الدلائل والعبر
كانت أوّل غزوة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في المدينة المنوّرة سرية حمزة بن عبدالمطلب الى سيف البحر لاعتراض قافلة من قوافل قريش بقيادة أبي جهل وفيها ثلاثمائة رجل  .

إنّ إرسال النبي (صلى الله عليه وآله) لحمزة فيه معاني كثيرة ، أوّلها حثّ المسلمين على الجهاد ، ليختلط القول بالعمل في مسيرة النضال ولو امتنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن إرسال أرحامه إلى القتال لانتشر الجبن في صفوف الأنصار والمهاجرين .

وبعثه (صلى الله عليه وآله) لحمزة فيه دلالة واضحة على إيمان النبي (صلى الله عليه وآله) وحمزة بالجهاد والشهادة في سبيل الله تعالى .

وثاني راية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت لعبيدة بن الحارث بن المطّلب بن عبد مناف  .

ثمّ جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) حاملاً للوائه في كل المعارك الكبيرة . وهذه التضحية المتواصلة بحمزة والإمام علي (عليه السلام) وبنفسه (صلى الله عليه وآله) هي الطاقة المحرِّكة للمسلمين للحرب والعطاء .

وفي هذا المنهج المخلص يكمن سرّ انتصار رسول الله (صلى الله عليه وآله) في معركة بدر الكبيرة وانتشار الإسلام في الحجاز والعالم أجمع ، فذلك الفوز العسكري العظيم جعل القبائل تنظر لهم باحترام ، فهبطت منزلة قريش في أذهان الكثير وبدأ العدّ التنازلي لطغاة مكّة  .

ولو كتب لكفّار مكّة الانتصار في بدر لتبدَّلت الكثير من الموازين في المنطقة .

ولأهميّة المعركة فقد ألحَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمسلمون في الدعاء والتضرّع إلى الله تعالى بالنصر ، فأنزل الله عزّوجلّ ملائكته لدعم المؤمنين .

فتوفّرت شروط الفوز المتمثّلة في الإيمان والدعاء ، وطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، والقتال ببسالة ، والتضحية وتوفّرت أركان الهزيمة في الكافرين .

وأطاع المهاجرون والأنصار رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خطَّته الحربية وبذلوا دماءهم في هذا السبيل ، فكانت هجمتهم قويّة كشلاّل هابط من جبل ، فاندحر المشركون رغم كثرتهم المساوية لثلاثة أضعاف المسلمين ، وانتصر الموحّدون .

وبقيت هذه المعركة وصمة عار في جبين المشركين ، وفضيلة في سجل الموحدِّين . فحاول الكفّار وأولادهم الانتقام لذلك مرّات عديدة ، وفي كل مرّة تزداد موبقاتهم وتهبط منزلتهم ، إذ قال يزيد بن معاوية عن قتله للحسين (عليه السلام) في كربلاء .

ليتَ أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل

لست من خندف إن لم أنتقم ***  من بني أحمد ما كان فعل([657])

والعبرة في هذه الحادثة الحسينية انتصار ثان للمسلمين وانكسار آخر للقرشيين فمجّد الناس حسيناً (عليه السلام) وبكوه وجعلوا منهجه مشروعاً لحياتهم ، وعيَّنوه قدوة لطريقهم فكان الانتصار في بدر وكربلاء للأخلاق والأهداف .

فأصبح الاندحار القرشي في كربلاء وصمة عار أُخرى في جبينهم لا تغسل أبداً .

فيرى المطالع اليوم انتصارين حضاريين للمسلمين في بدر وكربلاء .

والانتصار الحضاري الآخر الذي حقَّقه المسلمون في بدر هو في معاملتهم الحسنة لأسرى المشركين في حين كانت قبائل العرب تسيىء معاملة الأسرى وتقتلهم .

إذ أطلق رسول الله سراح الشاعر أبا عزّة عمرو الجمحي من أجل بناته ، رغم بقائه على الكفر ! وأُطلق سراح من علَّم صبيان المسلمين القراءة والكتابة وأُطلق سراح من أسلم منهم . ومن دروس معركة بدر غضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) على زوجته سودة بنت زمعة كما غضب نوح ولوط وصالح (عليهم السلام) على زوجاتهم .

وسرّ غضبه (صلى الله عليه وآله) يكمن في رغبتها بانتصار جيش الكافرين على المسلمين !

وكانت سودة أُمِّ المؤمنين قد قالت لأسرى قريش في المدينة .

أعطيتم بأيديكم كما تفعل النساء ألا متم كراماً([658])!!؟

وشهدت الأحداث بعد معركة بدر زواج الإمام علي (عليه السلام) أفضل إنسان بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من فاطمة سيّدة نساء العالمين بإذن إلهي ومباركة نبوية ليولد منهما الذرّية الصالحة المتمثّلة في أهل البيت (عليهم السلام) ، الذين وصفهم نبي البشرية بسفينة نوح وباب حطّة الذي من دخله غفر الله ذنبه([659]).

وأعطى الله تعالى علياً (عليه السلام) كرامة أُخرى متمثّلة في سدّ أبواب المسجد إلاّ بابه ، لتأكيد طهارته النازلة في القرآن الكريم في قوله تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)([660]).

ولمّا كثرت كرامات الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أصبح قدوة للموحّدين ، وأضحى هو وفاطمة وأولادهم من أهل البيت (عليهم السلام) قصة حضارية في التجسيد الكامل والتطابق التام بين الصورة والسيرة الإنسانية . كما قال الله تعالى في كتابه  : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ)([661]).

(إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَه إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)([662]).

وإليك بعض الآيات النازلة في حقهم والمبيِّنة لمسيرتهم الأنسانية :

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيَْمانَ .... وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى)([663]).

ومعلوم أنّ عيسى إنّما انتسب إلى إبراهيم بالأُمّ لا بالأب فثبت أنّ ابن البنت قد يسمّى ابناً فتدلّ الآية على أنّ الحسن والحسين (عليهما السلام) من ذرّية رسول الله (صلى الله عليه وآله)([664]).

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا)([665]).

أخرج الثعلبي في تفسيرها عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه قال : « نحن حبل الله  »([666]).

