[141]

عليه ومستفيد من فقهه ، أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة ، وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن ، فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة ( 1 ) ، وأبوحنيفة قرأ على جعفر بن محمد عليهما السلام وجعفر قرأ على أبيه ، وينتهي الامر إلى علي عليه السلام وأما مالك بن أنس فقرأ على ربيعة الرأي ، قرأ ربيعة على عكرمة ، وقرأ عكرمة على عبدالله بن عباس ، وقرأ عبدالله بن عباس على علي بن أبي طالب عليه السلام ، وإن شئت رددت إلى فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك فهؤلاء الفقهاء الاربعة .
وأما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر .
وأيضا فان فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب وعبدالله بن عباس ، وكلاهما أخذا عن علي عليه السلام ، أما ابن عباس فظاهر ، وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة ، وقوله : غير مرة " لولا علي لهلك عمر " وقوله : " لا بقيت لمعضلة ليس لها أبوحسن " وقوله : " لا يفتين أحد في المسجد وعلي حاضر " فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه ، وقد روت العامة والخاصة قوله صلى الله عليه وآله : " أقضاكم علي " والقضاء هو الفقه ، فهو إذن أفقهم ! وروى الكل أيضا أنه قال له وقد بعثه إلى اليمن قاضيا : " اللهم اهد قلبه وثبت لسانه " قال : فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين .
وهو عليه السلام الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر ، وهو الذي أفتى به في الحامل الزانية ( 2 ) ، وهو الذي قال في المنبرية : صار ثمنها تسعا ، وهذه المسألة لو أفكر ( 3 ) الفرضي فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب ، فما ظنك بمن قاله بديهة .
*

_________________________________________________________
) * ( 1 ) في المصدر بعد ذلك : وأما احمد بن حنبل فقرأ على الشافعى ، فرجع فقهه ايضا إلى أبى حنيفة .
( 2 ) في المصدر : أفتى في الحامل الزانية .
( 3 ) : لو فكر وقد سبق تفصيل القضية في باب قضائه عليه السلام .
( * )

[142]

واقتضبه ( 1 ) ارتجالا .
ومن العلوم علم تفسير القرآن وعنه أخذ ومنه فرع ، وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك ، لان أكثره عنه وعن عبدالله بن عباس ، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته ( 2 ) وانقطاعه إليه ، وإنه تلميذه وخريجه وقيل له : أين علمك من علم ابن عمك ؟ فقال : كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط .
ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف ، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الاسلام إليه ينتهون وعنده يقفون ، وقد صرح بذلك الشبلي والجنيد والسري وأبويزيد البسطامي وأبومحفوظ معروف الكرخي ( 3 ) ، و يكفيك دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم ، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه عليه السلام .
ومن العلوم علم النحو والعربية ، وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه وأملى على أبى الاسود الدؤلي جوامعه واصوله ، من جملتها : الكلمة ثلاثة ( 4 ) أشياء : اسم وفعل وحرف ، ومن جملتها تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة وتقسيم وجوه الاعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم ، وهذا يكاد يحلق بالمعجزات لان القوة البشرية لاتفي بهذا الحصر ولا تنهض بهذا الاستنباط .
وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية والفضائل النفسانية والدينية وجدته ابن جلاها وطلاع ثناياها ( 5 ) ، أما الشجاعة فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان *

_________________________________________________________
) * ( 1 ) اقتضب الكلام : ارتجله .
وفي ( خ ) : اقتضاء .
( 2 ) في المصدر : في ملازمته له .
( 3 ) : بعد ذلك : وغيرهم .
( 4 ) في المصدر و ( خ ) : الكلام كله ثلاثة .
( 5 ) قال في القاموس ( 4 : 213 ) : ابن جلا : الواضح الامر .
وفيه ( 3 : 59 ) : رجل طلاع الثنايا - كشداد - مجرب للامور ركاب لها يعلوها ويقهرها بمعرفته وتجاربه وجودة رأيه والذى يؤم معالى الامور .
( * )

[143]

