنين صلوات الله عليه في ادعائه له ، فاحتج به
على خصومه وتمدح به بين أوليائه وأعدائه ، وفخر به على جميع أهل زمانه ، وذلك هو
معنى النطق بالشهادة بالمعجز له ، بل هو الحجة في كونه نائبا بالقوم ( 1 ) بما خصه الله تعالى
منه ، ونفس الاحتجاج بعلمه ودليل الله وبرهانه ، وهذا يسقط ما اعتمدوه .
ومما يدل على أن أميرالمؤمنين صلوات الله عليه كان عند بعثة النبي صلى الله عليه وآله بالغا
مكلفا وأن إيمانه به كان بالمعرفة والاستدلال وأنه وقع على أفضل الوجوه وآكدها في
استحقاق عظيم الثواب أن رسول الله صلى الله عليه وآله مدحه به وجعله من فضائله وذكره في مناقبه ،
ولم يك بالذي يفضل بما ليس بفضل ويجعل في المناقب ما لا يدخل في جملتها ، ويمدح
على ما لا يستحق عليه الثواب ، فلما مدح رسول الله صلى الله عليه وآله أميرالمؤمنين عليه السلام بتقدمه
الايمان فيما ذكرناه آنفا من قوله لفاطمة عليها السلام : ( أما ترضين أني زوجتك أقدمهم
سلما ؟ ) وقوله في رواية سلمان : ( أول هذه الامة ورودا على نبيها الحوض أولها إسلاما
علي بن أبي طالب ) وقوله : ( لقد صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين وذلك أنه لم يكن
من الرجال أحد يصلي غيري وغيره ) وإذا كان الامر على ما وصفناه فقد ثبت أن إيمانه
عليه السلام وقع بالمعرفة واليقين دون التقليد والتلقين ، لا سيما وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وآله
إيمانا وإسلاما ، وما يقع من الصبيان على وجه التلقين لا يسمى على الاطلاق الديني
إيمانا وإسلاما .
ويدل على ذلك أيضا أن أميرالمؤمنين صلوات الله عليه قد تمدح به وجعله من
مفاخره واحتج به على أعدائه ، وكرره في غير مقام من مقاماته ، حيث يقول : ( اللهم
إني لا أعرف عبدا لك من هذا الامة عبدك قبلي ) وقوله عليه السلام : ( أنا الصديق الاكبر
___________________________________________________________
( 1 ) في المصدر : نائبا في القول .
[285]
آمنت قبل أن يؤمن أبوبكر وأسلمت قبل أن يسلم ) وقوله صلوات الله عليه لعثمان :
( أنا خير منك ومنهما ، عبدت الله قبلهما وعبدت الله بعدهما ) وقوله : ( أنا أول ذكر صلى )
وقوله عليه السلام : ( على من أكذب ، أعلى الله فأنا أول من آمن به وعبده ) فلو كان إيمانه على
ما ذهبت إليه الناصبة من جهة التلقين ولم يكن له معرفة ولا علم بالتوحيد لما جاز منه
عليه السلام أن يتمدح بذلك ، ولا أن يسميه عبادة ، ولا أن يفخر به ( 1 ) على القوم ، ولا
أن يجعله تفضيلا له على أبي بكر وعمر ، ولو أنه فعل من ذلك ما لا يجوز لرده عليه
مخالفوه ، واعترضه فيه مضادوه ، وحاجه في بطلانه مخاصموه ، وفي عدول القوم عن
الاعتراض عليه في ذلك وتسليم الجماعة له ذلك دليل على ما ذكرناه ، وبرهان على فساد
قول الناصبة الذي حكيناه ، وليس يمكن أن يدفع ما رويناه في هذا الباب من الاخبار
لشهرتها وإجماع الفريقين من الناصبة والشيعة على روايتها ، ومن تعرض للطعن فيها مع
ماشرحناه لم يمكنه الاعتماد على تصحيح خبر وقع في تأويله الاختلاف ، وفي ذلك إبطال
جمهور الاخبار وإفساد عامة الآثار ، وهب من لا يعرف الحديث ولا خالط أهل العلم ( 2 )
يقدم على إنكار بعض ما رويناه ، أو يعاند فيه بعض العارفين به ويغتنم الفرصة بكونه خاصا
في أهل العلم ، كيف يمكن دفع شعر أميرالمؤمنين عليه السلام في ذلك وقد شاع من شهرته على
حد يرتفع فيه الخلاف وانتشر حتى صار مسموعا من العامة فضلا عن الخواص ( 3 ) في
قوله عليه السلام :
محمد النبي أخي وصنوي * وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يضحي ويمسي * يطير مع الملائكة ابن امي
-بحار الانوار مجلد: 34 من ص 285 سطر 19 الى ص 293 سطر 18
وبنت محمد سكني وعرسي * مساط لحمها بدمي ولحمي ( 4 )
وسبطا أحمد ولد اي منها * فمن فيكم له سهم كسهمي ؟ ! ( 5 )
___________________________________________________________
( 1 ) في المصدر : ولا ان يفتخر به .
