وقال الديار بكري : وفي هذه السنة طلعت الشمس بعد ما غربت لعلي (عليه السلام)على ما أورده الطحاوي في مشكلات الحديث عن أسماء بنت عميس من طريقين :

أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي (صلى الله عليه وآله) ولم يصلِّ العصر حتّى غربت الشمس فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أصلّيت ياعلي ؟

قال : لا .

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « اللهمّ إنّه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس  » .

قالت أسماء : فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعدما غربت ووقعت على الجبل وذلك في الصهباء في خيبر »([961]).

وفي المنتقى قال أحمد بن صالح : لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلّف عن حفظ حديث أسماء لأنّه من علامات النبوّة([962]).

وبحث هذا الموضوع العلاّمة الأميني في كتابه الغدير بشكل رائع([963]).

والمؤيّدون لصحّة الحديث من علماء السنّة : أبو بكر الوراق([964]) والحافظ الخطيب البغدادي المترجم ذكره في تلخيص المتشابه([965]). والحافظ أبو زكريا الأصبهاني الشهير بابن مندة في كتابه المعرفة والحافظ القاضي عياض في كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1 / 548 . وأخطب خوارزم في كتابه المناقب([966])، والحافظ أبو الفتح النطنزي في كتابه الخصائص العلوية والحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه([967]).

والحاكم ابن شاهين في مسنده الكبير والحاكم النيسابوري والحافظ ابن مردويه الأصبهاني وأبو إسحاق([968]) البغدادي الشهير بالماوردي في كتابه أعلام النبوّة([969]).

والحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه الدلائل([970]). والحافظ محمد الطحاوي في كتابه مشكل الآثار قائلاً : هذان الحديثان ثابتان ورواتهما ثقات([971]).

وذكرالحديث وصحّحه العلاّمة سبط بن الجوزي في كتابه تذكرة الخواص([972]).

وصحّحه الحافظ أحمد زيني دحلان في كتابه السيرة النبوية([973]).

وأورد الحديث الحافظ الكنجي الشافعي في كتابه كفاية الطالب([974]).

وصحّح الحديث شيخ الإسلام الحموئي في كتابه فرائد السمطين([975]) والحافظ أبو زرعة العراقي في كتاب الطبراني الكبير([976]).

وصحّح الحديث الإمام السبتي في كتابه شفاء الصدور والحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري([977]) والإمام العيني في عمدة القاري في شرح صحيح البخاري([978]).

والحافظ السيوطي رواه في جمع الجوامع كما في ترتيبه([979]) عن الإمام علي  (عليه السلام)في عدّ معجزات النبي (عليه السلام) وقال في الخصائص الكبرى([980]) أُتي يوشع حبس الشمس حين قاتل الجبّارين وقد حبست لنبيّنا (صلى الله عليه وآله) في الإسراء ، وأعجب من ذلك ردّ الشمس حين فات عصر الإمام علي (عليه السلام) ورواه السيوطى في اللآليء المصنوعة([981])عن أمير المؤمنين وأبي هريرة وجابر الأنصاري وأسماء بنت عميس من طريق ابن مندة والطحاوي والطبراني وابن أبي شيبة والخطيب والعقيلي والدولابي وابن شاهين وابن عقدة .

وأيّد صحّة الحديث الحافظ السمهودي في وفاء الوفا فقال : كان ذلك بالصهباء في خيبر([982]).

وأيّد صحّة الحديث الحافظ القسطلاني في المواهب اللدنية([983]).

والحافظ ابن حجر الهيثمي إذ عدّه في الصواعق المحرقة كرامة باهرة لأمير المؤمنين  (عليه السلام)([984]). والحلبي الشافعي في السيرة الحلبية([985]).

وجاء في الأحاديث الصحيحة أنّ الشمس لم ترجع إلاّ ليوشع بن نون والإمام علي . والإمام علي (عليه السلام) أفضل من يوشع إذ ورد أنّه لم تردّ الشمس لأحد من خلق الله تعالى إلاّ ليوشع بن نون وصي موسى (عليه السلام) ولأمير المؤمنين (عليه السلام) وكان آخر قتالهم له يوم الجمعة إلى أن غربت الشمس وقد ظهر على المنافقين أصحاب يوشع  (عليه السلام) ، وقال قاتلوهم فقد غلبتموهم بإذن الله .

فقالوا : لا نقاتل وقد دخل السبت .

فإنفرد يوشع (عليه السلام) فتلا أسفاراً من صحف إبراهيم (عليه السلام) ومن التوراة ، وسأل الله عزّوجلّ بِرَدِّ الشمس عليهم حتّى لا يحتجّ المارقون ، فقال يوشع (عليه السلام) : قاتلوا .

قالوا : لا نقاتل لأنّ السبت قد دخل ، قال : هذا لا من السبت ولا من الجمعة  ، وإنّنى سألت الله عزّوجلّ ردّ الشمس لتظهروا على أعدائكم ولا يظهروا عليكم  . فقاتلوهم فغلبوهم وملكوهم وغربت الشمس .

وكانت صفراء ابنة شعيب النبي (عليه السلام) زوجة موسى بن عمران (عليه السلام) تقاتل يوشع بن نون (عليه السلام) مع المارقين من بني إسرائيل على زرافة كما قاتلت عائشة ابنة أبي بكر زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصيّه أمير المؤمنين (عليه السلام) مع المارقين من أُمّته على جمل([986]).

وقد ردّت الشمس ليوشع مرّة وقد ردّت لأمير المؤمنين (عليه السلام) ثلاث مرّات وسلّمت عليه بالبقيع([987]).

وبعد أن انتهى الإمام علي (عليه السلام) من قتل الخوارج وقطع أرض بابل([988]). حضرت صلاة العصر فنزل أمير المؤمنين (عليه السلام) ونزل الناس ، قال الإمام علي (عليه السلام) : أيّها الناس إنّ هذه الأرض ملعونة قد عذّبت في الدهر ثلاث مرّات وهي إحدى المؤتفكات([989]) وأوّل أرض عبد فيها وثن ، وإنّه لا يحلّ لنبي ولا لوصي نبي أن يصلّي فيها ، فمن أراد منكم أن يصلّي فليصلّ ، فمال الناس عن جنبي الطريق يصلّون .

