قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « لمبارزة علي بن أبي طالب (عليه السلام) لعمرو بن ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة »([851]).

 

الفصل السادس : واقعة الحديبية

التوجّه للحديبية
الحديبية قرية متوسطة ، سمّيت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التي بايع الناس رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحتها ، وبعض الحديبية في الحل وبعضها في الحرم ، وقيل كلّها في الحرم  ، وأهلها ألف وخمسمائة([852]).

وكان النبي (صلى الله عليه وآله) رأى في المنام أنّه دخل البيت وحلق رأسه وأخذ المفتاح وسمّيت هذه السنة بسنة الاستئناس ، وخلف على المدينة ابن أُمّ مكتوم . وأحرم (صلى الله عليه وآله)من ذي الحليفة([853]) وقيل : أحرم من المدينة ليعلم الناس أنّه لا يريد حرباً ، وأجمعت قريش على صدّه عن البيت الحرام .

وفي صلح الحديبية جاء الرسول (صلى الله عليه وآله) مع سبعمائة رجل وسبعين بدنة كل بدنة عن عشرة نفر فيهم مئتا فارس إلى منطقة الحديبية([854]).

وذلك في شهر ذي القعدة في السنة السادسة للهجرة ، وهدفه (صلى الله عليه وآله) العمرة فساق معه الهدي ، ولم يخرج بسلاح إلاّ سلاح المسافر السيوف في القرب([855])، ولضعف العدد والعدّة فقد رغبت قريش وجواسيسها الموجودين في الجيش الإسلامي في الحرب .

وكان اللواء بيد الإمام علي بن أبي طالب([856]).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « كان الإمام علي لي كالعصا السحرية لموسى (عليه السلام) »([857]).

وقال (صلى الله عليه وآله) : « ياعلي لو قاتلك أهل الشرق والغرب لقتلتهم أجمعين »([858]).

ولمّا خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عمرة الحديبية نزل الجحفة فلم يجد بها ماءً ، فبعث سعد بن مالك (سعد بن أبي وقّاص) بالرَّوايا حتّى إذا كان غير بعيد رجع بالرَّوايا قائلا : يارسول الله (صلى الله عليه وآله) ما أستطيع أن أمضي لقد وقفت قدماي رُعباً من القوم  .

فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) : اجلس .

ثم بعث رجلاً آخر([859]) فخرج بالروايا حتّى إذا كان بالمكان الذي انتهى إليه الأوّل رجع فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) : لِمَ رجعتَ ؟

فقال : والذي بعثك بالحقّ ما استطعت أن أمضي رُعباً .

فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأرسله بالروايا وخرج السقاة وهم لا يشكّون في رجوعه لما رأوا من رجوع مَن تقدّمه . وجاءت الأحابيش وثقيف مع قريش . فخرج الإمام علي (عليه السلام) بالروايا حتّى ورد الحرار فاستقى ثمّ أقبل بها إلى النبي (عليه السلام) ولها زجل (صوت) فكبّر النبي (صلى الله عليه وآله) ودعا له بخير([860]).

رغبة قريش في الحرب
فلمَّا كان النبي (صلى الله عليه وآله) بذي الحليفة قلَّد الهدي ، وأحرم هو وأصحابه منها ، ليأمن الناس حربه . ولمَّا وصل جيشه إلى قرب جيش خالد بن الوليد أمر خيله بالوقوف في إزاء جيش خالد . وشاهد المسلمون غلظة وخشونة من قبل المشركين ، فأبدوا لهم مثل ذلك ، كما قال الله سبحانه : (يَا أيُّها الَّذِينَ ءامَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ وَليَجِدُوا فِيكُم غِلظَةً)([861]).

ولمّا خرج عكرمة بن أبي جهل في خيله ، ناوشه المسلمون ، ورموهم بالحجارة ، حتَّى أدخلوهم مكَّة ... وعلى أثر ذلك ازداد الرعب في صفوف المشركين  ، وانخلعت أفئدتهم خوفاً من جيش المسلمين الرابض على أبواب مكّة .

وقال (صلى الله عليه وآله) : ياويح قريش ، نهكتهم الحرب ، فماذا عليهم لو خلَّوا بيني وبين العرب ، فإنْ هم أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم ، دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن أبوا قاتلوني وبهم قوّة ؟ فما تظن قريش ، فوالله الذي لا إله إلاّ هو ، لا أزال أُجاهد على الذي بعثني به ربِّي ، حتَّى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة([862]).

وقال (صلى الله عليه وآله) : « والذي نفس محمّد بيده ، لا تدعوني اليوم قريش إلى خطَّة يسألوني فيها صلة رحم إلاّ أعطيتهم إيّاها » .

ويظهر من قول الرسول (صلى الله عليه وآله) ، رغبته في الصلح مع قريش ، للإنفراد بسائر العرب في الجزيرة ، فيسهل عليه نشر الإسلام بينهم .

وحاول الرسول (صلى الله عليه وآله) عدم الاصطدام بجيش الكفّار فسلك أرضاً جرداء ليس فيها ماء .

وكانت قريش تعرف بمسير رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجيشه إلى مكّة فأرسلوا له خالد بن الوليد في جيش فحاول إثارة جيش المسلمين فصدّوه دون قتال . وتقدّم الطاغية خالد لاستقبال جيش المسلمين في ذي طوس ، فسلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير الطريق التي هم بها وسلك ذات اليمنى على مهبط الحديبية فبركت به ناقته وقال (صلى الله عليه وآله) : حبسها حابس الفيل([863]).

الآيات الباهرة
وفي السنة السادسة للهجرة أجدب الناس فاستسقى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شهر رمضان فسقاه الله تعالى([864]).

وعطش المسلمون في الحديبية ورسول الله (صلى الله عليه وآله) بين يديه ركوة يتوضّأ فيها فأقبل الناس نحوه فقال (صلى الله عليه وآله) : ما لكم ما لكم .

قالوا : ليس عندنا ماء نشرب ولا نتوضّأ منه إلاّ ما في ركوتك .

فوضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يده في الركوة([865]) فجعل الماء يفور بين أصابعه أمثال العيون .

قال : فشربنا وتوضّأنا ولو كنّا مائة ألف لكفانا ، كنّا خمس عشرة مائة([866]).

وهجم خمسون مشركاً على أطراف المسلمين ليصيبوا لهم من أصحابهم أحداً فأخذهم المسلمون وعفا عنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأطلق سراحهم([867]).

وقضيّة الحرب على الماء قضيّة قديمة ، فقد حاول الكافرون دائماً السيطرة على الماء ومنع المسلمين منه لقتلهم عطشاً([868]). فقد منع المشركون الماء عن عبدالمطّلب بن هاشم وصحبه لقتلهم عطشاً في صحراء الجزيرة ولمّا نبع الماء تحت قدمية لم يمنعه عبدالمطّلب من قريش .

ومنع المشركون الماء عن المسلمين في بدر بعد سيطرتهم على آبارها ، ولمّا سيطر رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الماء لم يمنعهم منه([869]). وسيطر الكافرون على الماء في غزوة الحديبية لقتل النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمين عطشاً ، فجاءهم الإمام علي (عليه السلام) بالماء في منطقة الجحفة وبارك الله تعالى لهم في عين الحديبية بدعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)([870]).

ومنع طلحة بن عبدالله الماء عن عثمان بن عفّان وصحبه وأهله أثناء الثورة على عثمان وردّ شفاعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في إعطائهم الماء([871]).

فسقاه الإمام (عليه السلام) الماء بواسطة ابنه الحسن (عليه السلام) .

ومنع معاوية بن أبي سفيان الماء عن أمير المؤمنين  علي (عليه السلام) وجيشه في معركة صفين ولمّا سيطر الإمام  علي (عليه السلام) على الماء سمح لمعاوية وجيشه بالشرب منه([872]).

وسقى الإمام الحسين (عليه السلام) جيش يزيد بن معاوية الماء في صحراء كربلاء ، ولمّا سيطروا على الماء منعوا الحسين (عليه السلام) وأهله وصحبه منه فقتلوهم عطشاً([873]).

سبب بيعة الرضوان
اعتقد زعماء قريش بأنّ الصلح مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غير صالحهم ، وهذا المبدأ قديم التزمت به قريش قبل وبعد هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة لأنّ الصلح يمكّن المسلمين من نشر الإسلام بسهولة في مدن وأراضي شبه جزيرة العرب . بل يساعدهم على نشر الدين خارج البلاد أيضاً .

ويعني الصلح الاعتراف برسالة النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) ودولته في المدنية ممّا يسهل على المسلمين إقامة العلاقات المحترمة مع سائر القوى القبلية والمدنية في المنطقة .

والصلح مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيمكّن المسلمين من الانتصار على باقي القوى المحالفة لقريش من الأحزاب مثل خيبر وغطفان وبني سليم وغيرها . وفعلاً حدث ذلك إذ فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيبر وحارب بني سليم ، وأرسل جيشاً إلى مؤته في الشام .

وفي مدّة سنتين عظمت شوكة المسلمين وضعفت منزلة المشركين فأقبلت الناس على دخول الإسلام رغبة في الدين من البعض ورغبة في المغانم من البعض الآخر فدخل عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري وأبو هريرة وخالد بن الوليد في الإسلام في تلك الفترة .

ودخلت قبيلة خزاعة في حلف مع المسلمين فتضاعفت جيوش رسول الله  (صلى الله عليه وآله)  .

وأدرك عمر بن الخطّاب ما أدركته قريش أيضاً وشاركه في ذلك عثمان بن عفّان وأبو بكر والمغيرة .

وباقي رجال الحزب القرشي من المهاجرين فعارضوا صلح الحديبية وخافوا خطره على قريش ، وعرفوا نفعه للموحّدين !

وذهب عثمان إلى مكّة للعمرة بدعوة من أبي سفيان في حين رفض الدعوة عبدالله بن أُبي زعيم المنافقين الذى قال له ابنه : كيف تطوف الكعبة ورسول الله  (صلى الله عليه وآله)ممنوع من الطواف بها !

وذهاب عثمان للعمرة كان عصياناً لأمر النبي (صلى الله عليه وآله) .

واعتقد القرشيون أنّ جيش المسلمين في الحديبية لقمة سائغة فهم في عددهم قليل بلا عدّة حربية .

وأدرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) نوايا قريش من رفضهم الصلح ومحاولة قتلهم سفيره خراش بن أُميّة الخزاعي وهجمة جيشهم على المسلمين بقيادة عكرمة بن أبي جهل  ، والهجوم الغادر عليهم من قبل خمسين آخرين ومحاولة خالد قتل المسلمين في الصلاة فنزلت آية : (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ)([874]).

ولخطورة الوضع ردّ عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالوسائل التالية :

إجراء بيعة الرضوان التي بايع فيها المسلمون على الموت وعدم الفرار لتخويف المشركين الداعين للحرب وإرعاب جواسيسهم في الوسط الإسلامي .

والبيعة وسيلة جماهيرية تبيّن مكانة الزعيم في صفوف الناس وتعوّد المسلمين على اتّباع هذه الطريقة دائماً ، وتزيد من المحبّة بين القائد وشعبه لذلك يخاف هذه البيعة المستبدّون الظالمون .

فأدرك زعماء مكّة أنّ هذه الحرب ستكون كبدر لا كأُحد وعندها تتحطّم رؤوسهم كما تحطّم رأس عتبة وشيبة والوليد وأبي جهل وأُميّة بن خلف وعتبة بن أبي معيط في بدر .

فتلك البيعة على الموت أخافت المشركين وخلعت أفئدتهم وسلبتهم نومهم .

وهدّدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)([875]) الذي قتل زعماءهم وأبطالهم في بدر وأُحد والخندق وأيّ جولة أُخرى له ستمكّنه من قتل رموزهم الآخرين مثل أبي سفيان وحكيم بن حزام وصفوان بن أُميّة وخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل .

