فهذه تبيّن عدم اهتمام المغيرة بالدين والعرف والقيم الاجتماعية .
وبسبب ذلك فقد طرده خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) ولم يولّه
منصباً حكومياً لكنّه كان حليفاً لحكومة أبي بكر ثمّ أصبح والياً لعمر على البحرين
والبصرة والكوفة طيلة مدّة حكومة عمر بن الخطّاب الممتدّة 11 سنة ! رغم إخراج
المسلمين له من البحرين ومن البصرة .
وبقي حاكماً على الكوفة فترة من حكومة عثمان وفي زمن حكومة معاوية .
وشخصية بهذه الأهداف الدنيوية وتلك الأخلاق المنبوذة والجرائم المعهودة
سهل عليه ، اختلاق حديث الغار لإرضاء الحزب القرشي .
ولقد تفنّن معاوية في محو فضيلة علي (عليه السلام) في مبيته في سرير
النبي (صلى الله عليه وآله) في ليلة الغار وعرف المغيرة حقده فأرضاه بحديث الغار
المختلَق في صحبة أبي بكر للنبي في الغار والهجرة فأبقاه معاوية على الكوفة .
7 ـ وهو أوّل من دعا إلى بيعة يزيد الفاسق في زمن معاوية فتعجّب من
قدرته على صناعة الأحداث .
فجاء بمجموعة رجال كوفيين يدعون معاوية إلى بيعة يزيد فقال معاوية لابن
المغيرة بكم اشترى أبوك ذمم هؤلاء الرجال ؟
لماذا اختلق المغيرة رواية الغار
حضر المغيرة في دار الندوة ممثّلا عن طغاة ثقيف ورئيساً لذلك المحفل
الجهنّمي .
فطغاة قريش رغم عنجهيتهم وفرعونيتهم تزعّمهم المغيرة بن شعبة ورضوا
بانضوائهم تحت لوائه الشيطاني أعور العين دميم المنظر خطير الاقتراحات فلقّبوه
بالشيطان .
ولمّا اقترح قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بضربة جماعية من
ممثّلي القبائل استحسن الجميع ذلك .
لكنّ الله تعالى أفشل مؤامرة المغيرة .
فاخترع المغيرة عوضاً عنها رواية حضور أبي بكر في الغار للقضاء على
قضية الخلافة المحمّدية .
البراهين على عدم حضور أبي بكر في الغار
هناك براهين كثيرة تنفي حضور أبي بكر مع الرسول (صلى الله عليه وآله)
في الغار وتنفي هجرته معه إلى المدينة نذكر بعض الأدلّة ونحيل القارىء على
مراجعة كتابنا صاحب الغار أبو بكر أم رجل آخر :
1 ـ الدليل النبوي :
عدم اعتراف سيّد الرسل (صلى الله عليه وآله) بوجود أبي بكر معه في
الغار إذ لو كان معه لحصل على منقبة عظيمة يستحقّ بها المدح والإطراء النبوي بينما
لم نلحظ ذلك بل سمعنا بهجاء سيّد الرسل له في مرّات عديدة الأمر الذي ينفي حضوره
في الغار . وسنبيّن أدلة من القرون الأُولى : الأوّل والثاني والثالث والرابع تنفي
حضوره في الغار .
فقد ذمّه الله تعالى وكذلك ذمّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في
مواضع كثيرة مبيّناً عدم أهليته للمناقب الكثيرة والكبيرة .
فمن الآيات القرآنية التي ذمّ بها الله تعالى أبا بكر ما جاء في قضية
حسد أبي بكر لجيوش المسلمين في حنين .
فقد أجمعت الروايات على قيامه بهذا الأمر أي حسده لجيوش المسلمين
الكثيرة إذ قال أبو بكر : لن نغلب اليوم من قلّة([450]). فقال الله تعالى :
(وَيَوْمَ حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ
شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الاَْرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ
مُدْبِرِينَ)([451]).
وقال عمر بن الخطّاب : إنّ قريشاً أحسد الناس وأبو بكر أحسدها([452]).
وقال عمر عن أبي بكر وقريش : إنّ قريشاً تحسد اجتماع النبوّة والخلافة
في بني هاشم([453]).
ولمّا أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) أبا بكر وعمر وأتباعهما بفضل
علي (عليه السلام) قالوا عن النبي (صلى الله عليه وآله) : إنّه مجنون
فنزلت في حقّ أبي بكر وعمر وأصحابهما : (وَإِنْ يَكادُ الذِيْنَ كَفَرُوا
لَيُزْلِقُوْنَكَ بِأَبْصارِهِم لَمّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُوْلُوْنَ إنّهُ
لَمَجْنُوْنْ وَما هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِيْن)([454]).
وأعادت تلك المجموعة الكرّة ثانية فقالت لرسول الله (صلى الله عليه
وآله) في يوم شهادته : إنّه يهجر أي مجنون([455]).
2ـ الدليل القرآني :
قال القرآن : (ثَانِىَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ) ، عن النبي
ودليله عبدالله بن بكر الديلي بن اريقط ، ولو كان أبو بكر ثالثا لقال تعالى : ثالث
ثلاثة ......... فأين أبو بكر ؟
3 ـ الدليل الروائي :
جاء في كتاب البداية والنهاية لابن كثير الأموي عن ابن جرير الطبري ما
يؤيّد هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى غار ثور وحده ، ثم غيَّر
المختلِقون ذلك . فخاف ابن كثير من هذه الرواية الصحيحة الدالّة على هجرة رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وحيداً من داره إلى الغار ، فارتجف قائلا :
وهذا غريب جدّاً وخلاف المشهور من أنّهما خرجا معاً([456]).
وهذا الحديث الصحيح يبطل الروايات الأموية المختلَقة في خروج أبي بكر
مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وبه تظهر الحقيقة ساطعة كالشمس في رابعة
النهار .
وأجمعت النصوص على كون المهاجرين إلى المدينة إثنين فقط أحدهما رسول
الله (صلى الله عليه وآله) والثاني دليله عبدالله بن بكر ممّا ينفي
وجود أبي بكر في تلك الهجرة ويفنّد المزاعم الواهية التي صنعتها الأيادي المشبوهة
للحزب القرشي في هذا الموضوع . فالحزب القرشي أراد وضع هذه الروايات الكاذبة
لتثبيت خلافة أبي بكر والسائرين على خطاه وهم عمر وعثمان وملوك بني أُميّة من جهة
، وتفنيد الولاية الإلهية لأهل البيت (عليهم السلام) التي نطقهاالنبي (صلى الله
عليه وآله) في غدير خم .
