ولمّا لاحق النبي (صلى الله عليه وآله) الكفّار ، فرّ أبو سفيان ورجاله فراراً منكراً حوّل معه انتصارهم إلى هزيمة ، وتحوّلت هزيمة المسلمين إلى نصر ، وأقام المسلمون هناك ثلاثة أيّام .

وبعد عودة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمسلمين إلى المدينة أعطى النبي (صلى الله عليه وآله) سيف الإمام علي (عليه السلام) لفاطمة (عليها السلام) قائلا : « خذيه يافاطمة فقد أدّى بعلك ما عليه اليوم ، وقد قتل الله بسيفه صناديد قريش »([757]).

ومن الناحية التربوية والفقهية حرَّم الرسول (صلى الله عليه وآله) النظر الى العورة وكشفها والتمثيل بالموتى ، بينما وقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلنّ بالقتلى من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجدعن الآذان والأُنوف حتى اتّخذت هند من آذان الرجال وآنافهم خدماً وقلائد ، وأعطت خدمها وقلائدها وأقراطها وحشياً وزنت معه لشرط كانت قد أعطته له إن قتل حمزة وكانت تحبّ الزنا بالسود من الرجال ، وبقرت كبد حمزة وأكلته([758]).

والعجيب أنّ عمر بن الخطّاب ساعد معاوية بن هند للوصول إلى الزعامة والملك . ولا دهشة عند العارفين بشخصية عمر .

ومن العبر أنّ المنافقين من جواسيس قريش ومنافقي الأنصار لم يشتركوا في المعركة إلى جانب النبي (صلى الله عليه وآله) فبيّنت الحرب الصادقين وفضحت الفاسقين([759]).

 

الفصل الثالث : غزوة بني النضير

أمر النبي (صلى الله عليه وآله) يهود بني النضير  بالرحيل من المدينة في السنة الرابعة للهجرة بسبب نقضهم للصلح أوّلا ومحاولتهم قتل النبي (صلى الله عليه وآله) لكنّ أهل النفاق ثبَّتوهم ، فقويت نفوسهم واستكبر حي بن أخطب واليهود ونقضوا عهودهم مع الرسول  (صلى الله عليه وآله)  ، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحربهم والسير إليهم ، فسار بالناس حتّى نزَلَ بهم فتحصّنوا منه في الحصون .

وحاصرهم المسلمون خمسة عشر يوماً([760]) فدخل في نفوس اليهود الرعب  .

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ)([761]).

وكان اللواء بيد الإمام علي (عليه السلام)([762]) وفي أثناء الحصار رمى يهودى قبّة النبي  (صلى الله عليه وآله) بسهم فلاحقه الإمام علي (عليه السلام) وقتله .

وجاء في سورة الحشر عن الواقعة : (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ)([763]).

 واللينة : النخلة ما لم تكن عجوة أو برنية . فإن كانت من الألوان فهي الرديئة فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية ، وإن كانت من كرام النخل فليكن غيظ اليهود أشدّ([764]). وكان نخلهم في منطقة البويرة فقطع المسلمون بعض نخيلهم لتسهيل حركة الجيش .

قال قتادة والضحّاك : إنّهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ستّ نخلات .

وقال محمّد بن إسحاق : إنّهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة([765])، لإيجاد سعة في المكان ليسهل القتال([766]).

وشقّ ذلك على اليهود فقالوا : يامحمّد ألست تزعم أنّك نبي تريد الصلاح ، أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر ... فنزلت الآية  بتصديق من نهى عن القطع وتحليل من قطع من الإثم ، وأخبر أنّ قطعه وتركه بإذن الله فأجابهم الله تعالى بأنّ قطعها قد حصل ليخزي به الفاسقين([767]).

وكان سعد بن عبادة يبعث بالتمر إلى المسلمين أثناء حصارهم لبني النضير([768]).

وفي تلك الواقعة صاحت نخلة بأُخرى : هذا النبي المصطفى وعلي المرتضى .

فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : « إنّما سمّي نخل المدينة (أي هذا النوع) صيحانيّاً لأنّه صاح بفضلي »([769]).

إخراج اليهود

وكان النبي (صلى الله عليه وآله) قد حاصرهم حتّى بلغ منهم كل مبلغ ، فأعطوه ما أراد منهم فصالحهم على أن يحقن لهم دماءَهم وأن يخرجهم من أرضيهم وأوطانهم ، وأن يسيِّرهم إلى خيبر وفدك وأذرعات الشام([770]).

وأنا أستبعد خروجهم إلى أذرعات الشام لأنّها كانت بيد الروم المعارضين لتواجد اليهود في الشام([771]). وقد بدأت هجرة اليهود إلى الشام في زمن عمر بعد إسلام كعب الأحبار وطلبه ذلك([772]).

فاتّفق معهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أنّ لهم ما حملت الإبل دون الذهب والفضّة والسلاح([773]).

وأسلم من بني النضير رجلان هما يامين بن عمير وأبو سعد بن وهب أحرزا أموالهما .

وكانت عند بني النضير أموال كثيرة وسلاح متمثّل في خمسين درعاً وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفاً([774]).

وذهب سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحي بن أخطب والآخرون إلى خيبر ، ولأنَّهم سادة بني النضير فقد سادوا خيبراً .

واستقبلتهم يهود خيبر بما فيهم النساء والأطفال ، والقيان تعزف بالدفوف والمزامير خلفهم([775]).

وحملوا على ستمائة بعير ، وكان بعض الأنصار تهّودوا بواسطة أُمّهاتهم اللاتي نذرن ذلك إن عاشوا ، فلمّا أُخليت بنو النضير قال آباء أُولئك : لا ندع أبناءنا وأنزل الله تعالى : (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) .

