[321]

[ قال ] فاستسقيت أنا فأبيا علي ، فأتيت النبي أسأله ، فقال : لاتسقوه فإن في جوارك رجلا يلعن عليا فلم تمنعه ، فدفع إلي سكينا وقال : اذهب فاذبحه ، قال : فخرجت وذبحته ودفعت السكين إليه ، فقال : ياحسين اسقه ، فسقاني وأخذت الكأس بيدي ولاأدري أشربت أم لا ، فانتبهت وإذا أنا بولولة ويقولون : فلان ذبح على فراشه ، وأخذ الشرط ( 1 ) الجيران ، فقمت إلى الامير فقلت : أصلحك الله هذا أنا فعلته والقوم برآء ، وقصصت عليه الرؤيا ، فقال : اذهب جزاك الله خيرا .
عبدالله بن السائب وكثير بن الصلت قالا : جمع زياد بن أبيه أشراف الكوفة في مسجد الرحبة ليحملهم على سب أمير المؤمنين والبراءة منه ، فأغفيت فإذا أنا بشخص طويل العنق أهدل أهدب قد سد مابين السماء والارض ، فقلت له : من أنت ؟ فقال : أنا النقاد ذو الرقبة طاعون بعثت إلى زياد ، فانتبهت فزعا وسمعنا الواعية عليه ، و أنشأت أقول : قد جشم الناس أمرا ضاق ذرعهم * يحملهم حين أداهم إلى الرحبة يدعو على ناصر الاسلام دام له * على المشركين الطول والغلبة ( 2 ) ما كان منتهيا عما أراد به * حتى تناوله النقاد ذو الرقبة فأسقط الشق منه ضربة عجبا * كما تناول ظلما صاحب الرحبة ( 3 ) أقول : قال ابن أبي الحديد : روى أبوالفرج عبدالرحمن بن علي الجوزي في كتاب المنتظم أن زيادا لما حصبه ( 4 ) أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم وهم أن يخرب دورهم ويجمر نخلهم ، فجمعهم حتى ملا بهم المسجد والرحبة ليعرضهم على البراءة من علي عليه السلام وعلم أنهم سيمتنعون فيحتج بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم ، قال عبدالرحمن بن السائب الانصاري : فإني لمع *

_________________________________________________________
) * ( 1 ) جمع الشرطى .
( 2 ) الظرف متعلق بقوله : دام .
والطول فاعله .
( 3 ) مناقب آل أبي طالب 1 : 479 و 480 .
( 4 ) حصبه : رماه بالحصباء .

[322]

نفر من قومي والناس يومئذ في أمر عظيم إذ هومت تهويمة ، فرأيت شيئا أقبل طويل العنق مثل عنق البعير أهدر أهدل ، فقلت : ماأنت ؟ فقال : أنا النقاد ذو الرقبة بعثت إلى صاحب هذا القصر ، فاستيقظت فزعا فقلت لاصحابي : هل رأيتم ما رأيت ؟ قالوا : لا فأخبرتهم ، وخرج علينا خارج من القصر فقال : انصرفوا فإن الامير يقول لكم : إني عنكم اليوم مشغول ، وإذا الطاعون قد ضربه فكان يقول : إني لاجد في النصف من جسدي حر النار .
حتى مات ، فقال عبدالرحمن بن السائب : ما كان منتهيا عما أراد بنا * حتى تناوله النقاد ذو الرقبة فأثبت الشق منه ضربة عظمت * كما تناول ظلما صاحب الرحبة ( 1 ) انتهى .
بيان : في النهاية : التهويم : أول النوم وهو دون النوم الشديد ( 2 ) .
وقال : أهدب الاشفار أي طويل شعر الاجفان ، ومنه حديث زياد : طويل العنق أهدب ( 3 ) .
وقال : الاهدل : المسترخى الشفة السفلى الغليظها ، ومنه حديث زياد : أهدب أهدل ( 4 ) والاهدر كأنه من هدير البعير وهو ترديد صوته في حنجرته .
وأقول سيأتي أمثالها في باب ما ظهر من معجزاته صلوات الله عليه في المنام .
21 شى : عن معمر بن يحيى بن سالم قال : قلت لابي جعفر عليه السلام : إن أهل الكوفة يروون عن علي عليه السلام أنه قال : ستدعون إلى سبي والبراءة مني ، فإن دعيتم إلى سبي فسبوني وإن دعيتم إلى البراءة مني فلا تتبرؤوا مني فإني على دين محمد صلى الله عليه وآله .
فقال أبوجعفر : ما أكثر ما يكذبون على علي عليه السلام ! إنما قال : " إنكم ستدعون إلى سبي والبراءة مني ، فإن دعيتم إلى سبي فسبوني وإن دعيتم إلى البراءة مني فإني على دين محمد صلى الله عليه وآله " ولم يقل : " فلا تتبرؤوا مني " قال : *