4 ـ الدليل الاول لصحيح البخاري :
كان عمر رفيقاً لأبي بكر يرحل برحيله ويستقرّ باستقراره وجاءت
الأدلّة على هجرة عمر إلى المدينة مع باقي المسلمين مثل صهره خنيس بن
حذافة السهمي وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وطلحة بن عبيدالله وصهيب بن سنان([457])،
وحمزة بن عبدالمطّلب وعبدالرحمن بن عوف وعثمان بن عفّان([458]).
لذا آخى النبي (صلى الله عليه وآله) بينهم في المدينة بعد هجرته إليها
وفيها آخى بين أبي بكر وعمر([459]) وأيّد البخاري هجرة
أبي بكر مع عمر وسالم مولى أبي حذيفة قبل هجرة النبي إذ أورد حديثا عن ابن عمر جاء
فيه : كان سالم مولى أبي حذيفة يؤمّ المهاجرين الأوّلين وأصحاب النبي (صلى الله
عليه وآله) في مسجد قباء ، فيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة وزيد وعامر بن ربيعة([460]).
فمسجد قباء يقع في طريق المدينة المنوّرة فصلّى فيه أبو بكر وعمر وسالم
وآخرون جماعة .
5 ـ الدليل الثاني لصحيح البخاري :
وذكر البخاري هجرة هذه الجماعة إلى المدينة مرّة أُخرى في صحيحه :
عن ابن عمر لما قدم المهاجرون الأوّلون العصبة موضع بقباء قبل مقدم
رسول الله كان يؤمّهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآناً([461]).
فكان المسلمون الموجودون في مكّة قد هاجروا إلى المدينة ومنهم أبو بكر
وعمر وعثمان([462]).
والكفّار الحاضرون في مكّة والذين أسلموا في فتح مكة لم يعترفوا بحضور
أبي بكر في الغار ، فلا أحدٌ منهم شاهده في ذهابه إلى الغار وفي حضوره في جبل ثور
وفي هجرته من مكّة إلى المدينة([463]).
وما قيل عن حضور أبي بكر في تلك المشاهد يعتمد على إرهاصات قيلت
متأخّراً في هذا المجال لا أساس لها من الصحّة .
واعتمدت الروايات الكاذبة في هذا الأمر على قول المغيرة ومنه أخذ أبو
هريرة وأنس بن مالك وعبدالله بن عمر .
وقد اعترف هؤلاء بكذبهم في مواطن كثيرة وامتنع الكثير من العلماء عن
الأخذ برواياتهم . وهم من المحسوبين على الخطّ القرشي المؤيِّد لحكومة أبي بكر
والمستفيد منها .
6 ـ الدليل الثالث لصحيح البخاري :
صحَّح البخاري عدم نزول آية الغار في أبي بكر في صحيحه .
ففيما يخصّ آية الغار القرآنية نفت السيدة عائشة نزولها في أبي بكر إذ
قالت أمام جموع الصحابة فى المدينة : لم ينزل فينا قرآن([464]).
وبيّنت بالأدلّة الصحيحة عدم صحّة خبر حضور أبي بكر في الغار مع رسول
الله .
إذن كان اختلاق حضور أبي بكر في الغار من عمل القصّاصين ورجال الدولة
الساعين وراء تثبيت سلطان الحزب القرشي .
لأنّ روايات الغدير الصحيحة الدالّة على بيعة رسول الله (صلى الله عليه
وآله) لعلي (عليه السلام)أجبرت الساعين للوصول إلى السلطة على إيجاد روايات مزيّفة
في صحّة خلافة أبي بكر ، فاختلَقت الدولة قضيّتين كاذبتين : الأُولى حضور أبي بكر
في الغار .
والثانية إمامته للصلاة في يوم الإثنين .
وهذا جهد العاجز الفاقد للشروط الصحيحة في الخلافة وقد بلغ الأمر
بالدولة للكذب الكثير في هذا المجال حتّى طفح الكيل وقيل في هذا المجال : اكذب ثمّ
اكذب حتّى يصدّقك عدوّك .
فكانت عائشة من المكذّبين لحضور أبي بكر في الغار بقولها المذكور : لم
ينزل فينا قرآن .
وهذا الإجماع العام من المسلمين الصحابة على عدم حضور أبي بكر في الغار
وبرواية البخاري يكذِّب الروايات المزيّفة الموضوعة لاحقاً في حضور أبي بكر في
الغار والهجرة .
إذن رواية عائشة عن حضور أبي بكر فى الغار موضوعة على لسانها
متأخراً . وأيّد الصحابة قول عائشة في عدم نزول قرآن فى حقّ أبى بكر في
مجلس مروان ، والصحابة هم الذين عاصروا الأحداث وسمعوا الأحاديث من فم
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقولهم حقّ وما قيل لاحقاً من أكاذيب
لا ينفع في هذا المجال .
مائة ألف قاصّ نشروا رواية الغار المختَلَقَة
كان في العالم الإسلامي في زمن معاوية أكثر من مائة ألف قاصّ أموي
يستلمون رواتب وجوائز معاوية وهؤلاء كذبوا عشرين سنة من سنة 40 إلى سنة 60 ، وأهمّ
هذه التزويرات حضور أبي بكر في الغار ، فرغبة معاوية في القضاء على فضائل الإمام
علي (عليه السلام) قضية مهمّة وأهمّها مبيت الإمام (عليه السلام) في فراش النبي
(صلى الله عليه وآله)فاختَلَق قضية الغار لدحر تلك المنقبة !!!
أداء الأمانة من قبله (صلى الله عليه وآله)
كان الناس المسلمون منهم والكفّار يضعون أماناتهم عند رسول الله (صلى
الله عليه وآله) قبل وبعد المبعث الشريف .
ولمّا هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة اهتمّ اهتماماً
بالغاً بردّ الأمانات إلى أهلها رغم ما في ذلك من خطورة على القائم به .
وكان المضحّي بهذا الدور الخطير الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)
. إذ أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن ينادي صارخاً بالأبطح غدوة وعشيّاً :
« من كان له قبل محمّد أمانة فليأت فلنؤدّ له أمانته » .
