ومنع تلاميذهم بعد إسلامهم المزيّف تدوين القرآن والحديث ونادوا بجنون النبي  (صلى الله عليه وآله) في بيته وفي يوم شهادته .

ومن الناحية العقائدية جاء النبي (صلى الله عليه وآله) بكتاب كامل في أُصول الدين في التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد وسار المسلمون والكافرون في هذا الطريق العقائدي والفكري في خطّين متوازيين لا يلتقيان ولمّا أسلم طغاة قريش بعد فتح مكّة زيفاً بقى هذان الخطّان لا يلتقيان الأوّل بقيادة أهل البيت والثاني بقيادة الحزب القرشي .

فقال الإمام علي (عليه السلام) عند شهادته : « فزت وربّ الكعبة » ، بينما قال أبو بكر عند موته : ياليتني كنت بعرة ، وقال عمر : ياليتني كنت عذرة([357]).

ومن الناحية الفقهية  بين النبي (صلى الله عليه وآله) فروع الدين العشرة بعدالبعثة النبويّة وأحكامها تدريجيّاً .

وقال الله تعالى عن البعثة المباركة : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا)([358]).

فبعث عزّوجلّ محمّداً رسولاً إلى البشرية هادياً إيّاها إلى الصراط المستقيم ، وقدوة في الآداب والأخلاق ، ومنقذاً من الضلالة إلى النور .

فأصبحت البلاد العربية القاحلة والمتروكة من قبل القوّتين العظيمتين الروميّة والفارسيّة مركزاً مهمّاً للحضارة ، وقطباً مهمّاً في السياسة .

ولم يمض زمناً طويلاً حتّى أضحت الدولة الإسلامية الفتيّة مسيطرة على بلاد كثيرة ، والأمر القيادي بإدارة ايران والعراق والشام وافريقيا يصدر منها ! وذلك من العبر المستحقّة للنظر والتدقيق !

فالله تعالى هو الرازق والواهب يفضِّل من يشاء على من يشاء ويدحر من أراد في لحظة واحدة . ولقد فضَّل الله تعالى مكّة على مَن سواها بنزول كتابه الشريف على محمد (صلى الله عليه وآله) وجعلها قبلة للعالمين . وبينما كانت مدينة القدس القبلة الأُولى للموحّدين حلّت مكّة محلّها رغم المركزية الجغرافية التي تتمتّع بها القدس ، والمكانة النائية التي تتصف بها مكّة . فاعتبروا ياأُولي الألباب .

فصلّى خاتم الأنبياء أوّل صلاة جماعة في مكّة مع أمير المؤمنين علي (عليه السلام)وخديجة فكانت حادثة عظيمة تناقلتها المجالس في مدن العرب . وباقي الحواضر العالمية  .

ولمّا ولد النبي (صلى الله عليه وآله) في مكّة وبعث فيها أضحى الحديث فيها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)وكتابه المنزَّل ومكّة هو الغالب على بقية الأحاديث .

وكرّم الله تعالى الكعبة بولادة أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في جوفها الذي قال فيه خاتم الانبياء : « إمام المتّقين وقائد الغرّ المحجّلين يوم القيامة »([359]).

ومن العبر النادرة تطهير وليد الكعبة الإمام علي (عليه السلام) الكعبة من الأصنام في يوم فتح مكّة وعلى دربه سار الأئمّة الخلفاء من ولده (عليهم السلام) . وأبقى الله تعالى تلك الشموس المضيئة للبشرية يتبعها المهتدون بقول رسول الحضارة محمد (صلى الله عليه وآله) : « أهل بيتي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم »([360]).

لقد كانت هاجر خادمة سارة ثمّ أصبحت ضرّتها وأُمّاً لإسماعيل فلم تتحمَّل سارة ذلك . فنقل النبي إبراهيم (عليه السلام) سكنها الى مكّة . وقد وقفت عند العبرة المستوحاة من رحلة إسماعيل (عليه السلام) وأُمّه هاجر إلى أُمِّ القرى ، فقد حَزَنت من ترك إبراهيم (عليه السلام) لها وابنها في أرض جرداء لا ماء فيها ولا شجر ولا بشر بعد غضب سارة عليها .

ولكن لم تدم حسرة هاجر ولم يطل حزنها ، بجري إسماعيل (عليه السلام) في الأرض الحرام إذ نبع ماء زمزم تحت قدميه ففرحت هاجر وجرت دموع الفرح على خدّيها بعد حزنها العميق وحسرتها الطويلة . فتحوّل ذلك الماء علّة لسكن الناس ونبات الشجر في مكّة فطار صيتها وذاع خبرها في الآفاق حتّى أصبحت أُمّاً للقرى فهل من مدَّكر ؟

ثم ولدت سارة ولداً (إسحاق) مثلما ولدت خادمتها هاجر ولداً فهل من معتبر  ؟

وعلى طريق العبر ذكرت كتب السير بأنّ أُميَّة بن خلف قد عذّب بلالاً الحبشي في رمضاء مكّة عذاباً لا نضير له ، ولم تمض أيّام كثيرة إلاّ وأُميّة بن خلف مهزوماً في معركة بدر وبلال الحبشي جارياً خلفه وقاضياً عليه([361])!

وبينما شارك أبو جهل في إهانة وتعذيب عبدالله بن مسعود شاءت الصدف أن يصعد ابن مسعود على صدره في معركة بدر فقد أجلس الله تعالى ابن مسعود الهذلي حليف بني زهرة على صدر رئيس  قبيلة مخزوم  كرامةً له وإهانة  للطاغية ! فقال له أبو جهل : لقد ارتقيت يارويعي الغنم مرتقىً صعباً ! فاحتزّ ابن مسعود رأسه([362]).

والأدلّة على رؤية النبي (صلى الله عليه وآله) للملائكة قبل المبعث :

1 ـ قوله تعالى : (إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً)([363]).

فقال محمّد الباقر (عليه السلام) : « يوكّل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم ويؤدّون إليه تبليغهم الرسالة . ووكّل بمحمّد (صلى الله عليه وآله) ملكاً عظيماً منذ فصل من الرضاع يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق ويصدّه عن الشرّ ومساوئ الأخلاق وهو الذي كان يناديه : السلام عليك يامحمّد يارسول الله »([364]).