وركب هو (عليه السلام) بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومضى ، قال جويرية فقلت : والله لأتّبعن أمير المؤمنين (عليه السلام) ولأُقلّدنه صلاتي اليوم ، فمضيت خلفه فوالله ما جزنا جسر سوراء([990]) حتّى غابت الشمس فشككت ، فالتفت إليّ الإمام علي (عليه السلام) وقال : ياجويرية أشككت ؟

فقلت : نعم ياأمير المؤمنين .

فنزل (عليه السلام) ناحية فتوضّأ ثم نطق بكلام لا أُحسنه كأنّه بالعبراني ، ثمّ نادى الصلاة فنظرت والله إلى الشمس قد خرجت من جبلين لها صرير([991]) فصلّى العصر وصلّيت معه ، فلمّا فرغنا من صلاتنا عاد الليل كما كان فالتفت إليّ (عليه السلام) وقال : ياجويرية بن مسهر الله عزّوجلّ يقول : (فَسَبِّحْ بِسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) .

وإنّي سألت الله عزّوجلّ باسمه العظيم فردّ عَلَيَّ الشمس .

فقال جويرية لمّا رأى ذلك : أنت وصي نبي وربّ الكعبة([992]).

وجاء أيضاً أنّ الشمس كانت قد ردَّت لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) في وقعة بني النضير حيث صلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ستّ ليال بأيّامها في مسجد هناك يعرف بمسجد الفضيخ([993]).

وهذا نبي الله سليمان بن داود (عليه السلام) أمر بأن تعرض عليه خيله حتّى أعجب بها وفتنته إلى أن غربت الشمس ، وفاتته صلاة العصر ، فذكر أنّه لم يصلّ صلاة العصر فأمر بردّ خيله واعتاقها كفّارة لما فوّتته صلاة العصر ولم تردّ الشمس له ، كما ردّت لأمير المؤمنين (عليه السلام) والفضل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ولأمير المؤمنين لأنّه أفضل الوصيين والأئمّة الراشدين . وقد قصّ الله خبر سليمان (عليه السلام) فقال تعالى : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالاَْعْنَاقِ)([994]).

والمخالفون للحديث هم ابن كثير ، وابن تيمية وابن الجوزي وابن حزم([995]).

وقد ردّ سبط بن الجوزي قول جدّه في تضعيف الحديث لمكانة ابن عقدة لأنّه رافضي فقال : وابن عقدة مشهور بالعدالة([996]).

فدك
كان رجال فدك اليهود قد شاركوا مع رجال خيبر في حرب الأحزاب فحاصروا المدينة وأخافوا أهلها ورموها بالنبل .

ولمّا دنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خيبر بعث محيصة بن مسعود إلى فدك يدعوهم إلى الإسلام ويخوّفهم أن يغزوهم كما غزا أهل خيبر ويحلّ بساحتهم فجاءهم محيصة وأقام عندهم يومين فقالوا : بالنطاة عامر وياسر وأسير والحارث وسيد اليهود مرحب ما نرى محمّداً يقرب حراهم([997])، إنّ بها عشرة آلاف مقاتل .

قال محيصة : فلمّا رأيت خبثهم أردت أرحل راجعاً فقالوا نحن نرسل معك رجالاً يأخذون لنا الصلح ، ويظنّون أنّ اليهود تمتنع .

فلم يزالوا كذلك حتى جاءهم خبر قتل أهل حصن ناعم وأهل النجدة منهم ، ففتَّ ذلك أعضادهم وقالوا لمحيصة : أُكتم عنَّا ما قلنا لك ولك هذا الحلي وكان كثيراً .

فقال محيصة : بل أخبر رسول الله بالذي سمعت منكم . فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بما قالوا .

وقدم معه رجل من رؤسائهم يقال له نون بن يوشع في نفر من اليهود ، صالحوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يحقن دماءهم ولرسول الله (صلى الله عليه وآله) نصف الأرض وبقوا يعملون في النصف الثاني من الأرض على نصف الحاصل([998]).

والرواية الأصح : لمّا سمع يهود فدك بهزيمة يهود خيبر أمام المسلمين بعثوا إلى النبي  (صلى الله عليه وآله) من يفاوضه على تنازلهم عن الأرض وما يملكون مقابل حقنه (صلى الله عليه وآله)دمائهم ، واتّفقوا معه على بقائهم في الأرض يعملون فيها بنصف الناتج([999]).

فأصبحت خيبر المفتوحة عنوة للمسلمين ، وأضحت فدكاً للرسول (صلى الله عليه وآله) لأنّها أُخذت دون حرب . فأعطاها الرسول (صلى الله عليه وآله) ابنته فاطمة (عليها السلام)([1000]).

وقال الإمام علي (عليه السلام) في خلافته : « بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء فشحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ونعم الحَكَم الله تعالى »([1001]).

ولمّا جاء أبو بكر إلى السلطة انتزع فدكاً من فاطمة (عليها السلام) بحديث أنكره صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومفاده قوله : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث([1002]).

والقرآن يكذِّب هذا الحديث بقوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُودَ)([1003]).

ورغم ذلك الحديث الكاذب فقد كتب أبو بكر كتاباً في إرجاع فدك لفاطمة  (عليها السلام) فرفض عمر ومزَّق ذلك الكتاب .

وأعطى عثمان فدكاً لمروان بن الحكم([1004]).

وأعطاها مروان لابنه عبدالعزيز ووهبها عبدالعزيز لابنه عمر ولمّا وصل عمر بن عبدالعزيز إلى الخلافة ردّها إلى أهلها الشرعيين فسلّمها للإمام علي بن الحسين  (عليه السلام) الذي وزّع ناتجها على ذرّية فاطمة (عليها السلام) .

ثمّ اغتصبها يزيد بن عبدالملك وبقيت بيد الدولة إلى أن ردّها أبو العباس السفاح .