قبله ومحا اسم من يأتي بعده ، ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الامثال إلى يوم القيامة ، وهو الشجاع الذي مافر قط ، ولا ارتاع ( 1 ) من كتيبة ، ولا بارز أحدا إلا قتله ، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الاولى إلى الثانية ، ( 2 ) وفي الحديث : كانت ضرباته وترا ، ولما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما قال له عمرو : لقد أنصفك ، فقال معاوية : ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم أتأمرني بمبارزة أبي حسن ( 3 ) وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق ؟ أراك طمعت في إمارة الشام بعدي ، وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته ، فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه عليه السلام قتلهم أظهر وأكثر ، قالت أخت عمرو بن عبدود ترثيه .
لو كان قاتل عمرو غير قاتله * بكيته أبدا ما دمت في الابد لكن قاتله من لا نظير له * وكان يدعى أبوه بيضة البلد وانتبه معاوية يوما فرأى عبدالله بن زبير جالسا تحت رجليه على سريره ، فقال ( 6 ) له عبدالله يداعبه : يا أمير المؤمنين لو شئت أن أفتك بك لفعلت ، فقال : لقد شجعت بعدنا يا أبابكر قال : وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف إزاء علي بن أبي طالب عليه السلام قال : لا جرم إنه قتلك وأباك بيسرى يديه وبقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها ، وجملة الامر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهي ، وباسمه ينادي في مشارق الارض ومغاربها .
وأما القوة والايد فبه يضرب المثل فيهما ، قال ابن قتيبة في المعارف : ما صارع أحدا قط إلا صرعه ، وهو الذي قلع باب خيبر ، واجتمع عليه عصبة من الناس
-بحار الانوار مجلد: 37 من ص 143 سطر 19 الى ص 151 سطر 18 ليقلبوه فلم يقلبوه ، وهو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة وكان عظيما ( 5 ) جدا ، *

_________________________________________________________
) * ( 1 ) اى لم يفزع .
( 2 ) في غير ( ك ) : إلى ثانية .
( 3 ) في المصدر : ابى الحسن .
( 4 ) في المصدر : فقعد فقال اه .
( 5 ) في المصدر : كبيرا .
( * )

[144]

فألقاه إلى الارض ، وهو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته ( 1 ) بعد عجز الجيش كله عنها ، فأنبط ( 2 ) الماء من تحتها .
وأما السخاء والجود فحاله فيه ظاهرة ، كان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده ، و فيه انزل " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ( 3 ) " وروى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم ، فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية ، فانزل فيه " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ( 4 ) " وروي عنه أنه كان يستقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى مجلت يده ، ويتصدق بالاجرة و يشد على بطنه حجرا ، وقال الشعبي وقد ذكره عليه السلام : كان أسخى الناس ، كان على الخلق الذي يحب الله ( 5 ) السخاء والجود ؟ ما قال " لا " لسائل قط ، وقال عدوه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبي سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبي لما قال : جئتك من عند أبخل الناس : ويحك كيف تقول إنه أبخل الناس ولوملك ( 6 ) بيتا من تبر وبيتا من تبن لانفد تبره قبل تبنه ؟ وهو الذي كان يكنس بيوت الاموال ويصلي فيها ، وهو الذي قال : يا صفراء ويا بيضاء غري غيري ، و هو الذي لم يخلف ميراثا وكانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام .
وأما الحلم والصفح فكان أحلم الناس من ذنب ( 7 ) وأصفحهم عن مسئ ، و قد ظهرت صحة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم ، وكان أعدى الناس له وأشدهم بغضا ، فصفح عنه ، وكان عبدالله بن الزبير يشتمه على رؤوس *

_________________________________________________________
) * ( 1 ) في المصدر : في ايام خلافته بيده بعد اه .
( 2 ) انبط البئر : استخرج ماءها .
( 3 ) سورة الانسان : 8 و 9 .
( 4 ) البقرة : 274 .
( 5 ) في المصدر : يحبه الله .
( 6 ) : وهو الذي لو ملك ( 7 ) عن مذنب .
( * )

[145]