وهذا التهديد النبوي لهم ثبَّط عزائمهم ونشر الخوف في أوصالهم كيف لا والامام علي (عليه السلام) لا يقف أمامه أحد فهو منصور بالعناية الإلهية وبلغت قوّته حدّاً أجازت لأبطال العرب كشف عوراتهم أمامه للهروب من سيفه ، بينما كان العرب يهتّمون بسمعتهم أكثر من أي شيء آخر .

وأطلق رسول الله (صلى الله عليه وآله) سراح الأسرى القرشيين الخمسين المهاجمين للمسلمين تعبيراً عن حسن النيّة([876]).

بيعة الرضوان
ولمَّا كان الرسول (صلى الله عليه وآله) يحمل راية الصلح والسلام في يد ، ويحمل السيف في اليد الأُخرى ،تخويفاً وتهديداً لقريش نراه جمع أصحابه للبيعة تحت شجرة ، فكانت بيعة الرضوان . فبايعوه بأجمعهم على الموت في نصرته وعلى أن لا يفرّوا ، (وفيهم كهف المنافقين ابن سلول) لم يتخلّف منهم إلاّ رجل يدعى الجدّ بن قيس الأنصاري وعثمان بن عفّان([877]).

وأقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمسلمون في الحديبية بضعة عشر يوماً([878]) ومن شدّة حبّ المسلمين لبيعة الرضوان كانوا يصلّون عند تلك الشجرة عندما يمرّون بها فأمر عمر بقطعها([879]) بغضاً منه لتلك البيعة التي انتهت بهزيمة قريش وفتح مكّة .

وبعد بيعة الرجال جرت بيعة النساء ، وكانت بيعة النساء لرسول الله (صلى الله عليه وآله)تتمثّل في أمره أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) في طرح ثوب للنساء ثم مسحه (صلى الله عليه وآله) بيده ، فكانت مبايعتهنّ للنبي (صلى الله عليه وآله) بمسح الثوب([880]).

ومثلما تعهَّد الرسول (صلى الله عليه وآله) بالصلح مع قريش ، فقد وافق على شروطهم للسلام لحكمة إلهيَّة . ولأجل اعتقاد المسلمين بنبوّة محمد (صلى الله عليه وآله) ، وحكمته ، وأفعاله المسدّدة من الله تعالى فقد سكتوا ، ورضوا بشروط الهدنة([881]).

قول النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) في الحديبية
قال سيّد الرسل (صلى الله عليه وآله) في الحديبية عن علي (عليه السلام) : « هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله »([882]).

وأمر النبي (صلى الله عليه وآله) في بيعة الرضوان الناس بالسلام على علي (عليه السلام) بإمرة المؤمنين([883])، فبايعه المسلمون بذلك .

شروط الصلح
ولمّا اتّفق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسهيل بن عمرو على وثيقة الصلح دعا رسول الله  (صلى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم .

فقال سهيل : لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهمّ .

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : اكتب باسمك اللهمّ هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله  (صلى الله عليه وآله) وسهيل بن عمرو .

فقال سهيل : لو شهدت إنّك رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم أُقاتلك ، ولكن اكتب محمّد بن عبدالله . ولم يمحها الإمام علي (عليه السلام) فمحاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده وقال لعلي : تدعى لمثلها فتجيب([884]).

فكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبدالله وسهيل بن عمرو([885]).

وكان الصلح على أن يرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأصحابه من الحديبية فإذا كان العام القابل ، تخرج قريش من مكَّة ، فيدخلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأصحابه ، فيقيم بها ثلاثاً ، وليس معه من السلاح سوى السيوف في القرب والقوس .

وأن توضع الحرب بينه وبينهم ثلاث  سنين([886])، يأمن فيها الناس ، ويكفُّ فيها بعضهم عن بعض .

وأنَّه مَن أحبَّ مِن العرب أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه ، ومن أحبَّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه .

وأن يكون بين الفريقين عيبة مكفوفة (أي صدور منطوية على ما فيها لا تبدي عداوة) وإنّه لا إسلال ولا إغلال (أي لا سرقة ولا خيانة) .

وأنّه من أتى محمّداً من قريش ممَّن هو على دين محمّد بغير إذن وليِّه ردَّ إليه ، ومن أتى قريشاً ممّن مع محمّد فارتدَّ عن الإسلام لا تردّه قريش إليه .

فقال المسلمون : سبحان الله كيف نردَّ للمشركين من جاءنا منهم مسلماً . وعظم عليهم هذا الشرط .

فقالوا يارسول الله : أتكتب هذا على نفسك ؟

قال : نعم إنَّه من ذهب منَّا مرتدَّاً أبعده الله ، ومن جاءنا مسلماً فرددناه إليهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً([887]).

وطالب سهيل بشرط صعب ألا وهو إرجاع العبيد الفارّين إلى مالكيهم مثل بلال الحبشي وعمّار بن ياسر قائلاً : يامحمّد إنّ أرقّاءنا لحقوا بك فارددهم علينا ، فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى تبيّن الغضب في وجهه ثمّ التفت إلى أبي بكر وعمر فقال لهما : ما تقولان ؟

قالا : صدق الرجل .

فتغيّر وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتفت إلى الوفد وقال (صلى الله عليه وآله) : « لتنتهنّ أو ليبعث الله عليكم رجلاً امتحن الله قلبه للإيمان يضرب رقابكم على الدين » .

فقال بعض من حضر : يارسول الله (صلى الله عليه وآله) أبو بكر ذلك الرجل ؟

قال (صلى الله عليه وآله) : لا .

قيل : فعمر .

قال النبي (صلى الله عليه وآله) : « لا ولكنّه خاصف النعل في الحجرة فتبادر الناس ينظرون مَن الرجل ؟ فاذا هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) »([888]).

ولو عاد بلال وعمّار وصحبهم لقتلهم المشركون بمن قتلوا في بدر وأُحد !