( 2 ) في المصدر : حملة العلم .
( 3 ) في المصدر : حتى صار مذكورا مسموعامن العامة فضلا عن الخاصة .
( 4 ) ساط الشئ : خلطه .
والمساط : المخلوط .
( 5 ) في المصدر : فأيكم له سهم كسهمى .
[286]
سبقتكم إلى الاسلام طرا * على ما كان من علمي وفهمي ( 1 )
وأوجب لي الولاء معا عليكم * خليلي يوم دوح غدير خم ( 2 )
وفي هذا الشعر كفاية في البيان عن تقدم إيمانه عليه السلام وأنه وقع مع المعرفة بالحجة
والبيان ، وفيه أيضا أنه كان الامام بعد الرسول صلى الله عليه وآله بدليل المقام الظاهر في يوم الغدير
الموجب للاستخلاف ( 3 ) .
ومما يؤيد ما ذكرناه ما رواه عبدالله بن الاسود البكري عن محمد بن عبيد الله ابن أبي
رافع عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى يوم الاثنين وصلت خديجة معه ، ودعا عليا
عليه السلام إلى الصلاة معه يوم الثلثاء ، فقال له : أنظرني حتى ألقى أبا طالب ، فقال :
له النبي صلى الله عليه وآله : إنها أمانة ، فقال علي عليه السلام : فإن كانت أمانة فقد أسلمت لك ، فصلى
معه وهو ثاني يوم البعث .
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثله ، وقال في حديثه : إن هذا دين
يخالف دين أبي حتى أنظر فيه واشاور أبا طالب ، فقال له النبي : انظرواكتم ، قال : فمكث
هنيئة ثم قال : بل أجبتك واصدق بك ، فصدقه وصلى معه .
وروى هذا المعنى بعينه وهذا
المقال من أميرالمؤمنين عليه السلام على اختلاف في اللفظ واتفاق في المعنى كثيرة ( 4 ) من حملة
الآثار ، وهو يدل على أن أميرالمؤمنين عليه السلام كان مكلفا عارفا في تلك الحال بتوقفه و
استدلاله وتمييزه بين مشورة أبيه وبين الاقدام على القبول والطاعة للرسول من غير فكرة و
ولا تأمل ، ثم خوفه إن ألقى ذلك إلى أبيه أن يمنعه منه مع أنه حق فيكون قد صد
عن الحق ، فعدل عن ذلك إلى القبول وعدل إلى النبي صلى الله عليه وآله مع أمانته وما كان يعرفه من
صدقه في مقاله وما سمعه من القرآن الذي نزل عليه وأراه الله من برهانه أنه رسول محق
___________________________________________________________
( 1 ) في المصدر : على ما كان من فهمى وعلمى .
( 2 ) في المصدر : بعد ذلك :
فويل ثم ويل ثم ويل * لمن يلقى الاله غدا بظلمى
( 3 ) في المصدر : الموجب له للاستخلاف .
( 4 ) في المصدر : جماعة كثيرة .
[287]
فآمن به وصدقه ، وهذا بعد أن ميزبين الامانة وغيرها وعرف حقها ، وكره أن يفشي
سر الرسول صلى الله عليه وآله وقد ائتمنه عليه ، وهذا لايقع باتفاق من صبي لا عقل له ولا يحصل
ممن لا تمييز معه .