ثمّ اغتصبها المنصور بعد ثورة عبدالله بن الحسن ، ثمّ أرجعها المهدي العباسي لأهل البيت وأخذها منهم موسى بن المهدي العباسي ثمّ أعادها المأمون ثمّ اغتصبها المتوكّل([1005]).

وبيَّنت معركة خيبر هزيمة الغدر وانتصار الحقّ ولكن بشروط :

ألا وهي حبّ المسلم لله ورسوله وحبّ الله ورسوله له .

والاندفاع في سبيل الله تعالى دون خوف من الموت وجعل الإسلام فوق القومية والقبلية وغيرها .

ومن القضايا الأخلاقية استمرار رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الاعتراف بهم كأصحاب دين سماوي رغم ما فعله اليهود من موبقات إذ أبقاهم في أراضيهم يزرعون على النصف بناءً على طلبهم . أي أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) أموالهم وأرضهم ولم يأخذ نساءهم وأطفالهم .

وما أوجدوه لاحقاً من وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإخراج اليهود إلى الشام ما هو إلاّ رواية زائفة أوجدها زعيم اليهود كعب الأحبار([1006]).

وأظهرت معركة خيبر فرح قريش بانتصار اليهود المزعوم وهزيمة المسلمين ! وتكرّرت هذه الواقعة في معركة حنين ، رغم إسلام قريش الظاهري فإنّهم كانوا يتمنّون انتصار هوازن على المسلمين إذ قال أبو سفيان : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر([1007]).

 

الفصل الثامن : ذات السلاسل ومؤتة

غزوة ذات السلاسل
لقد تجمّعت عدّة قبائل من شمال جزيرة العرب للهجوم على المدينة المنوّرة لقتل رسول الله والمسلمين . ويقال لواديهم الوادي اليابس أو وادي الرمل وبينه وبين المدينة عشرة أيّام وفيها قبيلة قضاعة . وقال خليفة في تاريخه عن أرضهم هي عين بأرض جذام([1008]).

واستخدم الروم بني قضاعة على بادية العرب وكان لهم ملك ما بين الشام والحجاز([1009]). وفي تلك المنطقة ناس من بني عذرة وبلي وقبائل من اليمن([1010]).

وكانت تلك الحادثة في السنة الثامنة للهجرة في شهر صفر وسمّيت المعركة بذات السلاسل لأنّ الإمام علياً (عليه السلام) جاء بالأسرى مربَّطين بالحبال والسلاسل . واستخلف النبي (عليه السلام) على المدينة سعد بن عبادة([1011]).

فعن أبي عبدالله (عليه السلام) في قوله تعالى : (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً) .

قال هذه السورة نزلت في أهل وادي اليابس .

قلت له : وما كان حالهم وقصّتهم ؟

قال (عليه السلام) : إن أهل وادي اليابس اجتمعوا اثني عشر ألف فارس وراجل وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا على أن لا يتخلّف رجل عن رجل ولا يخذل أحد أحداً ولا يفرّ رجل عن صاحبه حتّى يموتوا كلّهم على حلف واحد أو يقتلوا محمّداً  (صلى الله عليه وآله) والإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

فنزل جبرئيل (عليه السلام) على محمّد (صلى الله عليه وآله) وأخبره بقصتهم وما تعاقدوا عليه وتواثقوا  ، وأمره أن يبعث أبا بكر إليهم في أربعة آلاف فارس من المهاجرين والأنصار .

فصعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « يامعشر المهاجرين والأنصار إنّ جبرئيل أخبرني أنّ أهل وادي اليابس اثنا عشر ألف فارس وراجل قد استعدّوا وتعاقدوا وتعاهدوا أن لا يغدر رجل بصاحبه ولا يفرّ عنه ولا يخذله حتّى يقتلوني وأخي الإمام علي بن أبي طالب وأمرني أنْ أُسيِّر إليهم أبا بكر في أربعة آلاف فارس فخذوا في أمركم واستعدّوا لعدوّكم وانهضوا إليهم على اسم الله وبركته في يوم الاثنين إن شاء الله تعالى » .

فأخذ المسلمون عدّتهم وتهيّئوا وأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا بكر بأمره وكان فيما أمره به أنّه إذا رآهم أنْ يعرض عليهم الإسلام فإن تابعوه وإلاّ واقعهم فيقتل مقاتليهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم ويخرّب ضياعهم وديارهم ، فمضى أبو بكر ومن معه من المهاجرين والأنصار في أحسن عدّة وأحسن هيئة يسير بهم سيراً رفيقاً حتّى انتهوا إلى وادي اليابس ، فلمّا بلغ القوم نزول أبي بكر وأصحابه قريباً منهم ، خرج إليهم من أهل وادي اليابس مائتا رجل مدجّجين بالسلاح ، فلمّا صادفوهم قالوا لهم :

مَن أنتم ومِن أين أقبلتم وإلى أين تريدون ؟ ليخرج إلينا صاحبكم حتّى نكلّمه . فخرج إليهم أبو بكر في نفر من أصحابه المسلمين فقال لهم : أنا أبو بكر صاحب رسول الله([1012]).

قالوا : ما أقدمك علينا ؟

قال أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن أعرض عليكم الإسلام فإن تدخلوا فيما فيه المسلمون لكم ما لهم وعليكم ما عليهم وإلاّ فالحرب بيننا وبينكم .

قالوا له : واللات والعزّى لولا رحم بيننا وقرابة قريبة لقتلناك وجميع أصحابك قتلة تكون حديثاً لمن يكون بعدكم فارجع أنت ومن معك واربحوا العافية فإنّا إنّما نريد صاحبكم بعينه وأخاه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

فقال أبو بكر لأصحابه : ياقوم ! القوم أكثر منكم أضعافاً وأعدّ منكم وقد ناءت داركم عن إخوانكم من المسلمين فارجعوا نُعلِم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحال القوم .

فقالوا له جميعاً : خالفت ياأبا بكر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما أمرك به فاتَّق الله وواقع القوم ولا تخالف رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

فقال : إنّي أعلم ما لا تعلمون الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فانصرف وانصرفوا أجمعون ، فأخبر رسول الله بمقالة القوم وما ردّ عليهم أبو بكر .