وكانت آراء أبي بكر وعمر وعثمان والمغيرة وصحبهم في الحديبية متطابقة تماماً مع رؤساء مكّة .

وانكشف الناس على حقيقتهم في تلك الحادثة الغير حربيّة فظهر المسلمون في الصفّ القرشي وبرز المنافقون في الجانب الإسلامي .

فذهب عثمان إلى مكّة للعمرة ملبّياً دعوة أبي سفيان في معارضة عملية للمسلمين .

وأفصح عمر عن معارضة لفظيّة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) محتجّاً مراراً عليه فغضب عليه سيّد الرسل وهجره .

فقال عمر : خفت نزول قرآن فيَّ وقال عمر : ما شككت إلاّ يومئذ([889]).

 

الفصل السابع : معركة خيبر

حركة النبي (صلى الله عليه وآله) إلى خيبر
خيبر واحة في طريق الشام بينها وبين المدينة إثنان وثلاثون فرسخاً أي ستّة وتسعون ميلاً([890])، ومشي ثلاثة أيّام إلى جهة الشام([891]). وخيبر بلسان اليهود الحصن  ، وقيل سمّيت بإسم خيبر بن قانية([892]) وفيها مزارع وأربعون ألف نخلة .

وكان الله تعالى قد وعد النبي (صلى الله عليه وآله) إيّاها وهو في الحديبية ، في قوله تعالى : (وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)([893]).

(وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا)([894]) فارس والروم([895]).

فبعد اتّفاق رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع قريش على صلح الحديبية تفرّغ لحرب يهود خيبر الذين جهّزوا جيوش الأحزاب ضدّه واستمرّوا في حربه منذ وصوله المدينة .

ولقد عاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الحديبية في شهر ذي الحجّة سنة ست فأقام فيها ذا الحجة والمحرّم ثمّ ذهب إلى حرب يهود خيبر في محرّم سنة سبع([896]) وأخذ معه أُمّ سلمة واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة([897]).

ولمّا أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) أصحابه بالتهيّؤ للغزو جاء المخلَّفون رجاء الغنيمة وقد تخلّفوا عن الحديبية قائلين : نخرج معك إلى خيبر إنّها ريف الحجاز طعاماً وودكاً وأموالا([898]).

فقال الرسول (صلى الله عليه وآله) : لا تخرجوا معي إلاّ راغبين في الجهاد فأمّا الغنيمة فلا . فشقّ ذلك على يهود المدينة الموادعين للرسول (صلى الله عليه وآله) لأنَّهم خافوا هلاك خيبر فلم يبق لأحد من اليهود حقّ على أحد من المسلمين إلاّ لَزِمَه .

وأرسل عبدالله بن أُبي إلى يهود خيبر أنْ خذوا حذركم وأدخلوا أموالكم حصونكم واخرجوا إلى قتاله ولا تخافوا منه إنّ عددكم كثير وقوم محمّد شرذمة قليلون عزّل لا سلاح معهم إلاّ قليل([899]).

وقطع النبي (صلى الله عليه وآله) المسافة بين المدينة وخيبر بثلاثة أيّام ولمّا دنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)من خيبر قال للناس : قِفوا فوقف الناس فرفع يديه إلى السماء وقال : « اللهمّ ربّ السماوات السبع وما أظللن وربَّ الأرضين السبع وما أقللن وربَّ الشياطين وما أضْلَلْنَ ، أسألك خير هذه القرية وخير ما فيها ، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها  »([900]) ولم تكن خيبر مختصّة بأهل الحديبية([901]) فقط بل الشرط في الغزوة أن يكون الهدف الجهاد في سبيل الله تعالى وليس الغنائم .

وكان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا غزا قوماً لم يُغِرْ عليهم حتّى يُصبح فإن سمع أذاناً أمسك وإن لم يسمع أذاناً أغار([902]).

وكان يهود خيبر لا يظنّون أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يغزوهم لمنعتهم في حصونهم وسلاحهم وعددهم ، فكانوا يخرجون كلّ يوم عشرة آلاف مقاتل صفوفاً ثمّ يقولون : محمّد يغزونا ؟ هيهات ، هيهات .

وقال يهود المدينة للمسلمين : ما أمنع والله خيبر منكم ! لو رأيتم خيبر وحصونها ورجالها لرجعتم قبل أن تصلوا إليهم ، حصون شامخات في ذُرى الجبال ، والماء فيها واتن([903]). وكانت خيبر أرضاً وخيمة شديدة الحر فجهد المسلمون جهداً شديداً([904]).

وخرج الرسول (صلى الله عليه وآله) في ألف وستّمائة من المسلمين ، وأعطى الراية لحاملها في حروبه كلّها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)([905]). ومعه مائتا فارس ، ونزل عليهم ليلاً وفي الصباح شاهدهم الرسول (صلى الله عليه وآله) ، فقالوا : محمّد والخميس أي الجيش .

فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : الله أكبر إنّا إذا نزلنا بساحة قوم (فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ)([906]).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للمسلمين لا يحلّ إتيان الحبالى من السبايا ، ولا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتّى يستبرئها ، ولا يحلّ لامرىء أن يبيع مغنماً حتّى يقسّم([907]).

قال اليهود : إنَّ بخيبر لألف دارع ما كانت أسدٌ وغطفان يمتنعون من العرب قاطبة إلاّ بهم ، فأنتم تطيقون خيبر ؟

قال المسلمون لهم : وعد اللهُ تعالى نبيَّه أن يُغنمه إيّاها([908]).

استعداد اليهود للحرب
واختلف اليهود بينهم في طريقة محاربة المسلمين فقال الحارث أبو زينب اليهودي : نعسكر خارج الحصون ونحاربهم .

وقال آخرون : نحاربهم من داخل الحصون([909]).

وكان يهود خيبر مرعوبين وجلين من المسلمين وقريش مسرورة بهذه الحرب لمعرفتها بقدرة وعظمة حصون خيبر وكثرة مقاتليها وقالوا : إن ظفر محمّد فهو ذُلّ الدهر .