2 ـ وقال اليعقوبي : كان جبرئيل يظهر له ويكلّمه وربما ناداه من السماء ومن الشجر ومن الجبل ، ثمّ قال له : « إنّ ربّك يأمرك أن تجتنب الرجس من الأوثان فكان أوّل أمره (صلى الله عليه وآله) »([365]).

3 ـ قال الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) : « كنت في غار حراء أرى نور الوحي والرسالة وأشمّ ريح النبوّة ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل عليه فقلت للنبي .

فقال (صلى الله عليه وآله) : إنّك تسمع وترى ما أرى إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك وزير »([366]).

4 ـ قال جعفر الصادق (عليه السلام) : « كان الإمام علي (عليه السلام) يرى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت »([367]).

 

الفصل الثاني : المقاطعة السياسيّة والاجتماعيّة والإقتصاديّة وآثارها

 صحيفة المقاطعة
وأصبح سنّ الإمام علي (عليه السلام) عشرين سنة قضاها تحت رعاية النبي (صلى الله عليه وآله) .

ولمّا فشلت إغراءات قريش للنبي (صلى الله عليه وآله) واستمرّ بنو هاشم في الدفاع عن محمد  (صلى الله عليه وآله) ائتمروا في أن يكتبوا بينهم كتاباً يتعاقدون فيه على أن لا يُنكحوا بني هاشم وبني المطّلب ولا يَنكحوا إليهم ، ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم شيئاً ، فكتبوا بذلك صحيفة وتعاهدوا على ذلك ، ثم علَّقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً لذلك الأمر على أنفسهم .

فلمّا فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطّلب إلى أبي طالب ، فدخلوا معه في شعبه ، وخرج من بني هاشم أبو لهب بن عبدالمطّلب إلى قريش ، فلقي هند بنت عتبة فقال :

كيف رأيت نصري اللاّت والعزّى ؟ قالت : لقد أحسنتَ([368]).

وقد وقَّع على تلك الصحيفة أربعون رجلاً من وجوه قريش ، وختموها بخواتيمهم وذلك في السنة السابعة من البعثة النبوية([369]).

وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة فشلّت يده وقُتِل يوم بدر كافراً([370]).

ولقد اضطرّت قريش إلى هذه المقاطعة بحقّ بني هاشم والمطّلب لإجبارهم على تسليم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليقتلوه ، إذ أنّ قريشاً خافت إقدامها على قتل النبي (صلى الله عليه وآله)من ردّ فعل بني هاشم والمطّلب .

فأقام ومعه جميع بني هاشم وبني المطّلب ثلاث سنين حتى أنفق رسولُ الله مالَه ، وأنفق أبو طالب ماله ، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها وصاروا إلى حدّ الضرّ والفاقة .

ووضعت قريش عليهم الرقباء حتى لا يأتيهم أحد بالطعام ، فكانوا لا يخرجون من شعب أبي طالب إلاَّ في موسم العمرة في رجب وموسم الحج في ذي الحجة للبيع والشراء ، أكلوا فيها الخبط وورق الشجر([371])، وتعرّض الأطفال لمحنة عظيمة وعلى رأسهم فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) التي بقيت  في الحصار من عمر اثنين سنة الى خمس سنين .

فتحرّكت قريش لمنع ذلك بشراء بضاعة التجّار بأغلى الأثمان ، وتهديد المتعامل مع بني هاشم بمصادرة ماله ، وعلى رأس أُولئك أبو جهل ، وأبو لهب ، وأبو سفيان([372]).

وفي فترة المحنة كان أمير المؤمنين  علي بن أبي طالب (صلى الله عليه وآله) يأتيهم بالطعام من مكّة سرَّاً ، ولو أنَّهم ظفروا به لم يبقوا عليه([373]).

ولمّا كان هدف قريش الإجهاز على روح النبي (صلى الله عليه وآله) ، فقد احتاط أبو طالب في ذلك بنقله من فراشه ليلاً ووضع أحد أبنائه محلّه([374]).

وكان عمر وأبو بكر مع المحاصرين لشعب أبي طالب لأنّهما لم يسلما في ذلك التاريخ([375]).

إنشقاق القمر
لقد طلب المشركون من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في السنة الثامنة للبعثة عندما كان مع علي (عليه السلام) في شعب أبي طالب أن يريهم آية ، فدعا الله سبحانه وتعالى  فانشقّ القمر نصفين حتى نظروا إليه ثم التأم .

لكنّ قريشاً استمرّت في كفرها فقالوا : هذا سحر مستمر .

فأنزل تعالى : (اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ)([376]).

وقد وصف السيد المرتضى ذلك الحديث بالمتواتر([377]).

وأجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمنه ، حتى رأى أهالي مكّة حراء بينهما ، إذ أصبح القمر فرقتين فرقة على هذا الجبل وفرقة على جبل آخر .

وقالوا : انشقّ القمر مرّتين([378]).

وحادثة انشقاق القمر من الوقائع الخطيرة في حياة الإنسان الدينيّة تبيّن العظمة الإلهية من جهة ، والتعصّب الجاهلي من الجهة الأُخرى .

وهل يُسْلم الكافرون اليوم لو انشقّ القمر لهم مرّة أُخرى وتعصّبهم غالب عليهم  ؟

نقض الصحيفة
وفي السنة الثالثة من المقاطعة الاجتماعية والإقتصادية أخبر جبرئيلُ النبيَّ  (صلى الله عليه وآله) بأنّ الأرضَة أكلت كلّ ما في صحيفتهم من ظلم وقطيعة رحم ، ولم يبق فيها إلاَّ ما كان اسماً لله تعالى .

فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله) عمّه أبا طالب بذلك ، وكان أبو طالب لا يشكّ في قوله فخرج من الشعب إلى الحرم ، فاجتمع الملأ من قريش في أعظم تجمّع جماهيري تشهده مكّة فقال أبو طالب :

إنّ ابن أخي أخبرني أنَّ الله أرسل على صحيفتكم الأرضة فأكلت ما فيها من قطيعة رحم وظلم وتركت اسم الله تعالى فأحضروها ، فإن كان صادقاً علمتم أنّكم ظالمون لنا قاطعون لأرحامنا وإن كان كاذباً علمنا أنّكم على حقّ وأنّا على باطل([379]).

وذكر اليعقوبي : إنّ أبا طالب قال لهم :

ياقوم أحضروا صحيفتكم فلعلّنا أن نجد فرجاً وسبباً لصلة الأرحام وترك القطيعة ; وأحضروها وهي بخواتيمهم . فقال : هذه صحيفتكم على العهد لم تنكروها  . قالوا : نعم . قال : فهل أحدثتم فيها حدثاً ؟

قالوا : اللهمّ لا . قال : فإنّ محمّداً أعلمني عن ربّه أنّه بعث الأرضة فأكلت كلّ ما فيها إلاّ ذكر الله ; أفرأيتُم إن كان صادقاً ماذا تصنعون ؟

قالوا : نكفُّ ونُمسِك . قال : فإن كان كاذباً دفعته إليكم تقتلونه . قالوا : قد أنصفت وأجملتَ ; وفُضّت الصحيفة فإذا الأرضَة قد أكلت كلّ ما فيها إلاّ مواضع اسم الله عزّوجلّ . فقالوا : ما هذا إلاّ سحر ، وما كنّا قطّ أجدّ في تكذيبه منّا ساعتنا هذه . وأسلم يومئذ خلق من الناس عظيم وخرج بنو هاشم من الشّعب وبنو المطّلب فلم يرجعوا إليه([380]).

وحرّفها القرشيّون إلى أنّ جماعة من قريش وهم : هشام بن عمرو بن الحرث بن عمرو بن لؤي ، وزهير بن أبي أُمية بن المغيرة المخزومي ، ومطعم بن عدي ، وزمعة بن الأسود اتّفقوا على نقض الصحيفة فقال زهير لزعماء مكّة : والله لا أقعد حتّى تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة .

فقال أبو جهل : كذبت والله لا تشقّ .

قال زمعة : أنت والله أكذب ما رضينا بها حين كتبت وقال المطعم بن عدي : صدقتما وكذب من قال غير ذلك . وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك .

فقال أبو جهل : هذا أمر قضي بليل فقام مطعم بن عدي ليشقّها فوجد الأرضَة قد أكلتها إلاّ ما كان باسمك اللهم([381]).

فكانت محاولة للقضاء على المعجزة الإلهية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) التي شهدها معظم أهالي مكّة ، وكذّبوا رواية أُخرى مفادها أنّ حكيم بن حزام كان ينقل الطعام لعمّته خديجة([382]). بينما كان هذا الطاغية ظالماً عاتياً .

وخرج بنو هاشم والمطّلب من شعب أبي طالب بفضل تلك المعجزة الإلهية وبواسطة أضعف خلق الله تعالى الأرضة([383]).

وكان نقض الصحيفة في السنة العاشرة للبعثة([384]).

وصمود بني هاشم وانتصارهم في شعب أبي طالب يشبه صمود النبي أيّوب  (عليه السلام) وانتصاره على المشركين . وقد برز إيمان أبي طالب بيّناً في تلك القضية الخطيرة([385]).

عام الحزن عام وفاة أبي طالب
وبعد خروج النبي (صلى الله عليه وآله) وبني هاشم من شعب أبي طالب وعبورهم مرحلة المقاطعة الاجتماعية والإقتصادية فوجىء النبي (صلى الله عليه وآله) بحادث مؤلم آخر ألا وهو وفاة أبي طالب وخديجة .

وقد سمّى النبي (صلى الله عليه وآله) عام وفاة أبي طالب وخديجة عام الحزن ، وهو السنة العاشرة من البعثة النبوية([386]). وعمر أبي طالب ست وثمانون سنة([387])، وعمرها خمسون سنة .

وتبع موت أبي طالب موت خديجة زوجته ، أوّل امرأة مسلمة ، وأفضل نساء رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ توفّيت بعد أبي طالب بثلاثة أيّام([388]).

وقد حزن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لفقدهما حزناً عميقاً احتراماً لخدماتهما الجليلة وتضحياتهما القيّمة للإسلام قائلاً : « اجتمعت على هذه الأُمّة مصيبتان ، لا أدري بأيّهما أنا أشدُّ جزعاً»([389]).

ففقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك أقوى محام له على تبليغ دينه ، وأعظم شخصية عاصرت البعثة الإسلامية في مكّة ، وأقوى مضح في سبيل الإسلام في عصره الأوّل  .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « ما زالت قريش كاعين (منهزمين) عنّي حتّى مات أبو طالب  »([390]).

قال ابن إسحاق : فلمّا هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتّى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً .

فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيته والتراب على رأسه ، فقامت إليه فاطمة (عليها السلام) (بنته الوحيدة) تغسله وتبكي .

ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : « لا تبكي يابنية فإنَّ الله مانع أباك » ، ويقول بين ذلك : « ما نالت منّي قريش شيئاً أكرهه حتّى مات أبو طالب »([391]).

وأقسم الملأ من قريش باللات والعزّى ومناة الثالثة الأُخرى على قتل محمّد  (صلى الله عليه وآله) فأقبلت فاطمة (عليها السلام) تبكي حتّى دخلت على أبيها (صلى الله عليه وآله) فقالت : هؤلاء الملأ من قومك في الحجر قد تعاقدوا على أن لو رأوك قاموا إليك فليس منهم رجل إلاَّ عرف نصيبه من دمك .

فقال : « يابنيّة أريني وضوءاً ، فتوضّأ ثم دخل عليهم المسجد ، فلمّا رأوه قالوا  : هو هذا هذا هو .

فخفضوا أبصارهم وعقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه أبصارهم ولم يقم منهم رجل  ، فأقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من تراب فحصبهم بها  ، وقال : « شاهت الوجوه » ، فما أصاب رجلاً منهم حصاة إلاَّ وقُتِل يوم بدر كافراً([392]).