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ياأبا بكر خالفت أمري ولم تفعل ما أمرتك به وكنت لي والله عاصياً فيما أمرتك به فقام النبي (صلى الله عليه وآله) وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : يامعشر المسلمين أمرت أبا بكر أنْ يسير إلى أهل وادي اليابس وأنْ يعرض عليهم الإسلام ويدعوهم إلى الله فإن أجابوه وإلاّ واقعهم ، وإنّه سار اليهم فخرج منهم مائتا رجل فلمّا سمع كلامهم وما استقبلوه به انتفخ صدره ودخله الرعب منهم وترك قولي ولم يطع أمري ، وإنّ جبرئيل أمرني عن الله أنْ أبعث اليهم عمر مكانه في أصحابه في أربعة آلاف فارس فسر ياعمر على اسم الله ولا تعمل كما عمل أخوك فانّه قد عصى الله وعصاني وأمره بما أمر به الأوّل .

فخرج وخرج معه المهاجرون والأنصار الذين كانوا مع الأوّل يقتصد بهم في سيرهم حتّى شارف القوم وكان قريباً منهم بحيث يراهم ويرونه وخرج إليهم مائتا رجل فقالوا له ولأصحابه مثل مقالتهم للأوّل فانصرف الناس معه وكاد أنْ يطير قلبه ممّا رأى من عدّة القوم وجمعهم ورجع هارباً منهم .

فنزل جبرئيل (عليه السلام) فأخبر محمّداً (صلى الله عليه وآله) بما صنع هذا وإنّه قد انصرف وانصرف المسلمون معه .

فصعد النبي (صلى الله عليه وآله) المنبر فحمد الله وأثنى عليه وأخبر بما صنع هذا وما كان منه وإنّه قد انصرف وانصرف المسلمون معه مخالفاً لأمري عاصياً لقولي ، فقدم عليه فأخبره مثل ما أخبره به صاحبه .

فقال له : ياعمر عصيت الله في عرشه وعصيتني وخالفت قولي وعملت برأيك ألا قبّح الله رأيك([1013]).

وقال معظم المؤرخين : وفي السنة الثامنة للهجرة في شهر صفر كان قد أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة([1014]). والصحيح أسلم عثمان بن طلحة في فتح مكّة .

وقد خلط العلماء بين عثمان بن أبي طلحة الذي قتله الإمام علي (عليه السلام) في معركة بدر وابن أخيه عثمان بن طلحة حاجب الكعبة عند فتح مكّة([1015]).

ولمّا سيطر المسلمون على خيبر وأصبحت دولتهم غنيّة وكبيرة رغب الإنتهازيون في دخول الإسلام ، إذ قال عمرو : لمّا انصرفنا مع الأحزاب (الخندق) قلت لأصحابي : إنّي أرى أمر محمّد يعلو علوّاً منكراً([1016]).

وبسبب ذلك العلو والإنتصار الإلهي على يهود قريظة وخيبر وتشكيل دولة إسلامية قوّية ، وتراجع قريش المتوالي فقد قرّر البعض دخول الإسلام ، فكان دخولهم طمعاً في المغانم([1017]).

وفي هذه السنة أرسل النبي (صلى الله عليه وآله) عمرو بن العاص قائداً ورئيساً على أبي بكر وعمر وابن عوف في حملة ذات السلاسل([1018])! بعد فشلهما في الحملتين السابقتين .

إذ أرسل النبي (صلى الله عليه وآله) جيشاً مدداً لجيش عمرو بن العاص بقيادة ابن الجراح فيه أبو بكر وعمر . وعندها رفض هؤلاء الثلاثة الإنضواء تحت قيادة ابن العاص الداخل في الإسلام جديداً ، لكن ابن العاص حكمهم بأنّهم مدد له ليس إلاّ فرضخوا لقوله .

ومنزلتهم في هذه الحملة تبيّن منزلتهم الإجتماعية ، والسياسية في ذلك الوقت والصراع على السلطة بين هؤلاء الأربعة وغيرهم من قريش كان واضحاً منذ ذلك الوقت لذا أوصى النبي (صلى الله عليه وآله) عمرو بن العاص وابن الجراح ألاّ يختلفا .

لكنّهم إختلفوا مرّة بين ابن العاص وابن الجراح ومرّة بين ابن العاص وعمر بن الخطّاب .إذ أشعل عمرُ بن الخطّاب النارَ ليلا فانتهره ابن العاص([1019]) وردّ عليه عمر تعبيراً عن رفض قيادته ، وأسرع أبو بكر إلى تهدئة الحال بينهما([1020]).

وقد قُتِل هؤلاء الأربعة بيد بعضهم البعض لاحقاً أثناء صراع الحزب القرشي على السلطة([1021]).

وفي تلك الحملة كان عمرو بن العاص إماماً للصلاة يصلّي خلفه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والآخرون ، وكان يصلّي بهم جنباً([1022])!

وبعد وصول عمرو بن العاص بالمسلمين إلى أرض المعركة إنهزم من الأعداء وفرَّ فراراً منكراً([1023]).

ومن دلائل النبوّة للرسول أنّ عمرو بن العاص افتخر بلوائه المذكور في معركة صفّين قائلاً : هذا لواء عقده رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

قال الإمام علي (عليه السلام) عندما عقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لواءه لابن العاص قال له : لا تفرّ من كافر . ولا تقاتل به مسلماً . فقد فرَّ به من الكافرين في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)(ذات السلاسل) ، وقد قاتل به المسلمين اليوم([1024]).

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنّ جبرئيل (عليه السلام) قد أمرني أن أبعث الإمام علي بن أبي طالب في هؤلاء المسلمين وأخبرني أن الله يفتح عليه وعلى أصحابه .

فدعا علياً وأوصاه بما أوصى به الأوّل والثاني وأصحابه الأربعة آلاف فارس وأخبره أنّ الله سيفتح عليه وعلى أصحابه([1025]).