وبقيت النخيل والمزارع لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خاصّة فقسّمها بين المهاجرين الأوّلين دون الأنصار وأعطى سهل بن حنيف وأبا دجانة والحارث بن الصمة من الأنصار لفقرهم . وتلك الأموال ممّا لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، فهي له ولكنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطاها للمسلمين ، والظاهر بأنّهم لم يقاتلوا ، فلو قاتلوا لأصبحت أموالهم غنائم لكلّ المسلمين . وكان (صلى الله عليه وآله) ينفق على أهله منها نفقة سنة([776]).

وقال الكلبي : قسّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أموال بني النضير إلاّ سبعة حوائط منها أمسكها ولم يقسّمها([777]).

ولمّا قسّم الأراضي على المهاجرين أمرهم بردّ أراضي الأنصار التي أعطوها لهم([778]).

وحزن المنافقون على بني النضير حزناً شديداً([779]) وانضمّ إليهم حسّان بن ثابت ومدح بني النضير في كرمهم وسقيهم الناس الخمر([780]).

والملاحظ بأنّ الله سبحانه قد سلب هؤلاء اليهود عقولهم فأصبحوا حمقى لابتعادهم عن الحق فضاعت دنياهم بعدما ضيّعوا بأنفسهم آخرتهم ، وقد لفت سلام بن مشكم نظرهم إلى ذلك بوجوب اتّباع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لكنّهم رفضوا ذلك .

وكان بنو النضير ألف رجل وهم من بني هارون وسادة يهود المنطقة ، وكان النضيري إذا قتل يهودياً قريظيا يدفع نصف الدية ، بينما إذا قتل قريظي نضيرياً يدفع الدية كاملة([781]).

وجاء في سورة الحشر التي نزلت في بني النضير : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لاَِوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللهِ فَأَتَاهُمْ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الاَْبْصَارِ)([782]).

والغدر اليهودي بالمسلمين والنصارى من الأُمور المشهورة كما في حوادث غدرهم بالأسبان الأمر الذى تسبّب في طردهم من هناك فآوتهم الدولة العثمانية وأسكنتهم في مدينة سالونيك فغدروا بالمسلمين إذ قام كمال أتاتورك اليهودي بمحاربة الإسلام في محاولة منه للقضاء عليه في البلاد التركية([783])!

 

الفصل الرابع : معركة الخندق

إسلام سلمان الفارسي
كان سلمان الفارسي من عائلة فارسية غنيّة في رامهرمز ، والناس في بلده على دين المجوسية ، وتعرّف على تعاليم النصرانية فتنصّر .

وذكر الصنعاني أنّ إسلامه كان عن طريق راهب نصراني ، وبعدها أخرج أهل سلمان ذلك الراهب فسافر سلمان معه إلى مدينة الموصل .

وروى أصحاب الأخبار أنّ سلمان التقى بعيسى بن مريم (عليه السلام)([784]) فبشّره بظهور النبي  (صلى الله عليه وآله) قريباً في الحجاز . وفي طريقه إلى المدينة أخذه اللصوص وباعوه فجعله اليهود الذين ابتاعوه في حائط (بستان) لهم .

وقد أخبره الراهب أنّ النبي محمّداً (صلى الله عليه وآله) لا يأكل الصدقة ، ويأكل الهدية ، وبين كتفيه خاتم النبوّة وأمره باتّباعه([785]). ولمّا وفّق الله تعالى سلمان في الوصول إلى المدينة بصورة عبد مملوك حاول التثبّت من صفاته (صلى الله عليه وآله).

في المرّة الأُولى من لقاءاته جاء إليه برطب صدقة فأبى النبي (صلى الله عليه وآله) الأكل منه وأعطاه أصحابه فحصلت عنده صفة من صفات رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

وفي المرّة الثانية جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) برطب هدية فأكل النبي (صلى الله عليه وآله) منه ، فحصلت الصفة الثانية .

وبقي سلمان متشوّقاً للتثبّت من الصفة الثالثة . وفي تشييع جنازة في بقيع الغرقد استدار سلمان الفارسي خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) لرؤية خاتم النبوّة ، فعرف النبي  (صلى الله عليه وآله) رغبته فكشف له النبي عن خاتمه ، فحصلت عند سلمان صفة النبي (صلى الله عليه وآله)الثالثة فانكبّ عليه يقبّله ويبكي ثمّ أسلم وحكى قصّته لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والمسلمين . وأعانه سيّد الرسل (صلى الله عليه وآله) على أداء ما عليه فحرّره ، ثمّ شارك المسلمين في معركة الخندق([786]).

وبلغ إخلاص وإيمان وأخلاق سلمان درجة أن رغب فيه المهاجرون والأنصار إلاّ أنّه كان الى الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته أقرب منه إلى سواهم فقال سيّد البشر (صلى الله عليه وآله) : « سلمان منّا أهل البيت » . وكان من شيعة الإمام  علي بن أبي طالب (عليه السلام)وروى سلمان أحاديثاً كثيرة منها حديث : « إنّ أكثر الناس شبعاً في الدنيا أكثر جوعاً في الآخرة »([787]).

وكان سلمان معادياً لأبي بكر وعمر وزمرتهما .

التحضير للحرب
ووقعت معركة الخندق في السنة الخامسة للهجرة بقول محمد بن إسحاق والواقدي والبلاذري([788])، وهو الصحيح .

وقد اختلفوا في تاريخها إذ قال موسى بن عقبة وأيّده البخاري([789])، سنة أربع للهجرة .

وقال اليعقوبي : سنة ستّ للهجرة([790]).

والذي حزّب الأحزاب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) هم اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق النضري وحي بن أخطب النضري وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق النضري وهوذة بن قيس الوائلي . إذ قدموا مكّة فدعوهم إلى حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أن يكونوا معهم حتّى يستأصلوه .

فقالت لهم قريش : إنّكم أهل الكتاب الأوّل والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمّد أفديننا خيرٌ أم دينه ؟

قالوا : بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحقّ منه فأنزل تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا)([791]).

