الفصل العاشر : واقعة حنين والطائف

معركة حنين
دلّت سورة النصر التي نزلت في فتح مكّة على أنّه (صلى الله عليه وآله) نعيت إليه نفسه([1074])وقرب زمن موته بعد أن خذل الله تعالى قريشاً وبني بكر بن وائل ونصر المسلمين وحلفاءهم بني كعب (خزاعة) .

وبعد مطالعتك أخي القاريء لموضوع معركة حنين ستجد جبهة معارضة واسعة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مكوّنة من هوازن وثقيف وقريش وقبائل الأعراب الملتحقة بجيش النبي (صلى الله عليه وآله) مثل أَسلم وتميم والمنافقين المنتمين للمهاجرين والأنصار ، فهل حدث الاتّفاق في مكّة عبر جاسوس هوازن المقتول بيد عمر أم كان صدفة ؟ وهل كان هذا التنظيم العددي والمكاني صدفة ؟ الجواب في هذا الموضوع .

بعد فتح مكّة في 20 رمضان بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنَّ هوازن وثقيفاً قد جمعت بحنين جمعاً كثيراً ورئيسهم مالك بن عوف النضري وهو ابن ثلاثين سنة فخرج الرسول (صلى الله عليه وآله) من مكّة في السادس منه .

والمعركة حدثت في العاشر من شوال في السنة الثامنة للهجرة([1075]).

وقد اختلفت المعادلات في معركة حنين عن المعارك السابقة بزيادة عدد المحاربين المسلمين على الكفّار زيادة ملحوظة ، ورغم هذا فرّوا من أرض المعركة([1076]).

وكان كثير من جنود المسلمين ما زالوا حديثي العهد بالإسلام فطلبوا من النبي (صلى الله عليه وآله) في أثناء مسيره إلى حنين أن يجعل لهم شجرة ذات أنواط مثلما عند الكفّار يذبحون عندها ويعكفون عليها([1077]).

فوصف الله تعالى حالهم بقوله : (اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)([1078]).

وحنين وادي بين مكَّة والطائف ، كانت فيه الوقعة والمسلمون إثنا عشر ألفاً وهو الصحيح الذين حضروا فتح مكَّة فيهم ألفان من الطلقاء وقالوا : عددهم ثمانية آلاف برواية مجاهد وقال عطاء عن ابن عباس ستّة عشر ألفاً([1079]).

وتسكن هوازن في الجنوب الشرقي لمكّة وحنين من أودية تهامة وهو اسم موضع في طريق الطائف إلى جنب ذي المجاز قال الواقدي بينه وبين مكّة ثلاث ليال وقيل بضعة عشر ميلاً وكان سوقاً في الجاهلية .

وهوازن قبيلة كبيرة من العرب فيها عدّة بطون ينسبون إلى هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن الياس بن مضر([1080]).

وقال زعيم هوازن : ما لاقى محمّداً قوم يحسنون القتال فأجمعوا أمركم وسيروا إليه([1081]).

وشاركت في الحرب ثقيف كلّها وغابت عن هوازن كعب وكلاب وشهدها نصر وجشم وسعد بن بكر وناس من بني هلال ، وهوازن وثقيف عتاة مردة .

وهوازن وثقيف أربعة آلاف ، فيمن ضامهم من امداد سائر العرب ، فكان الجمّ الغفير ، واعتقد بأنّهم أكثر من أربعة آلاف مقاتل . وقالوا : عشرون ألفاً وقالوا : ثلاثون ألفاً([1082]).

وقد كانت أعداد قريش وقبائل الأعراب الموجودة في صفوف المسلمين أكثر من خمسة آلاف محارب ولو عدّ المحقّقون هذه القوّات المنافقة مع الكافرين لأصبح المسلمون في سبعة آلاف مقاتل وأصبح الكافرون في أحد عشر ألف محارب  .