الاشهاد ، وخطب يوم البصرة فقال : قد أتاكم الوغب ( 1 ) اللئيم علي بن أبي طالب وكان علي عليه السلام يقول : مازال الزبير رجلا منا أهل البيت ، حتى شب عبدالله فظفر به يوم الجمل ، فأخذه أسيرا ، فصفح عنه وقال : اذهب فلا أرينك ، لم يزده على ذلك .
وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة وكان له عدوا فأعرض عنه ولم يقل له شيئا .
وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره ، فلما ظفر بها أكرمها وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبدالقيس ، عممهن بالعمائم وقلدهن بالسيوف ، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به وتأنفت ( 2 ) ، و قالت : هتك سري برجاله وجنده الذين وكلهم بي ، فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن وقلن لها : إنما نحن نسوة .
وحاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيف ، وشتموه ( 3 ) ولعنوه فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم ، ونادى مناديه في أقطار العسكر : ألا لايتبع مول ، ولا يجهز على جريح ، ولا يقتل مستأثر ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن تحيز إلى عسكر الامام فهو آمن ، ولم يأخذ أثقالهم ولاسبى ذراريهم ولا غنم شيئا من أموالهم ، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل ، ولكنه أبى إلا الصفح والعفو ، وتقبل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة ، فإنه عفا والاحقاد لم تبرد والاساءة لم تنس ، ولما ملك عسكر معاوية عليه الماء و أحاطوا بشريعة الفرات وقالت رؤساء الشام له : اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا سألهم علي عليه السلام وأصحابه أن يسوغوا لهم شرب الماء ، فقالوا : لا والله ولا قطرة حتى تموت ظمئا كما مات ابن عفان ، فلما رأى عليه السلام أنه الموت لا محالة تقدم بأصحابه وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة ، حتى أرالهم عن مراكزهم بعد *

_________________________________________________________
) * ( 1 ) الوغب : اللئيم الرذل .
( 2 ) في المصدر : وتأففت .
( 3 ) في المصدر : بالسيوف وسبوء اه .
( * )

[146]

قتل ذريع ( 1 ) سقطت منه الرؤوس والايدي ، وملكوا عليهم الماء ، وصار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم ، فقال له أصحابه وشيعته : امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك ، ولا تسقهم منه قطرة ، واقتلهم بسيوف العطش ، وخذهم قبضا بالايدي ، فلا حاجة لك إلى الحرب ، فقال : لا والله لا اكافيهم بمثل فعلهم ، افسحوا لهم عن بعض الشريعة ، ففي حد السيف ما يغني عن ذلك ، فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالا وحسنا ، وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام .
أما الجهاد في سبيل الله فمعلوم عند صديقه وعدوه أنه سيد المجاهدين ، و هل الجهاد لاحد من الناس إلا له ؟ وقد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وأشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى ، قتل فيها سبعون من المشركين ، قتل علي عليه السلام نصفهم وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر ، وإذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي وتاريخ الاشراف ليحيى بن جابر البلاذري وغيرهما علمت صحة ذلك ، ودع من قتله في غيرها كاحد والخندق وغيرهما ، وهذا الفصل لا معنى للاطناب فيه لانه من المعلومات الضرورية كالعلم بوجود مكة ومصر ونحوهما .
أما الفصاحة فهو عليه السلام إمام الفصحاء وسيد البلغاء ، وعن كلامه ( 2 ) قيل : دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين ، ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة ، وقال عبدالحميد بن يحيى ، حفظت سبعين خطبة من خطب الاصلع ففاضت ثم فاضت .
وقال نباتة : حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الانفاق إلا سعة وكثرة .
حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب عليه السلام .
ولما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية : جئتك من عند أعيى الناس قال له : ويحك كيف يكون أعيى الناس فوالله ما سن الفصاحة لقريش غيره ؟ ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجازى ( 3 ) في الفصاحة ولا يبارى في البلاغة ، وحسبك أنه لم يدون لاحد من *

_________________________________________________________
) * ( 1 ) الذريع : السريع .
( 2 ) في ( ت ) وان كلامه اه .
( 3 ) في المصدر : لا يجارى .
( * )

[147]