فلمّا قالوا ذلك لقريش سرّهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله فأجمعوا لذلك واتَّعدوا له ، ثمّ خرج أُولئك النفر من اليهود حتّى جاءوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله)([792]).

فأخبر جبريل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر قريش ، وقيل : إنّ قبيلة خزاعة هي التي أخبرت رسول الله بذلك([793]).

وقال الواقدي : إنّ اليهود واعدوا غطفان تمر خيبر سنة إنْ حاربوا المسلمين وانتصروا عليهم([794]).

وكانت قبائل غطفان وأسلم وتميم وأسلم مرتزقة .

وتمكّن زعماء يهود بني النضير وخيبر من إقناع يهود قريظة في دخول الحرب إذ سمع كعب بن أسد زعيم يهود قريظة صوت حي بن أخطب فلم يفتح له الباب قائلاً : ويحك ياحي إنّك رجل مشؤوم إنّي قد عاهدت محمّداً (صلى الله عليه وآله) ولست بناقض ما بيني وبينه ولم أر منه إلاّ وفاءً وصدقاً .

فقال حي : جئتك بقريش بقيادتها وسادتها وغطفان على سادتها وقادتها قد عاهدوني أن لا يبرحوا حتّى يستأصلوا محمّداً ومن معه .

فقال كعب : جئتني والله بذلّ الدهر .

فلم يزل حي بكعب حتّى سمح له بأن أعطاه عهداً وميثاقاً لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمّداً أن أدخل معك في حصنك .

فلمّا انتهى الخبر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث سعد بن معاذ سيّد الأوس وسعد بن عبادة سيّد الخزرج ومعهما عبدالله بن رواحة وخوات ابن جبير قائلاً : انطلقوا حتّى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ، فإن كان حقّاً فالحنوا لنا لحناً نعرفه ولا تفتّوا أعضاد الناس . وإن كانوا على الوفاء فأجهروا به للناس .

وخرجوا حتّى أتوهم فوجدوهم على أخبث ممّا بلغهم عنهم إذ قالوا : لا عهد بيننا وبين محمّد ، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه ، وقال سعد بن معاذ : دع عنك مشاتمتهم فإنّ ما بيننا وبينهم أعظم من المشاتمة .

ثم أقبلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالوا لغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله  (صلى الله عليه وآله) وأصحابه أصحاب الرجيع .

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : الله أكبر أبشروا يامعشر المسلمين([795]) ثمّ رمى العرفة سعد بن معاذ بسهم في كاحله فمات شهيداً بعد وقعة بني قريظة .

وعمل نعيم بن مسعود الأشجعي بالخدعة بين اليهود وسائر الأحزاب حين طلب من بني قريظة أن تأخذ رهناً من أشراف قريش وغطفان كي لا ينسحبوا ويتركوهم لوحدهم ، ومن جهة أُخرى أخبر قريشاً وغطفان بخيانة بني قريظة ورغبتها في أخذ زعماء قريش وغطفان كرهاً وإعطائهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ليقتلهم([796])فأفقد الجانبين ثقتهم ببعضهم .

ثمّ روي عن الزهري عرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلث تمر المدينة على عيينة بن الحصين ليخذل الأحزاب ويرجع بالناس فأبى إلاّ النصف فاستشار النبي (صلى الله عليه وآله) سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا : إن كنت امرت بشيء فامض له ، وإلاّ فإنّا لا نرضى أن نعطيهم إلاّ السيف .

قال (صلى الله عليه وآله) : فنعم إذن([797]).

والزهري من أعضاء البلاط الأموي ، ويستحيل تنازل النبي (صلى الله عليه وآله) لقبيلة عيينة الضعيفة بذلك الشكل مع تعجّب ابن معاذ وابن عبادة .

محاصرة المدينة
وكان سكّان المدينة حوالي ستة آلاف نفر فيهم الرجال والنساء والأطفال والشيوخ وفيهم منافقون ! وشعار المسلمين حم لا ينصرون([798]). وجاءت الكفّار بقياداتها قريش وقائدها أبو سفيان وغطفان وقائدها عيينة بن حصين والحرث بن عوف في بني مرّة ، ومسعر بن جبلة الأشجعي في قبيلة أشجع وطليحة بن خويلد الأسدي في أسد وأبو الأعور الأسلمي في قبيلة أسلم([799]).

وعن الخيل والإبل فقد جاء ذكر لبعض أرقامها مثل ألف بعير لغطفان وفزارة([800]) وألف فرس مجموع الخيل ثلاث مئة مع غطفان وثلاث مئة مع قريش([801]).

وحامل لواء قريش عثمان بن طلحة بن أبي طلحة وقائدهم أبو سفيان والتحق يهود قريظة بالأحزاب بطلب من حي بن أخطب فنقض زعيمهم كعب بن أسد عهده مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ووقف أبو الأعور الأسلمي في السقيفة مع أبي بكر وحارب مع معاوية في صفّين([802]).

لماذا حفروا الخندق والمسلم يعادل عشرة ؟
ولمّا حفر المسلمون خندقهم جاءت قريش في أربعة وعشرين ألف رجل من أحابيشهم ومن تابعهم من كنانة وأهل تهامة ، وغطفان ومن تابعهم من أهل نجد ، ويهود خيبر ، في حملة الأحزاب([803]).

وقال ابن شهر آشوب ثمانية عشر ألف رجل([804]).

وقال الواقدى والذهبى والقمّي : كانوا إثني عشر ألفاً([805]).

وقالوا : عشرة آلاف رجل([806]).

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا ..)([807]).

ولأنّ جيش المسلمين في الخندق أقلّ من ألف مقاتل فيكون الكفّار 15 ضعفاً  ، لذا حفر النبي (صلى الله عليه وآله) الخندق .

وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يبعث الحرس إلى المدينة لحماية النساء والأطفال من يهود بني قريظة([808]).