وقبل اللقاء قال أبو بكر : لن نُغلَب اليوم من قِلَّة . فساءت رسول الله (صلى الله عليه وآله)([1083])فعانهم أي حسدهم أبو بكر بعجبه بهم([1084]). ولمّا قال أبو بكر ذلك القول قال تعالى تعليقاً على قوله : (وَيَوْمَ حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ)([1085]).

لقد قال أبو بكر جملة ساءت النبي (صلى الله عليه وآله) فأبدل بعض الرواة اسم أبي بكر برجل  ، وهكذا فعلوا في كل الحوادث التي أساء فيها أبو بكر وعمر وعثمان للنبي  (صلى الله عليه وآله)  .

وحاول الزمخشري إنقاذ أبي بكر من قول المنكر بإلقاء ذلك على رسول الله  (صلى الله عليه وآله)  !

وحاول محاولة أُخرى تتمثّل بحذف اسم أبي بكر ووضع كلمة رجل([1086])! ولكنّ الواقدي ذكر في مغازيه بأنّ القائل هو أبو بكر([1087]).

وقال الفخر الرازي في تفسيره : قال رجل من المسلمين : لن نُغلب اليوم من قلَّة ، فهذه الكلمة ساءت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي المراد من قوله : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) .

وقيل قالها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقيل قالها أبو بكر ، وإسناد هذه الكلمة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعيد ، لأنّه كان في أكثر الأحوال متوكّلا على الله ، منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها([1088]).

وجاء في سيرة الحافظ الدمياطي أنّ أبا بكر قال : لن نغلب اليوم من قلّة([1089]).

لقد نظر أبو بكر إلى الحالة المادّية على أرض المعركة في كثرتهم وكونهم أضعاف أعداد المشركين .

وساء النبي (صلى الله عليه وآله) قول أبي بكر لأنَّه (صلى الله عليه وآله) طلب من المسلمين أن ينظروا إلى الحالة الغيبية للأُمور ، والمتمثّلة بالنصر الإلهي ، لا الحالة المادّية في كثرة أعداد المسلمين .

لقد قال تعالى : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ) .

فجعل عزّوجلّ المشيئة بيده يفرضها حيث أراد في خلقه وأرضه وسماواته ، فيدعها فوق السنن الحياتية متى أراد سبحانه . لذا يقول المسلم حيث كان ومتى قصد عملاً إن شاء الله تعالى .

وفي معركة هوازن أعلن أبو بكر بأنّ الغلبة للمسلمين لكثرتهم على الكافرين فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من هذا المنطق المادّي وأنكر الله تعالى هذا المنحى عملاً فانهزم المسلمون وانتصر الكافرون وكان أبو بكر رأس الفارّين .

ذكر ابن إسحاق : ولمّا سمع بهم (هوازن) رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) بعث إليهم عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي من هوازن ، وأمره أن يدخل في الناس ، فيقيم حتّى يأتيه منهم ويعلم من علمهم ، فانطلق ابن أبي حدرد فدخل فيهم ، فأقام معهم حتّى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وعلم أمر مالك ، وأمر هوازن ، وما هم عليه ، ثمّ أتى رسول الله فأخبره الخبر ولقد بقي ابن أبي حدرد يومين في جيش هوازن ووصل خباء مالك بن عوف وعنده رؤساء هوازن فسمعه يقول لأصحابه : إنّ محمّداً لم يقاتل قوماً قطّ قبل هذه المرّة ، وإنّما كان يلقى قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فيظهر عليهم ، فإذا كان السحر فصفّوا مواشيكم ونساءكم وأبناءكم من ورائكم ، ثمّ صفّوا ثم تكون الحملة منكم واكسروا أغماد سيوفكم فتلقونه بعشرين ألف سيف واحملوا حملة رجل واحد ، واعلموا أنّ الغلبة لمن حمل أوّلاً([1090]).

وأضاف ابن أبي حدرد قائلا : يارسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّي انطلقت بين أيديكم حتّى طلعتُ جبل كذا وكذا ، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيها ، بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين .

فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال : تلك غنيمة المسلمين غداً إنْ شاء الله([1091]). وهذا من دلائل نبوّته .

فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمر بن الخطّاب فأخبره خبر ابن أبي حدرد ، فقال عمرُ : كذب .

فقال ابن أبي حدرد : إنْ تكذِّبني فطالما كذَّبتَ بالحقِّ ياعمر . وكذّبت مَن هو خير منّي([1092]).

فقال عمر : يارسول الله ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد ؟

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : قد كنت ضالا فهداك اللهُ ياعمر([1093]).

لقد وقفت طويلا عند هذه الرواية لقول ابن أبي حدرد لعمر : طالما كذَّبت بالحقِّ ياعمر .

وقوله قد كذَّبت من هو خير منِّي أي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولم يعترض رسول الله  (صلى الله عليه وآله) على قوله بل أيّده .

ممّا يعني أنّ معظم الناس حالياً لا يعرفون عمر مثلما يعرفة النبي وابن أبي حدرد .

فوجدت أنَّه لولا المعلومات الخطيرة التي قالها ابن أبي حدرد ولولا اعتناء رسول الله (صلى الله عليه وآله) بها لخسر المسلمون المعركة في وقت السحر .

والدهشة تصيب القارىء أحياناً من تقديم عبدالله بن أبي حدرد روحه في سبيل الحصول على خطط الأعداء وبرامجهم وتأييد النبي (صلى الله عليه وآله) لأقواله التي ذكرها في هوازن وفي عمر !

لقد أشار دريد بن الصمة على مالك بن عوف النضري بوضع كمين يهجم على جيش النبي (صلى الله عليه وآله) من الخلف ، واجتمعت هوازن وثقيف وبنو سعد بن بكر مع مالك .

وقال دريد : إجعل كميناً يكون لك عوناً ، إنْ حمل القوم عليك جاءهم الكمين من خلفهم ، وكررت أنت عليهم . بمن معك ، وإن كانت الحملة لك لم يفلت من القوم أحد([1094]).

والحكمة من مجيء هوازن بدريد بن الصمة الأعمى البصر هي تجربته في الحروب فقد كان عمره مائة وأربعين سنة ، فوضعوه في شجار وهو مركب من أعواد يهيّأ للنساء . وأيّد دريد الحرب في واد أوطاس واصفاً إيّاه لا حزن ضرس ولا سهل دهس وخطّأ نظرية مالك بن عوف في المجيء بالنساء والماشية لعدم فائدتها في الحرب بل تكون لقمة سائغة للعدو فوصفه بأنّه راعي ضأن ما له وللحرب([1095])!

وكانت الحرب في يوم قائظ شديد الحرّ ثم مطرت الدنيا([1096]).

وقال البراء بن عازب : كانت هوازن رماة وإنّا لمّا حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام فأخذ المسلمون في الرجوع منهزمين لا يلوي أحد على أحد([1097]).

وقد ورد أنّهم انهزموا مرّتين مرّة في بداية الحرب ومرّة عند انكباب المسلمين على الغنائم([1098]).

المنهزمون
وروى البخاري عن أبي قتادة الأنصاري ، قائلاً : وانهزم المسلمون ـ يوم حنين  ـ وانهزمت معهم ، فإذا عمر بن الخطّاب في الناس (المنهزمين) ، فقلت له : ما شأن الناس ؟

قال عمر : أمر الله([1099]).

وروى الواقدي في مغازيه فرار المسلمين وفيهم عمر : (وكانت أُمُّ الحارث الأنصارية أخذت بخطام جمل أبي الحارث زوجها ، وكان جمله يسمَّى المجسار .

فقالت : ياحارث أتترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخذت بخطام الجمل ، والجمل يريد أن يلحق بأُلاَّفة ، والناس يُولّون منهزمين . وهي لا تفارقه([1100]).

وقالت أُمُّ الحارث : فمرَّ بي عمر بن الخطاب ، فقلت : ياعمر ما هذا (الفرار) ؟

فقال عمر : أمْر الله .

