لا المُلك، وإذا هو يأكل الشعير تطحنه امرأته بيديها فيما كان عمّاله يعيشون على أطايب الشام وخيرات مصر ونعيم العراق، وكثيراً ما كان يأبى على زوجته أن تطحن له، فيطحن لنفسه وهو أمير المؤمنين، ويأكل من الخبز اليابس الذي يكسره على ركبته، وكان إذا أرعده البرد واشتدّ عليه الصقيع لا يتّخذ له عدّة من دثار يقيه أذى البرد، بل يكتفي بما رقّ من لباس الصيف إغراقاً منه في صوفيّة الروح.
روى هارون بن عنترة عن أبيه، قال: دخلتُ على عليّ بالخورنق وهو فصل شتاء، وعليه خلق قطيفة هو يرعد فيه، فقلت يا أمير المؤمنين، ان قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيباً وأنت تفعل ذلك بنفسك؟ فقال: والله ما ارزؤكم شيئاً، وما هي إلاّ قطيفتي التي أخرجتها من المدينة(1).
وأتى أحدهم عليّاً بطعام نفيس حلو يقال له: الفالوذج، فلم يأكله عليّ ونظر اليه يقول: والله إنّك لطيّب الريح حسن اللون طيّب الطعم، ولكن أكره أن أعوّد نفسي ما لم تعتد(2).
ولعمري إنّ زهد عليّ هذا ليس إلاّ معنىً ومزاجاً من معاني فروسيّته ومزاجها وإن بدى للبعض أنّهما مختلفان.
وقد حملت هذه السيرة الطيّبة عمر بن عبدالعزيز ـ أحد خلفاء الاُسرة الاُموية التي تكره عليّاً وتختلق له السيّئات وتسبّه على المنابر ـ على أن يقول: أزهد الناس في الدنيا عليّ بن أبي طالب(3).
والمشهور أنّ عليّاً أبى أن يسكن قصر الإمارة الذي كان معدّاً له
(1) الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية: 1 / 75.
(2) المصدر السابق: 1 / 760.
(3) المصدر السابق: 1 / 77.