بطل العرب والعجم
وعندما اجتمعت الأحزاب لحرب المسلمين في معركة الخندق كانت الكفّار تتوقّع نصراً أسهل من انتصارهم في معركة أُحد .

وجاءت قريش في هذه المرّة ببطل العرب عمرو بن عبد ودّ العامري ، المعادل لألف فارس في حساباتهم ...!

وكان لوجود هذا البطل المغوار في صفوف قريش الأثر القوي في زيادة معنويات الكفّار وضعف معنويات بعض المسلمين ، ويسمّى بفارس ياليل لأنّه هزم فوارس وادي ياليل العائدين لقبيلة بني بكر الذين تصدّوا له ولصحبه في أثناء طريقهم للمدينة([809]).

وشاءت الصدف أن يتمكَّن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودّ العامري وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب ، وضرار بن الخطّاب الفهري ونوفل بن عبدالله المخزومي . من عبور الخندق ، وهنا ازداد الرعب في نفوس بعض المسلمين  ...

وبسبب الشهرة المطبقة للآفاق لهذا الفارس المغوار ، فقد جبن المسلمون عن منازلته القتال حين طلب ذلك ، وكان أبو بكر وعثمان وعمر بن الخطّاب من جملة الخائفين والممتنعين من البراز إليه .

فقد ذكر البيهقي في دلائل النبوّة ، عن ابن إسحاق قائلا : خرج عمرو بن عبد ودّ  ، وهو مقنّع بالحديد ، فنادى : من يبارز ؟

فقام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقال : أنا له يانبي الله . فقال : إنّه عمرو ، اجلس .

ثمّ نادى عمرو : ألا رجل يبرز ؟ فجعل يؤنّبهم ويقول : أين جنَّتكم التي تزعمون أنَّه من قتل منكم دخلها أفلا تبرزون إليَّ رجلا ؟

فقام الإمام علي (عليه السلام) فقال : أنا يارسول الله ؟ فقال : اجلس . ثمّ نادى الثالثة ، فقال :

ولقد بُحِحتُ من النداء *** بجمعكم هلْ من مُبارز

ووقفتُ إذ جَبُنَ المشيَّعُ *** موقفَ القِرنِ المناجز

ولذاك إنّي لم أزلْ *** متسرِّعاً قَبْلَ الهَزائز

إنَّ الشجاعةَ في الفتى *** والجود من خَيرِ الغرائز

فقام عليّ (عليه السلام) قائلاً : يارسول الله أنا . فقال : إنّه عمرو ، فقال وإن كان عمراً . فأذِن له رسول الله (صلى الله عليه وآله) فمشى إليه ، حتّى أتى وهو يقول :

لا تَعْجَلنَّ فقد أتاك *** مجيبُ صوتِك غيرُ عاجِز

في نيَّة وبصيرة *** والصدقُ مَنجَى كلّ فائز

إنّي لأرجو أن أُقيمَ *** عليكَ نائحةَ الجنائز

من ضربة نجلاءَ *** يبقى ذكرها عندَ الهزائز

فقال له عمرو : مَن أنت ؟

قال : أنا علي .

قال : ابن عبد مناف ؟

قال : أنا علي بن أبي طالب .

فقال : ياابن أخي مِن أعمامك مَن هو أسنّ منك فإنّي أكره أن أُريق دمك([810]

فقال له الإمام علي : لكنِّي والله لا أكره أن أُريق دمك .

فغضب وسلّ سيفه كأنَّه شعلة نار ، ثم أقبل نحو الإمام علي (عليه السلام) مغضباً واستقبله عليُّ (عليه السلام) بدرقته ، فضربه عمرو في درقته فقدَّها ، وأثبت فيها السيف ، وأصاب رأسه فشجّه ، وضربه عليٌّ (عليه السلام) على حبل عاتقه فسقط ، وثار العجاج وسمع رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) التكبير ، فعرفنا أنَّ علياً (عليه السلام) قد قتله .

وكان سنّ الإمام (عليه السلام) يومها 28 سنة وسنّ النبي الأعظم 58 سنة .

والرواية الصحيحة : ذكر الواقدي وقد خاف عمرو منازلة الإمام علي (عليه السلام)فقال : كان أبوك لي نديماً ، فارجع فأنت غلام حدث([811]). وبلغ ذلّه وخزيه حدّاً أن كشف سوأته في أرض المعركة أمام الكفّار والمسلمين واليهود([812]) خوفاً من سيف الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ناسياً أنّه بطل العرب ! ولمَّا أعلن الإمام علي (عليه السلام) عن استعداده للبراز إليه تعجَّب عمر بن الخطّاب ، وذكر بطولة من بطولات عمرو في الجاهلية في قتله مجموعة من قطَّاع الطرق لوحده !

وبعد براز الإمام علي (عليه السلام) لعمرو وقتله ، قال الرسول (صلى الله عليه وآله) : « قتل علي لعمرو بن عبد ودّ أفضل من عبادة الثقلين »([813]).

وكانت قريش تلحّ لقتل النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) وحمزة ، وتمتنع عن قتل أبي بكر وعمر وعثمان ... لماذا ؟

ولقد تخوّف عمر وأبو بكر وعثمان وغيرهم من منازلة أبطال المشركين عثمان بن طلحة في أُحد وعمرو بن عبد ودّ في الخندق ومرحب اليهودي في خيبر ، بل امتنعوا عن محاربة الكفّار واليهود وعاملهم هؤلاء بالمثل .

وفي رواية ثمّ حمل ضرار بن الخطّاب (الفهري) وهبيرة بن أبي وهب على الإمام علي كرَّم الله وجهه ، فأقبل الإمام علي (عليه السلام) عليهما ، فأمّا ضرار فولّى هارباً ولم يثبت ، وأمّا هبيرة فثبت ثم ألقى درعه وهرب ، وكان فارس قريش وشاعرها .

وعرضت قريش شراء جيفة عمرو بن عبد ودّ بعشرة آلاف درهم .

