بالكوفة، لئلاّ يرفع سكنه عن سكن اُولئك الفقراء الكثيرين الذين يقيمون في خِصاصهم البائسة، ومن كلامه هذا القول الذي انبثق عن اُسلوبه في العيش انبثاقاً: «أأقنع من نفسي بأن يقال هذا «أمير المؤمنين» ولا اُشاركهم في مكاره الدهر؟!»(1)
ومثّل عليّ بن أبي طالب الفروسيّة بأروع معانيها وبكلّ ما تنطوي عليه من ألوان الشهامة، والإباء والترفّع أصلان من اُصول روح الفروسيّة، فهما إذن من طبائع الإمام، لذلك كان بغيضاً لديه أن ينال أحد الناس بالأذى وإن آذاه، وأن يبادر مخلوقاً بالاعتداء ولو على ثقة بأنّ هذا المخلوق يقصد قتله.
وروح الإباء والترفّع هذه هي التي ارتفعت به عن مقابلة الاُمويين بالسباب يوم جعلوا يرشقونه به.. بل إنّه صنع على أصحابه أن ينالوا الاُمويين بالشتيمة المقذعة حتى قال لهم: «إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيينا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتّى يعرف الحقّ مَن جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان مَن لهج به»(2).
ومروءة الإمام أندر من أن يكون لها مثيل في التأريخ، وحوداث المروءة في سيرته أكثر من أن تعدّ، منها أنّه أبى على جنده وهم في حال من النقمة والسخط أن يقتلوا عدوّاً تراجع، كما أبى عليهم أن يكشفوا ستراً أو يأخذوا مالاً، ومنها أنّه صلّى في واقعة الجمل على القتلى من أعدائه وطلب لهم الغفران، وأنّه حين ظفر بألدّ أعدائه الذين يتحيّنون الفرص للتخلّص منه... عفا
(1) الإمام علي صوت العدالة الانسانية: 1 / 77 ، ونهج البلاغة، الكتاب 45.
(2) المصدر السابق: 1 / 78 ، ونهج البلاغة، الخطبة 206.