ودعا كنانة بن أبي الحقيق غطفان لنصرهم ولهم نصف تمر خيبر سنة . فلمّا سمعت قبيلة غطفان بمجيء رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيبر جمعوا له ثمّ خرجوا ليعاونوا اليهود عليه ، حتّى إذا ساروا مرحلة سمعوا خَلفهم في أموالهم وأهليهم حسّاً ، فظنّوا أنّ القوم قد خالفوا إليهم ، فرجعوا على أعقابهم فأقاموا في أهليهم وأموالهم ، وخلّوا بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين خيبر([910]).

والظاهر أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) افتعل عملية عسكرية أخافت قبيلة غطفان وأرجعتهم من خيبر ، تتمثّل في مسيره في طريق يصل إلى مساكن غطفان ونزل بالرجيع فارتفعت الأصوات والصياح في مساكنهم ، فخافت هذه القبيلة وفضّلت أولادها ونساءها على تمر خيبر([911])!

ولمّا وصل رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيبر قال : الله أكبر خُربت خيبر وابتنى مسجداً هناك ، وشعار المسلمين : يامنصور أَمِتْ([912]).

وأدخل اليهود نساءهم وذراريهم وأموالهم حصن الوطيع والسلالم ، وأدخلوا ذخائرهم حصن ناعم ، ودخلت المقاتلة حصن نطاة وكان حصن القموص أمنع حصون خيبر وأشدّها وهو الحصن الذي كان فيه ملكهم مرحب وحفر اليهود خندقا حول حصونهم مثل خندق المدينة والحصون في قمم الجبال ولكلّ حصن باب عظيم من حجارة طوله أربع أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع .

وجاء راعي لرجل من اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليعرّفه على الإسلام فعرّفه عليه فأسلم فقال : إنّي كنت أجيراً لصاحب هذه الغنم وهي أمانة عندي فكيف أصنع بها ؟

قال اضرب في وجهها فإنّها سترجع إلى ربّها ، فضرب في وجهها بحفنة من الحصباء فخرجت مجتمعة كأنّ سائقاً يسوقها حتّى دخلت الحصن . ثم تقدّم إلى ذلك الحصن فقاتل مع المسلمين فأصابه حجر فقتله([913]).

وقائع المعركة
وابتدأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حربه بحصن المقاتلة وكانوا في منطقة مرتفعة على جيش رسول الله (صلى الله عليه وآله) فالنبل يسرع إليهم([914]) وحاصرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بضع عشرة ليلة .

فقد أخرج علي بن أبي بكر الهيثمي عن ابن عباس أنَّه قال : بعث رسول الله إلى خيبر أحسبه قال : أبا بكر فرجع منهزماً ومن معه . فلمَّا كان الغد بعث عمر فرجع منهزماً يجبِّن أصحابه ويجبِّنه أصحابه([915]).

فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : « لأعطينَّ الراية غداً رجلا يحبّ الله ورسولَه ويحبُّه الله ورسولُه ، يفتح الله على يديه ، كرّار ليس بفرّار ، فبات الناس يخوضون ليلتهم أيّهم يعطاها فلمَّا أصبح أرسل إلى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وهو أرمد فقال (عليه السلام) : ما اُبصر سهلا ولا جبلا ، فقال (صلى الله عليه وآله) : افتح عينيك ، ففتحهما ، فتفل فيهما » .

قال الإمام علي (عليه السلام) : « فما رمدت عيناي ولا صدعت حتّى الساعة »([916]). ثمَّ دفع إليه اللواء ، ودعا له ومن معه من أصحابه بالنصر ، فكان أوّل من خرج إليهم الحارث أخو مرحب في عاديته ، فانكشف المسلمون وثبت الإمام علي (عليه السلام) ، فاضطربا فقتله الإمام علي (عليه السلام) ، وخرج أخوه ياسر للمبارزة فقلته الإمام علي (عليه السلام)ورجع أصحاب الحارث إلى الحصن فدخلوه وأغلقوا الباب  عليهم وخرج مرحب وهو ملكهم ; طويل القامة عظيم الهامة([917]) والظاهر أنّه أصبح ملكاً عليهم بعد مقتل حي بن أخطب([918]) وهو يقول :

قد علمت خيبرُ أنِّي مرحبُ *** شاكي السلاح بطل مجرَّبُ

أطعنُ أحياناً وحينا أَضرِب

فقال عليٌ (عليه السلام) :

أنا الذي سمَّتني أُمِّي حيدره *** أُكيلكم بالسيف كيل السندره

ليثٌ بغابات شديدٌ قسوره

فاختلفا ضربتين فبدره عليٌ (عليه السلام) فضربه بسيفه ذي الفقار ، فقدَّ الحجر والمغفر ورأسه ، حتَّى وقع في الأضراس ، وسمع أهل العسكر صوت ضربته وأخذ المدينة ، وقد قَتَل الإمام علي (عليه السلام) الأُخوة الثلاثة مرحباً والحارث وياسراً الَّذَيْن طلبوا المبارزة على التوالي([919]).

وكان للجوّ النفسي الذي وضعه اليهود حول قوّة جيشهم في خيبر وما عرف به مرحب وأخواه من شجاعة ; الأثر القوي في فرار أبي بكر وعمر ...

وذكر الذهبي رواية البكائي عن ابن إسحاق ، وهى رواية جابر بن عبدالله الأنصاري :

أنّ علياً حمل باب خيبر ، حتّى صعد المسلمون عليه ، فافتتحوها ، وأنّه خرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا([920])، وقيل حمل الباب على ظهره حتّى صعد المسلمون عليه ودخلوا الحصن .

وكان الباب من حجارة طوله أربع أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع فاقتلعه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ورماه خلفه ودخل الحصن ودخله المسلمون([921]) وكان اليهود قد حفروا خندقاً حول الحصن فجعل الإمام علي (عليه السلام)الباب الذي رفعه قنطرة على الخندق واجتاز المسلمون عليه إلى أبنية الحصن بعد أن قتل قائدهم الحارث بن أبي زينب .