فقال (صلى الله عليه وآله) : « لا نأكل ثمن الموتى » !

فكان الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد سدَّ الثغرة التي عبر منها أبطال قريش  ، وقتل عمراً وابنه حسل ، ونوفل بن عبدالله المخزومي ، ولولا ذلك لعبر جيش الأحزاب (الكفّار واليهود) إلى قلب المدينة . وكانت قريش لا تقتل جواسيسها في صفوف المسلمين والمعروفين بالمنافقين من المهاجرين والأنصار !!

وذكر أنّ ضرار بن الخطّاب لمّا هرب تبعه عمر بن الخطّاب ، وصار يشتدّ في أثره ، فكرَّ ضرار راجعاً ، وحمل على عمر بالرمح ليطعنه ثم أمسك . وقال : ياعمر هذه نعمة مشكورة أثبتها عليك ، ويدٌ لي عندك غير مجزى بها فاحفظها . ووقع له مثل هذا مع عمر في أُحد ، فإنّه التقى معه فضرب عمرَ بالقناة ، ثم رفعها عنه ، وقال له  : ما كنت لأقتلك ياابن الخطّاب([814]).

ولم يقتله خالد بن الوليد في أُحد حين تمكّن منه([815])! فالظاهر معرفتهما بحال عمر وحقيقته !

وكان الإمام علي (عليه السلام) قد قال عند عبور فوارس قريش الخندق :

أعَلَيَّ تقتحم الفوارس هكذا *** عنِّي وعنهم أخِّروا أصحابي([816])

وروي أنّ علياً (عليه السلام) لمّا قتل عمراً لم يسلبه فجاءت أُخت عمرو حتّى قامت عليه ، فلمّا رأته غير مسلوب سلبه([817])، قالت : ما قتله إلاّ كفؤ كريم ، ثم سألت عن قاتله . قالوا الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فأنشأت هذين البيتين :

لو كان قاتل عمرو غير قاتله *** لكنت أبكي عليه آخِرَ الأبدِ

لكنّ قاتِلَه من لا يعاب به *** أبوه من كان يدعى سيّد البلد([818])

النصر الإلهي في معركة الخندق
بقيت قوّات الأحزاب على أبواب الخندق بضعة وعشرين يوماً والترامي بينهم مستمر بالنبل والحجارة .

ونزلت في الخندق سورة الأحزاب : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الاَْبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيداً)([819]).

فظنّ المنافقون أنّ المسلمين يُستأصلون وظنّ المؤمنون أنّهم يبتلون .

فأرسل الله تعالى ريح الصبا على جيش الأحزاب فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «  نصرت بالصبا وأُهلكت عاد بالدبور . فقد بعث الله تعالى عليهم ريحاً باردة في ليلة شاتية مع ألف من الملائكة فسفت التراب في وجوههم وقلعت الملائكة الأوتاد ، وقطعت الأطناب وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها على بعض وقُذف في قلوبهم الرعب وأظلمت الدنيا » .

وحدث الإختلاف بين قوّات الأحزاب فاليهود لم يوافقوا على الحرب يوم السبت ، وقريش لم توافق على إعطاء يهود قريظة رهناً مقابل دخولها الحرب . وأرسل الله سبحانه عليهم ريحاً شديدة قتلت ماشيتهم وآذتهم .

وقتل الإمام علي (عليه السلام) أبطال الكفّار عمرو بن عبد ودّ وابنه حسل ونوفل بن عبدالله وعندها قرّر أبو سفيان العودة إلى مكّة وقطع ذلك الحصار الذي دام نيفاً وعشرين يوماً .

فقال أبو سفيان : والله ليست بدار مقام ، لقد هلك الخف والكراع ، وأجدب الجناب ، وأخلفنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقد لقينا من الريح ما ترون ، والله ما يثبت لنا بناء ، ولا تطمئن لنا قدر ، فارتحلوا فإنّي مرتحل([820]).

وقتل من المسلمين ستّة ومن المشركين ثمانية .

ولمّا عادت قوّات قريش وجدت غطفان مكان قريش خالياً فتراجعت إلى مساكنها([821]).

وبقي يهود قريظة وحدهم في الميدان مقابل قوّات رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخاب سعيهم ومكرهم وقد قال تعالى : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)([822]).

وكان نتيجة ذلك الحصار إنتصار المسلمين في دفاعهم المذكور عن أنفسهم ومدينتهم ، بعد أن نجحوا في حفر خندق عظيم يحول بين الغزاة وبينهم في مدّة قصيرة  .

وأثبتت القيادة الحكيمة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حنكتها وصبرها وإدارتها الرائعة لدفّة الأحداث .

وكان لإنتصار فارس الإسلام علي بن أبي طالب (عليه السلام) على فرسان قريش بقيادة عمرو بن عبد ودّ العامري الأثر القوي في دحر معنويات قريش وإجبارها على الفرار من أرض المعركة .

 

الفصل الخامس : غدر بني قريظة

كانت قريظة في عهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يفي لهم بعهوده فمضت خمس سنوات على ذلك وعهوده لهم ترسخ وتقوى وإطمئنانهم إلى عدله يزداد .

لكنّهم غدروا برسول الله (صلى الله عليه وآله) ونقضوا معاهدتهم معه وحاربوه في معركة الأحزاب طمعاً في القضاء عليه وعلى دينه وعلى المسلمين .

وبعد انسحاب الأحزاب من المدينة إلى مساكنهم بقيت قريظة وحدها بلا عهد ولا صلح بل على حرب الله ورسوله .

فلمّا كان الظهر ، أتى جبريلُ رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) ، معتجراً([823]) بعمامة من إستبرق([824])، على بغلة عليها رحال([825])، عليها قطيفة من ديباج ، فقال : أوَقد وضعت السلاح يارسول الله ؟

قال : نعم .