خروج النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الطائف
ذهب النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الطائف وأقام فيها عشرة أيّام بصحبة الإمام علي (عليه السلام) فلم يدع أحداً من أشراف ثقيف إلاَّ جاءه وكلّمه([393]) فما هى أسباب رحلته الى الطائف ؟

قال محمد بن إسحاق : لمّا مات أبو طالب ونالت قريش من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لم تكن تنال منه في حياته خرج إلى الطائف([394]) يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى .

فلمّا انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف ، وهم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم ، وهم اخوة ثلاثة عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غبرة بن عوف بن ثقيف ، فجلس إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكلّمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على مَن خالفه من قومه .

فقال له أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله تعالى أرسلك .

وقال الآخر : أما وجد الله أحداً يرسله غيرك .

وقال الثالث : والله لا أُكلّمك أبداً لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أردّ عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن نكلّمك  .

فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) من عندهم وقد يئس من خير ثقيف ، و قال لهم (صلى الله عليه وآله) : «  إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عليَّ سفري إليكم » .

أقول : لم يطلب النبي (صلى الله عليه وآله) من كافر أن يكتم عليه أبداً .

إذْ كَره النبي (صلى الله عليه وآله) أن يبلغ قومَه فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس .

قال موسى بن عقبة قعدوا له صفّين على طريقه ، فلمّا مرَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين صفّيهم جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلاَّ رضخوهما بالحجارة حتّى أدموا رجليه  . وزاد سليمان التيمي إنّه (صلى الله عليه وآله) كان إذا أذلقته الحجارة([395]) قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه ، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون([396]).

ثم دعا النبي (صلى الله عليه وآله) قائلاً : « اللهم إليك أشكو ضعف قوّتي وهواني على الناس ياأرحم الراحمين ، أنت ربّ المستضعفين ، وأنت ربّي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري . إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أُبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحلّ عليَّ سخطك لك العتبى حتى ترضى ، لا حول ولا قوّة إلاَّ بك »([397]).

قال النبي (صلى الله عليه وآله) فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل (عليه السلام) فناداني ، فقال :

« إنَّ الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك ، وقد بعث لك ملك الجبال ، لتأمره بما شئت فيهم ، ثم ناداني ملك الجبال فسلَّم عَلَيَّ ثم قال : يامحمّد قد بعثني إليك ربّك لتأمرني ما شئت ، إن شئت تطبق عليهم الأخشبين » ؟

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « أرجو أن يخرج الله تعالى من أصلابهم من يعبد اللهَ لا يشرك به شيئاً([398]). فلم يدعو النبي إلى قتلهم وإحراقهم .

لقد خالف أهل الطائف الأعراف العربية والأخلاق الإنسانية مع ضيفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكشفوا عن وجه قبيح وشخصية حاقدة وهوية بذيئة .

إذ كان بإمكانهم ردّه ردّاً جميلاً وتقديم عذر مقبول بدل تلك العنجهية السيّئة  . وقابلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعفو مشكور وصفح مشهود وفعلاً خرج من أصلاب أُولئك الكفّار مؤمنون نصروا الدين وضحّوا من أجله .

ومن الأكاذيب التي وضعت على النبي (صلى الله عليه وآله) عن رحلته إلى الطائف عطف شيبة وعتبة الأمويين عليه هناك وإعطائه شيئاً من عنب بستانهما وأكل رسول الله  (صلى الله عليه وآله) ذلك .

بينما كان النبي (صلى الله عليه وآله) يردّ هدية الكفّار ويرفضها([399]) وكيف يعطفان على النبي  (صلى الله عليه وآله) وقد شاركا في حصار بني هاشم في الشعب لقتلهم مع أطفالهم جوعاً !

ومن ضمن الأكاذيب عودته (صلى الله عليه وآله) إلى مكّة بجوار المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف . بينما كان المطعم مثل أبي لهب محارباً عنيداً للإسلام ، وكيف يخاف النبي  (صلى الله عليه وآله) قريشاً وقبيلته في مكّة يدافعون عنه([400])!

وهل يحتمي النبي (صلى الله عليه وآله) بجوار كافر معاند ، ويترك قبيلته عرضة لسطوات قريش  !

وكان أهل الطائف معاندين للإسلام حتى تأخّر إسلامهم عن إسلام أهل مكّة وأطرافها ، وكان لوجود صنم اللات فيها الأثر الكبير في تمسّكها بالدين الجاهلي([401]).

فأسلموا بعدما تأثّروا بأخلاق النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) في حقّهم .

دار أبي طالب مركز النبوّة والإشعاع النبوي
عاش رسول الله (صلى الله عليه وآله) في منزل عمّه أبي طالب منذ أن كان عمره ثماني سنين وإلى زمن زواجه ، أي سكن فيهاالنبي (صلى الله عليه وآله) سبع عشرة سنة ! ولم يفارقها رسول الله  (صلى الله عليه وآله) فهي مركز بني هاشم ، ومقرّ سيّد قريش وزعيم مكّة .

وبعد البعثة النبوية المباركة تعاظم دور تلك الدار فأصبحت مناراً للإسلام والمسلمين ففيها قال رسول الله لأبي طالب : « ياعم لو وضَعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته »([402]).

وفيها قال أبو طالب شيخ البطحاء للنبي (صلى الله عليه وآله) : لا يخلص إليك أحد بشيء تكرهه ما بقيت([403])، وفي طول مدّة البعثة النبوية كانت وفود قريش تتردّد على تلك الدار وتتوسّل بأبي طالب لمنع النبي (صلى الله عليه وآله) من فضح آلهتها . فعاشت دار أبي طالب عشرة سنوات مع البعثة المحمّدية تتلألأ نوراً بالإسلام ، وتصمد صموداً مذهلا بوجه الكفر  .

ورسبت محاولات قريش في إقناع أبي طالب بشكاواها، فابتكروا الحصار الاقتصادي والاجتماعي الذي استمرّ ثلاث سنوات ففشل أيضاً !