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) النازلة في حقّ أهل البيت (عليهم السلام)([667]).

(قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وهي نازلة في حقّ أهل البيت  (عليهم السلام)([668]).

أمّا يهود بنى قينقاع فكان بإمكانهم العيش في المدينة في دعة وأمان إستناداً إلى المعاهدة التي أثبت بموجبها رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمسلمون اتِّباعهم لها وتمسّكهم ببنودها .

إستناداً إلى الأخبار الصحيحة الموجودة عندهم في التوراة وأحاديث موسى  (عليه السلام) في نبوّة محمّد (عليه السلام) وضرورة اتّباعه .

ولكنّهم واعتماداً على نظريتهم السابقة في الغدر فقد بغوا وفسدوا فأذاقهم الله تعالى العذاب الأليم في الدنيا والآخرة ، وجعلهم عبرة لمن اعتبر . إذ هزمهم النبي  (صلى الله عليه وآله) ورايته بيد علي (عليه السلام) .

ولمّا نزل بهم العذاب وندم بعضهم أعاد يهود بني نضير وبني قريظة الكرّة ثانية وثالثة ، فغدروا بالمسلمين وهم يعيشون في كنفهم وحمايتهم ، فجزاهم رسول الله  (صلى الله عليه وآله) ما يستحقّونه عملاً بالعدل الإلهي .

ولم تكفِ اليهود هذه العِبر الكثيرة والدلائل الواضحة على نبوّة رسول الله فغدروا للمرّة الرابعة في خيبر في محاولتهم تأليب قريش على المسلمين ، فاضطر خاتم الأنبياء للنزول في ساحاتهم وكفّهم عن دسائسهم ، فحصل ذلك بقوّة الله عزَّوجلّ وسواعد المؤمنين .

ولكنّ إلى يومنا هذا لم تقف اليهود عن فسادها وإجرامها وكيدها بالإنسانية جمعاء ، وما دور البغاء والقمار والإعلام والسينما الفاسدة إلاّ مراكز يهودية لإفساد الحياة المدنيّة .

ويكفي معرفة أنّ الماسونية بنت من بنات الصهيونية لدرك المدى الذي وصلته هذه النطفة الفاسدة من خطر .

وطبقاً للحديث النبوي : لا يلدغ المؤمن من جحر مرَّتين . نفهم بأنّ هؤلاء لا تنفع معهم المعاهدات السياسية والأمنية بل يتّخذونها جسوراً لتدمير ما وصلوا إليه  .

 

الفصل الثاني : معركة أُحد

خرجت قريش إلى معركة أُحد وهم في ثلاثة آلاف مقاتل ، وفيهم سبعمائة دارع ، ومئتا فارس ، وألف بعير على رأس إثنين وثلاثين شهراً من الهجرة النبوية .

وكان معهم أبو عامر الفاسق من أهل المدينة وهذه المعركة تطرح أسئلة كثيرة منها هل رغب النبي (صلى الله عليه وآله) في الحرب خارج المدينة أم في داخلها ؟ وما هي الأسباب الحقيقيّة لهزيمة المسلمين ؟

لمّا أُصيب يوم بدر من كفّار قريش أصحاب القليب ، ورجع فلّهم إلى مكّة ورجع أبو سفيان بن حرب بعِيره (قافلته) مشى عبدالله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أُميّة في رجال من قريش ممّن أُصيب آباؤهم واخوانهم وأبناؤهم يوم بدر فكلّموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا :

يامعشر قريش إنَّ محمّداً قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلّنا ندرك منه ثأراً بمن أصاب منّا ففعلوا .

وقال ابن سعد : لمّا رجع من حضر بدراً من المشركين إلى مكّة وجدوا العير التي قدم بها أبو سفيان بن حرب موقوفة في دار الندوة فمشت أشراف قريش إلى أبي سفيان فقالوا : نحن طيّبوا أنفس أن تجهّزوا بربح هذه العير جيشاً إلى محمّد .

فقال أبو سفيان : فأنا أوّل من أجاب إلى ذاك وبنو عبد مناف([669]).

فباعوها فصارت ذهباً ، وكانت ألف بعير والمال خمسين ألف دينار ، فسلّم إلى أهل العير رؤوس أموالهم وأخرجوا أرباحهم ، وكانوا يربحون في تجاراتهم لكلّ دينار ديناراً .

قال ابن إسحاق ففيهم أنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)([670]).

وكانت هزيمة قريش محرزة فكلّ واحد من الصحابة يقول : والله إني لأنظر إلى هند وصواحبها منهزمات وما دون أخذهنّ شيء لمن أراده ولكن لا مردّ لقضاء الله([671]).

والمنافقون هم الذين أرجعوا سبب خسارة المسلمين إلى تركهم رأي ابن أبي سلول بالبقاء في المدينة .

إذ قال المنافقون : (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا)([672]).

وكانت وقعة أُحد في شوّال لسبع ليال خلون منه في السنة الثالثة للهجرة .

ورأى النبي (صلى الله عليه وآله) في منامه : أنّ في سيفه ثلمة وأنّ بعيراً يُذبح له ، وأنّه أدخل يده في درع حصينة ; وتأوّلها نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله) أنّ نفراً من أصحابه يُقتلون ، وأنّ رجلا من أهل بيته يصاب ، وأنّ الدرع المدينة .

حتّى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأُحد انخزل([673]) عنه عبدالله بن أُبي بثلث الناس وقال : أطاعهم وعصاني ما ندري على ما نقتل أنفسنا ، فرجع بمن تبعه من قومه من أهل النفاق والريب ، واتّبعهم عبدالله بن عمرو بن حرام يقول : ياقوم أذكّركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيّكم عندما حضر عدوّهم .

قالوا : لو نعلم تقاتلون لما أسلمناكم ولكنّا لا نرى أنّه يكون قتال . فلمّا استعصوا وأبوا إلاّ الإنصراف قال : أبعدكم الله أعداء الله ، فسيغني الله عنكم نبيّه .

فلمّا رجع عبدالله بن أُبي بثلاثمائة سقط في أيدي الطائفتين من المسلمين ، وهمّا أن يقتتلا وهما بنو حارثة وبنو سلمة . جاء أنّهما إختلفا في قتال المنافقين العائدين ونزلت آية : (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا)([674]).