وقال الإمام علي (عليه السلام) : « ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانية ولكن بقوّة إلهية  »([922]).

وقد وصف الأُستاذ عبدالرحمن الشرقاوي في (كتابه محمّد رسول الحرية) معركة خيبر ومواقف الإمام علي فيها والإنتصارات الحاسمة التي حقّقها خلال ساعات قلائل بعد محاولات استمرّت عدّة أيّام من قبل المسلمين لم تغن عنهم شيئاً .

ورأى محمّد (صلى الله عليه وآله) أن يحشّد كلّ قواه الضاربة لفتح هذا الحصن فاجتماع اليهود فيه يجعلهم أقدر على الفتك بالمسلمين .

وجمع محمّد (صلى الله عليه وآله) جيشه وأمرهم أن يقتحموا الحصن وسلّم أبا بكر راية الجيش ، ولكنّ أبا بكر لم يستطع أن يصنع شيئاً ولا أن يقتحم الحصن ، وفي اليوم التالي جعل القيادة لعمر بن الخطّاب ، وحارب عمر يومه كلّه ولكنّه لم يستطع أن يقتحم الحصن وظلّ اليهود على مواقفهم المنيعة يسدّدون ضرباتهم دون أن يخرج منهم رجل واحد للقتال في السهل المكشوف([923]).

وكانت هذه الحصون والأعداد العسكرية الهائلة يسندها المال والسلاح والشهرة القتالية والمكر اليهودي .

وبسبب ذلك فقد فرَّ جيش المسلمين في الحملتين الأُولى والثانية على خيبر ، والقائدان المهزومان هما أبو بكر وعمر .

فلم تقتصر هزيمة عمر على فراره في أُحد ، وذعره من منازلة عمرو بن عبد ودّ العامري في الخندق ، بل فرَّ أمام اليهود في خيبر .

وكانت كتائب اليهود قد خرجت يتقدمهم ياسر فكشف الأنصار حتّى انتهى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في موقفه فاشتدّ ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمسى مهموماً([924]).

فدعا محمّد (صلى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقال له خذ هذه الراية ، فتح الله عليك وخلع الإمام علي عنه الدرع ليكون خفيف الحركة وطالب رجاله أن يتخفّفوا من الدروع التي تثقلهم ليكونوا خفافاً ، وانصرف وفي ذهنه وصيّة محمّد : إنفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم ، ثمّ ادعهم إلى الإسلام فإن لم يطيعوا فقاتلهم فوالله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم .

وكان النبي (صلى الله عليه وآله) حين وصف علياً (عليه السلام) قائلا : « كرّار ليس بفرّار »([925]) يعرّض بأبي بكر وعمر الذين فرَّا من اليهود .

وكانا قد فرَّا في حرب المشركين في أُحد ! ثم فرَّا في حرب حنين !

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) : « قاتلهم حتّى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها » .

وتقدّم الإمام علي فدعاهم إلى الإسلام ولكنّهم سخروا منه فطالبهم أن يحاربوا المسلمين رجلا لرجل ويبعثوا إليه شجعانهم ليبارزهم هو بنفسه الواحد تلو الآخر وخرج إليه الحارث أحد شجعانهم فصرعه الإمام علي (عليه السلام) ، وخرج إليه رجل آخر فصرعه أيضاً .

وإذ ذاك تعالت من المسلمين صيحات السخرية بقوّة شجعانهم ، وسأل الإمام علي (عليه السلام) شجعان خيبر أن يبعثوا إليه برجل يثبت في المعركة([926])، فخرج إليه زعيمهم مرحب وكان هو حقّاً سيّد فرسان خيبر ، ولكنّه خرج إلى الإمام علي بطيئاً في كبرياء وثقة مطمئنة مهيباً ضخماً بيده حربة ذات ثلاثة رؤوس وكلّ جسده الفارع الشاهق في الزرد ، والحديد يغطّي رأسه وساقيه وليس في كلّ بدنه ثغرة ينفذ منها سيف .

وتقدّم إليه الإمام علي بقامته المعتدلة بلا درع وفي يده السيف وحده وتوقّع المسلمون واليهود جميعاً أنّها نهاية الإمام علي (عليه السلام) ، ولكنّ علياً إستطاع أن يحسن الإستفادة من تخفّفه من الدرع والزرد ، وترك مرحباً يتقدّم بدرعه وزرده وحربته حتّى إذا أوشك سنّ الحربة أن يمسّ صدر الإمام علي (عليه السلام) تراجع الإمام علي فجأة ثمّ قفز في الهواء متفادياً حربة مرحب ، ثمّ اقتحم وأهوى بكلّ قوّته على رأس مرحب بالسيف ، فانفلق الحديد من على رأس مرحب وسقط سيف الإمام علي (عليه السلام) على الجمجمة فشقّها نصفين ، وهوى مرحب وسط ذعر اليهود وعجبهم وصيحات النصر ترتفع من معسكر المسلمين .

واندفع الإمام علي إلى باب الحصن هو ورجاله يدكّونه بكلّ طاقاتهم حتّى اقتحموه ، واليهود الذين أذهلهم موت مرحب يفرّون فزعين إلى حصن آخر .

وروى السيّد مرتضى الفيروزآبادي في كتابه فضائل الخمسة في المجلّد الثاني حديث الراية في خيبر بكامله عن صحيحي البخاري ومسلم ، وعن أحمد بن حنبل والنسائي والإستيعاب وكنز العمّال والرياض النضرة والترمذي وابن ماجه وغيرهم .

وفي معركة خيبر اختلفت الأحداث عن حرب بدر ، إذ واجه المسلمون حصوناً منيعة ، وكثرة محاربين ملحوظة ، فقد ذكرت الروايات وجود عشرة آلاف مقاتل يهودي في خيبر . وذكر بريدة الأسلمي : أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطى اللواء عمر بن الخطاب (فنهض معه من نهض من الناس)([927]). فلقوا أهل خيبر ، فانكشف عمر وأصحابه ، فرجعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يُجَبِّنُه أصحابه ويُجَبِّنهُمُ .