فصحاء الصحابة العشر ولا نصف العشر مما دون له ، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبوعثمان الجاحظ في مدحه في كتاب البيان والتبيين وفي غيره من كتبه .
وأما سجاحة الاخلاق وبشر الوجه وطلاقة المحيا و التبسم فهو المضروب به المثل فيه ، حتى عابه بذلك أعداؤه ، وقال عمرو بن العاص لاهل الشام : إنه ذو دعابة ( 1 ) شديدة ، وقال علي عليه السلام في ذاك : عجبا لابن النابغة يزعم لاهل الشام أن في دعابة وأني امرؤ تلعابة اعافس ( 2 ) وامارس ، وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر لقوله لما عزم على استخلافه : لله أبوك لولا دعابة فيك ، إلا أن عمر اقتصر عليها وعمرو زاد فيها ونسجها ، قال ( 3 ) صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه : كان فينا كأحدنا ، لين جانب وشدة تواضع وسهولة قياد ، وكنا نهابه مهابة الاسير المربوط للسياف الواقف على رأسه ، وقال معاوية لقيس بن سعد : رحم الله أبا حسن فلقد كان هشا بشا ذا فكاهة ، قال قيس : نعم كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ويبسم ( 4 ) إلى أصحابه ، وأراك تسر حسوا في ارتغاء رفعه ، وتعيبه بذلك ، أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى ، تلك هيبة التقوى ، ليس كما يهابك طغام ( 5 ) أهل الشام ، وقد بقي هذا الخلق متوارثا متناقلا في محبيه وأوليائه إلى الآن ، كما بقي الجفاء والخشونة و الوعورة في الجانب الآخر ، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك .
وأما الزهد في الدنيا فهو سيد الزهاد ، وبدل الابدال ، وإليه يشد الرحال ، وعنده تنفض الاحلاس ، ما شبع من طعام قط ، وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا ، قال عبد الله بن أبي رافع : دخلت إليه يوم عيد ، فقدم جرابا مختوما ، فوجدنا فيه *

_________________________________________________________
) * ( 1 ) دعبه دعبا ودعابة : مازحه .
( 2 ) التلعابة : الكثير اللعب .
وعافسه : صارعه .
( 3 ) في المصدر : وقال .
( 4 ) : ويبتسم .
( 5 ) الطغام بالفتح : اوغاد الناس للواحد والجمع .
والعامة تقول " اوباش " .
( * )

[148]

خبز شعير يابسا مرصوصا ، فقدم فأكل ، فقلت : يا أمير المؤمنين فكيف تختمه ؟ قال : خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت ، وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة وبليف اخرى ، ونعلاه من ليف ، وكان يلبس الكرابيس الغليظ فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة فلم يخطه ، فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له ( 1 ) ، وكان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح ، فإن ترقى عن ذلك فببعض نبات الارض ، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الابل ، ولا يأكل اللحم إلا قليلا ويقول : لا تجعلوا قلوبكم ( 2 ) مقابر الحيوان ، وكان مع ذلك أشد الناس قوة ( 3 ) وأعظمهم أيدا ، لم ينقص الجوع قوته ولا يخور الاقلال منته ( 4 ) وهو الذي طلق الدنيا وكانت الاموال تجبى إليه من جميع بلاد الاسلام إلا من الشام و كان يفرقها ويمزقها ثم يقول : هذا جناي وخياره فيه * إذ كل جان يده إلى فيه وأما العبادة فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوما ، ومنه تعلم الناس صلاة الليل وملازمة الاوراد وقيام النافلة ، وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له قطع ( 5 ) ما بين الصفين ليلة الهرير فيصلي عليه ورده والسهام تقع بين يديه تمر على صماخيه يمينا وشمالا فلا يرتاع لذلك ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته ، وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده ، وأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله وما *

_________________________________________________________
) * ( 1 ) السدى من الثوب ما مد من خيوطه ، واللحمة ما نسج عرضا .
( 2 ) في المصدر : بطونكم .
( 3 ) : قسوة .
( 4 ) خار خؤورا وخور خورا : فتر وضعف .
والمنة - بالضم - القوة .
أى لا يفتره ولا يضعفه قلة اكل الطعام كما أشار إليه عليه السلام في كتابه إلى عثمان بن حنيف .
وفي نسخ الكتاب " لا يحزن " وهو سهو .
( 5 ) كذا في النسخ ، والقطع : البساط والطنفسة تكون تحت الراكب : أو ضرب من الثياب الموشاة .
وفي المصدر : نطع .
( * )

[149]