وتعصّب الإمام علي (عليه السلام) بعصابة وكانت لعلي (عليه السلام) عصابة لا يتعصّب بها حتّى يبعثه النبي (صلى الله عليه وآله) في وجه شديد([1026]).

فخرج الإمام علي (عليه السلام) ومعه المهاجرون والأنصار فسار بهم سيراً غير سير أبي بكر وعمر وذلك أنّه أعنف بهم في السير حتّى خافوا أن ينقطعوا من التعب وتحفى([1027]) دوابهم .

فقال لهم : لا تخافوا إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أمرني بأمر وأخبرني أنّ الله سيفتح عَلَيّ وعليكم فابشروا فإنّكم على خير وإلى خير ، فطابت نفوسهم وقلوبهم وساروا على ذلك السير والتعب حتّى إذا كانوا قريباً منهم حيث يرونهم ويراهم أمر أصحابه أن ينزلوا .

وسمع أهل وادي اليابس بقدوم الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأصحابه فخرجوا إليه منهم مائتا رجل شاكين بالسلاح ، فلمّا رآهم الإمام علي (عليه السلام) خرج إليهم في نفر من أصحابه فقالوا له من أين أنتم ومن أين أقبلتم وأين تريدون ؟

قال : أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخوه ورسوله إليكم ، أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ولكم إن آمنتم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم من خير وشرّ .

فقالوا له إيّاك أردنا وأنت طلبتنا قد سمعنا مقالتك وما عرضت علينا ، هذا ما لا يوافقنا فخذ حذرك واستعدّ للحرب العوان([1028]) واعلم إنّا قاتلوك وقاتلوا أصحابك والموعد فيما بيننا وبينك غداً ضحوة ، وقد أعذرنا فيما بيننا وبينكم .

فقال لهم (عليه السلام) : ويلكم ! تهدّدوني بكثرتكم وجمعكم ! فأنا أستعين بالله وملائكته والمسلمين عليكم ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم .

فانصرفوا إلى  مراكزهم وانصرف الإمام علي (عليه السلام) إلى مركزه فلمّا جنّه الليل أمر أصحابه أن يحسنوا إلى داوبهم ويقضموا ويسرجوا([1029]) فلمّا انشق عمود الصبح جاء بالناس بغلس([1030]) ثمّ أغار عليهم بأصحابه فلم يعلموا حتّى وطأتهم الخيل فيما أدرك آخر أصحابه حتّى قتل مقاتليهم وسبى ذراريهم واستباح أموالهم وخرّب ديارهم وأقبل بالأسارى والأموال معه وجاء جبرئيل فأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما فتح الله لعلي (عليه السلام) وجماعة المسلمين فصعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنبر فحمد الله وأثنى عليه وأخبر الناس بما فتح الله عليه للمسلمين وأعلمهم أنّه لم يصب منهم إلاّ رجلين ونزل .

فخرج يستقبل علياً (عليه السلام) في جميع أهل المدينة من المسلمين حتّى لقيه على ثلاثة أميال من المدينة .

فلمّا رآه الإمام علي (عليه السلام) مقبلاً نزل عن دابته ونزل النبي (صلى الله عليه وآله) حتّى التزمه وقبَّل ما بين عينيه ، فنزل جماعة المسلمين إلى الإمام علي (عليه السلام) حين نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله)وأقبل بالغنيمة والأسارى([1031]).

فأقام المسلمون له صفّين وقال له الرسول (صلى الله عليه وآله) : « ياعلي  لولا أنّي أشفق أن تقول فيك طوائف ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك اليوم مقالاً لا تمرّ بملأ منهم إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك »([1032]).

والظاهر أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) خرج في الحملة وتمركز في منطقة ثمّ أرسل أبا بكر وعمر وعمرو بن العاص على التوالي ثم أرسل علياً (عليه السلام) وعاد هو إلى المدينة لمعرفته بفتح المنطقة على يديه .

فلمّا نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الأسرى موثّقين بالحبال والسلاسل التفت إلى الإمام علي (عليه السلام) قائلاً : ياأبا الحسن اقطع الحبال والسلاسل فإنّي لا أستطيع أن أراهم موثّقين وإن كانوا مشركين([1033]).

وقتل الإمام علي (عليه السلام) منهم مائة وعشرين رجلاً وكان رئيس الأعداء الحارث بن بشر وسبى منهم مائة وعشرين ناهداً([1034]).

وقد سعى رجال الحزب القرشي إلى حذف الشطر الأوّل والأخير من رواية الغزوة والإبقاء على حملة ابن العاص !

بحيث أعطوا منقبة الفتح لابن العاص المهزوم في المعركة رغم أنّ الآية القرآنية فضحته في قوله تعالى : (إِنَّ الاِْنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)([1035]).

فالكنود هو الحسود وهو عمرو بن العاص([1036]).

غزوة مؤتة وشهادة جعفر بن أبي طالب
وقعت في جمادى الأُولى سنة 8 هجرية وسنّ جعفر 41 سنة .

وهي أوّل غزوة إسلامية للشام جاءت بعد مقتل سفير النبي (صلى الله عليه وآله) الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصرى جبيل بن عمرو الغساني بيد جبيل . وكان جيش مؤتة ثلاثة آلاف مسلم ، والروم في مائة ألف رجل .

قال اليعقوبي : ووجّه النبي (صلى الله عليه وآله) جعفر بن أبي طالب أي أميراً وزيد بن حارثة وعبدالله بن رواحة في جيش إلى الشام لقتال الروم سنة 8 هجرية([1037]) وروى بعضهم أنّه قال : أمير الجيش زيد بن حارثة ، فإن قُتل زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب ، فإن قتل جعفر بن أبي طالب فعبدالله بن رواحة ، فإن قتل عبدالله بن رواحة فليرتضي المسلمون من أحبّوا . والصحيح كان جعفر المقدّم ثمّ زيد بن حارثة ثمّ عبدالله بن رواحة .

وصار جعفر إلى موضع يقال له مؤتة في فلسطين على مرحلتين من بيت المقدس . وقيل بأنّه وادي من الشام من البلقاء من أرض دمشق .