_________________________________________________________
) * ( 1 ) شرح النهج 1 : 363 .
( 2 ) النهاية 4 : 258 .
( 3 ) " 4 : 241 .
( 4 ) " 4 : 242 .

[323]

قلت : جعلت فداك فإن أراد رجل يمضي على القتل ولايتبرأ ؟ فقال : لا والله إلا على الذي مضى عليه عمار ، إن الله يقول : " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ( 1 ) " .
أقول : قد أوردنا نحوه بأسانيد في باب التقية .
22 قب : الاصل في سبه عليه السلام ماصح عند أهل العلم أن معاوية أمر بلعنه على المنابر ، فتكلم فيه ابن عباس فقال : هيهات هذا أمر دين ليس إلى تركه سبيل ! أليس الغاش لرسول الله صلى الله عليه وآله الشتام لابي بكر المعير عمر الخاذل عثمان ؟ قال : أتسبه على المنابر وهو بناها بسيفه ؟ قال : لا أدع ذلك حتى يموت عليه الكبير ( 2 ) و يشب عليه الصغير ! فبقي ذلك إلى أن ولى عمر بن عبدالعزيز فجعل بدل اللعنة في الخطبة قوله تعالى : " إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى ( 3 ) " فقال عمرو بن شعيب : ويل للامة رفعت الجمعة وتركت اللعنة وذهبت السنة ! .
( 4 ) 23 جا : المرزباني ، عن محمد بن الحسين ، عن هارون بن عبيد الله ، عن عثمان ابن سعيد ، عن أبي يحيى التميمي ، عن كبير ، عن أبي مريم الخولاني ، عن مالك ابن ضمرة قال : سمعت عليا أمير المؤمنين عليه السلام يقول : أما إنكم تعرضون على لعني ودعائي كذابا ، فمن لعنني كارها مكرها يعلم الله أنه كان مكرها وردت أنا وهو على محمد صلى الله عليه وآله معا ، ومن أمسك لسانه فلم يلعني سبقني كرمية سهم أو لمحة بالبصر ، ومن لعنني منشرحا صدره بلعنتي فلا حجاب بينه وبين الله ولا حجة له عند محمد صلى الله عليه وآله ، ألا إن محمدا أخذ بيدي يوما فقال : من بايع هؤلاء الخمس ثم مات وهو يحبك فقد قضى نحبه ، ومن مات وهو يبغضك مات ميتة جاهلية يحاسب بما عمل في الاسلام ( 5 ) .
بيان : قوله : " فلا حجاب بينه وبين الله " أي لا يحجبه شئ عن عذاب الله .
*

_________________________________________________________
) * ( 1 ) تفسير العياشي مخطوط ، وأورده في البرهان 2 : 385 .
والاية في سورة النحل : 106 .
( 2 ) في المصدر : حتى يموت فيه الكبير .
( 3 ) سورة النحل : 89 .
( 4 ) مناقب آل ابي طالب 2 : 19 .
( 5 ) أمالي المفيد : 70 .