وبعد ما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) نادى الإمام علي بن أبي
طالب (عليه السلام) : « من كان له عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) عدّة أو
دَين فليأتني » .
واستمرّ الإمام (عليه السلام) في ندائه المذكور كلّ عام عند العقبة يوم
النحر وتولّى ذلك بعده الإمام الحسن (عليه السلام) ثمّ الإمام الحسين (عليه
السلام) . فلا يأتي أحد من خلق الله تعالى إلى الإمام علي (عليه السلام) بحقّ أو
باطل إلاّ أعطاه([465]).
ورغم المخاطر الجمَّة الحافّة برسول الله في رحلته للمدينة والصعوبات المحيطة
بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) في مكّة أوكل النبي (صلى الله عليه وآله) إلى
الإمام علي (عليه السلام) مهمّة إرجاع الأمانات إلى أصحابها .
ممّا يبيّن مجيئه (صلى الله عليه وآله) لتأسيس حضارة قائمة على الأخلاق
أهدافها واضحة وسيرتها بيِّنة .
وكان بإمكان النبي (صلى الله عليه وآله) دعوة الإمام علي (عليه السلام)
إلى المدينة وترك الأمانات هناك أو جلبها معه وتبرير ذلك بالمخاطر المحدقة به
وبعلي (عليه السلام) في مكّة .
ولتعزيز الركن الأخلاقي بردِّ أمانات الناس استمرّ الإمام علي والحسن
والحسين (عليهم السلام) بالنداء في مكّة في موسم الحجّ قائلين : « من
كان له قبل محمّد (صلى الله عليه وآله) أمانة فليأت فلنؤدِّ له أمانته » ، وهذا
العمل النبوي مشروع إنساني للبشرية بحفظ حقوق الناس وأموالهم .
فياترى هل يتّبع المسلمون اليوم هذا المشروع الحضاري ؟
من هاجر بالفواطم إلى المدينة ؟
خرج الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالفواطم وهنّ فاطمة بنت
رسول الله (عليهما السلام) وفاطمة بنت أسد (أُمّه) وفاطمة بنت الزبير
بن عبدالمطّلب من مكّة باتّجاه المدينة .
وهذا يثبت أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليس عنده بنت بإسم أُم
كلثوم أصغر سنّاً من فاطمة (عليه السلام) وإنّما ذلك من زيف الأمويين
الذين اختلَقوها وزوَّجوها عثمان الأموي([466]).
فأدركه المشركون قرب ضجنان وهم سبعة فوارس وثامنهم جناح مولى الحارث بن
أُميّة . فأنزل الإمام علي (عليه السلام) النسوة وأقبل على القوم منتضياً سيفه
فأمروه بالرجوع .
فقال (عليه السلام) : فإن لم أفعل ؟
قالوا : لترجعنّ راغماً ، او لنرجعنّ بأكثرك شَعراً ، وأهون بك من هالك
. ودنا الفوارس من المطايا ليثوروها ، فحال الإمام علي (عليه السلام) بينهم وبينها
فأهوى جناح بسيفه ، فراغ الإمام علي (عليه السلام) عن ضربته ، وتختله الإمام علي
(عليه السلام) فضربه على عاتقه فأسرع السيف مضيّاً فيه حتّى مسّ كاتبة فرسه ، وشدّ
عليهم بسيفه وهو يقول :
خلّوا سبيل الجاهد المجاهد *** آليت لا أعبد غير الواحد
فتصدّع القوم عنه وقالوا : أغن عنّا نفسك يابن أبي طالب([467]).
قال : فإنّي منطلق إلى ابن عمّي رسول الله بيثرب فمن سرّه أن أفري لحمه
، وأُهريق دمه فليتّبعني أو فليدن منّي ثمّ أقبل على صاحبيه فقال لهما : أطلقا
مطاياكم .
ثمّ سار ظاهراً حتّى نزل بضجنان ، فتلوّم بها قدر يومه وليلته ولحق به
نفر من المستضعفين من المؤمنين وفيهم أُمّ أيمن مولاة الرسول (صلى الله عليه وآله)
فعبدوا الله تعالى تلك الليلة قياماً وقعوداً ، وعلى جنوبهم .
وفي أثناء المسير من مكّة إلى المدينة كان الإمام علي (عليه السلام)
يصلّي بالمرافقين له جماعة فنزلت في حقّهم : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ
قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا) .
فاستجاب لهم ربّهم : (اَنّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامل منكم منَ ذَكر أو
أُنثَى)([468]).
ولمّا بلغ النبي (صلى الله عليه وآله) قدومه (عليه السلام) قال : ادعوا
لي علياً ، فقالوا له : يا رسول الله لا يقدر أن يمشي ، فأتاه (صلى الله عليه
وآله) بنفسه ، فلمّا رآه اعتنقه وبكى رحمة لما بقدميه من الورم ، وكانتا تقطران
دماً([469]).
وقال (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) : « أنت أوّل هذه
الأُمّة إيماناً بالله ورسوله ، وآخرهم عهداً برسوله لا يحبّك إلاّ مؤمن قد امتحن
قلبه للإيمان ولا يبغضك إلاّ منافق أو كافر »([470]).
ولمّا وصل الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) والفواطم إلى قباء نزل
مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند كلثوم بن هدم([471]).
وأقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقباء ثلاثة أيّام وأسّس مسجده
ثمّ أقام أوّل جمعة في بني سالم بن عوف في المدينة([472]).
القسم الثاني : الامام في المدينة
الباب الاول : حالة الإمام الإجتماعيّة زمن حكومة النبي (صلى الله عليه
وآله)
الفصل الأوّل : العلاقة مع الأنصار
استقبال الأنصار للرسول (صلى الله عليه وآله)
ولمّا سمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى
بلدهم كانوا يغدون كلّ غداة إلى الحرّة ينتظرون قدومه (صلى الله عليه وآله) حتّى
يردّهم حرّ الظهيرة .
ولمّا وصل رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة ، استقبله الناس
وقال النساء والولدان شعراً جاء فيه :
طلع البدر علينا *** من ثنيّات الوداع
وجب الشكر علينا *** ما دعا لله داع
أيّها المبعوث فينا *** جئت بالأمر المطاع([473])
ورويت روايات في رقص وغناء المستقبلين للنبي (صلى الله عليه وآله) في
المدينة([474])
لا تصحّ مخالفة لعفّة وحياء رسول الله (صلى الله عليه وآله) بل هي مخالفة لخُلُق
أشراف عَرَب الجاهلية . وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) حرّم الرقص والغناء([475]).