فأخذ الراية جعفر فحارب فقطعت يده اليمنى فقاتل باليسرى فقطعت يده اليسرى ثمّ ضرب وسطه ، ثمّ أخذ زيد الراية فقاتل حتّى قُتل ، ثمّ أخذها عبدالله بن رواحة فقتل .

فرفع لرسول الله كلّ خفض ، وخفض له كلّ رفع حتّى رأى مصارعهم ; ونعاهم رسول الله فقال : أنبت الله لجعفر جناحين من زبرجد يطير بهما في الجنّة حيث يشاء . ولقّب بذي الجناحين لقطع يديه في معركة مؤتة([1038]).

وأنكر بعضهم حديث طيران جعفر مع الملائكة في الجنّة وقال : الروح عرض لا يجوز أن يتنعّم .

وهذا لا يصحّ لأنّ الروح جسم رقيق هوائي مأخوذ من الريح ، ويدلّ على ذلك أنّه يخرج من البدن ويردّ إليه وهي الحساسة الفعّالة دون البدن([1039]).

وجعفر ابن إحدى وأربعين سنة فهو أسنّ من أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بعشر سنين([1040]) وكان غاية في الجود .

فقال شاعر من المسلمين رجع من معركة مؤته سالماً :

كفى حزناً أنّي رجعت وجعفر *** وزيد وعبدالله في رمس أقبر

قضوا نحبهم لمّا مضوا لسبيلهم  *** وخلفت للبلوى مع المتغبّر([1041])

وقال (صلى الله عليه وآله) : على جعفر فلتبك البواكي ; وتأمّر خالد بن الوليد على الجيش([1042]).

قالت أسماء بنت عميس الخثعمية ، وكانت امرأة جعفر وأُمّ ولده جميعاً : دخل عَلَيَّ رسول الله ، ويدي في عجين ، فقال : ياأسماء أين ولدك ؟

فأتيته بعبدالله ومحمّد وعون ، فأجلسهم جميعاً في حجره وضمّهم إليه ومسح على رؤوسهم ودمعت عيناه .

فقلت : بأبي وأُمّي أنت يارسول الله ! لِمَ تفعل بولدي كما تفعل بالأيتام ؟ لعلّه بلغك عن جعفر شيء ؟

فغلبته العبرة وقال (صلى الله عليه وآله) : رحم الله جعفراً !

فصحت : وا ويلاه وا سيّداه ! فقال : لا تدعي بويل ولا حرب ، وكلّ ما قلت فأنتِ صادقة . فصحت : وا جعفراه ! وسمعت صوتي فاطمة بنت رسول الله ، فجاءت وصاحت : وابن عمّاه ! فخرج رسول الله يجرّ رداءه ما يملك عبرته ، وهو يقول على جعفر فلتبكِ البواكي .

ثمّ قال يافاطمة اصنعي لعيال جعفر طعاماً فإنّهم في شغل ، فصنعت لهم طعاماً ثلاثة أيّام ، فصارت سنّة في بني هاشم([1043]).

ولمّا دنوا من المدينة تلقّاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولقيهم الصبيان يسرعون فقال  (صلى الله عليه وآله) : خذوا الصبيان فاحملوهم وأعطوني ابن جعفر ، فأُتي بعبدالله فأخذه فحمله بين يديه .

وجعل الناس يصيحون بالجيش : يافُرَّار فررتم في سبيل الله ... فيقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ليسوا بالفرار ولكنّهم الكرّار إن شاء الله تعالى وكان الفارق العددي بين الجيشين كثيراً جدّاً([1044]).

إنّ حملة مؤتة إلى فلسطين لم تكن من باب الصدفة بل هي حركة نبوية لبيان أهميّة القدس في قاموس المسلمين . فرغب النبي (صلى الله عليه وآله) في فتحها وقدَّمها على باقي بلدان الدنيا ، وسيفتحها النبي عيسى (عليه السلام) في دولة الإمام المهدي (عليه السلام) .

فقد حاول النبي (صلى الله عليه وآله) تحرير القدس قبل اليمن وعمان لأهميّتها الخاصّة عند الموحّدين باعتبارها قبلة المسلمين الأُولى .

ونبيّنا أُسوة وقدوة في أفعاله وأقواله فالأجدر بنا أن نحذوا حذوه .

ولقد كان جعفر بن أبي طالب من المسلمين القدماء من بني هاشم الذين أسلموا قبل الصحابة ، وهو أمير المسلمين في الحبشة ، وأمير المسلمين في مؤتة ولأنّه أخو الإمام علي (عليه السلام) فقد حسدوا إمارته !

 

الفصل التاسع : فتح مكّة عنوة

عقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلح الحديبية مع قريش في سنة ستّ للهجرة على أن يزور البيت الحرام العام المقبل فأخلى له أهالي مكّة المدينة ، وأزاحوا الأصنام عن الصفا والمروة ...

وفي السنة الثانية 7 هجرية زار النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمون مكّة وبقوا هناك ثلاثة أيّام ، وساق معه سبعين بدنةً ، وأجروا مراسم العمرة . وتزوّج في مكّة بميمونة بنت الحارث الهلالية([1045]).

فتمّت عمرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) المفردة بسلام وأمان طبقاً لعهد الحديبية فهو أهل الوفاء . وفي جمادى الأُولى من سنة ثمان حدثت معركة مؤتة مع الروم التي خسر فيها المسلمون وقُتِل جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبدالله بن رواحة .

فشجّع هذا الأمر المشركين على الغدر بمعاهدة صلح الحديبية ، وفعلا اعتدت قريش وقبيلة كنانة على قبيلة خزاعة المتحالفة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد شهر ونصف من حادثة مؤتة([1046])!

خروج النبي (صلى الله عليه وآله) إلى مكّة
وخرج رسول الله يوم الجمعة حين صلّى العصر لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة 8هـ([1047]).