وقال الأنصار للرسول (صلى الله عليه وآله) : يارسول الله ألا نستعين بحلفائنا من يهود ؟

فقال (صلى الله عليه وآله) : لا حاجة لنا فيهم([675]).

وكان هناك حلف بين أهل المدينة واليهود لصدّ المهاجمين ورغم هذا لم يرغب النبي  (صلى الله عليه وآله) بالاستفادة من الكفّار قائلاً : « لا أستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك  »  . ولمّا تبعه مشرك في معركة بدر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أتؤمن بالله ؟

قال : لا .

قال : فارجع فلن أستعين بمشرك([676]).

جبل أُحد
واختار رسول الله (صلى الله عليه وآله) منطقة جبل أُحد بحيث جعل جيشه جبل أُحد في ظهورهم والعدوّ من أمامهم .

وقال للرماة الذين يحمون جيش المسلمين : احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا([677]).

أبو دجانة لم يقتل هنداً في المعركة ، لماذا ؟
وظاهر الرسول (صلى الله عليه وآله) يومئذ بين درعين ، وأخذ سيفاً فهزّه وقال : من يأخذه بحقه  ؟

فقال عمر بن الخطّاب : أنا . فأعرض (صلى الله عليه وآله) عنه .

وقال الزبير : أنا ، فأعرض عنه ، فَوجَدا في أنفسهما .

فقام أبو دجانة سمّاك بن خرشة فقال : وما حقَّه يارسول الله ؟

قال النبي (صلى الله عليه وآله) : تضرب به حتّى ينثني .

فقال : أنَا آخذه بحقّه ، فأعطاه إياه([678]).

وكان أبو دجانة عند حسن ظنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ رفع سيفه فوق رأس هند بنت عتبة ثم تركها لمّا صرخت ولم يجبها أحد([679]).

فلم يقتل أبو دجانة هنداً آكلة الأكباد فى أرض المعركة لأنّها امرأة وأوامر النبي تقتضي عدم قتل النساء والأسرى والجرحى والفارّين فى حين أقدم عمر على قتل فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله) لامتناعها عن البيعة بأمر أبي بكر([680]).

ولأنّ عمر فرَّ من المواجهة ولم يقتل كافراً قطّ وحزن على مصرع الكافرين فى بدر وأعماله السيّئة الأُخرى لم يعطه النبي سيفه بل أعطاه الى أبي دجانة الذي بقي مؤمناً مخالفاً للكفّار ورجال السقيفة وحارب جيشي الجمل ومعاوية .

وقد ذكر الطبري شرط النبي (صلى الله عليه وآله) في إعطاء سيفه وحذف اسم عمر خيانة للأمانة . قائلا : قال الزبير عرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيفاً في يده يوم أُحد ، فقال : من يأخذ هذا السيف بحقّه ؟

قال : فقمت ، فقلت : أنا يارسول الله ، قال : فأعرض عنِّي ثم قال : من يأخذ هذا السيف بحقّه ؟

فقمت فقلت : أنا يارسول الله فأعرض عنِّي ، ثم قال : من يأخذ هذا السيف بحقّه  ؟

فقام أبو دجانة سماك بن خرشة ، فقال : أنا آخذه بحقّه ، وما حقّه ؟

قال (صلى الله عليه وآله) : حقّه ألاّ تقتل به مسلماً ، وأن لا تَفِرَّ به عن كافر . قال : فدفعه (صلى الله عليه وآله)إليه([681]).

وهذا الأمر من دلائل نبوّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في امتناعه من إعطاء سيفه لعمر والزبير إذ فرَّا في معركة أُحد وحنين ، وشارك الزبير في قتل سبعين مؤمناً في ليلة باردة بعد أن نقض اتّفاقه مع والي البصرة سهل بن حنيف على الهدنة([682])!

وقبل المعركة حاول أبو سفيان خداع الأنصار قائلاً : خلّوا بيننا وبين ابن عمّنا فننصرف عنكم فلا حاجة بنا إلى قتالكم فردُّوا عليه بما يكره([683]).

وكان شعار المسلمين أمت ، أمت .

وأمَّر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عبدالله بن جبير على الرماة وهم خمسون رجلا ، ولمّا حملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرّات كلّ ذلك تنضح بالنبل فترجع مفلولة .

شروع القتال
وحمل المسلمون على المشركين فنهكوهم قتلا ، وكان لواء المشركين عند بطل قريش طلحة بن عثمان من بني عبدالدار . ولواء المسلمين مع الإمام علي بن أبي طالب  (عليه السلام)([684]).

وكان مع المشركين خمس عشرة امرأة يضربن بالدفوف خلف الرجال يحرّضنهم فقالت هند :

ويهاً بني عبدالدار *** ويهاً حماة الأدبار

ضرباً بكلّ بتّار

وتقول :

إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق *** أو تدبروا نفارق فراق غير وامق([685])

قتل علي (عليه السلام) لحاملي ألوية الكفر
واقتتلوا قتالا شديداً ، وقتل حامل لواء المسلمين الإمام علي بن أبي طالب  (عليه السلام) حملة لواء المشركين من بني عبدالدار ، فسقط لواءهم ولم يجرؤ على حمله أحد([686]).

وطلب حامل لواء المشركين طلحة بن عثمان المبارزة فتقدّم إليه الإمام علي  (عليه السلام).

فقد كان طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين وفارسهم الأوّل قد قال : يامعشر أصحاب محمّد إنّكم تزعمون أنّ الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنّة ، فهل منكم مَنْ أعجله بسيفي إلى الجنّة أو يعجّلني بسيفه إلى النار ؟

فقام إليه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

فقال طلحة : لقد علمتُ ياقضيم أنّه لا يجسر علىَّ أحد غيرك ، فصرعه الإمام علي (عليه السلام) فوقع كالثور يخور في دمه (كان الإمام علي (عليه السلام) في صباه في مكّة يقضم آناف وآذان الصبيان المهاجمين لرسول الله (صلى الله عليه وآله))([687]).