[324]

وهؤلاء الخمس إشارة إلى أصابعه صلى الله عليه وآله وفي بعض النسخ بالتاء المثناة ( 1 ) فالمراد الصلوات الخمس .
24 كش : روى يعقوب بن شيبة ، عن خالد بن أبي يزيد ، عن ابن شهاب عن الاعمش قال : رأيت عبدالرحمن بن أبي ليلى وقد ضربه الحجاج حتى اسود كتفاه ، ثم أقامه للناس على سب علي والجلاوزة ( 2 ) معه يقولون : سب الكذابين فجعل يقول : ألعن الكذابين علي والزبير ( 3 ) والمختار .
قال ابن شهاب : يقول أصحاب العربية : سمعك يعلم مايقول ، لقوله " علي " أي هو ابتداء الكلام ( 4 ) .
25 كش : يعقوب ، عن ابن عيينة ، عن طاوس ، عن أبيه قال : أنبأنا حجر ابن عدي قال : قال لي علي عليه السلام : كيف تصنع أنت إذا ضربت وأمرت بلعنتي ؟ قلت له : كيف أصنع ؟ قال : العني ولا تبرأ مني فإني على دين الله .
قال : ولقد ضربه محمد بن يوسف وأمره أن يلعن عليا وأقامه على باب مسجد صنعاء ، قال : فقال : إن الامير أمرني أن ألعن عليا فالعنوه لعنه الله ، فرأيت مجوزا من الناس إلا رجلا فهمها وسلم ( 5 ) .
26 كنز الكراجكي : عن أسد بن إبراهيم السلمي ، عن عمر بن علي العتكي عن محمد بن الحسين الهمداني ، عن محمود بن متويه الواسطي ، عن القاسم بن عيسى عن رحمة بن مصعب ، عن قرة بن خالد ، عن أبي رجاء العطاردي قال : لاتسبوا هذا *

_________________________________________________________
) * ( 1 ) الظاهر أن المراد كلمة " بايع " وعلى ذلك فاللازم ان يقال : بالتاء المثناة والباء الموحدة ، فتكون الكلمة " تابع " .
( 2 ) جمع الجلواز : الشرطى .
( 3 ) في المصدر : وابن الزبير .
( 4 ) معرفة أخبار الرجال : 67 .
( 5 ) معرفة أخبار الرجال : 67 .
ولم نفهم المراد من قوله " فرأيت مجوزا " وفي المصدر " محواذا " ولعله من " الاحوذى " اي الحاذق السريع ، والمعنى على ذلك واضح .
وفي المصدر إلا رجلا واحدا اه .

[325]

الرجل يعني عليا عليه السلام فإن رجلا سبه فرماه الله عزوجل بكوكبين ( 1 ) في عينيه .
وعن السلمي ، عن العتكي ، عن محمد بن صالح الرازي ، عن أبي زرعة الرازي عن عبدالرحمن بن عبد الملك ، عن ابن أبي فديك ، عن عبدالرحمن بن عبدالله بن أبي نعيم عن عبدالله بن الفضل الهاشمي قال : كنت مستندا إلى المقصورة وخالد بن عبدالملك على المنبر يخطب وهو يؤذي عليا في خطبته ، فذهب بي النوم ( 2 ) فرأيت القبر قد انفرج فأطلع منه مطلع فقال : آذيت رسول الله لعنك الله [ آذيت رسول الله لعنك الله ( 3 ) ] .
27 نهج : من كلام له عليه السلام لاصحابه : أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم ، مندحق البطق ، يأكل مايجد ويطلب ما لايجد ، فاقتلوه ولن تقتلوه ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني ، فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة ، وأما البراءة فلا تبرؤوا مني فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الايمان والهجرة ( 4 ) .
أقول : قال ابن أبي الحديد : مندحق البطن : بارزها ، والدحوق من النوق التي يخرج رحمها بعد الولادة .
وسيظهر : سيغلب .
ورحب البلعوم : واسعه .
وكثير من الناس يذهب إلى أنه عليه السلام عنى زيادا ، وكثير منهم يقول : إنه عنى الحجاج وقال قوم : إنه عنى المغيره بن شعبة ، والاشبه عندي أنه عنى معاوية لانه كان موصوفا بالنهم وكثرة الاكل وكان بطنا ( 5 ) .

-بحار الانوار مجلد: 35 من ص 325 سطر 19 الى ص 333 سطر 18 ثم قال : وروى صاحب كتاب الغارات عن يوسف بن كليب المسعودي ، عن *

_________________________________________________________
) * ( 1 ) الكوكب : نقطة بيضاء تحدث في العين .
( 2 ) في المصدر : فذهب بي النعاس .
( 3 ) كنز الكراجكي : 62 .
والروايتان توجدان في ( ك ) و ( د ) فقط .
( 4 ) نهج البلاغة ( عبده ط مصر ) 1 : 114 و 115 .
( 5 ) شرح النهج 1 : 462 .