وأراد الرسول أن تكون الغزوة سرّية فأسرّ (صلى الله عليه وآله) إلى كلّ رئيس منهم بما أراد وأمره أن يلقاه بموضع سمّاه له ، وأن يكتم ما قال له . فأسرّ إلى خزاعي أن يلقاه بمزُينة بالروحاء وإلى عبدالله بن مالك أن يلقاه بغفار بالسُّقيا وإلى قدامة بن ثمامة أن يلقاه ببني سليم بقُديد وإلى الصعب بن جثامة أن يلقاه ببني ليث بالكديد .

ولقيته القبائل في المواضع التي سمّاها لهم ، وأمر الناس فأفطروا ; وسمّى الذين لم يفطروا العُصاة([1048]). ودعا بماء فشربه ، وتلقّاه العبّاس بن عبدالمطلّب في بعض الطريق . وكان المسلمون عشرة آلاف رجل([1049]).

وكانت الخيل يوم الفتح أربعمائة فرس . ونزلت عليه سورة : (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) .

فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : نُعيت إليّ نفسي وأقام في مكّة تسعة عشر يوماً ، وطاف بالكعبة وصلّى خلف مقام إبراهيم (عليه السلام) وأمر (صلى الله عليه وآله) بالمتعة ثمّ لم تحرم مطلقاً([1050]).

فلمّا صار بمرّ الظهران خرج أبو سفيان بن حرب يتجسّس الأخبار ومعه حكيم بن حزام ، وهو يقول لحكيم : ما هذه النيران ؟

فقال حكيم : خزاعة أحمشتها الحرب .

فقال أبو سفيان : خزاعة أقلّ وأذلّ .

وسمع صوته العبّاس فناداه : ياأبا حنظلة ! فأجابه ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أمر بقتل أبي سفيان مع العشرة الذين أفتى بقتلهم ومنهم زوجته هند بنت عتبة ولكن الأمويين حذفوا اسمه من الرواية !

لذا أنذره عمر قائلاً : لا تَدْن من رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى تموت([1051])!

ولولا نصيحة عمر لقُتل أبو سفيان . والظاهر أنّ عمر تقدّم جيش النبي (صلى الله عليه وآله)وهو أمر مخالف للجندي المطيع .

وعندها أدرك أبو سفيان الخطر المحدق به فاستغاث بالعباس قائلاً : إنّي مقتول فمنعه العباس من الناس المصرِّين على قتله([1052]).

وقال العباس : يارسول الله ، هذا أبو سفيان قد جاء ليسلّم طائعاً . ويطلب الأمان لقريش فقال له رسول الله : قُل أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّي محمّد رسول الله ، فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وجعل يمتنع من أن يقول : وإنّك رسول الله ، قائلاً : والله يامحمّد إنّ في النفس من هذا لشيئاً يسيراً بعد فارجئها([1053]). وبعد الضغط قالها نفاقاً .

ثمّ سأل العبّاس رسول الله أن يجعل له شرفاً وقال إنّه يحبّ الشرف .

فقال رسول الله : من دخل دارك ياأبا سفيان فهو آمن ، ومن بقي في بيته فهو آمن .

دخول مكّة
تمَّ فتح النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مكّة في 20 رمضان سنة 8 هجرية .

ولمّا دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكّة كانت عليه عمامة سوداء ، فوقف على باب الكعبة وقال : لا إله إلاّ الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كلّ دم أو مأثرة أو مال يُدّعى فهو تحت قدمي هاتين إلاّ سدانة البيت وسقاية الحاج .

وفي فتح مكّة ذلَّ كفّار قريش وسقط ما في أيديهم ، وضعفت معنوياتهم وهزم مكرهم فوقفوا سماطين ينظرون إلى دخول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجيشه إلى مدينتهم .

وكان المهاجرون سبعمائة ومعهم ثلاثمائة فرس ، وكانت الأنصار أربعة آلاف ومعهم خمسمائة فرس ، وكانت مزيّنة ألفاً ومعها مائة فرس وكانت أسلم أربعمائة ومعها ثلاثون فرساً وكانت جهينة ثمانمائة ومعها خمسون فرساً([1054]).

أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بهجو قريش ومعارضة أبي سفيان
وعمر وأبي بكر وعثمان ذلك
وقال النبي (عليه السلام) لصحبه : اهجوا قريشاً فإنّه أشدُّ عليها من رشق النبل([1055]).

فتقدّم رجل براية كبيرة بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يقول :

خلُّوا بني الكفّار عن سبيلِهِ *** فاليوم نضربكم على تنزيلهِ

ضرباً يزيل الهام عن مقِيلِهِ *** ويذهلُ الخليل عن خليلهِ

ياربّ إنّي مؤمن  بقيله

فقال عمر بن الخطّاب : أفي حرم الله وبين يدي رسول الله ، تقول الشعر ؟

فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : مهْ ياعمر فوالذي نفسي بيده لكلامه هذا أشدّ عليهم من وقع النبل([1056]).

وكان عمر محبّاً لمجد قريش الكافرة .

وكان سعد بن عبادة على الحرس وراية الأنصار كانت بيده عند دخوله مكّة وهو يقول : ياأبا سفيان اليوم يوم الملحمة (أي يوم الحرب) اليوم تستحلّ الكعبة (أي يقتل من أهدر دمه ولو تعلّق بأستار الكعبة) وسمع مقالة سعد بن عبادة رجل من المهاجرين قيل هو عمر بن الخطّاب وقيل سمعها رجلان وهما عثمان بن عفّان وعبدالرحمن بن عوف فقال : يارسول الله (صلى الله عليه وآله) ما نأمن أن تكون لسعد صولة في قريش  »([1057]).

وشكاية هؤلاء على سعد في مكّة وسيرة علاقتهم به في المدينة قبل وبعد حياة النبي (صلى الله عليه وآله) تبيّن سوء العلاقة بين سعد وبينهم انتهت بقتلهم له فقتله محمد بن مسلمة (اليهودي الأصل)([1058]).

وقد طالب أبو سفيان وعمر وعثمان وعبدالرحمن بن عوف بعزل سعد بن عبادة عن قيادة لواء الأنصار . فكانت تلك أوّل قضية معلنة يتّحد فيها هؤلاء ضدّ زعيم الأنصار .

في حين قال أبو بكر للصحابة المؤذين أبا سفيان : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها([1059]).