لمّا وصل رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة ركب ناقته وأرخى لها
الزمام فجعلت لا تمرّ بدار من دور الأنصار إلاّ دعاه أهلها إلى النزول عندهم ،
وقالوا له : هلمّ يارسول الله إلى العدد والعُدّة والمنعة فيقول لهم (صلى الله
عليه وآله) : « خلّوا زمامها فإنّها مأمورة حتّى انتهت إلى موضع مسجده اليوم فبركت
على باب مسجده »([476]).
فعوّضه الله تعالى محبّة الأنصار بدل بغض قريش .
وكان موضع مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) لبني النجّار وكان فيه نخل
وحرث وقبور من قبور الجاهلية فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ثامنوني
به .
فقالوا : لا نبتغي به ثمناً إلاّ ما عند الله ، فأمر رسول الله (صلى
الله عليه وآله) بالنخل فقطع ، وبالحرث فأفسد وبالقبور فنبشت ، وكانت القبور دارسة
، وتولّى النبي (صلى الله عليه وآله) بناء مسجده بنفسه وأصحابه من المهاجرين
والأنصار([477]).
بناء المسجد وظهور الصراع الأموي الهاشمي
وانشغل الصحابة من مهاجرين وأنصار ببناء المسجد النبوي ، ولمّا أثقلوا
عمّار بن ياسر باللّبن لبناء المسجد قال : يارسول الله قتلوني يحملون عَلَيَّ ما
لا يحملون .
فنفض النبي (صلى الله عليه وآله) وفرته بيده وهو يقول : « ويح ابن
سُميّة ليسوا بالذين يقتلونك ، إنّما تقتلك الفئة الباغية »([478]).
وكانت مشادّة حدثت بين عمّار بن ياسر وعثمان بن عفّان في غبار نال
عثمان من بناء المسجد بعدما مرّ وهو واضع كمّه على أنفه .
فقال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) :
لا يستوي من يبتني المساجدا *** يظلّ فيها راكعاً وساجداً
كمن يمرّ بالغبار حائداً *** يعرض عنه جاهداً معانداً
وارتجز بالشعر عمّار بن ياسر .
فقال عثمان بن عفّان : قد سمعت ما قلت اليوم ياابن السوداء إيّاي تعني
؟
والله إنّي لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك وفي يده عصا([479]).
فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثمّ قال : « ما لهم ولعمّار يدعوهم
إلى الجنّة ويدعونه إلى النار إنّ عمّاراً جلدة ما بين عيني وأنفي »([480]).
فكفّ الناس عن ذلك ثم قالوا لعمّار : إنّ النبي (صلى الله عليه وآله)
قد غضب فيك ، ونخاف أن ينزل فينا القرآن .
فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده ومسح وفرته([481])
وطاف به في المسجد .
ثم أتى عثمانُ رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) فقال له : لم ندخل معك
لتُسب أعراضنا .
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : قد أقلتك إسلامك فاذهب ،
فأنزل الله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا)([482]).
وكان أوّل من بنى مسجداً عمّارُ بن ياسر([483]).
وهذه الحادثة بين عثمان وعمّار تبيّن قِدَم الصراع بين أتباع أهل البيت
(عليهم السلام)وأفراد الحزب القرشي العائد إلى أيّام مكّة ، والمنفجر بعد وصول
المسلمين إلى المدينة انفجاراً حادّاً . وقد وقف النبي (صلى الله عليه وآله) إلى
جانب عمّار ووصفه بإمام من أئمّة الجنّة ووصف عدوّه بإمام من أئمّة جهنّم . ووقوف
النبي (صلى الله عليه وآله) إلى جانب أتباعه المعروفين مثل عمّار وأبي ذر وسلمان
والمقداد وحذيفة ظاهرة معروفة للجميع .
والحادثة المذكورة بيّنت كره عثمان للمشاركة في بناء المسجد النبوي
وخوفه على ثيابه من الطين ، واستخدامه ألفاظاً جاهلية (ابن السوداء) ، وتظهر كرهه
للرسول وعدم اعتقاده به !
واستمرّت هذه الحالة من الخصام إلى أيّام رئاسة عثمان بن عفّان الذي
أعاد الكرّة على عمّار رغم إنذار رسول الله (صلى الله عليه وآله) له فوطأ عمّاراً
بنفسه وفتق بطنه([484])!
وانتشر الإسلام في المدينة المنوّرة بصورة سريعة في السنة الأُولى من
وصول رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليها فأسلم أهلها إلاّ ما كان من خطمة وواقف
ووائل وأُميّة وتلك أوس الله وهم حي من الأوس فإنّهم أقاموا على شركهم ، ثم أسلموا([485]).
المؤاخاة بين كل شخص ونظيره
وفي السنة الأُولى من هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمسلمين
إلى المدينة وبعد مضيّ خمسة أشهر على وصولهم المدينة آخى رسول الله (صلى الله عليه
وآله) أوّلا بين المهاجرين أنفسهم([486]) فاشتهرت هذه المؤاخاة
في كتب المسلمين .
ثمّ آخى بين المهاجرين والأنصار([487]).
وكانت المؤاخاة بين كلّ ونظيره في الدين فقد آخى بين نفسه والإمام
علي (عليه السلام)([488]) فالإمام نفس النبي .
وآخى بين أبي بكر وعمر لانسجامهما في الأخلاق والأهداف .
وآخى بين عثمان وعبدالرحمن بن عوف .
وآخى بين حمزة وزيد بن حارثة([489]).
وآخى بين الزبير بن العوّام وطلحة بن عبيدالله ، وآخى بين أبي عبيدة بن
الجراح ومحمد بن مسلمة([490]).
وآخى (صلى الله عليه وآله) بين سلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان([491]).
جاء في الرواية لمّا آخى رسول الله بين المسلمين بقي الإمام علي (عليه
السلام) فقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله) : « آخيت بين أصحابك وتركتني » !