وأعظم تضحية قدّمها أبو طالب في ذلك المجال نفسه الزكية إذ مات في داره الصامدة بعد انتهاء الحصار الاقتصادي الظالم ، عليه وعلى بني هاشم .

واحترم الله تعالى تلك الدار الخيّرة التي أصبحت مناراً للإسلام ومركزاً للتوحيد الإلهي بعروج النبي (صلى الله عليه وآله) منها إلى السماء العليا وهذا تمجيد لها ما فوقه تمجيد ، وبركة إلهية غير منكرة([404]).

ووفّر أبو طالب بسياسته سبع سنين للنبي يبلّغ فيها الإسلام قبل الحصار الاقتصادي ازداد فيها عدد المسلمين وقويت شوكة الدين قبل يقظة قريش من غفلتها  .

وأعلن أبو طالب عن إسلامه في أيّام الحصار الممتدّة ثلاث سنين .

الدلائل والعبر
من الأُمور العقائدية التربوية في سيرة محمّد وأهل بيته (عليهم السلام) المتّقين التضحيات المستمرة لهم وزهدهم وعفّتهم وتركهم للدنيا .

فأصبحت هذه المسألة من الدلائل على صدق رسالة محمّد (صلى الله عليه وآله) . ولو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته من اللاهثين خلف الدنيا والساعين نحو لذّاتها وسرابها لشكّك الكثير من الناس بدينهم ورسالتهم . فتحمّل الأذى وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «  ما أُوذي نبيٌّ مثل ما أُوذيت »([405]).

وقدَّم النبي أرحامه حمزة وطالباً وجعفراً ابنى أبي طالب وأبا عبيدة وعلياً (عليه السلام)وحسناً وحسيناً (عليهما السلام) قرابين في طريق الإسلام . ومات رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يشبع من خبز بر([406]).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله) : « الدنيا جيفة وطلاّبها كلاب »([407]).

والاغراءات الدنيوية القرشية المتمثّلة بتنصيبه ملكاً عليهم ، وجعله أكثرهم مالاً  ، وأفضلهم نساءً رفضها النبي (صلى الله عليه وآله)  متمثّلاً في قوله (صلى الله عليه وآله) : « والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته »([408]).

ومن القضايا العقائدية والتربوية تضحية أبي طالب بابنه علي (عليه السلام) في سبيل الدفاع عن الدين فكان يضجعه في سرير النبي (صلى الله عليه وآله) ليلاً خوفاً عليه من القتل .

ولم يقتصر الأمر على الأذى الجسدي والمعنوي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في مكّة بل أقدموا على حصره وقبيلته في شعب أبي طالب فلاقى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام)وفاطمة  (عليها السلام) وأُمّها وأبو طالب وآخرون من بني هاشم مجاعة شديدة ومشقَّة بالغة استمرّت ثلاث سنين ذهب ضحيتها أبو طالب وخديجة ! فكان ذلك أعظم قربان قدّمه محمّد (صلى الله عليه وآله) في طريقه المخلص لإنقاذ البشرية ، ونشر المدنيّة ، والدعوة لعبادة الله الواحد سبحانه .

وهو من دواعي بذل الآخرين أنفسهم وأموالهم في طريق الإسلام ، فصمد عمّار وأبوه وأُمّه في هذا الدرب الطويل فضحّى ياسر بدمه في هذا المشروع الإلهي وأعطت سميّة نفسها الزكيّة قرباناً للتوحيد الإلهي . لتكون مع زوجها ياسر وابنها عمّار نموذجاً في التربية الاجتماعية .

أليس من العبر الملفتة للنظر حصول سمية (مملوكة بني مخزوم) على لقب أوّل شهيدة في الإسلام لتنال بذلك المنزلة العالية في نفوس الناس في الدنيا والكرامة في الآخرة ، ويُقبر أبو جهل سيّد بني مخزوم في مزبلة القليب ؟

ومن الدلائل والعبر استمرار النبي (صلى الله عليه وآله) في تبليغ الإسلام رغم المعارضة القويّة له من قبل الطغاة والقبائل فبلّغ الإسلام لكلّ قبائل الجزيرة العربية القادمة للحجّ ملقياً الحجّة عليهم .

وبصمود بنى هاشم فقد تحوّل الحصار الى أعظم نصر إلهي للمسلمين وأعظم هزيمة للكافرين .

وثبت الجهل المركّب للطغاة وإصرارهم على الكفر رغم المعجزات الإلهية في انشقاق القمر وأكل الأرضَة لصحيفة المعارضة وتركها اسم الله .

 

 الفصل الثالث :  دور علي في الهجرة
محاولة اغتيال النبي في مكّة ومبيت علي في فراشه (صلى الله عليه وآله)
أمر النبي (صلى الله عليه وآله) أصحابه بالهجرة إلى المدينة ، فكان أوّل مَن قدمها أبو سلمة بن عبدالأسد ، ثمّ هاجر بعده عامر بن ربيعة حليف بني عدي مع امرأته ليلى إبنة أبي حشمة ، ثمّ عبدالله بن جحش ومعه أخوه أبو أحمد وجميع أهله ، فأُغلقت دارهم وتتابع الصحابة ، ثمّ هاجر عمر بن الخطّاب وأبو بكر وعثمان بن عفّان وعيّاش بن أبي ربيعة فنزلا في بني عمرو بن عوف([409]).

فأبو بكر لم يكن ليترك عمر يهاجر وحده وكذلك يفعل عمر على ذلك اتّفقا واتّسقا .

واستمرّت المحاولات لاغتيال النبي (صلى الله عليه وآله) فجاء :

(واجتمعت قريش على قتل رسول الله ، وقالوا : ليس له اليوم أحد ينصره ، وقد مات أبو طالب ، وحضر دار الندوة أبو سفيان ، وأبو لهب ، ومعاوية ، وأبو جهل ، وعمرو بن العاص ، وصفوان بن أُميّة ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأُميّة بن خلف ، وعكرمة بن أبي جهل ، وعبدالله بن أبي ربيعة ، والحكم بن أبي العاص ، وعبدالرحمن بن أبي بكر ، ويزيد بن أبي سفيان ، وآخرون وحضر معهم المغيرة بن شعبة أعور ثقيف ، ولأنّه دميم المنظر وأعور العين اعتقد الجميع أنّه الشيطان وهو الذي اقترح قتل النبي بضربة واحدة من قبل رجال قبائل قريش فيضيع دمه فى تلك القبائل »([410]).