وجاء أيضاً : فضربه على رجليه فقطعهما ، فكشف طلحة عورته . وحلَّفه بالرحم ألاّ يقتله فتركه الإمام (عليه السلام)([688]).

المقتولون بيد الإمام (عليه السلام) في أُحد
إنّ قوّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام) ليست في الشجاعة فقط بل في ربط الشجاعة بالأخلاق ، فأخلاق الإمام (عليه السلام) تتمثّل في عدم قتل الفارّ والأسير ومن كشف عورته . فتقدّم عثمان بن أبي طلحة وأخذ الراية فقتله الإمام علي (عليه السلام) .

ثم أخذ الراية أبو غدير بن عثمان بن أبي طلحة فقتله الإمام علي (عليه السلام) .

ثم أخذ الراية عبدالله بن أبي جميلة بن زهير فقتله الإمام  علي (عليه السلام) .

ثم أخذ الراية أبو سعد بن أبي طلحة .

قائلا : أنا قاصم من يبارز برازاً ، فلم يخرج إليه أحد ، فقال : ياأصحاب محمّد زعمتم أنّ قتلاكم في الجنّة وأنّ قتلانا في النار كذبتم واللات ، لو تعلمون ذلك حقّاً لخرج إلىَّ بعضكم ، فخرج إليه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)  فاختلفا ضربتين ، فضربه الإمام علي فقتله([689]).

وهو ثاني من كشف عورته أمامَ علىٍّ (عليه السلام)([690]).

ثم أخذها أرطأة بن شرحبيل فقتله الإمام  علي (عليه السلام) .

ثم أخذها مولاهم صواب فضربه أمير المؤمنين (عليه السلام) على رأسه فقتله .

ثم أخذ راية الكفّار شريح بن قانط فقتله الإمام علي (عليه السلام) .

وسقطت الراية إلى الأرض فأخذتها عمرة بنت علقمة الحارثية فقبضتها . وبلغ أصحاب اللواء المقتولون أحد عشر رجلاً قال الطبري وابن الزبير : كان الذي قتل حاملي اللواء الإمام علي (عليه السلام) ولولا لواء الحارثية أصبحوا يباعون في الأسواق بالثمن البخس([691]).

لذلك حقدت قريش على الإمام علي وآل الإمام علي (عليه السلام) واستمرّ هذا الحقد يغلي في دماء رجال الحزب القرشي إلى يومنا هذا فقتلوهم في مواطن عديدة منها كربلاء . فقالت فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) : إنّ ما جرى عليهم بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد كان بسبب الأحقاد البدرية والترات الأُحدية([692]).

وفرّ المشركون فراراً مرّاً ، وبقي خالد بن الوليد في فرقة من فرسان قريش منتظراً فرصة نزول الرماة من جبلهم .

فالذين قتلوا بسيف الإمام علي (عليه السلام) في معركة أُحد أيضاً الحكم بن الأخنس ، وأُميّة بن أبي حذيفة([693])، وعمرو بن عبدالله الجمحي وشيبة بن مالك([694]).

الملاحظ أنّ علياً (عليه السلام) وحده هجم على جيوش قريش وفرقها وقتل حاملي ألويتها  .

وذكر ابن هشام وابن الأثير وابن كثير : وفي معركة أُحد نادى أبو سعد بن أبي طلحة صاحب لواء المشركين علياً (عليه السلام) : أن هل لك ياأبا القضم في البراز من حاجة ؟

قال : نعم . فبرزا بين الصفَّين ، فاختلفا ضربتين ، فضربه عليٌ فصرعه ، ثم انصرف عنه ولم يُجهِزْ عليه ، فقال له أصحابه : أفلا أجهزت عليه ؟

فقال : إنّه استقبلني بعورته ، فعطفتني عنه الرحم ، وعرفت أنَّ الله عزّوجلّ قد قتله .

وجاء أنّ أبا سعد بن أبي طلحة خرج بين الصفّين ، فنادى : أنا قاصمٌ من يبارز برازاً ، فلم يخرج إليه أحدٌ ، فقال :

ياأصحاب محمّد ، زعمتم أنَّ قتلاكم في الجنة ، وأنَّ قتلانا في النار ، كذبتم واللات ، لو تعلمون ذلك حقّاً لخرج إليَّ بعضكم .

فخرج إليه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فاختلفا ضربتين ، فضربه عليٌ فقتله  .

وذكر السهيلي برواية الكَشِّي في تفسيره عن سعد : لمّا كفَّ عنه الإمام علي طعنته في حنجرته فدلع لسانه إليَّ كما يصنع الكلب ثم مات([695]).

إنّ أبا سعد بن أبي طلحة هو أوّل من كشف (من أبطال قريش) عورته أمام الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) طلباً للشفقة عليه بعد مصرعه ، والظاهر أنّه تعلّم ذلك من أفعال رفاقه في معركة بدر ، إذ قتل الإمام علي (عليه السلام) نصف قتلى المشركين .

وبعدما عُرِف الإمام علي (عليه السلام) بذلك شرع أبطال قريش في كشف عوراتهم أمام الإمام علي (عليه السلام) طلباً للشفقة وعلى رأس هؤلاء عمرو بن عبد ودّ العامري وعمرو بن العاص وبسر بن ارطأة([696]).

وقال ابن إسحاق : وقد قتل عليٌ بن أبي طالب طلحة بن أبي طلحة ، وهو يحمل لواء قريش ، والحكم بن أخنس بن شريق بن حميد بن زهير ، وأبا أُميَّة بن أبي حذيفة بن أبي المغيرة .

فيكون المقتولون سبعة عشر شخصاً بيد الإمام (عليه السلام) .

وشارك الشاعر أبو عزّة الجمحي في معركة أُحد بعد أن أسره النبي (صلى الله عليه وآله) في معركة بدر وأطلق سراحه لأجل بناته الخمسة آخذاً عليه العهود أن لا يشارك في حرب ضدّه .

ثمّ بقى يتجسّس أخبار المسلمين بعد معركة أُحد فعثر عليه الإمام علي (عليه السلام)فقتله .

ولم يكن أسيراً عند المسلمين لأنّ المسلمين لم يكن عندهم أسرى في أُحد .