[326]

يحيى بن سليمان العدوي ، ( 1 ) عن أبي مريم الانصاري ، عن محمد بن علي الباقر عليهما السلام قال : خطب علي عليه السلام على منبر الكوفة فقال : " سيعرض عليكم سبي وستذبحون عليه ، فإن عرض عليكم سبي فسبوني وإن عرض عليكم البراءة مني فإني على دين محمد صلى الله عليه وآله " ولم يقل " فلا تبرؤوا مني " .
وقال أيضا : حدثني أحمد بن المفضل ، عن الحسن بن صالح ، عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال : قال علي عليه السلام : ليذبحن ( 2 ) على سبي وأشار بيده إلى حلقه ثم قال : فإن أمروكم بسبي فسبوني وإن أمروكم أن تتبرؤوا ( 3 ) مني فإني على دين محمد صلى الله عليه وآله ، ولم ينههم عن إظهار البراءة .
ثم قال : إنه أباح لهم سبه عند الاكراه لان الله تعالى قد أباح عند الاكراه التلفظ بكلمة الكفر فقال : " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ( 4 ) " وأما قوله : " فإنه لي زكاة ولكم نجاة " فمعناه أنكم تنجون من القتل إذا أظهرتم ذلك ، ومعنى الزكاة يحتمل أمرين : أحدهما ماورد في الاخبار النبوية أن سب المؤمن زكاة له وزيادة في حسناته ، الثاني أن يريد أن سبهم لي لاينقص في الدنيا من قدري بل أزيد به شرفا وعلو قدر وشياع ذكر ، فالزكاة بمعنى النماء والزيادة .
فإن قيل فأي فرق بين السب والبراءة وكيف أجاز لهم السب ومنعهم من التبري ( 5 ) والسب أفحش من التبري ؟ فالجواب أما الذي يقوله أصحابنا في ذلك فإنه لافرق عندهم بين السب والتبري منه في أن كلا منهما فسق وحرام وكبيرة وأن المكره عليهما يجوز له فعلهما عند خوفه على نفسه كما يجوز له إظهار كلمة الكفر عند الخوف ، ويجوز أن لايفعلهما وإن قتل إذا قصد بذلك إعزاز الدين كما *

_________________________________________________________
) * ( 1 ) في المصدر : العبدي .
( 2 ) " " : والله لتذبحن .
( 3 ) " " : أن تبرؤوا .
( 4 ) سورة النحل : 106 .
( 5 ) في المصدر : عن التبري .

[327]

يجوز له أن يسلم نفسه للقتل ولا يظهر كلمة الكفر إعزازا للدين ، وإنما استفحش عليه السلام البراءة لان هذه اللفظة ما وردت في القرآن العزيز إلا من المشركين ألا ترى إلى قوله تعالى : " براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ( 1 ) " وقال الله تعالى : " أن الله برئ من المشركين ورسوله ( 2 ) " فقد صارت بحكم العرف الشرعي مطلقة على المشركين خاصة ، فإذن يحمل هذا النهي على ترجيح تحريم لفظ البراءة على تحريم لفظ السب وإن كان حكمهما واحدا ، ألا ترى أن إلقاء المصحف في العذرة ( 3 ) أفحش من إلقائه في دن الشراب وإن كانا جميعا محرمين وكان حكمهما واحدا ، فأما الامامية فتروي عنه أنه قال : " إذا عرضتم على البراءة منا فمدوا الاعناق " ويقولون : إنه لايجوز التبري عنه وإن كان الحالف صادقا وأن عليه الكفارة ويقولون : إن للبراءة من الله ومن الرسول ومن إحدى الائمة حكما واحدا ويقولون : الاكراه على السب يبيح إظهاره ولا يجوز الاستسلام للقتل ويجوز أن يظهر التبري ( 4 ) ، والاولى أن يستسلم للقتل .
فإن قيل : كيف علل نهيه لهم من البراءة منه بقوله : " فإني ولدت على الفطرة " فإن هذا التعليل لا يختص به لان كل ولد يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ؟ والجواب أنه علل نهيه لهم عن البراءة منه بمجموع أمور وهو كونه ولد على الفطرة وسبق إلى الايمان والهجرة ، ولم يعلل بآحاد هذا المجموع ومراده هنا بالولادة على الفطرة أنه لم يولد في الجاهلية لانه ولد لثلاثين عاما مضت من عام الفيل ، والنبي أرسل لاربعين مضت من عام الفيل ، وقد جاء في الاخبار الصحيحة أنه مكث قبل الرسالة سنين عشرا يسمع الصوت ويرى الضوء ولا يخاطبه أحد ، وكان ذلك إرهاصا لرسالته ( 5 ) فحكم تلك السنين العشر حكم أيام رسالته صلى الله عليه وآله *