يتضمنه من الخضوع لهيبته والخشوع لعزته والاستخذاء ( 1 ) له عرفت ما ينطوي عليه من الاخلاص ، وفهمت من أي قلب خرجت وعلى أي لسان جرت ، وقيل لعلي بن الحسين عليهما السلام وكان الغاية في العبادة : أين عبادتك من عبادة جدك ؟ قال : عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله .
وأما قراءة القرآن والاشتغال به ( 2 ) فهو المنظور إليه في هذا الباب ، اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يكن غيره يحفظه ، ثم هو أول من جمعه ، نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبي بكر ، فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفة للبيعة بل يقولون : تشاغل بجمع القرآن ، فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن ، لانه لو كان مجموعا في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله لما احتاج إلى أن يتشاغل بجمعه بعد وفاته ، وإذا رجعت إلى كتب القراءة ( 3 ) وجدت أئمة القراءة كلهم يرجعون إليه ، كأبي عمرو بن أبي العلاء ( 4 ) وعاصم بن أبي النجود وغيرهما لانهم يرجعون إلى عبد الرحمن ( 5 ) السلمي الفارسي ( 6 ) ، وأبوعبدالرحمن كان تلميذه وعنه أخذ القرآن فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضا مثل كثير مما سبق .
وأما الرأي والتدبير فكان من أشد الناس ( 7 ) رأيا وأصحهم تدبيرا ، وهو الذي أشار إلى عمر لما عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الروم والفرس بما أشار ، وهو الذي أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها ، ولو قبلها لم يحدث عليه ما *

_________________________________________________________
) * ( 1 ) استخذى : اتضع وانقاد .
( 2 ) في المصدر : واشتغاله به .
( 3 ) : القراآت .
( 4 ) الصحيح كما في المصدر : كأبى عمرو بن العلاء .
راجع الكنى والالقاب 1 : 124 وسائر التراجم .
( 5 ) الصحيح كما في المصدر : أبى عبدالرحمن .
راجع الكنى والالقاب : 131 وسائر التراجم .
( 6 ) في المصدر : القارى .
( 7 ) في المصدر : من أسد الناس .
( * )

[150]

حدث ، وإنما قال أعداؤه لا رأي له لانه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه ، وقد قال عليه السلام : لولا التقى ( 1 ) لكنت أدهى العرب ، وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوفقه ( 2 ) ، سواء كان مطابقا للشرع أولم يكن ، ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لاجلها مما يرى الصلاح فيه تكون أحواله الدنياوية إلى الانتظام أقرب ، ومن كان بخلاف ذلك يكون أحواله الدنياوية إلى الانتشار أقرب .
وأما السياسة فإنه كان شديد السياسة ، خشنا في ذات الله ، لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاه إياه ، ولا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به ، وأحرق قوما بالنار ، ونقض ( 3 ) دار مصقلة بن هبيرة ودار جرير بن عبدالله البجلي ، وقطع جماعة صلب آخرين ، ومن جملة سياسته حروبه في أيام خلافته بالجمل وصفين والنهروان ، وفي أقل القليل منها مقنع ، فإن كل سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه وبطشه وانتقامه مبلغ العشر مما فعل عليه السلام في هذه الحروب بيده وأعوانه ، فهذه هي خصائص البشر ومزاياهم ، قد أوضحنا أنه فيها الامام المتبع فعله والرئيس المقتفى أثره ، وما أقول في رجل يحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة ، وتعظمه الفلاسفة على معاندتهم لاهل الملة ، وتصور ملكوك الفرنج والروم صورته في بيعها وبيوت عباداتها حاملا سيفه مشمرا لحربه ، وتصور ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها ، كان على سيف عضد الدولة بن بويه وسيف أبيه ركن الدولة وكان على سيف الارسلان ( 4 ) وابنه ملكشاه صورته ، كأنهم يتفاءلون به النصر و الظفر ، وما أقول في رجل أحب كل أحد أن يتكثر به ، وود كل أحد يتجمل ويتحسن بالانتساب إليه ، حتى الفتوة التي أحسن ما قيل في حدها : أن لا تستحسن *

_________________________________________________________
) * ( 1 ) في المصدر : لولا الدين والتقى .
( 3 ) : ويستوقفه .
( 4 ) نقض البناء : هدمه .
( 5 ) في المصدر : وسيف أبيه ركن الدولة صورته ، وكان على سيف الب ارسلان .
( * )