هزيمة المسلمين ونجاة الجواسيس
كانت فرقة الرماة قد تركت أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الثبات فوق الجبل وحماية ظهر المسلمين فنزلت لجمع الغنائم ! فاستغلّ خالد وجنوده هذه الفرصة فهاجم المسلمين من الخلف وعادت فلول الكفّار فأطبقوا الحصار على المسلمين وقَتَل وحشي حمزة وقُتِل ثمانية وستون مسلماً ومن المشركين قُتِل إثنان وعشرون كافراً([697]).

ففرّ المسلمون إلى جبل أُحد ، وبقيت طائفة قليلة منهم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)([698]).

ولمّا دارت الدوائر على المسلمين قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « من فرَّ يوم الزحف فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير » .

واختلفت الأحداث في معركة أُحد ، إذ دارت الدوائر على المسلمين لعدم طاعتهم أوامر الرسول (صلى الله عليه وآله) ، فانهزموا من أرض المعركة ، مخلِّفين النبي (صلى الله عليه وآله) مع بعض المسلمين في وسط عسكر الكفّار !

وأجمعت الأخبار على إنهزام عمر وأبي بكر وعثمان ومعظم المسلمين من أرض المعركة ، وتركهم نبيّهم محمّداً (صلى الله عليه وآله) يلاقي سيوف قريش الحاقدة عليه وعلى الإسلام .

وذكر أبو القاسم البلخي أنّه لم يبق مع النبي (صلى الله عليه وآله) يوم أُحد إلاَّ ثلاثة عشر نفساً خمسة من المهاجرين : أبو بكر والإمام علي وطلحة وعبدالرحمن وسعد بن أبي وقّاص والباقون من الأنصار ... وأمَّا سائر المنهزمين فقد اجتمعوا على الجبل ، وعمر بن الخطّاب كان من أُولئك الفارّين ، كما في خبر ابن جرير([699]).

وذكر الفخر الرازي : (ومن المنهزمين عمر إلاّ أنّه لم يكن في أوائل المنهزمين ، ولم يبعد بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبي (صلى الله عليه وآله) ، ومنهم أيضاً عثمان انهزم مع رجلين من الأنصار ، يقال لهما : سعد ، وعقبة ، انهزموا حتَّى بلغوا موضعاً بعيداً ، ثمَّ رجعوا بعد ثلاثة أيام)([700]).

فهذا أحد الناجين المذكورين في العنوان .

وقد اعترف عمر بفراره في يوم أُحد ، إذ جاءت امرأة لعمر أيّامَ خِلافته ، تطلب بُرداً من بُرود كانت بين يديه ، وجاءت معها بنت لعمر ، فأعطى المرأة وردَّ ابنته . فقيل له في ذلك .

فقال : عمر إنَّ أب هذه ثبت في يوم أُحد ، وأب هذه (أي عمر) فرَّ يوم أحد ، ولم يثبت([701]) وهذه هي الصراحة .

والشيء الملفت للنظر نزول قرآن في هؤلاء المنهزمين : (إنَّ الذينَ تَوَلَّوا مِنكُم يَومَ التَقى الجمعانِ إنَّما استَزَلَّهُمُ الشيطانُ ببعض ما كَسَبوا)([702]).

وذكر ذلك الزمخشري : (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ) .

طلب منهم الزلل ، ودعاهم إليه ببعض ما كسبوا من ذنوبهم ومعناه : إنَّ الذين انهزموا يوم أُحد ، كان السبب في تولّيهم أنّهم كانوا أطاعوا الشيطانَ ، فاقترفوا ذنوباً فلذلك منعهم التأييد وتقوية القلوب حتَّى تولّوا .

وقال السيوطي : قال عمر : لمّا كان يوم أُحد هزمونا ، ففررت حتَّى صَعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنَّني أروى([703]).

وقال النيسابوري : الذي تدلّ عليه الأخبار في الجملة ، إنَّ نفراً قليلا تولّوا وأبعدوا ، فمنهم من دخل المدينة ، ومنهم من ذهب إلى سائر الجوانب ، ومن المنهزمين عمر([704]).

وكان خالد بن الوليد يُحدِّث وهو بالشام عن فرار عمر وعدم قتله له ! قائلا :

الحمد لله الذي هداني للإسلام ! لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطّاب حين جالوا وانهزموا يوم أُحُد ، وما معه أَحدُ ، وإنِّي لفي كتيبة خشناء ، فما عرفه منهم أحدٌ غيري ، فنكبت عنه ، وخشيت إن أَغريتُ به من معي أن يَصمُدوا له ، فنظرت إليه مُوجّهاً الى الشِّعب([705]). لكن لماذا لم يقتله ؟!

الجواب : كان عمر مأموراً بقتل رسول الله (عليه السلام) من قبل قريش قبل وبعد إسلامه وخالد عارف بذلك([706])!

وعلى أثر هذا التصريح الخطير قتل عمرُ خالداً في الشام([707]).

وقال الطبري : لمَّا قَتَلَ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أصحابَ الألوية ، أبصر رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) جماعة من مشركي قريش ، فقال لِعلي احمل عليهم ، فحمل عليهم ففرَّق جمعهم وقتل عمرو بن عبدالله الجمحي ، ثمَّ أبصر رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) جماعة من مشركي قريش ، فقال لعلي إحمل عليهم ، فحمل عليهم ففرَّق جماعتهم ، وقتل شيبة بن مالك أحد بني عامر بن لؤي .

فقال جبريل : يارسول الله إنّ هذه المواساة ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « إنَّه منِّي وأنا منه ، فقال جبريل : وأنا منكما فسمعوا صوتاً قال (صلى الله عليه وآله) إنّه جبريل يقول :

لا سيف إلاّ ذو الفقار *** ولا فتى إلاَّ علي([708])

وقد حذف ابن كثير اسم جبريل واسم الإمام علي (عليه السلام) من الرواية ! حسداً لوصي المصطفى([709]).

وكان ذو الفقار سيف الإمام علي (عليه السلام) أنزله جبرائيل فكان به يحارب وحليته من فضّة([710]) وقال ابن الأثير صار للنبي (صلى الله عليه وآله) فوهبه لعلي (عليه السلام)([711]).