_________________________________________________________
) * ( 1 ) سورة التوبة : 1 .
( 2 ) " " : 3 .
( 3 ) في المصدر : في القذر .
( 4 ) " " : وأما الاكراه على البراءة فانه يجوز معه الاستسلام للقتل ويجوز أن يظهر التبري .
( 5 ) أرهص الحائط : بنى رهصه .
وهو أول من الطين الذي يبنى عليه .

[328]

فالمولود فيها إذا كان في حجره وهو المتولي لتربيته مولود في أيام كأيام النبوة وليس بمولود في جاهلية محضة ، ففارقت حاله حال من يدعى له من الصحابة مماثلته في الفضل ، وقد روي أن السنة التي ولد فيها هذه السنة التي بدئ فيها رسول الله صلى الله عليه وآله فأسمع الهتاف من الاحجار والاشجار وكشف عن بصره ، فشاهد أنوارا وأشخاصا ولم يخاطب منها ( 1 ) بشئ ، وهذه السنة هي السنة التي ابتدأ فيها بالتبتل والانقطاع والعزلة في جبل حراء ، فلم يزل به حتى كوشف بالرسالة وأنزل عليه الوحي ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يتيمن بتلك السنة وبولادة علي عليه السلام فيها ، ويسميها سنة الخير وسنة البركة ، وقال لاهله ليلة ولادته وفيها شاهد ما شاهد من الكرامات والقدرة الالهية ولم يكن من قبلها شاهد من ذلك شيئا : " لقد ولد لنا ( 2 ) مولود يفتح الله علينا به أبوابا كثيرة من النعمة والرحمة " وكان كما قال صلوات الله عليه ، فإنه كان ناصره والمحامي عنه وكاشف الغم عن وجهه ، وبسيفه ثبت دين الاسلام ورست ( 3 ) دعائمه وتمهدت قواعده .
وفي المسألة تفصيل آخر وهو أن يعني بقوله : " فإني ولدت على الفطرة " التي لم تتغير ولم تحل ، وذلك أن معنى قول النبي صلى الله عليه وآله : " كل مولود يولد على الفطرة " أن كل مولود فإن الله تعالى قد هيأه بالعقل الذي خلقه فيه وبصحة الحواس والمشاعر لان يتعلم التوحيد والعدل ، ولم يجعل فيه مانعا يمنعه من ذلك ولكن التربية والعقيدة في الوالدين والالف لاعتقادهما وحسن الظن فيهما يصده عما فطر عليه ، وأمير المؤمنين عليه السلام دون غيره ولد على الفطرة التي لم تحل ولم يصد عن مقتضاها مانع لامن جانب الابوين ولامن جهة غيرهما ، وغيره ولد على الفطرة ولكنه حال عن مقتضاها وزال عن موجبها .
*

_________________________________________________________
) * ( 1 ) في المصدر : ولم يخاطب فيها .
( 2 ) " " : لقد ولد لنا الليلة .
( 3 ) رسا الشئ وأرسى : ثبت ورسخ .