ويؤيد أيضا ما ذكرناه أن النبي صلى الله عليه وآله بدأبه في الدعوة قبل الذكور كلهم ، و
إنما أرسله الله تعالى إلى المكلفين ، فلو لم يعلم أنه عاقل مكلف لما افتتح به أداء رسالته
وقدمه في الدعوة على جميع من بعث إليه ، لانه لو كان الامر على ما ادعته الناصبة لكان
صلى الله عليه وآله قد عدل عن الاولى ، وتشاغل بمالم يكلفه عن أداء ما كلفه ، ووضع
فعله في غير موضعه ، ورسول الله صلى الله عليه وآله يجل عن ذلك
وشئ آخر وهو أنه صلى الله عليه وآله دعا عليا عليه السلام في حاله كان مستتر فيها بدينه ( 1 ) كانما
لامره خائفا إن شاع من عدوه ، فلا يخلو أن يكون قد كان واثقا من أميرالمؤمنين عليه السلام
بكتم سره وحفظ وصيته وامتثال أمره وحمله من الدين ما حمله أو لم يكن واثقا بذلك ،
فإن كان واثقا فلم يثق به إلا وهو في نهاية كمال العقل وعلى غاية الامانة وصلاح السريرة
والعصمة والحكمة وحسن التدبير ، لان الثقة بما وصفنا دليل جميع ما شرحناه على الحال
التي قدمنا وصفها ( 2 ) ، وإن كان غير واثق من أميرالمؤمنين عليه السلام بحفظ سره وغيره آمن من
تضييعه وإذاعة أمره فوضعه عنده من التفريط ( 3 ) وضد الحزم والحكمة والتدبير ، حاشى
الرسول من ذلك ومن كل صفة نقص ، وقد أعلى الله عزوجل رتبته وأكذب مقال من
ادعى ذلك فيه ، وإذا كان الامر على ما بيناه فما ترى الناصبة فصدت بالطعن في إيمان
أميرالمؤمنين عليه السلام إلا عيب الرسول والذم لافعاله ووصفه بالعبث والتفريط ووضع الاشياء
غير مواضعها ، والازراء عليه ( 4 ) في تدبيراته ، وما أراد مشائخ القوم ومن ألقى هذا المذهب
إليهم إلا ما ذكرناه ( والله متم نوره ولو كره الكافرون ) ( 5 ) .
___________________________________________________________
( 1 ) في المصدر : مستسرا فيها بدينه .
( 2 ) في المصدر : قدمنا شرحها .
( 3 ) في المصدر : من أعظم الجهل والتفريط .
( 4 ) أزرى عليه عمله : عاتبه أو عابه عليه .
( 5 ) الفصول المختارة : 51 72 .
[288]
أقول : إنما لم نبال بإيراد هذا الكلام الطويل الذيل لكثرة طائله ووثاقة دلائله و
علو شأن قائله ، حشره الله تعالى مع أئمته عليهم السلام ، وذكر الشيخ أبوالفتح الكراجكي
في كنز الفوائد ( 1 ) كلاما مشبعا في ذلك وأورد أخبارا كثيرة تركناها حذرا من الاسهاب
وحجم الكتاب .
1 قب : الهجرة : وأولها إلى الشعب وهو شعب أبي طالب وعبدالمطلب ، والاجماع
أنهم كانوا بني هاشم ، وقال الله تعالى فيهم : ( والسابقون الاولون من المهاجرين و
الانصار ( 2 ) ) .
وثانيها هجرة الحبشة ، في معرفة النسوي : قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله أن ننطلق
مع جعفر إلى أرض النجاشي ، فخرج في اثنين وثمانين رجلا .
الواحدي نزل فيهم ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ( 3 ) ) حين لم
يتركوا دينهم ، ولما اشتد عليهم الامر صبروا وهاجروا .
وثالثها للانصار الاولين وهم العقبيون بإجماع أهل الاثر ، وكانوا سبعين رجلا ،
وأول من بايع فيه أبوالهيثم بن التيهان ورابعها للمهاجرين إلى المدينة ، والسابق فيه
مصعب بن عمير وعمار بن ياسر وأبوسلمة المخزومي وعامر بن ربيعة وعبدالله بن جحش
وابن ام مكتوم وبلال وسعد ، ثم ساروا أرسالا ( 4 ) ، قال ابن عباس : نزل فيهم ( و
الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا اولئك هم المؤمنون
___________________________________________________________
( 1 ) ص 118 127 .
( 2 ) سورة التوبة : 100 .
( 3 ) سورة الزمر : 10 .
( 4 ) اى جماعة جماعة .
[289]
حقا لهم مغفرة ورزق كريم والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فاولئك
منكم واولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ( 1 ) ) ذكر المؤمنين ثم المهاجرين
ثم المجاهدين ، وفضل عليهم كلهم فقال : ( واولو الارحام بعضهم أولى ببعض ) فعلي
عليه السلام سبقهم بالايمان ثم بالهجرة إلى الشعب ثم بالجهاد ، ثم سبقهم بعد هذه الثلاثة
الرتب بكونه من ذوي الارحام .