إذن قال جبرائيل ذلك النداء مرّتين مرّة في بدر ومرّة في أُحد .

وكان ابن قميتة قد نادى قتلت محمّداً واللات والعزّى .

ووقع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لشقّه وشجّ رأسه وكسرت رباعيته وساح الدم غزيراً في وجهه وأُصيب أمير المؤمنين (عليه السلام) في وجهه ورأسه وصدره وبطنه ويديه ورجليه تسعون جراحة فتحاموه .

وكانت هند بنت عتبة في وسط العسكر فكلّما إنهزم رجل من قريش رفعت إليه ميلاً ومكحلة وقالت : إنما أنت أمرأة فاكتحل بهذا([712]).

وانتهت الهزيمة بجماعة من المسلمين فيهم عثمان بن عفّان وغيره إلى الأعوص فأقاموا به ثلاثاً . ثمَّ أتوا النبي (صلى الله عليه وآله) فقال لهم (صلى الله عليه وآله) حين رآهم : لقد ذهبتم فيها عريضة([713]).

وقال ابن كثير : وفرَّ عثمان بن عفّان وسعد بن عثمان رجل من الأنصار حتّى بلغوا الجَلعَب ، جبل بناحية المدينة ممّا يلي الأعوص ، فأقاموا ثلاثاً ، ثم رجعوا ، فزعموا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لهم : لقد ذهبتم فيها عريضة([714]).

وقد ذكر ابن كثير (والمؤرخون وأصحاب السنن ومنهم البخاري) فرار عثمان بن عفّان يوم بدر ، وأُحد ، وتغيّبه عن بيعة الرضوان ، لكنّه عذره بأعذار شتّى([715]) لا تنفع .

إنَّ فرار عثمان البيّن في معارك بدر وأُحد وحنين ، وتخوّفه من منازلة عمرو بن عبد ودّ العامري في معركة الخندق ، وعدم مشاركته في حروب الردّة ، والفتح في زمن أبي بكر وعمر وأيّام خلافته يثبت فراره في كلّ الحروب([716]).

والمجموعة التي استعدّت لطلب الأمان من أبي سفيان ، هي مجموعة عمر وأبي بكر الفارّين فوق الجبل ، وقد ذكر الذهبي هذه الحادثة قائلا : انهزم الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم أُحد فبقي معه أحد عشر رجلا سبعة من الأنصار ورجلين من قريش([717]).

والرجلان هما الإمام علي بن أبي طالب وأبو دجانة([718]).

وقال الدكتور مارسدن جونس في مقدّمة كتاب المغازي للواقدي ويظهر بوضوح أنّ النصّ في المخطوطة الأُمّ ، كان يذكر عثمان وعمر ، أو عمر وحده ، أو عثمان وحده ، ممَّن ولّوا الأدبار يوم أُحد ولكنّ الناسخ لم يقبل هذا في حقّ عمر أو عثمان ، فأبدل إسميهما أو اسم أحدهما بقوله : فلان([719]).

وذكر ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه عمر وعثمان بدل فلان من جملة الفارّين([720]).

وذكر البلاذري عن الواقدي اسم عثمان ، ولم يذكر عمر([721]).

وهذا من أدلّة عمل النسّاخ في تغيير السيرة النبويّة وفق أهوائهم ، وحذف مثالب رجال الحزب القرشي .

فرار ابن أبي وقّاص
وبعد أن ذكرت النصوص السابقة فرار سعد بن أبي وقّاص ذكره الحاكم عن سعد نفسه : لمّا جال الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تلك الجولة تنحّيت ، فقلت : أذود عن نفسي ، فإمّا أن استشهد وإمّا أن أنجو ... إلى أن قال : فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أين كنت اليوم ياسعد ؟

فقلت : حيث رأيت([722]).

فيكون سعد ممَّن فرَّ يوم أُحد أيضاً !

ولمّا رجع سعد بن أبي وقّاص من بئر معونة قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ما بعثتك قطّ إلاّ رجعتَ إليّ من بين أصحابك([723]).

ممّا يبيّن فراره في كلّ الحروب !!

وكان المثنّى بن حارثة الشيباني شجاعاً وبعدما قُتِل([724]) تزوّج سعد بن أبي وقّاص زوجته (سلمى بنت جعفر) فوجدت سلمى تراجعاً وجبناً من سعد في القادسية فقالت :

وا مُثَنَّياه ، ولا مُثَنَّى للمسلمين اليوم !

فلطمها سعد .

فقالت : أغَيْرَةً وجُبْناً !

فذهبت مثلا([725]). فعُرف جبن سعد في أمثال العرب !

وذكر محمد حسنين هيكل في كتابه : أنّ أبا بكر وعمر كانا ممَّن فرَّ في معركة أُحد([726]).

وكان رجال السقيفة كلّهم على هذه الوتيرة من الفرار في الحروب وعدم رغبة طغاة مكّة في قتلهم !!

ما نزل من القرآن في أُحد
قال  تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ)([727]).

نزلت في علي (عليه السلام) عندما دعاهم النبي (صلى الله عليه وآله) في اليوم الثاني من معركة أُحد فأخذ الإمام علي (عليه السلام) الراية([728]).

حامل لواء النبي (صلى الله عليه وآله) في مغازيه ؟
لقد شارك الإمام علي (عليه السلام) في كلِّ المعارك التي خاضها رسول الله (صلى الله عليه وآله) حاملا لواء الإسلام . ولم ينهزم في حرب قطّ وخلّفه رسول الله (صلى الله عليه وآله) على المدينة في حرب تبوك([729]).

وجاء في كتاب مستدرك الحاكم : عن ابن عبّاس أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) أربع ما هن لأحد : « هو أوّل عربي وأعجمي صلّى مع رسول الله  (صلى الله عليه وآله) ، وهو صاحب لوائه في كلّ زحف ، وهو الذي ثبت معه يومَ المهراس([730]) وفرّ الناس ، وهو الذي أدخله مسجده »([731]).

وعن مالك بن دينار قال : سألت سعيد بن جبير وإخوانه من القرّاء : من كان حامل راية رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟

قال : كان حاملَها الإمام علي (عليه السلام) .