فقال النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) : « إنّما تركتك لنفسي أنت أخي
وأنا أخوك فإن ذكرك أحد فقل : أنا عبد الله وأخو رسوله لا يدّعيها بعدك إلاّ كذّاب
، والذي بعثني بالحقّ ما أخّرتك إلاّ لنفسي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ
أنّه لا نبي بعدي وأنت أخي ووارثي »([492]).
حديث النبي والإمام الهدف منه بيان نوع العلاقة بينهما .
والتآخي بينهم كان على الحقّ والمواساة ، وكان عددهم يومها تسعين رجلا
خمسة وأربعون رجلا من الأنصار ومثلهم من المهاجرين([493]).
واهتمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمؤاخاة بين المسلمين فقد
أجراها في مكّة والمدينة ثمّ أجراها بين المهاجرين والأنصار([494]).
ومن دلائل نبوّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا الأخاء بين النفوس
المتشابهة والتوجّهات المتطابقة فعمر شبيه بأبي بكر والزبير نظير لطلحة وعثمان
مرآة لابن عوف وسلمان مطابق لتوجّهات حذيفة ورسول الله (صلى الله عليه وآله) نفس
الإمام علي (عليه السلام) .
والمؤاخاة أفضل عمل إجتماعي عمله الرسول (صلى الله عليه وآله) لوحدة
المسلمين تحت راية الإسلام ولأهميّته كرّره (صلى الله عليه وآله) في مكّة والمدينة
.
وهذا الإنسجام الحاصل هو الذي مكّن المسلمين من الإنتصار في الحياة
الإجتماعية والثقافية والسياسية والعسكرية . وسرّ انفصام عرى الأُمم وإنحلالها
انعدام الوحدة وفقدان الإنسجام .
المؤاخاة قبل الهجرة
وبالرغم من تواتر حديث المؤاخاة وصحّته فقد كذَّبه ابن تيميّة وابن حزم
المبغضان علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، بحجّة أنّ علياً ليس من الأنصار
والمؤاخاة كانت بين المهاجرين والأنصار .
وجوابنا أنّ الأحاديث المذكورة صحيحة السند وقد آخى النبي (صلى الله
عليه وآله) بين الزبير وطلحة ، وقبل الهجرة أيضاً آخى النبي (صلى الله عليه وآله)
بين المهاجرين كي تقوى كلمتهم فآخى بين أبي بكر وعمر ، وبين عثمان وعبدالرحمن بن
عوف وبين حمزة وزيد بن حارثة ، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقّاص ،
وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة وبين سعيد بن زيد وطلحة ، وبين علي
(عليه السلام) ونفسه (صلى الله عليه وآله) ، وقال (صلى الله عليه وآله)
لعلي : « أما ترضى أن أكون أخاك ؟ قال : بلى يارسول الله رضيت ، قال : فأنت أخي في
الدنيا والآخرة »([495]).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) : « أنت منِّي
وأنا منك »([496]).
وقال (صلى الله عليه وآله) : « ياعلي إنّك سيد العرب وأنا سيد ولد آدم
»([497]).
الفصل الثاني : الزواج من فاطمة
جهاز السيّدة فاطمة (عليها السلام)
جهاز السيّدة فاطمة (عليها السلام) يمثّل بساطة الإسلام وزهد فاطمة
وزوجها وقناعتهما ورضاهما بالقليل ، أمّا نفس الجهاز كما تواتر على ألسنة الرواة ،
ودوّن في كتب الثقات ، هو :
اشترى لها الإمام قميصاً بسبعة دراهم .
واشترى خماراً لغطاء الرأس بأربعة دراهم وقطيفة سوداء خيبرية .
وثوب له زغب .
وعباءة قصيرة بيضاء .
ومنشفة .
وفرشان : أحدهما ليف ، والآخر صوف .
ومخدة ليف .
وأربعة متكّات حشوها من نبات الأرض .
وسرير من جريد النخل .
وجلد كبش .
وحصير .
وستار من صوف .
وقدح من خشب .
ورحى للطحن .
وإناء من نحاس للعجن والغسيل .
وقربتان : كبيرة وصغيرة .
ووعاء من ورق النخل مزفت .
وجرّة خضراء وكوزان من خزف .
ومنخل([498]).
فكان جهاز السيّدة فاطمة (عليها السلام) سيّدة نساء العالمين رائعاً في
بساطته لأفضل زوجين بعيداً عن بذخ الدنيا وترفها وتعقيدها وفي هذه الدار ولد الحسن
والحسين سيدا شباب أهل الجنّة فعاشا أفضل تربية .
لقد تزوّجت سيّدة نساء العالمين فاطمة بنت محمّد (صلى الله عليه وآله)
على سنّة بسيطة زاهدة في الدنيا رغم كون أبيها زعيماً للمسلمين .
في حين كانت زيجات طغاة مكّة ، معروفة بالبذخ والترف في المراسم
والأثاث .
فتعجّب الكافرون ودهش المسلمون لهذه السنّة الإلهية الرائعة فأصبحت
مناراً للآخرين وقدوة يحتذى بها للراغبين .
في حين كانت زعامات مكّة ، تستورد البضائع المتنوّعة والشهيرة من
الدولتين الفارسية والرومية .
هل أمر الله نبيّه (صلى الله عليه وآله) بتزويج فاطمة لعلي (عليهما
السلام) ؟
قال الطبراني عن ابن مسعود ; إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال : «
إنّ الله أمرني أن أُزوّج فاطمة من علي »([499]).
فهو كفؤها الكريم .
احتفال الملائكة بتزويج فاطمة لعلي (عليهما السلام)
عن عبدالله بن مسعود ، قال : أصابت فاطمة (عليها السلام) صبيحة يوم
العرس رعدة ، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « يافاطمة زوّجتك سيّداً
في الدنيا وإنّه فى الآخرة لمن الصالحين ، يافاطمة لمّا أراد الله تعالى أن
أُملّكك بعلي (عليه السلام) أمر الله جبريل فقام في السماء الرابعة فصفّ الملائكة
صفوفاً ثمّ خطب عليهم فزوّجك من علي (عليه السلام) ، ثم أمر الله شجر الجنان فحملت
الحليّ والحلل ، ثمّ أمرها فنثرته على الملائكة ، فمن أخذ منهم شيئاً يومئذ أكثر
ممّا أخذه غيره افتخر به إلى يوم القيامة » ، قالت أُمّ سلمة : لقد كانت فاطمة
(عليها السلام) تفتخر على النساء لأنّ أوّل من خطب عليها جبريل (عليه السلام)([500]).