[329]

ويمكن أن يفسر أنه أراد بالفطرة العصمة ، وأنه منذ ولد لم يواقع قبيحا ولا كان كافرا طرفة عين ، ولا مخطئا ولا غالطا في شئ من الاشياء المتعلقة بالدين وهذا تفسير الامامية .
انتهى كلامه ( 1 ) .
وأقول : الاخبار في البراءة من طرق الخاصة والعامة مختلفة ، والاظهر في الجمع بينها أن يقال : بجواز التكلم بها عند الضرورة الشديدة وجواز الامتناع عنه وتحمل ما تترتب عليه ، وأما أن أيهما أولى ففيه إشكال ، بل لايبعد القول بذلك في السب أيضا ، وذهب إلى ماذكرناه في البراءة جماعة من علمائنا ، وأما ما نسبه ابن أبي الحديد إليهم جميعا من تحريم القول بالبراءة فلعله اشتبه عليه ما ذكروه من تحريم الحلف بالبراءة اختيارا ، فإنهم قطعوا بتحريم ذلك وإن كان صادقا ، ولا تعلق له بأحكام المضطر .
وقال الشيخ الشهيد في قواعده : التقية تنقسم بانقسام الاحكام الخمسة ، فالواجب إذا علم أو ظن نزول الضرر بتركها به أو ببعض المؤمنين ، والمستحب إذا كان لايخاف ضررا عاجلا ويتوهم ضررا آجلا أو ضررا سهلا ، أو كان تقية في المستحب كالترتيب في تسبيح الزهراء عليها السلام وترك بعض فصول الاذان ، والمكروه التقية في المستحب حيث لاضرر عاجلا ولا آجلا ، ويخاف منه الالتباس على عوام المذهب ، والحرام التقية حيث يؤمن الضرر عاجلا وآجلا أو في قتل مسلم ، قال أبوجعفر عليه السلام " إنما جعلت التقية ليحقن بها الدماء فإذا بلغ الدم فلا تقية " والمباح التقية في بعض المباحات التي رجحها العامة ( 2 ) ولايصل بتركها ضرر ( 3 ) .
ثم قال رحمه الله : التقية يبيح كل شئ حتى إظهار كلمة الكفر ، ولو تركها حينئذ أثم إلا في هذا المقام ومقام التبري من أهل البيت عليهم السلام فإنه لايأثم بتركها بل صبره إما مباح أو مستحب ، وخصوصا إذا كان ممن يقتدى به ( 4 ) .
*

_________________________________________________________
) * ( 1 ) شرح النهج 1 : 487 492 .
( 2 ) في المصدر : يرجحها العامة وفي ( م ) و ( د ) : ريجها العامة .
( 3 ) في المصدر : ولا يصير تركها ضررا .
( 4 ) القواعد والفوائد : 261 .

[330]

وقال الشيخ أمين الدين الطبرسي : قال أصحابنا : التقية جائزة في الاحوال كلها ( 1 ) عند الضرورة ، وربما وجب فيها لضرب من اللطف والاستصلاح ، وليس يجوز من الافعال في قتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه استفساد في الدين .
قال المفيد رضي الله عنه : إنها قد تجب أحيانا وتكون فرضا ، وتجوز أحيانا من غير وجوب ، وتكون في وقت أفضل من تركها ، وقد يكون تركها أفضل وإن كان فاعلها معذورا ومعفوا عنه متفضلا عليه بترك اللوم عليها .
وقال الشيخ أبوجعفر الطوسي رحمه الله : ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس ، وقد روي رخصته في جواز الافصاح بالحق عنده ، انتهى ( 2 ) .
أقول : سيأتي تمام القول في ذلك في باب التقية إن شاء الله تعالى .

باب 89 : كفر من آذاه أو حسده أو عانده وعقابهم  

1 قب : الواحدي في أسباب النزول ومقاتل بين سليمان وأبوالقاسم القشيري في تفسيرهما ( 3 ) أنه نزل قوله تعالى : " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات ( 4 ) " الآية في علي بن أبي طالب عليه السلام ، وذلك أن نفرا من المنافقين كانوا يؤذونه ويسمعونه و يكذبون عليه .
وفي رواية مقاتل : " والذين يؤذون المؤمنين " يعني عليا " والمؤمنات " يعني فاطمة " فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا " قال ابن عباس : وذلك أن الله تعالى أرسل عليهم الجرب في جهنم ، فلا يزالون يحتكون حتى تقطع أظفارهم ، ثم يحتكون حتى تنسلخ جلودهم ، ثم يحتكون حتى تبدو لحومهم ، ثم يحتكون *

_________________________________________________________
) * ( 1 ) في المصدر : في الاقوال كلها .
( 2 ) مجمع البيان 2 : 430 .
( 3 ) في المصدر : في تفسيريهما .
( 4 ) سورة الاحزاب : 58 .