ومن يومها بدأ التعاون العلني والوثيق بين أبي سفيان وأبي بكر وعمر وعثمان والتعاون السرّي بين بعض المهاجرين وأبي سفيان كان معروفاً .

والقضيّة الظاهرة الثانية هي واقعة السقيفة إذ اشترك معاوية معهم فيها([1060]).

أي أنّ عمر خالف الأمر النبوي بهجو قريش .

وبقي أبو بكر وعمر محبّين لقريش فبعد فتح مكّة أتاه ناس من قريش فقالوا : يامحمّد إنّا حلفاؤك وقومك ، وإنّه لحقّ بك ارقاؤنا ليس لهم رغبة في الإسلام ، وإنّما فرّوا من العمل فارددهم علينا !

فشاور (صلى الله عليه وآله) أبا بكر في أمرهم فقال : صدقوا يارسول الله !

فقال لعمر : ما ترى ؟ فقال مثل قول أبي بكر .

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : يامعشر قريش ليبعثنّ الله تعالى عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للإيمان فيضرب رقابكم على الدين .

فقال أبو بكر : أنا هو يارسول الله ؟

قال : لا .

قال عمر : أنا هو يارسول الله ؟

قال : لا ، ولكنّه خاصف النعل في المسجد ، وقد كان ألقى نعله إلى الإمام علي يخصفها([1061]).

فبقي رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام) في وجه قريش ومطامعها ، رافضين عودة المسلمين عبيداً لقريش ، وكيف يكون ذلك وقريش أنفسهم عبيد لمحمّد (صلى الله عليه وآله)حرّرهم بعد فتح مكّة قائلاً : إذهبوا فأنتم الطلقاء([1062]).

وفي يوم الفتح برز أسد بن غويلم قاتل العرب فقال النبي : من يبرز إلى هذا المشرك وقتله فله الجنّة وله الإمامة من بعدي فبرز إليه علي وقتله([1063]) وقال :

ضربته بالسيف وسط الهامة *** بضربة صارمة هدّامة

فبتكت من جسمه عظامه *** وبيّنت من رأسه عظامه

تحطيم علي (عليه السلام) للأصنام
وكانت الأصنام ودّ لكلب وسواع لهذيل ويغوث لغطفان ونسر لذي الكلاع واللات لثقيف وإساف ونائلة وهبل لأهل مكّة .

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحطّم الأصنام بعصا في يده ومنها إساف ونائلة ، وهما رجل وامرأة قد زنيا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين . فاتّخذتهما قريش يعبدونهما . وكانوا يذبحون عندهما ، ويحلقون رؤوسهم إذا نسكوا ، فخرج من أحدهما امرأة شمطاء سوداء تخمش وجهها عريانة ناشرة الشعر تدعو بالويل .

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : تلك نائلة يئست أن تعبد في بلادكم أبداً([1064]).

ونادى منادي رسول الله : من كان في بيته صنم فليكسره ، فكسروا
الأصنام  .

وأعظم الأصنام التي حطّمها النبي هو هبل الذي كان بجانب مقام إبراهيم  (عليه السلام)والأصنام ثلاثمائة وستّون بعدد أيّام السنة كلّها مثبتة بالرصاص والحديد .

وصعد الإمام علي (عليه السلام) على كتف رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكسر أصنام الكعبة([1065]) لأنّه لا يمكن لأحد حمل النبي (صلى الله عليه وآله) إذ قال (صلى الله عليه وآله) : « لو أنّ ربيعة ومضر جهدوا على أن يحملوا منّي بضعة وأنا حي ما قدروا »([1066]).

ولمّا صعد الإمام علي (عليه السلام) فوق الكعبة رمى بصنم خزاعة الذي كان من صفر فكسره فجعل أهل مكّة يتعجّبون لثقله([1067]).

وقال محمّد (صلى الله عليه وآله) : « لمّا ألقى الإمام علي (عليه السلام) بنفسه من فوق الكعبة إلى الأرض دون إصابة : كيف يصيبك ألم وقد رفعك محمّد وأنزلك جبرئيل »([1068]).

فالإمام علي (عليه السلام) أوّل من ألقى بنفسه من ظهر الكعبة وكان سالماً ممّا يبيّن قلّة وزنه وزهده وقدرته البدنية العالية .

وقال الديار بكري أنّ أحد الشعراء أشار إلى قصّة صعود الإمام علي (عليه السلام)على كتف النبي (عليه السلام) لتحطيم الأصنام وللصعود فوق ظهرها :

قيل لي قل في علي مدحاً *** ذكره يخمد ناراً مؤصدة

قلت لا أقدم في مدح امرىء *** ضلّ ذو اللبّ إلى أن عبده

والنبي المصطفى قال لنا *** ليلة المعراج لمّا صعده

وضع الله بظهري يده *** فأحسّ القلب أن قد برده

وعلي واضع أقدامه *** في محلّ وضع الله يده([1069])

وأرسل النبي (صلى الله عليه وآله) خالد بن الوليد إلى نخلة وفيها العُزّى فلمّا نظرت إليه السدنة وهم حجّابها أمعنوا في الجبل وهم يقولون : ياعُزّى خبِّليه ياعُزّى عوِّريه وإلاّ فموتي برغم .

فأتاهما خالد فإذا امرأة عُريانة ناشرة شعرها تحثوا التراب على رأسها فعمّمها بالسيف حتّى قتلها([1070]).

وأرسل النبي (صلى الله عليه وآله) سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة في عشرين فارساً ، فخرجت امرأة سوداء عُريانة ثائرة الرأس تدعو بالويل .

فقال لها السادن : مناة دونك بعض غضباتك وسعد يضربها فقتلها([1071]) وأقبل إلى الصنم فهدمه ...

وأراد فضالة بن عمير الليثي قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) داخل الكعبة ، فأخبره النبي  (صلى الله عليه وآله) بقصده وضحك منه([1072]).

ولمّا قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في مكّة : ألا ترجع إلى دارك ؟ قال (صلى الله عليه وآله) : وهل ترك عقيل لنا داراً([1073]).