وعن علي (عليه السلام) ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « أتاني
ملك فقال : يامحمّد إنّ الله تعالى يقول لك : قد أمرت شجرة طوبى أن تحمل الدرّ
والياقوت والمرجان وأن تنثر على من قضى عقد نكاح فاطمة من الملائكة والحور العين ،
وقد سرّ بذلك سائر أهل الجنّة وشبابها ، وقد تزيّن أهل الجنّة لذلك ، فأقرر عيناً
يامحمّد فإنّك سيّد الأوّلين والآخرين »([501]).
خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) عند التزويج
عن أنس بن مالك ، قال : خطب أبو بكر إلى النبي (صلى الله عليه وآله)
ابنته فاطمة (عليها السلام) فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : ياأبا بكر لم ينزل
القضاء بعد ، ثمّ خطبها عمر مع عدّة من قريش كلّهم يقول له مثل قوله لأبي بكر ،
فقيل لعلي (عليه السلام) : لو خطبت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة لخليق أن
يزوجكها ، فخطبها ، فقال (صلى الله عليه وآله) : « قد أمرني ربّي عزّوجلّ بذلك » ،
ثمّ دعا النبي المؤمنين ، فلمّا اجتمعوا عنده (صلى الله عليه وآله) وأخذوا مجالسهم
قال النبي (صلى الله عليه وآله) :
« الحمد لله المحمود بنعمته ، المعبود بقدرته ، المطاع بسلطانه ،
المرهوب من عذابه وسطواته ، النافذ أمره في سمائه وأرضه ، الذي خلق الخلق بقدرته ،
وميّزهم بأحكامه وأعزّهم بدينه ، وأكرمهم بنبيّه محمد (صلى الله عليه وآله) ، إنّ
الله تبارك اسمه ، وتعالت عظمته ، جعل المصاهرة سبباً لاحقاً ، وأمراً مفترضاً
أوشج به الأرحام ، وألزم الأنام ، فقال عزّ من قائل :
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً
وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً)([502])، فأمر الله تعالى يجري
إلى قضائه ، وقضاؤه يجري إلى قدره ولكلّ قضاء قدر ، ولكلّ قدر أجل ولكلّ أجل كتاب
.
(يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)([503]).
ثمّ إنّ الله عزّوجلّ أمرني أن أُزوّج فاطمة بنت خديجة من علي بن أبي
طالب ، فاشهدوا أنّي قد زوّجته على أربعمائة مثقال فضة إن رضي بذلك علي
بن أبي طالب ، ثم دعا بطبق من بسر فوضعه بين أيدينا ، ثم قال :
انهبوا ، فنهبنا ، فبينما نحن ننهب إذ دخل علي (عليه السلام) على النبي
(صلى الله عليه وآله) فتبسّم النبي في وجهه ، ثم قال :
إنّ الله أمرني أن أُزوّجك فاطمة على أربعمائة مثقال فضّة إن رضيت بذلك
، فقال : قد رضيت بذلك يارسول الله » ، قال أنس : فقال النبي (صلى الله عليه وآله)
: « جمع الله شملكما ، وأسعد جدّكما ، وبارك عليكما ، وأخرج منكما
كثيراً طيّباً » .
قال أنس : فوالله لقد أخرج منهما كثيراً طيّباً .
أخرجه أبو الخير القزويني الحاكمي([504]).
وليمة العرس
لمّا زوّج النبي (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) قال : ياعلي
إنّه لابدّ للعرس من وليمة ، فقال سعد : عندي كبش وجمع المؤمنين رهط من الأنصار
آصعاً([505])
من ذرّة ، فلمّا كان ليلة البناء قال : لا تحدث شيئاً حتّى تلقاني ، قال : فدعا
رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإناء فتوضّأ فيه ثم أفرغه على عليّ (عليه السلام)
ثم قال : « اللهمّ بارك فيهما وبارك عليهما وبارك لهما في نسلهما »([506]).
الزفاف
عن ابن عباس ، قال : لمّا زوّج رسول الله فاطمة من علي (عليهما السلام)
كان فيما أهدى معها سرير مشروط ووسادة من أديم حشوها ليف وقربة ، قال : وجاء
ببطحاء من الرمل فبسطوه في البيت ، وقال لعلي (عليه السلام) : إذا أُتيت بها فلا
تقربها حتى آتيك ، فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدقّ الباب فخرجت إليه
أُمّ أيمن ، فقال : أثم أخي . قالت : وكيف يكون أخاك وقد زوّجته ابنتك ؟
قال : إنّه أخي ، ثم أقبل على الباب ورأى سواداً فقال : من هذا ؟
قالت أسماء بنت عميس فأقبل عليها فقال لها : جئت تكرمين ابنة رسول
الله ؟ وكان اليهود يوجدون من امرأة إذا دخل بها . قال : فدعا رسول
الله (صلى الله عليه وآله) ببدر من ماء فتفل فيه ، وعوّذ فيه ، ثمّ دعا علياً
فرشَّ من ذلك الماء على وجهه وصدره وذراعيه ، ثمّ دعا فاطمة ، فأقبلت
تعثر في ثوبها حياءً من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ففعل بها مثل ذلك ، ثمّ
قال لها : « ياابنتي ـ والله ـ ما أردت أن أُزوّجك إلاّ خير أهلي » ، ثمّ قام وخرج
رسول الله (صلى الله عليه وآله)([507]).
وعن ابن عباس ، قال : لمّا زفّت فاطمة سلام الله عليها إلى علي (عليه
السلام) كان النبي (صلى الله عليه وآله) أمامها ، وجبريل عن يمينها ،
وميكائيل عن يسارها وسبعون ألف ملك خلفها ، يسبّحون الله ويقدّسونه حتّى طلع الفجر([508]).
بيت علي وفاطمة من أفاضل بيوت الأنبياء
قال السيوطي في الدرّ المنثور : في ذيل تفسير قوله تعالى : (فِي بُيُوت
أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)([509]).
وأخرج ابن مردويه وبريدة ، قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه
الآية : (فِي بُيُوت أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ) .
فقام إليه رجل فقال : أيّ بيوت هذه يارسول الله ؟
قال : بيوت الأنبياء .