فأما أبوبكر فقد هاجر إلى المدينة إلا أن لعلي مزايا فيها عليه ، وذلك أن
النبي صلى الله عليه وآله أخرجه مع نفسه أو خرج هو لعلة وترك عليا للمبيت باذلا مهجته ، فيذل النفس
أعظم من الاتقاء على النفس في الهرب إلى الغار ، وقد روى أبوالمفضل الشيباني ( 2 )
بإسناده عن مجاهد قال : فخرت عائشة بأبيها ومكانه مع رسول الله في الغار ، فقال عبدالله
بن شداد بن الهاد : فأين أنت مع علي بن أبي طالب حيث نام في مكانه وهو يرى أنه يقتل
فسكتت ولم تحر جوابا ، وشتان بين قوله : ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات
الله ( 3 ) ) وبين قوله : ( لا تحزن إن الله معنا ( 4 ) ) وكان النبي صلى الله عليه وآله معه يقوي قلبه ولم
يكن مع علي ، وهو لم يصبه وجع وعلي يرمى بالحجارة ، وهو مختف في الغار وعلي ظاهر
للكفار ، واستخلفه الرسول لرد الودائع لانه كان أمينا ، فلما أداها قام على الكعبة فنادى
بصوت رفيع يا أيها الناس هل من صاحب أمانة ؟ هل من صاحب وصية هل من صاحب عدة له
قبل رسول الله فلما لم يأت أحد لحق بالنبي صلى الله عليه وآله وكان ذلك ( 5 ) دلالة على خلافته وأمانته
وشجاعته .
وحمل نساء الرسول خلفه بعد ثلاثة أيام ، وفيهن عائشة ، فله المنة على أبي بكر
بحفظ ولده ، ولعلي عليه السلام المنة عليه في هجرته ، وعلي ذو الهجرتين والشجاع البائت بين
___________________________________________________________
( 1 ) سورة الانفال : 74 و 75 .
( 2 ) هو محمد بن عبدالله بن محمد بن عبيدالله بن البهلول بن المطلب ، وترجمته مذكور في
كتب التراجم .
( 3 ) سورة البقرة : 207 .
( 4 ) سورة التوبة : 40 .
( 5 ) في المصدر : وكان في ذلك .
[290]
أربع مائة سيف ، وإنما أباته على فراشه ثقة بنجدته ، فكانوا محدقين به إلى طلوع الفجر
ليقتلوه ظاهرا ، فيذهب دمه بمشاهدة بني هاشم قاتليه من جميع القبائل ، قال ابن عباس :
فكان من بني عبد شمس عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن هشام وأبوسفيان ، ومن بني نوفل طعمة
ابن عدي وجبير بن مطعم والحارث بن عامر ، ومن بني عبدالدار النضر بن الحارث ، ومن
بني أسد أبوالبختري وزمعة بن الاسود وحكيم بن حزام ، ومن بني مخزوم أبوجهل ، ومن
بني سهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج ، ومن بني جمح امية بن خلف ممن لا يعد من
قريش .
ووصى إليه في ماله وأهله وولده ، فأنامه منامه وأقامه مقامه ، وهذا دلالة ( 1 ) على
أنه وصيه .
تاريخي الخطيب والطبري وتفسير الثعلبي والقزويني في قوله : ( وإذ يمكر بك
الذين كفروا ( 2 ) ) والقصة مشهورة ، جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال له : لا تبت هذه
الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه ، فلما كان العتمة ( 3 ) اجتمعوا على بابه يرصدونه ،
فقال لعلي عليه السلام : نم على فراشي واتشح ببردي الحضرمي الاخضر ، وخرج النبي
صلى الله عليه وآله ، قالوا فلما دنوا من علي عليه السلام عرفوه فقالوا : أين صاحبك ؟ فقال :
لا أدري أو رقيب كنت عليه ؟ أمرتموه بالخروج فخرج .
أخبار أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وآله قال : يا علي إن الله قد أذن لي بالهجرة ، وإني
آمرك أن تبيت على فراشي ، وإن قريشا إذا رأوك لم يعلموا بخروجي .
الطبري والخطيب والقزويني والثعلبي : ونجى الله رسوله من مكرهم ، وكان مكر
الله تعالى بيات علي على فراشه .
عمار وأبورافع وهند بن أبي هالة أن أميرالمؤمنين عليه السلام وثب وشد عليهم بسيفه ،
فانحازوا عنه .
محمد بن سلام [ في حديث طويل ] عن أميرالمؤمنين عليه السلام : ومضى رسول الله واضطجعت
___________________________________________________________
( 1 ) في المصدر : وهذا دليل .
( 2 ) سورة الانفال : 30 .
( 3 ) العتمة بالفتحات الثلث الاول من الليل .
ظلمة الليل مطلقا .