وفي نصّ آخر : أنّه لمّا سأل مالك سعيد بن جبير عن ذلك غضب سعيد ، فشكاه مالك إلى إخوانه من القرّاء فعرَّفوه : أنَّه خائف من الحجّاج ، فعاد وسأله فقال : كان حاملها الإمام علي ، هكذا (عليه السلام) سمعت من عبداللهِ بن عباس([732]).

وقال ابن عبّاس : كان الإمام علي (عليه السلام) أخذ راية رسول الله يوم بدر .

قال الحاكم : وفي المشاهدِ كُلِّها([733]).

وعن الإمام علي (عليه السلام) أنَّه قال : « كُسِرت يدُه يومَ أُحد ، فسقط اللواء من يده ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : دعوه في يده اليسرى ، فإنَّه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة  »([734]).

وعن ثعلبةَ بن أبي مالك قال : كان صاحبَ راية رسول الله في المواطن كلّها ، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)([735]).

وكان الإمام علي (عليه السلام) حامل لواء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقاتل أصحاب ألوية المشركين ، فذكر ابن هشام في سيرته : وانكفأ علينا القوم بعد أن اصبنا أصحاب اللواء في أُحد ، حتّى ما يدنو معه أحدٌ من القوم([736]).

وذكر الطبري ذلك في تاريخه قائلا : لمّا قتل الإمام علي بن أبي طالب أصحاب الألوية ... قال جبريل :

لا سيْفَ إلاّ ذو الفَقَار *** ولا فتى إلاّ علي([737])

وذكر ابن الأثير في تاريخه ذلك الأمر عن أبي رافع([738]).

وذكر المؤرخون والرواة حمل الإمام علي (عليه السلام) للواء الإسلام في معارك النبي  (صلى الله عليه وآله)([739]).

وقضى الإمام علي بن أبي طالب على حامل راية الكفّار في حنين([740]).

ومرَّ سعد بن أبي وقّاص برجل يشتم علياً ، والناس حوله في المدينة ، فوقف عليه وقال : ياهذا ، على ما تَشتِم عليَّ بنَ أبي طالب ؟

ألم يكن أوّلَ من أسلَم ؟ ألم يكن أوّلَ من صلَّى مع رسول الله ؟ ألم يكن أزهد الناس ؟ ألم يكن أعلمَ الناس ؟ وذكر حتَّى قال : ألم يكن صاحِبَ راية رسولِ الله في غَزَواته([741]).

وقد قتل أبطال العرب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أمثال عمرو بن عبد ودّ العامري وبطلي اليهود الحارث ومرحب وبطل الشام في معركة صفّين حريث([742])وفرَّ منه معاوية وابن العاص وعبيدالله بن عمر وبسر بن أرطأة([743]).

وقال الإمام علي (عليه السلام) : « أنا الصدِّيق الأكبر لا يقولها بعدي إلاّ كاذب »([744]).

مقتل رقيّة بيد عثمان ومقتل الجاسوس الأموي بيد علي (عليه السلام)
هي رقيّة بنت هالة([745]) بنت  خويلد وخالتها خديجة ، ولمّا مات أبوها وأُمّها أصبحت ربيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

وتزوّجها في مكّة عتبة بن أبي لهب ، ثم طلّقها بأمر أبيه ، وأُمّه حمّالة الحطب([746]).

ثم طلب عثمان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يزوّجه رقيّة ويدخل الإسلام ، فتألّفه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وزوّجه إيّاها .

ثم ساءت علاقته بها مثلما ساءت علاقة عثمان برسول الله (صلى الله عليه وآله) والإمام علي  (عليه السلام) وعمّار بن ياسر وصحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يذبّ عثمان في الإسلام كما ذاب عمار وسلمان والمقداد وأبو ذرّ وسعد بن عبادة ففي معركة بدر امتنع عثمان عن المشاركة فيها فعيّره بذلك عبدالرحمن بن عوف وابن مسعود والمقداد([747]).

واستنقاص هؤلاء الصحابة لعثمان يثبت فراره ولا يترك المجال للشكّ في هذا الموضوع إذ استمرّوا في تعييره بذلك الأمر على مدى سنوات عديدة ولم يتخلّص عثمان من تلك القضيّة حتّى في أواخر سني عمره .

ولا يمكن اجتماع هؤلاء الصحابة على الكذب خاصّة وإنّ جميع كتب السيرة والحديث والتفسير تتفق على فرار عثمان في معركة بدر([748]).

ولم تتمكّن المؤسّسة الأموية من الوقوف أمام تلك الأحاديث المتواترة .

وقد حدثت معركة بدر في السنة الثانية للهجرة .

وفي السنة الثالثة للهجرة حدثت معركة أُحد ، وفي تلك السنة فرّ عثمان بن عفّان فراراً لم يفرّه باقي الصحابة إذ عاد بعد نهاية الحرب بثلاثة أيّام لذهابه إلى منطقة الجلعب فقال له ولصحبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لقد ذهبتم بها عريضة([749]).

وفي هذه الحادثة الثانية أيضاً كانت الأحاديث متواترة والأخبار شائعة بما لا مجال للشكّ والطعن فيها فذكر فرار عثمان في معركة أُحد الكتّاب الأمويون وغيرهم  .

فأصبح عثمان الأموي معروفاً بالهزيمة بين صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن الطبيعي أن يكون مهاناً ومطروداً عن المنزلة الرائدة والفاضلة التي حصل عليها سائر المسلمين المشاركين في تلك المعركتين .

ومن الطبيعي أن تكون نظرة المسلمين له نظرة شك وريبة سيّما وإنّه من أعوان القرشيين عامّة والأمويين خاصّة ، ودعمت هذه النظرية وجود أبي سفيان الأموي زعيماً لقريش وقائداً لجيشها .

فكثرت وازدادت النقمة الإسلامية على عثمان الفارّ في معركتين عظيمتين بين الموحّدين والكافرين وشاعت الطعون عليه فلم يتمكّن من القضاء عليها حتى في أيّام حكومته ، رغم مرور أكثر من ثلاثين سنة على هاتين الواقعتين .