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « لأعطينّ اللواء غداً رجلا يحبُّ الله ورسوله ، ويحبُّه الله ورسوله فلمَّا كان الغد تصدر لها أبو بكر وعمر ، فدعا علياً وهو أرمد ، فتفل في عينه ، وأعطاه اللواء »([928]).

ثمَّ قال (صلى الله عليه وآله) : « اللهمّ اكْفِهِ الحرَّ والبرد ، فما وجد بعد ذلك حرّاً ولا برداً »([929]).

وذكر البيهقي الرواية في قتل الإمام علي (عليه السلام) لمرحب قائلا : فاختلفا ضربتين ، فبدره الإمام علي بضربة فقدَّ الحجر والمغفر ورأسه ، ووقع في الأضراس ، وأخذ المدينة .

وبه جزم مسلم وابن الأثير وسائر رجال السيرة([930]).

وحصن ناعم هو أوّل حصن فتح من حصون النطاة على يد الإمام علي كرَّم الله وجهه ، ثمّ فتح الإمام علي كرَّم الله وجهه حصن القموص ، وكان منيعاً حاصره المسلمون عشرين ليلة ، ومنه سبيت صفية .

وفي رواية حذف الناشر اسمي المنهزمين من معركة خيبر أبي بكر وعمر ، ووضع بدلهما فلاناً ورجلا إذ جاء : أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذ الراية ، فهزَّها ، ثم قال : من يأخذها بحقّها ؟

فجاء فلان فقال : أنا ، فقال امض ، ثم جاء رجل آخر ، فقال : امض ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله) : « والذي كرَّم وجه محمّد لاعطينَّها رجلا لا يفرّ ، فقال : هاك ياعلي ، فانطلق حتّى فتح الله عليه خيبر وفدك وجاء بعجوتها وقديدها »([931]).

فالناشر لم يرض بذكر اسمي أبي بكر وعمر كمنهزمين في معركة خيبر فقال جاء فلان وجاء رجل ليثبت قدرته على تغيير الحقائق والروايات مثلما يحبّ ويهوى !

ولم يحاول الرواة والنسّاخ والناشرون حذف أسماء الفارّين من قيادات الحزب القرشي فقط ، بل حاولوا سلب مناقب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لصالح هؤلاء ! خيانة لله ورسوله لتنطبق عليهم صفة المنافقين .

قال ابن عرفة : إنَّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة ، إفتعلت في أيّام بني أُميَّة ، تقرُّباً إليهم ، بما يظنُّون أنَّهم يرغمون به أُنوف بني هاشم([932]).

ومن هذا التحريف : روى الزهري الأموي([933]) أنَّ الذي قتل مرحباً هو محمد بن مَسْلمة حسداً لعلي (عليه السلام) . وسبب تفضيل محمد بن مسلمة أنّه يهودي الأصل ومن المتشدّدين في محاربة أهل البيت (عليهم السلام) والأنصار فقد اشترك في الهجوم على بيت فاطمة (عليها السلام)([934])، وقتل سعد بن عبادة زعيم الأنصار([935]).

لذلك أحبّه الأمويون كثيراً وكيف لا يحبّونه وهو يشترك معهم في كره أهل البيت (عليهم السلام) والأنصار فلم يبايع لأمير المؤمنين (عليه السلام) في خلافته([936]).

والمدهش أنّ محمد بن مسلمة أخو مرحب فأراد الأمويون طمس ذلك وإخفائه فجعلوه قاتله . إذ قال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في سبب عدم مبايعة محمد بن مسلمة له : وذنبي إلى محمد بن مسلمة أنّي قتلت أخاه يوم خيبر مرحب اليهودي([937]).

وبقيت في قلوب المشركين حسرة عدم انتصار اليهود على المسلمين فحاولوا تمجيد اليهود ودعمهم مثل كعب الأحبار ومحمد بن مسلمة وعبدالله بن سلام وزيد بن ثابت .

(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) .

وأعطى الأمويون دوراً لكعب بن مالك لأنّه تخلّف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في معركة تبوك وناصر عثمان ولم يبايع علياً (عليه السلام) في خلافته([938]).

وهكذا روى ابن كثير الأموي كذباً : أنَّ محمداً قطع رجلي مرحب فقال له اجهز عَلَيَّ ، فقال : ذق الموت كما ذاقه محمود بن مسلمة ، فمرَّ به الإمام علي وقطع رأسه ، فاختصما في سلبه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فأعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله) محمد بن مسلمة سيفه ورمحه ومغفره وبيضته([939]).

فلم يكتف الأمويون وأنصارهم بسلب منقبة من مناقب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، بل حوَّلوها إلى مذمَّة له بتصويره رجلا يطالب بسلب قتيل غيره ! فيحكم النبي (صلى الله عليه وآله) لغير صالحه !

والحقّ أنّ علياً (عليه السلام) قتل مرحباً اليهودي وكانت عادة الإمام علي (عليه السلام) أن لا يسلب قتيله([940]) مثلما فعل مع عمرو بن عبد ودّ العامري وحملة لواء قريش في بدر وأُحد وتُحدّثنا السيرة ، بأنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) (عميد أهل البيت (عليهم السلام)) رفض تَسَلُّمَ إثني عشر ألف درهم ثمناً لجثّة نوفل بن عبدالله المخزومي ، الذي قتله الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في معركة الخندق ، قائلا : « لا خير في جسده ولا في ثمنه »([941]).

فلمّا قتل الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) عمرو بن عبد ودّ العامري في معركة الخندق قال له عمر بن الخطّاب : هلاَّ استلبته درعه ، فإنّه ليس للعرب درع خير منها ؟

قال (عليه السلام) : ضربته فاتّقاني بسوءته ، فاستحييت أن أسلبه([942]).