فقام إليه أبو بكر فقال : يارسول الله هذا البيت منها عليّ وفاطمة ؟
قال : نعم من أفاضلها([510]).
زواج علي (عليه السلام) من فاطمة (عليها السلام)
تزوّج الإمام علي (عليه السلام) وعمره خمس وعشرون سنة وتزوّجته فاطمة
(عليها السلام)وعمرها تسع سنين وكان الله سبحانه هو الذي أمر بزواج فاطمة من
الإمام علي (صلى الله عليه وآله) إذ جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله)
: « والذي بعثني بالحقّ ، ما تكلّمت في هذا حتّى أذن لي الله فيه من السماء » .
فقالت فاطمة (عليها السلام) : « لقد رضيت ما رضي الله ورسوله »([511]).
وقال عمر بن الخطّاب : نزل جبريل فقال : « يامحمد إنَّ الله يأمرك أنْ
تزوّج فاطمة ابنتك من الإمام علي »([512]).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله) لفاطمة (عليها السلام) : « فوالله ما
زوَّجتكِ أنا ، بل اللهُ زوّجك به ...»([513]).
وقال العلاّمة المعتزلي : إنَّ إنكاحه (علياً) إيّاها ما كان إلاّ بعد
أن أنكحه الله تعالى إيّاها في السماء بشهادة الملائكة([514]).
وكان النبي (صلى الله عليه وآله) قد قال : « لو لم يُخلق الإمام علي ما
كان لفاطمة كفؤ »([515]).
ويذكر أنّ فاطمة (عليها السلام) هي البنت الوحيدة للنبي (صلى الله عليه
وآله) ، أمّا زينب ورقيّة فهنّ ربائب النبي (صلى الله عليه وآله) .
لذلك رغب الصحابة في الزواج منها مع وجود زينب (بعد طلاقها من أبي
العاص) .
وقال عمر : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : « كلّ نسب وسبب
ينقطع يوم القيامة ما خلا سببي ونسبي ، وكلّ بني أُنثى فعصبتهم لأبيهم ما خلا ولد
فاطمة فإنّي أبوهم ، وأنا عصبتهم »([516]).
وبيَّن الله تعالى منزلة بعض الصحابة بشكل واضح في قضيّة الزواج من
فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، إذ قال النبي (صلى الله عليه وآله) :
« فاطمة سيّدة نساء العالمين وفاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة »([517]).
ولأجل تلك المنزلة الساميّة لفاطمة (عليها السلام) فقد رفض النبي (صلى
الله عليه وآله) طلب أبي بكر وعمر بن الخطّاب وعبدالرحمن بن عوف الزواج منها([518]).
وتدلّ هذه المناقب على فضل الإمام علي (عليه السلام) على باقي المسلمين
، ومنزلته الساميّة في الأرض والسماء ، التي لا يسبقه فيها إلاّ محمّد المصطفى
(صلى الله عليه وآله) . وهذه الفضائل الحميدة لوصي المصطفى متواترة وصحيحة السند
وتختلف عن المناقب المزيّفة للشيوخ الثلاثة التي أمر بها طغاة بني أُميّة لدحر
منزلة أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) ، ورفع منزلة أفراد الحزب القرشي !
جاء في اللآلئ المصنوعة عن العقيلي والطبراني معاً : خطب أبو بكر وعمر
فاطمة فقال النبي (صلى الله عليه وآله) (لعلي) : « هي لك لَسْتَ بدجّال »([519]).
وقوله (صلى الله عليه وآله) فيه تعريض بالشيخين لذلك هاج ابن الجوزي
فقال : موضوع ، موسى (الراوي) من الغلاة في الرفض .
لكنّ السيوطي قال : روى له أبو داود (صاحب السنن) ووثّقه ابن معين وأبو
حاتم والهيثمي . فأُلقم ابن الجوزي حجراً !
وتزوّج الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بفاطمة الزهراء (عليها
السلام) وعمرها تسع سنين ، في السنة الثانية للهجرة([520]).
ولمّا عتب الخاطبون على النبي (صلى الله عليه وآله) لرفضه زواجهم
بفاطمة (عليها السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « والله ما أنا
منعتكم وزوّجته ، بل الله منعكم وزوّجه »([521]).
فيكون هذا الزواج بين سيّد المسلمين (عليه السلام) وسيّدة نساء
العالمين (عليها السلام) بأمر من الله سبحانه وتعالى ، فجاءت تلك الذريّة الصالحة
التي تبدأ بالحسن ثمّ الحسين ، وتختم بمهديّ هذه الأُمّة (عليه السلام)([522]).
وكانت فاطمة (عليها السلام) طاهرة بنصّ القرآن الكريم وكلَّمت أُمّها
في بطنها ولم ترَ دماً قطّ في حيض ولا نفاس([523]).
مَن هو الصهر الوحيد للنبي (صلى الله عليه وآله) ؟
لقد أنزل بنو أُمية نقمتهم وحقدهم على خديجة فلم يذكروها بخير بل جعلها
راويتهم أبو هريرة في الجنّة في منزل من قصب([524])!
ولو كانت خديجة أُمَّاً حقَّاً لزوجتي عثمان الأموي رقيّة وأُمّ كلثوم
لأعطوها مكانتها اللازمة وأظهروا فضائلها !
ولكنّهم حاولوا الإستفادة من جاه وشرف رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لصالح عثمان الأموي فجعلوه ذا النورين ! وانتقصوا من جانب آخر خديجة ورسول الله
(صلى الله عليه وآله)حقداً منهم عليهما وعلى الإمام علي (عليه السلام) وفاطمة
(عليها السلام) .
ولم يحتجّ عثمان في حياته بأنّه صهر النبي (صلى الله عليه وآله) أبداً
، ولم يقل النبي (صلى الله عليه وآله) : عثمان صهري .
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) : « ياعلي
أُوتيت ثلاثاً لم يؤتهن أحد ولا أنا ، أُوتيت صهراً مثلي ولم أُوت أنا مثلي .
وأُوتيت صدِّيقة مثل ابنتي ، ولم أُوت مثلها (زوجة) .
وأُوتيت الحسن والحسين من صلبك ولم أُوت من صلبي مثلهما ولكنّكم منّي ،
وأنا منكم »([525]).
فهذا أوضح دليل على أنّه (عليه السلام) الصهر الوحيد للنبي (صلى الله
عليه وآله) .