ورغم القوّة القاهرة التي كان يتمتّع بها والمعتمدة على البطش والقتل والتبعيد وقطع الموارد المالية والطرد من المناصب الحكومية عيّره الصحابة في خلافته بإنتهاكاته العديدة للتشريع الإسلامي والدماء الكثيرة التي هدرها .

وهكذا أصبح اسم عثمان بن عفّان في القائمة الأموية بعد مرور فترة قصيرة على مكث المسلمين في المدينة .

والذي فجّر الأحداث قضية معاوية بن المغيرة بن أبي العاص الأموي فهذا الرجل كان مع قريش في معركة أُحد التي انتصر فيها المشركون .

ثمّ قام مع هند بنت عتبة بتمزيق أوصال حمزة سيد الشهداء([750]).

وبعد انسحاب جيش المشركين بقي معاوية بن المغيرة يتجسّس أخبار المسلمين وتحركاتهم العسكرية ممّا أوقعه في مأزق وخاف وقوعه بأيدي المسلمين أسيراً فجاء إلى بيت عثمان بن عفّان .

ورغم الواجب الديني الداعي لطرد ذلك المجرم الخطير فقد قام عثمان بن عفّان باخفائه في زاوية من زوايا بيته .

وهذا العمل بين تفضيل عثمان لبني أُميّة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهذا الحبّ الأموي استمرّ طيلة حياة عثمان قبل وبعد زمن حكومته وقد قال عثمان رأيه بصراحة في هذا الأمر . والمدهش في قضية معاوية بن المغيرة الأموي ذهابه إلى بيت عثمان بن عفّان دون تردّد . ممّا يبيِّن علاقة وطيدة بين عثمان وطغاة مكّة .

وهذا الأمر لا يحدث إلاّ إذا كان عثمان منسجماً مع السيرة الأموية وكيف لا يكون منسجماً معها وهو الذي امتنع من محاربة قريش في بدر واحد والخندق والحديبية .

وباختفاء جاسوس قريش في بيت عثمان أصبح ذلك البيت وكراً لجواسيس المشركين .

وأخبار النبي (صلى الله عليه وآله) الناس بهذه القضية سيكون قطعاً من دلائل النبوّة له (صلى الله عليه وآله) .

وكان قد قال عثمان لزوجته رقيّة : لا تخبري أباك([751]).

فنزل جبرئيل من السماء وأخبر الرسول (صلى الله عليه وآله) بإخفاء عثمان لمعاوية في بيته فأرسل (صلى الله عليه وآله) مجموعة من الصحابة إلى بيت عثمان فأخرجوا معاوية منه ، وجاءوا به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

فجاء عثمان وتوسّل برسول الله (صلى الله عليه وآله) للصفح عن معاوية ، فتركه (صلى الله عليه وآله) وأمهله ثلاثة أيّام للخروج من المدينة وأقسم النبي (صلى الله عليه وآله) على قتله أن وجده في أطرافها ، وسار رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى حمراء الأسد .

لكنّه لم يخرج منها وبقي في أطراف المدينة يتجسّس أخبار جيوش المسلمين !

فأخبر جبرائيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك فأرسل علياً (عليه السلام) وعمّاراً فقتله الإمام علي (عليه السلام)([752]).

وبعد مقتل معاوية بن المغيرة الأموي ثارت ثائرة عثمان بن عفّان على رقيّة لدرجة أن تطاول عليها ضرباً وقال : أنتِ أخبرت أباك بمكانه .

فبعثت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاث مرّات تشكو ما لَقِيت والنبي (صلى الله عليه وآله) لايستجيب .

وفي الرابعة أرسل النبي (صلى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) ليأتي بها ; فإن حال بينه وبينها أحد فليحطّمه بالسيف ، فأخرجها الإمام علي (عليه السلام) .

فلمّا نظرت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) رفعت صوتها بالبكاء ، وبكى النبي (صلى الله عليه وآله) وأخذها إلى منزله وأرته ما بظهرها ثم ماتت رقيّة في اليوم الرابع .

وبات عثمان ملتحفاً بجاريتها([753]).

وورد في دعاء شهر رمضان ذكر لهذه الحادثة حيث جاء : « اللهمّ صلِّ على أُمّ كلثوم بنت نبيّك وألعن من آذى نبيّك فيها »([754]).

وأُمّ كلثوم هو كنية رقيّة .

وانتقصت عائشة عثمان بفعله ذاك (قتله رقيّة) قائلة : ولكن كان منك فيها ما قد علمت([755]).

ولقد لفت نظري شدّة ثأر عثمان لابن عمّه معاوية بن المغيرة إذ لم يكتفِ بقتل رقيّة بل جامع جاريتها في ليلة قتلها ! وهذا فعل لا يغتفر ولقبح الجريمة فقد أخبر جبرئيل النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك .

فافتضح عثمان في المدينة بأنّه حامي الكافرين وعدوّ المؤمنين .

قول النبي (صلى الله عليه وآله) في أُحد

لمّا قتل علي (عليه السلام) أصحاب الألوية يوم أُحد قال جبريل : « يارسول الله إنّ هذه لهي المواساة ، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) : إنّه منّي وأنا منه فقال جبريل : وأنا منكما يارسول الله »([756]).

الدلائل والعبر
إنّ طاعة القائد (رسول الله (صلى الله عليه وآله)) تسبَّبت في انتصار المسلمين في بداية المعركة  ، ولمّا خالف حرّاس الجبل أوامر رسول الله (صلى الله عليه وآله) غُلبوا وهزموا ، وبقيت تلك الحادثة في أذهان المسلمين دالّة على خطورة المعصية .

وبعد ما خسر المسلمون معركة أُحد قرّر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحكمته  الاجتماع في حمراء الأسد في اليوم الثاني وملاحقة قوّات العدوان ، فخرج المقاتلون وكلّهم رغبة في الانتقام من المشركين ، فخاف أبو سفيان وجنوده فأعطى أحد الأعراب إبلاً كثيرة مع حمولتها على أن يمنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ملاحقتهم . فكذب ذلك الأعرابي كذبة تتمثّل في وصول قوّات أُخرى لقريش وهم في الروحاء على بعد خمسة وثلاثين ميلاً من المدينة .