فأجمعوا جميعاً على أن يأتوا من كلّ قبيلة بغلام نهد فيجتمعوا عليه فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد ، فلا يكون لبني هاشم قوّة بمعاداة جميع قريش .

ومن دواعي الأسف أن تتشكّل أوّل حكومة إسلامية في زمن أبي بكر وعمر من أعضاء تلك المجموعة الحاضرة في دار الندوة .

فحكموا العالم الإسلامي من سنة 13 هجرية إلى سنة 60 هجرية حيث مات معاوية بن أبي سفيان وبقايا هذه الجماعة اختلقت رواية الغار المزيّفة .

فطلب النبي (صلى الله عليه وآله) من الإمام علي (عليه السلام) المبيت فى فراشه والنوم ببردته فنام في مكانه ليحسبوه رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

وأوحى الله تعالى في تلك الليلة إلى جبريل وميكائيل : « أنّي قضيت على أحدكما بالموت فأيّكما يواسي صاحبه ؟ فاختارا الحياة كلاهما . فأوحى الله إليهما : هلاّ كنتما كعلي بن أبي طالب ، آخيت بينه وبين محمّد ، وجعلت عمر أحدهما أكثر من الآخر ، فاختار الإمام علي الموت وآثر محمّداً بالبقاء وقام في مضجعه ، اهبطا فاحفظاه من عدوّه » .

فهبط جبريل وميكائيل فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه يحرسانه من عدوّه ويصرفان عنه الحجارة ، وجبريل يقول :

« بخ بخ لك يابن أبي طالب من مثلك يباهي الله بك ملائكة سبع سماوات » !

وصار إلى الغار فكمن فيه ، وأتت قريش فراشه ، وجعل المشركون يرمون علياً بالحجارة ، كما كانوا يرمون رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) وهو يتضوّر (أي يتقلّب) وقد لفّ رأسه في الثوب لا يخرجه حتّى أصبح ، فهجموا عليه .

فلمّا بصر بهم الإمام علي (عليه السلام) قد انتضوا السيوف وأقبلوا عليه يقدمهم خالد بن الوليد ، وثب به الإمام علي (عليه السلام) فختله وهمز يده فجعل خالد يقمص قماص البكر([411])، ويرغو رغاء الجمل ، وأخذ من يده السيف وشدّ عليهم بسيف خالد ، فأجفلوا أمامه اجفال النعم إلى خارج الدار ، وتبصّروه فإذا الإمام علي .

قالوا : وإنّك لعلي ؟

قال : أنا علي . قالوا : فإنّا لم نردك ، فما فعل صاحبك([412]

قال : قلتم له اخرج عنّا ، فخرج عنكم .

قال الخطيب : ونوم الإمام علي (عليه السلام) في فراش محمّد (صلى الله عليه وآله) وارتداؤه لباسه والتصرّف على أنّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكبر دليل على خلافة الإمام علي (عليه السلام) لخاتم الأنبياء([413]).

والمهاجمون لبيت النبي (صلى الله عليه وآله) هم : أبو جهل ، والحكم بن أبي العاص ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، وأُميّة بن خلف ، وابن الغيطلة ، وزمعة بن الأسود ، وطعيمة بن عدي ، وأبو لهب ، وأُبي بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجّاج ، وأبو سفيان  ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد ، والمغيرة بن شعبة ،
والمسمّىالشيطان وأعور ثقيف([414]).

ووسيلة الاغتيال أسهل طريقة ظالمة لوصول المجرمين إلى غاياتهم ، وأسرع طريقة للقضاء على صوت الحقّ والعدالة .

فكان مشروع قريش للقضاء على حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) مشابهاً لمشروع اليهود في القضاء على حياة عيسى (عليه السلام) ، وهو ذات المشروع الغادر ليهود جزيرة العرب ضدّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

ونزلت في مبيت الإمام علي (عليه السلام) في فراش النبي (صلى الله عليه وآله) : (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ)([415]).

فكان الإمام علي (عليه السلام) موطّناً نفسه على القتل([416]).

هل تعرّضت فاطمة (عليها السلام) لهجومين في مكّة والمدينة ؟
وهنا علامة سؤال ; لماذا انتظر المهاجرون إلى الصباح ولم يهجموا عليه ليلاً ؟

لقد انتظر المهاجمون لبيت النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الصباح خوفاً من انتقاد العرب لهم إذ لمّا اقتحموا عليه الجدار صاحت امرأة من الدار ، فقال بعضهم لبعض : إنّها لسُبّة في العرب ، أن يتحدّث عنّا : أنّا تسورنا الحيطان على بنات العم([417]).

إذ كان في البيت فاطمة (عليها السلام) فتكون فاطمة قد تعرّضت لهجومين على بيتها مرّة في مكّة بقيادة الحزب الجاهلي ومرَّة في المدينة بقيادة عمر وبعض المهاجمين اشتركوا في الهجومين أي معاوية وابن العاص وخالد بن الوليد والمغيرة فنجت في الحملة الأُولى واستشهدت في الثانية([418]).

هل صحب النبي أبا بكر الى الغار ؟
ولمّا أراد النبي (صلى الله عليه وآله) الخروج قرأ شيئا من سورة ياسين : (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ)([419]). وخرج فلم يشاهدوه ووضع التراب على رؤوس المحاصرين لبيته وهذه أعظم معجزة نبوية مشهودة في تلك الأيام احتارت لها أذهان قريش وتوقّفت عن تفسيرها عقولهم . وكيف يحصل هذا والمحاصرون لمنزل الرسول هم طغاة مكّة ورؤساؤها الذين لا تشكّ قريش في ولائهم للكفر([420]).