وجاء أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) رفض أيضاً تسلُّم إثني عشر ألف درهم ثمناً لجثّة عمرو بن عبد ودّ العامري المقتول بيد الإمام علي (عليه السلام) .

لقد قتل الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أبطال وفرسان الأعداء في بدر وأُحد والخندق وخيبر وحنين ولكنّ المنافقين من أعداء أهل البيت حاولوا تحريف تلك الأخبار ، وإعطاء تلك المناقب لرجال آخرين حسداً منهم لولي المسلمين وسيّد العرب ووصي المصطفى (عليه السلام) وكان من طبيعة الإمام علي (عليه السلام) أن لا يسلب قتيله([943]). ولا يقتل جريحاً ولا يلحق فارّاً .

قال عمر : لقد أُعطي الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثلاث خصال لأن تكون لي خصلة منها أحبُّ إلىّ من أن أُعطى حمر النعم تزوُّجَهُ بفاطمة (عليها السلام) وسكناه المسجد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحلّ له ما يحلّ له والراية يوم خيبر »([944]).

وقال الحلبي : كانت حصون اليهود : النطاة والشقّ والصعب والقموص والوطيح والسلالم ، والحصون الأربعة الأُولى فتحت عنوة والخامس والسادس فتحا صلحاً .

ولقد تزوّج النبي (صلى الله عليه وآله) بصفيّة في الصهباء المكان الذي رُدّت فيه الشمس لعلي  (عليه السلام) بعدما غربت([945]). فحدثت لعلي (عليه السلام) في خيبر كرامتان :

الأُولى : قتل ملك اليهود وأبطالهم وسحق جيشهم خارج الحصون ثم رفع بابهم العظيمة وجعلها جسراً فوق خندقهم لدخول حصنهم وفتحه وفتح الحصون الأُخرى .

والثانية : ردّت الشمس إليه بعدما غربت([946]).

نتيجة المعركة
وبعد فراغ المسلمين من خيبر قدم جعفر بن أبي طالب وصحبه من الحبشة فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : « والله ما أدري بأي الأمرين أنا أشدّ فرحاً بفتح خيبر أو قدوم جعفر » ثمّ قام إليه فقبّل ما بين عينيه([947])، وكان معه ستّة عشر رجلاً([948]) والظاهر بأنّ جعفراً قد بقى هذه المدّة الطويلة في الحبشة لنشر الإسلام في افريقيا بعد أن عاد معظم المهاجرين إلى المدينة إثر وصول النبي (صلى الله عليه وآله) إليها .

لقد فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعض الحصون عنوة ، وبعضها جنح أهلها إلى الصلح أي الوطيح والسلالم فصالح رسول الله (صلى الله عليه وآله) اليهود على أن تحقن دماؤهم ولهم ما حملت ركابهم وللنبي (صلى الله عليه وآله) الصفراء والبيضاء والسلاح ويخرجهم وشرطوا أن لا يكتموه شيئاً فإن فعلوا لا ذمّة لهم ولا عهد . فلمّا وجد المال الذي غيّبوه في مسك الجمل([949]) غلبهم على الأرض والنخل . وقسَّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيبر على ألف وثمانمائة سهم . وكان الرجال بها ألف وأربعمائة والفرسان مائتي فارس ، فقسّم للفارس ثلاثة أسهم سهمين لفرسه وسهماً له وللراجل سهماً . وقسّم رسول الله (صلى الله عليه وآله)خيبر على مَن شهد الحديبية فأعطى جابر بن عبدالله الأنصاري رغم غيابه عن خيبر([950]) وأعطى النسوة اللاتي رافقنه لمداواة الجرحى من الفيء .

وأخذ النبي (صلى الله عليه وآله) صفيّة بنت حي بن أخطب في سهمه وأعتقها وتزوّجها([951]). وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وليمة صفيّة التمر والأط والسمن([952]). وكانت قد روت لزوجها ابن أبي الحقيق أنّها رأت الشمس سقطت على صدرها فضربها على وجهها قائلاً : تتمنّي ملك العرب .

وأعرس بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن طهرت من الحيض([953]).

وحصل المسلمون على كنز حي بن أخطب وقتلوا ابن أبي الحقيق الذي غيَّبه فدلّه الله تعالى عليه([954]) وكان كنانة بن الربيع قد غيّب كنز بني النضير في خربة فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك ؟

قال : نعم .

فلمّا وجد المسلمون الكنز قتلوه([955]).

ثمّ دفع لهم الأرض يعملون فيها على الشطر قائلاً : أُقرّكم ما أقرّكم الله([956]).

ولم يطلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إخراج اليهود إلى الشام لذلك لم يخرجهم في أيّام حكمه الممتدّة أربع سنوات بعد فتح خيبر .

ولم يخرجهم أبو بكر عن خيبر بل سار على النهج النبوي ولم يخرجهم عمر في السنوات الأُولى لحكمه والممتدّة أربع سنوات ، وبعد إسلام كعب الأحبار طلب من عمر إعادة اليهود إلى فلسطين التي أُخرجوا منها ، فوافق عمر .

ولأنّ القضية خطيرة ولا يوافق عليها المسلمون ، فقد صنعوا حديثاً على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مفاده توصيته بإخراج اليهود إلى الشام وذكر ذلك الحديث الزهري الأموي الميول والهوى([957]).

وقُتل من اليهود ثلاثة وتسعون رجلاً ، وقُتِل من المسلمين ستة عشر شخصاً([958]).

ورووا كذباً أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حرّم المتعة وحرّم أكل لحوم الحمر الأهلية في خيبر([959]).

ردّ الشمس بين الشيعة والناصبة
ردّت الشمس للإمام  علي (عليه السلام) في موطنين أحدهما في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) في غزوة خيبر والثاني بعد رجوعه من معركة النهروان([960]). وحديث ردّ الشمس يكاد يكون متواتراً ، وألّف فيه الكثير من العلماء كتباً خاصّة وعلى رأس هؤلاء السيوطي .