في هيكل الوجود الرحب صافي النفس ممتلئ القلب، حتى إذا انكشفت له جمالات هذا الكون تجاوبت وما في كيانه من أصداء وأظلال وموازين، فأطلق هذه الآية الرائعة التي نرى فيها دستوراً كاملاً لتقوى الأحراروعبادة عظماء النفوس: «وإنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار»(1).
إنّ عبادة الإمام ليس شيئاً من سلبيّة الخائف الهارب أو التاجر الراغب كما هي الحال عند الكثيرين من المتعبّدين، بل هي شيء من إيجابية الإنسان العظيم الواعي نفسه والكون على أساس من خبرة المجرّب وعقل الحكيم وقلب الشاعر.
وبهذا المفهوم للتقوى والعبادة كان عليّ يوجّه الناس الى أن يتّقوا الله في سبيل الخير الإنساني العام، أو قل: في سبيل أمر أجلّ من رغبة تجّار العبادات في نعيم الآخرة، كان يوجّههم الى التقوى لعلّ فيها ما يحملهم على أن يعدلوا وينصفوا المظلوم من الظالم فيقول: «عليكم بتقوى الله.. وبالعدل على الصديق والعدوّ»(2). ولا خير في التقوى في نظر الإمام إلاّ إذا دفعتك الى أن تعترف بالحقّ قبل أن تشهد عليه، وألاّ تحيف على من تبغض ولا تأثم، والحياة ـ بهذا المعنى للعبادة ـ لا تبتغى لمتاع ولا تُرجى للذّة عابرة...
لذلك زهد عليّ في الدنيا وتقشّف، وكان صادقاً في زهده كما كان صادقاً في كلّ ما نتج عن يمينه أو بَدَر من قلبه ولسانه، زهد في لذّة الدنيا وسبب الدولة وعلّة السلطان وكلّ ما يطمح لبلوغه الآخرون، ويَرَوْن أنّه مرتكز وجودهم، فإذا هو يسكن مع أولاده في بيت متواضع تأوي اليه الخلافة
(1) الامام علي صوت العدالة الإنسانية: 1 / 73.
(2) المصدرالسابق: 1 / 74 ـ 75.