وذهب النبي (صلى الله عليه وآله) إلى غار ثور وحده . ولم يرغب الرسول (صلى الله عليه وآله) في صحبة أحد من المسلمين له من منزله إلى الغار وهو في غير حاجة إليهم وعنده تلك المعجزة العظيمة المتمثّلة في الاختفاء عن الأنظار .

والأخبار متّفقة على خروجه (صلى الله عليه وآله) إلى الغار ليلا([421]).

وهاجر النبي (صلى الله عليه وآله) من مكّة في نهاية شهر صفر حيث لا اضاءة قمريّة في الليل .

أمّا عن كيفية رؤية سيد الرسل لأزقّة مكّة في ظلام الليل الدامس فراجع إلى قدرته الشريفة على الرؤية الليليّة مثلما يرى في النهار([422]).

وكان سيّد الأنبياء يرى من الخلف مثلما يرى من الأمام وهذا من المعجزات العظيمة التي وهبها الباري عزّوجلّ لرسوله الكريم([423]).

ولاعتقاد طغاة مكّة بوجود النبي (صلى الله عليه وآله) في بيته وفي فراشه ، وعدم تمكّن كفّار قريش من الرؤية الليلية فقد بقي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحيداً في اختراقه شوارع مكّة باتّجاه الغار .

والأخبار متّفقة على عدم معرفة أبي بكر بخروج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تلك الليلة([424]).

وكان عمر بن الخطّاب في حينها من مهاجري المدينة هاجر إليها مع المسلمين الآخرين ، ولم يكن موجوداً في مكّة([425]). وأبو بكر لا يفارقه في سفر وحضر .

وكان أبو بكر وعمر يتحرّكان سويّة إلى هنا وهناك ولا يفترقان قدر استطاعتهما . مثلما كان النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) لا يفترقان .

معاوية : لا تتركوا خبراً في علي (عليه السلام) إلاّ وأتوني بمناقض له ؟!
سعى معاوية لطمس فضائل الإمام علي (عليه السلام) في كافّة المجالات والأصعدة باختلاق معارض لها في كلّ مجال ، فحديث « سدّوا الأبواب إلاّ باب علي » صنعوا مقابله : سدّوا الأبواب إلاّ خوخة أبي بكر !

ومنام الإمام علي (عليه السلام) في سرير النبي (صلى الله عليه وآله) صنعوا مقابله حضور أبي بكر في الغار ، إذ كتب معاوية إلى الآفاق : لا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وأتوني بمناقض له في فضائل الصحابة فإنّ هذا أحبُّ إليّ وأقرُّ لعيني([426]).

المغيرة أوّل مَنْ اختَلَقَ رواية الغار في زمن معاوية
لقد بدأ اختلاق رواية حضور أبي بكر في الغار وصحبته للرسول (صلى الله عليه وآله) في الهجرة في زمن حكومة معاوية .

وكان المغيرة بن شعبة ، يقود هذا المشروع الخطير في اختلاق المناقب للسلطان وترك الأحاديث الصحيحة لرسول الرحمن (صلى الله عليه وآله) . لأنّه قاد اجتماع دار الندوة لقتل النبي (صلى الله عليه وآله) قبل هجرته ففشل في ذلك . وهو الذي وضع لقب أمير المؤمنين لعمر([427]).

وأصبحت قضيّة اختلاق المناقب للسلاطين المسلمين عادة مألوفة في زمن الدول الأموية والعباسية ، والعثمانية وغيرها .

وكانت الليرات الذهبية تدفع اللاهثين خلف الدنيا لاختلاق أكبر عدد ممكن من الفضائل للزعماء .

ولقد تفاوض معاوية بن أبي سفيان مع سمرة بن جندب على اعطائه أربعمائة ألف درهم على أن يخطب في أهل الشام أنّ قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكُ قُوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصام * وَإِذا تَوَلّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيْها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَساد)([428]).

أنّه نزل في علي بن أبي طالب (صلى الله عليه وآله) .

وأنّ قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاء مَرْضاتِ الله) ، نزل في ابن ملجم([429]).

ونشر أنس بن مالك وأبو هريرة وغيرهم تلك الفضيلة المختَلَقة .

فإذا كانت الليرات المحدودة تدفع هؤلاء لصنع روايات مختَلَقة فماذا تفعل المناصب الحكومية بأربابها إذ كان أنس بن مالك وأبو هريرة من ولاة الدولة . فمصلحة النظام تدفعهما لحماية السلطة بكلّ الصور الممكنة أمام المعارضين .

واختلاق فضيلة الغار أبسط عمل نفّذه رجال السقيفة وأعوانهم ولكنّها خطيرة في غايتها الهادفة لتحريف أذهان المسلمين .

فدولة أبي بكر التي نفّذت عملية الهجوم على منزل فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله)وقتلها وقتلت سعد بن عبادة زعيم الأنصار يسهل عليها اختلاق رواية عن الغار لا تحتاج إلى بذل دماء ... أليس كذلك ؟

لقد قتل مروان بن الحكم ابن عمّه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في سبيل السلطة والمأمون العباسي قتل أخاه الأمين في سبيلها أيضاً([430]).

وتحريف الروايات واختلاقها أسهل بكثير من ازهاق الأرواح واراقة الدماء دفاعاً عن الملك .

ندم أبي بكر على أفعاله
لقد ندم أبو بكر على اغتصابه السلطة من علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهجومه على بيت فاطمة (عليها السلام) وإزهاقه روحها الشريفة قائلا : يبيت كلّ رجل معانقاً حليلته مسروراً بأهله وتركتموني وما أنا فيه لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي([431]).

وقال : وليتني لم أُفتّش بيت فاطمة بنت محمّد رسول الله وأدخله الرجال ولو كان أغلق على حرب([432]).

وندم على الروايات والأحاديث المختَلَقَة التي صنعها النظام ، ومنعه تدوين القرآن فقال : يا ليتني كنت ورقة . وليتني كنت بعرة .