فقال جبريل : فما وضعت الملائكة السلاح بعد ، وما رجعت الآن إلاّ من طلب القوم ، إنّ الله عزّوجلّ يأمرك يامحمّد بالمسير إلى بني قريظة ، فإنّي عامد إليهم فمزلزل بهم .

فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) مؤذّناً ، فأذّن في الناس : من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلّين العصر إلاّ ببني قريظة . واستعمل على المدينة ابن أُمّ مكتوم .

قال ابن إسحاق : وقدّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) برايته إلى بني قريظة ، وابتدرها الناسُ . فسار الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، حتّى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فرجع حتّى لقي رسول الله (صلى الله عليه وآله)بالطريق ، فقال : يارسول الله ، عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث .

قال : لِمَ أظنّك سمعت منهم لي أذى ؟

قال : نعم ، يارسول الله .

قال (صلى الله عليه وآله) : لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً . فلمّا دنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حصونهم . قال : ياإخوان القِردة ، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ؟

قالوا : ياأبا القاسم ، ما كنت جهولا .

ومرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفر من أصحابه بالصورين([826]) قبل أن يصل إلى بني قريظة ، فقال : هل مرّ بكم أحد ؟

قالوا : يارسول الله ، قد مرّ بنا دحيّة بن خليفة الكلبي ، على بغلة بيضاء تحتها قطيفة ديباج .

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ذلك جبريل ، بُعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم  ، ويقذف الرعب في قلوبهم .

ولمّا أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بني قريظة ، نزل على بئر من آبارها من ناحية أموالهم  ، يقال لها بئر أنا([827]).

وتلاحق به الناس ، فأتى رجال منهم من بعد العشاء الآخرة ، ولم يصلّوا العصر ، لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لا يصلّين أحد العصر إلاّ ببني قريظة ، فشغلهم ما لم يكن لهم منه بدٌّ في حربهم ، وأبوا أن يصلّوا لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : حتّى تأتوا بني قريظة .

وحاصرهم رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) خمساً وعشرين ليلة ، حتّى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب .

وقد كان حُي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم ، حين رجعت عنهم قريش وغطفان ، وفاءً لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه . وحي بن أخطب من زعماء بني النضير الذين هجّرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لغدرهم إلى خيبر ولم يقتلهم ، فنراه هنا يخون المسلمين مرّة أُخرى في حرب الخندق بتأليب الكفّار واليهود عليهم .

فلمّا أيقنوا بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير منصرف عنهم حتّى يناجزهم قال كعب بن أسد لهم : يامعشر يهود ، قد نزل بكم من الأمر ما ترون ، وإنّي عارض عليكم خلالا ثلاثاً ، فخذوا أيّها شئتم . قالوا : وما هي ؟

قال : نتابع هذا الرجل ونصدّقه ، فوالله لقد تبيّن لكم أنّه لنبي مرسل ، وأنّه للذي تجدونه في كتابكم ، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم .

قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبداً ، ولا نستبدل به غيره([828]).

قال : فإذا أبيتم عَلَيَّ هذه ، فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا ، ثمّ نخرج إلى محمّد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف ، لم نترك وراءنا ثقلا ، حتّى يحكم الله بيننا وبين محمّد ، فإن نهْلك نهْلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه ، وإن نظهر فلعمري لنجدنّ النساء والأبناء .

قالوا : نقتل هؤلاء المساكين ! فما خير في العيش بعدهم ؟

قال : فإن أبيتم عليّ هذه ، فإنّ الليلة ليلة السبت ، وإنّه عسى أن يكون محمّد وأصحابه قد أمنونا فيها ، فانزلوا لعلّنا نُصيب من محمّد وأصحابه غرّة .

قالوا : نُفسد سبتنا علينا ، ونُحدث فيه ما لم يحدث مَن كان قبلنا إلاّ من قد علمت ، فأصابهم ما لم يخف عليك من المسخ ! قال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أُمّه ليلة واحدة من الدهر حازماً .ثم دخلوا الحرب بشدّة وكانوا قد أخبروا أبا سفيان أن أثبتوا فإنّا سنغير على بيضة الإسلام([829]).

رواية أبي لبابة المختَلَقة
إنّهم بعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أن إبعث إلينا أبا لُبابة بن عبدالمنذر ، أخا بني عمرو بن عوف ، وكانوا حُلفاء الأوس ، لنستشيره في أمرنا ، فأرسله رسول الله (صلى الله عليه وآله)إليهم . فلمّا رأوه ، قام إليه الرجال ، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه ، فرقّ لهم ، وقالوا له : ياأبا لُبابة ! أترى أن ننزل على حكم محمّد ؟

قال : نعم ، وأشار بيده إلى حلقه ، إنّه الذبح . قال أبو لبابة : فوالله ما زلّت قدماي مِن مكانهما حتّى عرفت أنّي قد خنتُ اللهَ ورسولَه (صلى الله عليه وآله) . ثمّ انطلق أبو لبابة على وجهه ، ولم يأت رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) حتّى ارتبط في المسجد إلى عمود من أعمدته .

وقال : لا أبرح مكاني هذا حتّى يتوب الله عَلَيّ ممّا صنعت ، وعاهد الله : أن لا أطأ بني قريظة أبداً ، ولا أُرى في بلد خنت اللهَ ورسولَه فيه أبداً . وأنزل الله تعالى في أبي لبابة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)([830]).

فلمّا بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) خبره ، وكان قد استبطأه ، قال : أما إنّه لو جاءني لاستغفرت له ، فأمّا إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتّى يتوب الله عليه . ونزلت توبة أبي لُبابة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) من السحر ، وهو في بيت أُمّ سلمة فقالت أُمّ سلمة : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في السحر وهو يضحك .

فقلت : ممّ تضحك يارسول الله ؟ أضحك الله سنّك .