وجعلت أُمُّ الحارث تقول : يارسول الله مَنْ جاوز بعيري فاقتله ، واللهِ إن رأيت كاليوم ما صنع هؤلاء القوم بنا ! تعني بني سُلَيم وأهلَ مكَّة الذين انهزموا بالناس)([1101]).

وأجمل ما قرأت عن هزيمة الفارِّين في معركة حنين ما ذكره أنس بن مالك : (إنَّ أُمَّ سُليم أُمِّي ابنة ملحان جعلت تقول يارسول الله ، أرأيت هؤلاء الذين أسلموك وفرُّوا عنك وخذلوك ! لا تَعْفُ عنهم إذا أمكنك اللهُ منهم ، فاقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين !

فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : ياأُمَّ سُلَيم قد كفى اللهُ ، عافية الله أوسع !

ومعها يومئذ جمل أبي طلحة ، قد خشيت أن يغلبها ، فأدنت رأسه منها ، فأدخلت يدها في خزامته مع الخطام ، وهي شادَّة وسطها ببُرْد لها ، ومعها خنْجَرٌ في يدها .

فقال لها أبو طلحة : ما هذا معكِ ياأُمّ سُلَيم ؟

قالت : خَنْجَرٌ أَخذته معي ، إن دنا منِّي أحدٌ من المشركين بَعَجْتُه به .

قال أبو طلحة : أما تسمع يارسول الله ما تقول أُمُّ سُلَيم)([1102]).

ومقابل صمود أُمّ سليم انهزم أكابر الصحابة في يوم حنين بالرغم من كثرتهم ، ومن هؤلاء أبو بكر وعمر وعثمان وابن الجراح والمغيرة والأشعري ومعاذ بن جبل وأُسيد بن حضير وخالد بن الوليد وطلحة وسعد بن أبي وقّاص .

وقد أيَّد هذا الفرار البخاري ومسلم وابن كثير والبلاذري والواقدي والديار بكري واليعقوبي وآخرون ، وقد بايع هؤلاء النبي (صلى الله عليه وآله) في الحديبية على أن لا يفرّوا([1103])!

وجاء في تاريخ الخميس في رواية أنَّه لم يبقَ معه إلاَّ أربعة ، ثلاثة من بني هاشم وهم الإمام علي (عليه السلام) والعبّاس وأبو سفيان بن الحارث وكان قد أخذ بعنان بغلته والرابع عبدالله بن مسعود ، وأضاف إلى ذلك أنّ علياً والعبّاس كانا يحفظانه من قبل وجهه ، وعبدالله بن مسعود يحفظه من جانبه الأيسر ، وكان كلّ من يقبل على رسول الله يُقْتَل([1104]).

لقد حدث الهجوم على المسلمين في الصباح الباكر . وأوّل من انهزم بنو سليم وتبعهم أهل مكّة ثم الناس([1105]).

وقال عروة بن الزبير عن أهل مكّة قائلاً : خرج أهل مكّة لم يغادر منهم أحد ، ركباناً ومشاة حتّى خرج النساء مشاة ينظرون ويرجون الغنائم ، ولا يكرهون الصدمة برسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصحابه وهم على غير دين([1106])!

واعترف معاوية بن أبي سفيان بفرار أبيه قائلاً : لقيت أبي منهزماً مع بني أبيه من أهل مكّة فصحت به : ياابن حرب والله ما صبرت مع ابن عمّك ، ولا قاتلت عن دينك ، ولا كففت هؤلاء الأعراب عن حريمك([1107]).

وممّا يضحك أنّ أبا سفيان جعل يجمع في حوزته كل ترس أو سيف يسقط من الصحابة([1108]).

ممّا يبيّن عدم اعتنائه بالإسلام وفراره وشدّة اهتمامه بالدنيا وبخله الشديد .

وقال الذهبي : اعتزل أبو سفيان وابنه معاوية وصفوان بن أُميّة وحكيم بن حزام وراء تلٍّ ينظرون لمن تكون الدّبْرة ! فبينما هم على ذلك حمل المشركون عليهم حملة رجل واحد فَوَلّوا مدبرين وحزر حارثة بن النعمان من بقي مع النبي (صلى الله عليه وآله) بمئة رجل([1109]).