فقد وضع أبو بكر على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله :  نحن معاشر الأنبياء لا نورّث([433]) لسلب فدك من فاطمة (عليها السلام) مخالفاً كتاب الله الكريم في قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُودَ)([434]).

وروت عائشة زوراً إمامة أبي بكر لصلاة صبح يوم الإثنين([435]).

وكيف لا تكون خلافة أبي بكر متزلزلة وقد وصفها عمر بن الخطّاب قائلا : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرّها ومن عاد إليها فاقتلوه([436]).

وتسبّبت مؤسّسة ابن جدعان في مشاكل كثيرة على رأسها مصرع النبي  (صلى الله عليه وآله)وفاطمة (عليها السلام) والسقيفة وحروب الجمل وصفّين والنهروان .

وسبب إقدام أبي بكر على وضع الأحاديث والروايات المذكورة يكمن في نظرته المتساهلة لهذا الموضوع واحتياج السلطان إلى هذه الركائز .

وسار عمر بن الخطّاب على هذا الأمر فوافق على الصاق ألقاب به قد قالها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حقّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، مثل لقب أمير المؤمنين الذي اختلقه المغيرة له([437]).

ولقب الفاروق ، الذي وضعه اليهود له([438]). حقداً على الإمام علي (عليه السلام) .

وحرّف الأمويون لقب الصدِّيق الذي قاله النبي (صلى الله عليه وآله) في حقّ علي (عليه السلام) إلى أبي بكر([439]). ولقد قال علي (عليه السلام) في أيّام خلافته : « أنا الصدّيق الأكبر »([440]).

فكان اختلاق رواية الغار لصالح أبي بكر في زمن معاوية لكنّها بقيت رواية مرفوضة من قبل الناس مدحوضة من قبل الصحابة .

وفي زمن الأمويين حيث الإرهاب الحكومي وكثرة أعداد التابعين البعيدين عن عصر النبي (صلى الله عليه وآله) وجدت الفرصة لنشر الأحاديث الكاذبة ; فنشرت تلك الرواية بقوّة بين التابعين وأبنائهم وصنعوا احتفالات باسمها .

والذي ساعد هذا المشروع الأمر الملكي الصادر من قبل معاوية بإيجاد مناقب للخلفاء لدحض حجّة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحقّه في الخلافة ، وليس حبّاً بأبي بكر لأنّ معاوية كان من الحزب العمري المنافس للحزب البكري .

وقد قتل معاوية محمّد بن أبي بكر وعائشة بنت أبي بكر وشارك في قتل أعوانه من الولاة وغيرهم([441]).

فنشر معاوية للمناقب المزيّفة في حقّ أبي بكر لم يكن حبّاً به ولا رغبة في إعلاء شأنه ومنزلته بل رغبة أموية في الحطّ من شأن محمّد وآل محمّد (صلى الله عليه وآله) .

وهكذا هي السياسة دائماً سالفاً وحاضراً لا ثوابت فيها ولا أخلاق يركبها طلاّب الدنيا متى شاؤوا دون إناقة ولا لياقة .

فبينما كانت أيادي معاوية اليمنى تحرق أوصال محمّد بن أبي بكر وتدفن عبدالرحمن بن أبي بكر حيّاً ، وتمزّق أعضاء عائشة كانت يده اليسرى تأمر بنشر فضائل أبي بكر وعائشة([442])!

والبعيدون عن لعب السياسة ودسائسها لا يفهمون ما تحيكه المؤامرات السياسية وقصور الملوك لصالح بقاء الدول واطالة أعمارها .

وسعى رجال الحزب القرشي بشتّى توجّهاتهم لتعظيم قضيّة الغار مقابل قضية الغدير حتى أصبح حضور أبي بكر المختلَق في الغار أعظم من حضور أهل الكهف في كهفهم  !

وتعاظمت حالة الافتراء والكذب في السيرة النبوية فاختلقت الدولة الأموية اكذوبة أُخرى متمثّلة في أمارة أبي بكر للحاج في السنة التاسعة الهجرية .

في حين عزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا بكر عن الأمارة وعيّن علياً (عليه السلام) مكانه فعاد أبو بكر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) باكياً حزيناً خائفاً من نزول قرآن في حقّه([443]).

فالمغيرة بن شعبة تعوّد على اختلاق الفضائل لأهل السياسة والغدر والخبث في هذا المجال :

1 ـ قاد المغيرة محاولة قتل النبي (صلى الله عليه وآله) في مكّة ليلة الهجرة([444]).

2 ـ فلقد زار المغيرة ملك الروم مع أُمراء الطائف يوم كان عبداً لهم ثمّ قتلهم في طريق عودتهم ليستحوذ على أموالهم وبالأخصّ هدايا ملك الروم لهم .

ثمّ فرّ إلى المدينة المنوّرة لاجئاً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) مقدِّماً تلك الأموال المغتصبة للنبي ليخمّسها .

فرفض النبي (صلى الله عليه وآله) تخميس تلك الأموال المنهوبة وردّها إلى المغيرة قائلا : «  هذا غدر ولا خير فى الغدر »([445]).

3 ـ وهو أوّل من دعا إلى السقيفة والاستحواذ على خلافة النبي (صلى الله عليه وآله) وترك جثمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون تشييع وصلاة([446]).

4 ـ في زمن عمر بن الخطّاب أقدم المغيرة على تحريف لقب أمير المؤمنين (عليه السلام)المختصّ بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وإلصاقه بعمر فأصبح عمر من يومها أميراً للمؤمنين([447]).

5 ـ اعترف المغيرة بأنّه أوّل من قدّم رشوة للسلطان بإعطائه عمامة لحاجب عمر بن الخطّاب الذي بيده الأمر والنهي في إدخال الناس على عمر وكان المغيرة بن شعبة أوّل من اختلق قضية حضور أبي بكر في الغار وهو مشهور في عملية الاختلاق والاغتيال ! والمسمّى الشيطان وأعور ثقيف([448]).

6 ـ والمغيرة أوّل من لعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في مسجد الكوفة بعد سماعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسمّيه أميراً للمؤمنين ومولى المسلمين وقائد الغرّ المحجّلين يوم القيامة([449]).