قال (صلى الله عليه وآله) : تِيبَ على أبي لُبابة . قلت : أفلا أُبشّره يارسول الله ؟ قال (صلى الله عليه وآله) : بلى ، إن شئت ، فقامت على باب حجرتها ، وذلك قبل أن يُضرب عليهنّ الحجاب .

فقالت : ياأبا لبابة ; أبشر فقد تاب الله عليك . فثار الناس إليه ليُطلقوه . فقال  : لا والله حتّى يكون رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي يطلقني بيده ، فلمّا مرّ عليه رسول الله  (صلى الله عليه وآله) خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه([831]). وأقام أبو لبابة مرتبطاً بالجذع ستَّ ليال  ، تأتيه امرأته في كلّ وقت صلاة ، فتحلّه للصلاة ، ثمّ يعود فيرتبط بالجذع ، والآية التي نزلت في توبته : (وآخرونَ اعتَرَفُوا بِذُنُوبِهِم خَلَطُوا عَمَلا صالِحاً وآخَرَ سيّئاً عَسَى اللهُ أنْ يتوبَ عليهم إنّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ)([832]).

والصحيح أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمين امتنعوا عن الكلام مع أبي لبابة وأصحابه لتخلّفهم عن حملة تبوك مع المنافقين فربط أبو لبابة نفسه بعمود مستغفراً الله تعالى ، فغفر الله سبحانه ذنبه([833]).

والأمويون اختلقوا الرواية الأُولى لإثبات مظلومية اليهود ومقتلهم أسرى بيد النبي (صلى الله عليه وآله) .

انتصار علي (عليه السلام) على جيش بني قريظة
وعندها قرّر اليهود الحرب وعدم التسليم  واستمرّوا مع رئيسهم كعب بن أسد في سبّ النبي (صلى الله عليه وآله) ، فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) الجيوش الإسلامية إليهم بقيادة أكابر الصحابة  ففرّوا([834]).

فاستعان النبي (صلى الله عليه وآله) ببطل المسلمين الإمام علي (عليه السلام) .

فجاءهم الإمام علي (عليه السلام) وحاربهم وانتصر عليهم انتصاراً ساحقاً فقتل بعضهم وأسر الآخرين([835]).

وأنزلهم على حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيهم ، بعد خمس وعشرين ليلة من الحصار والحرب([836]).

وقد غيَّر الطغاة  سيرة معركة بني قريظة اعتداءً منهم على الإسلام والمسلمين  ، فقالوا بنزول اليهود من حصونهم دون حرب ، وإقدام المسلمين على قتلهم .

في حين أثبتت الروايات الصحيحة استسلامهم أثر الهزيمة التي حلّت بساحتهم .

فقال النبي (صلى الله عليه وآله) في بني قريظة : « إنّ علياً إمامكم وخليفتي فيكم ، بذلك أوصاني جبرئيل عن ربي ، ألا وإنّ أهل بيتي الوارثون لأمري القائمون بأمر أُمّتي  ، اللهمّ مَن حفظ فيهم وصيّتي فاحشره في زمرتي ، ومَن ضيّع فيهم وصيّتي فاحرمه الجنّة »([837]).

وقُتِل إثنان من المسلمين في الحصار والحرب فقط([838]).

هل قتل النبي (صلى الله عليه وآله) أسرى بني قريظة ؟
رواية مختلقة لتمجيد زعيم المنافقين وتشويه سمعة الرسول (صلى الله عليه وآله) لمّا جيء بالأسرى تواثبت الأوس فقالوا : يارسول الله ، إنّهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت . وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد حاصر بني قينقاع قبل بني قريظة ، وهم حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه فسأله إيّاهم عبدالله بن أبي سلول فوهبهم له([839]).

فلمّا كلّمته الأوس قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ألا ترضون يامعشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا : بلى . قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فذاك إلى سعد بن معاذ .

فقال سعد بن معاذ : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أنّ الحكم فيهم لما حكمتُ ؟

قالوا : نعم . قال : وعلى من هاهنا في الناحية التي فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : نعم . فحكم سعد بن معاذ بقتل الرجال وسبي النساء والأطفال واقتسام الأموال والأراضي .

الصحيح في القضية
لم يقتل النبي (صلى الله عليه وآله) أسرى بني قريظة :

1 ـ إذ حكم فيهم بالجلاء عن المدينة والخروج إلى خيبر وتبقى أرضهم وأموالهم للمهاجرين دون الأنصار وتترك أسلحتهم للمسلمين .

وأيّد الحسن البصري حشر (إخراج) يهود بني قريظة إلى خيبر ونزول الآية القرآنية التالية في حقّهم : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لاَِوَّلِ الْحَشْرِ)([840]).

2 ـ ولم يقتل النبي (صلى الله عليه وآله) الأسرى في معاركه جميعاً ; بدر وأُحد وبني النضير والخندق وبني قريظة وخيبر وفتح مكّة وحنين وباقي المعارك ، فلماذا هذا الافتراء على سيّد الأنبياء (صلى الله عليه وآله) الذي جاء رحمة للعالمين ؟

3 ـ وقضية أبي لبابة محرّفة عن الحقيقة والواقع كالتالي : امتنع أبو لبابة من الالتحاق بحملة تبوك إلى الشام فوبّخه النبي (صلى الله عليه وآله) مثلما وبّخ كعب بن مالك بعد عودته  (صلى الله عليه وآله) من الشام إذ أمر المسلمين بعدم التحدّث مع العاصين ، فربط أبو لبابة نفسه بسارية طلباً للتوبة ، فنزلت التوبة عليه من الله سبحانه وتعالى([841]).

إذن موضوع إشارة أبي لبابة ليهود بني قريظة بذبح النبي (صلى الله عليه وآله) لهم أن نزلوا على حكمه من المختلقات الأموية التي وفّقنا الله سبحانه لكشفها مع باقي المختلقات . وهذا يفضح المؤامرة الأموية الهادفة لاتّهام النبي (صلى الله عليه وآله) وسعد بن معاذ الأنصاري بقتل الأسرى !