وقال عمر : لقد أُوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لاَن تكون لي واحدة منهنّ
أحبّ إلىَّ من حمر النعم : زوّجهُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ابنته وولدت له
و...([526]).
فلم يقل عمر : زوّجهُ إحدى بناته بل قال زوّجهُ إبنته ، وهذا يفضح سعة
الهجمة الأموية على فضائل أهل البيت (عليهم السلام) وكثرة أكاذيبهم ولو كان عثمان
صهراً للنبي (صلى الله عليه وآله) لما قال الرسول لعلي (عليه السلام) :
« أُوتيت ثلاثاً لم يؤتهن أحد » .
وقال الجوهري واصفاً قول الرسول (صلى الله عليه وآله) في الغدير : «
علي الرضى صهري فأكرم به صهراً »([527]).
ومن الأدلّة الأُخرى على كون الإمام علي (عليه السلام) صهراً وحيداً
للنبي (صلى الله عليه وآله) :
عن أبي ذرّ الغفاري قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « إنّ الله
تعالى اطّلع إلى الأرض اطلاعة من عرشه ـ بلا كيف ولا زوال ـ فاختارني نبياً ،
واختار علياً صهراً وأعطى له فاطمة العذراء البتول ، ولم يعطِ ذلك أحداً من
النبيين . وأُعطي الحسن والحسين ولم يعطِ أحداً مثلهما ، وأُعطي صهراً مثلي وأُعطي
الحوض ، وجعل إليه قسمة الجنّة والنار ، ولم يعطِ ذلك الملائكة »([528]).
ولو كان عثمان صهراً للنبي (صلى الله عليه وآله) أيضاً لذكره !
إذن حشروا عثمان صهراً للنبي (صلى الله عليه وآله) كذباً وزوراً في زمن
حكم معاوية والأمويين ولم ينطق بها عثمان أبداً في زمن حكمه .
وقال عبدالله بن عمر لأحد الخوارج : أمّا عثمان فكان اللهُ عفا عنه
وأمّا أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه . وأمّا علي ، فابن عمّ رسول الله (صلى الله عليه
وآله) وختنه ، وأشار بيده ، فقال هذا بيته حيث ترون([529]).
فاقتصر ابن عمر على وصف الإمام علي (عليه السلام) بختن رسول الله ، ولو
كان عثمان ختنه أيضاً لذكره ، ولأسرع البخاري إلى ذكر ذلك !
فيتوضّح أنّه ختنه وصهره (صلى الله عليه وآله) من الأوصاف المخصوصة
بأمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
والجدير بالذكر أنّ لقب ذي النورين قد اضفاه الأمويون متأخّراً على
عثمان ، ولم يكن له ذكر في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) والخلفاء . ففي زمن
حكومة عثمان لم يكن له ذكر .
وفي أيّام حصار المسلمين لبيت عثمان لم يحتجّ بنو أُميَّة وأعوان عثمان
على الجماهير الغاضبة بلقب ذي النورين ، ولو كان له واقع لاستخدمه الأمويون خير
استخدام ولقاله عثمان لعائشة أثناء صراعهما الدامي والعنيف !
لقد وفّق الله تعالى علياً للصفات الجميلة الرائعة في كلّ شيء إذ قال
له النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) : « ياعلي أُوتيت ثلاثاً لم يؤتهن
أحد ولا أنا : أُوتيت صهراً مثلي ولم أُوت أنا مثلي ، وأُوتيت زوجة صدّيقة مثل
فاطمة ولم أُوت مثلها زوجة ، وأُوتيت الحسن والحسين من صلبي ولم أُوت من صلبي
مثلهما ولكنّكم منّي وأنا منكم »([530]).
هل كانت فاطمة (عليها السلام) بنتاً وحيدة للنبي (صلى الله عليه وآله)
؟
المطالع للسيرة النبويّة بدقّة يدرك وجود رابطة مصاهرة بين النبي محمّد
(صلى الله عليه وآله)والإمام علي (عليه السلام) من خلال زياراته المتكرّرة لبيت
فاطمة (عليها السلام) .
فبعد نزول آية التطهير بقي ستّة أشهر يمرّ على بيت فاطمة (عليها
السلام) ويقول : « السلام عليكم ياأهل بيت النبوة »([531]).
وذكر رسول الله فاطمة (عليها السلام) كثيراً في أحاديثه فقد قال : « من
تسرق قطعت يدها ، ولو كانت فاطمة بنت محمّد » . وذكر كثيرون آلاف الروايات عن
رابطة فاطمة (عليها السلام) بأبيها :
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « فاطمة أُمُّ أبيها »([532]).
وروى ابن عباس ; إنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان إذا قَدِم من سفر
قَبَّل ابنته فاطمة (عليها السلام) »([533]).
ولم نجد ذكراً لمروره (صلى الله عليه وآله) على بيت زينب ولا رقيّة ولا
أُمّ كلثوم !
وجاء عن ابن مسعود : بينما رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند البيت
وأبو جهل وأصحاب له جلوس وقد نحرت جزور بالأمس ، قال أبو جهل : أيَّكم يقوم إلى
سلا جزور([534])بني
فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد ؟
فانبعث أشقى القوم فأخذه ، فلمّا سجد النبي (صلى الله عليه وآله) وضعه
بين كتفيه فاستضحكوا ، وجعل يميل على بعض وأنا قائم أنظر لو كانت لي
منعة طرحته عن ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
والنبي (صلى الله عليه وآله) ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر
فاطمة (عليها السلام) ، فجاءت وهي جُويرية ، فطرحته عنه ثم أقبلت عليهم تشتمهم »([535]).
فأين أُمّ كلثوم ؟
وقال المقدسي : كلّ ولد النبي (صلى الله عليه وآله) ولدوا في الإسلام([536]).
وجاء عن معركة أُحد : جرح وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكسرت
رباعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، فكانت فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله تغسل
الدم ، وكان الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يسكب عليها بالمجن([537]).
وقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من غزاة له فدخل المسجد فصلَّى
فيه ركعتين وكان يعجبه إذا قدم أن يدخل المسجد فيصلّي فيه ركعتين ، ثم خرج فأتى
فاطمة ، فبدأ بها قبل بيوت أزواجه ، فاستقبلته فاطمة (عليها السلام) وجعلت تقبِّل
وجهه وعينيه وتبكي([538]).