4 ـ حكم سعد بن معاذ بقتل حي بن أخطب زعيم بني النضير الذي حرّره النبي (صلى الله عليه وآله) سابقاً من الأسر في معركة بني النضير لكنّه ألّب يهود بني قريظة وقريشاً في معركة الخندق (الأحزاب) على المسلمين ، فلم ينفع معه إلاّ القتل فقتل . فلمّا جيء به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويداه مجموعتان إلى عنقه بحبل نظرإلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنّه من يخذِل اللهَ يُخذَل ثمّ جلس فضربت عنقه .

فحرّف الحزب القرشي الواقعة وقالوا : أقدم الرسول (صلى الله عليه وآله) على قتل جميع أسرى بني قريظة !

5 ـ وكان تعامل النبي (صلى الله عليه وآله) مع اليهود في المعارك كالآتي :

في معركة المسلمين مع بني قينقاع أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بإجلائهم وغنّم الله عزّوجلّ رسوله والمسلمين ما كان لهم من مال ، ولم تكن لهم أرضون إنّما كانوا صاغة ، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) منهم سلاحاً كثيراً وآلة صياغتهم([842]).

واختلق الحزب القرشي والمنافقون رواية اجبار ابن أُبي للرسول (صلى الله عليه وآله) بتحرير أسرى بني قينقاع .

في حين كانت نظرية النبي (صلى الله عليه وآله) في الأسرى قائمة على إطلاق سراح الكفّار منهم وأصحاب الكتاب([843]).

وفي معركة بني النضير كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد حاصرهم حتّى بلغ منهم كلّ مبلغ ، فأعطوه ما أراد منهم فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم وأن يخرجهم من أراضيهم وأوطانهم ، وأن يسيِّرهم إلى خيبر وفدك وأذرعات الشام([844])، على أنّ لهم ما حملت الإبل دون الذهب والفضّة والسلاح([845]).

وفي معركة خيبر فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعض الحصون عنوةً ، وبعضهاجنح أهلها إلى الصلح أي الوطيح والسلالم فصالح رسول الله (صلى الله عليه وآله) اليهود على أن تحقن دماؤهم ولهم ما حملت ركابهم وللنبي (صلى الله عليه وآله) الصفراء والبيضاء والسلاح ويخرجهم ، وشرطوا أن لا يكتموه شيئاً فإن فعلوا لا ذمّة لهم ولا عهد ، فلمّا وجد الرسول (صلى الله عليه وآله)المال الذي غيّبوه في مسك الجمل غلبهم على الأرض والنخل([846])، وقتل ابن أبي الحقيق الذي غيّب الكنز فدلّه الله تعالى عليه([847])، وبقي الرجال اليهود يعملون في الأرض على نصف الحاصل .

إذن لم يقتل النبي (صلى الله عليه وآله) أسرى اليهود في معاركه جميعاً فأبقى البعض منهم يعملون في الأرض ورحّل آخرين إلى خيبر .

الدلائل والعبر في معركة الخندق
كان من المسلمين الصبر والدعاء والاخلاص في العمل والاستعداد للجهاد فأجابهم الله تعالى بالنصر والعزّة لهم والهزيمة لأعدائهم والنصر الإلهي تمثّل في الريح والرعب والخوف والبرد ونفاد القوت وانقطاع المدد وتشتت الأحزاب وانقسامهم على أنفسهم ومقتل زعمائهم بيد الإمام  علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

ومن القضايا الأخلاقية والفقهية المستفيدة من حرب الخندق عدم جواز النظر إلى العورة كما فعل الإمام علي (عليه السلام) مع عمرو بن عبد ودّ الذي كشف عورته بعدما ضربه الإمام علي (عليه السلام) .

ويستفاد أيضاً عدم جواز بيع جثث القتلى إذ رفض النبي (صلى الله عليه وآله) استلام مال مقابل جثّة عمرو وجثّة نوفل .

واستفدنا أيضاً عدم إقدام الإمام علي (عليه السلام) على سلب القتلى ثيابهم وهذا من أخلاق الأوصياء والأنبياء .

وتعلّمنا إقدام محمّد (صلى الله عليه وآله) (58) سنة والإمام علي (عليه السلام) وعمره (28) سنة على الاشتراك في العمل والجهاد إلى جنب سائر المسلمين واطّلعنا على رغبة قريش في قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسائر المسلمين وعدم رغبتها في قتل عمر بن الخطاب !

وكان الكفّار عارفين بهوية المسلمين والمنافقين .

والدلائل والعبر من وقعة بني قريظة تتمثّل في هزيمة وخذلان كل من يمكر برسول الله (صلى الله عليه وآله) والمسلمين ويخونهم وأنّ الدين يجوِّز قتال من نقض العهد مع المسلمين مثل بني قريظة الذين نقضوا العهد وأعلنوا الحرب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)والمسلمين ، والدين يجوّز حصارهم .

ودلّت الواقعة على ندم كعب بن أسد اليهودي وإيمانه برسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ أنّه أصرّ على المذهبية الدينية المشابهة للعصبية القومية والإقليمية والحزبية .

إنّ غدر اليهود المستمر في التاريخ يؤيّده القرآن الكريم وتثبته الأحداث الكثيرة فلقد جبلت نفوسهم على الغدر والعصيان . وقد وصف الله تعالى الغادرين بقوله : (إِنَّهُم يَكِيدُونَ كيداً وَأَكيد كيداً فَمَهّلِ الكافِرِينَ أَمهِلهُم رُوَيدَاً)([848]).

وأخذ  رسول الله (صلى الله عليه وآله) ريحانة اليهودية زوجة له([849]).

عمر : لولا سيف علي لما قام عمود الإسلام
وقال عمر بن الخطّاب : لولا سيفه لما قام عمود الإسلام([850]).