ووصلت الهزيمة إلى مكّة وسرَّ بذلك قوم وأظهروا الشماتة فقال قائل منهم : ترجع العرب إلى دين آبائها وقد قُتِل محمّد وتفرّق أصحابه([1110]).

وقال اليعقوبي : انهزم المسلمون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتَّى بقي في عشرة من بني هاشم وقيل تسعة وهم الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، والعبّاس بن عبدالمطّلب ، وأبو سفيان بن الحارث ، ونوفل بن الحارث ، وربيعة بن الحارث ، وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب ، والفضل بن العبّاس ، وعبدالله بن الزبير بن عبدالمطّلب ، وقيل أيمن بن أُمّ أيمن([1111]).

فقال جابر بن عبدالله الأنصاري : لم نبايع رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الموت ، إنَّما بايعناه على أن لا نَفرّ([1112]).

وقال يزيد بن أبي عبيد : قلت لسلمة بن الأكوع : على أي شيء بايعتم النبي  (صلى الله عليه وآله) يوم الحُدَيبِيَّة ؟

قال : على الموت ولكنّ الناس انهزموا([1113])!

وقد انهزم عثمان في معركة بدر وانهزم أبو بكر وعمر وعثمان في معارك أُحد والخندق وخيبر وحنين ، وعصوا النبي (صلى الله عليه وآله) في حملة أُسامة ولم يذهبوا فيها أبداً . ولم يقتلوا كافراً ولا يهودياً قطّ . وتمكّن خالد وضرار من قتل عمر في معركتي أُحد والخندق فلم يقتلاه !

وكان المنهزمون أمثال أبي بكر وعمر وعثمان يتسبّبون في هزائم الجيش الإسلامي بفرارهم .

وبعد موت النبي (صلى الله عليه وآله) لم يشاركوا في أي حرب لا بصفة قائد ولا بصفة جندي  ، بينما كان النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام) قد حضرا في جبهات القتال وعمرهما يناهز الستّين سنة .

إذ شارك النبي (صلى الله عليه وآله) في فتح مكّة وفي حرب حنين في السنة الثامنة من الهجرة ، فيكون عمره الشريف ستّين سنة ، وفي هذه السنّ شارك الإمام علي (عليه السلام) في معركة صفّين .

النصر الإلهي في حنين
لقد لقّن الله سبحانه المسلمين درساً في الحرب يتمثّل في رجوع الأمر إلى النصر الإلهي أوّلاً وإلى قوانين السنن الحياتية ثانياً .

ولمّا ثبت ذلك ودعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالنصر اللهمّ إنّي أنشدك ما وعدتني اللهمّ لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا([1114]) فقال الله تعالى : (لَقَد نَصَرَكُمُ اللهُ في مواطنَ كَثِيرَة وَيَومَ حُنَين إذ أَعجَبَتكُم كَثَرتُكُم فَلَم تُغن عَنكُم شَيئاً وضاقَت عَلَيكُمُ الأرضُ بما رَحُبَت ثُمَّ وَلَّيتُم مُدبِرِينَ، ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعلى المؤمِنِينَ وأَنزَل جُنُوداً لم تَرَوها وَعذَّبَ الذينَ كَفَرُوا وذلِكَ جَزاءُ الكافِرين)([1115]).

وحاربت الملائكة الكافرين إذ قال المشركون : أتانا رجال بيض على خيل بُلق فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى([1116]).

دور النبي (صلى الله عليه وآله)  في المعركة
كان سنّ النبي (صلى الله عليه وآله) في المعركة ستّين سنة .

وكان سنّ الإمام علي (عليه السلام) ثلاثين سنة .

ونادى النبي (صلى الله عليه وآله) مخاطباً المسلمين : أين ما عاهدتم الله عليه ؟

أنا النبي لا كَذِب ***  أنا ابنُ عبدالمطّلب([1117])

وأخذ النبي (صلى الله عليه وآله) يناديهم : أنا ابن العواتك والفواطم ، أنا ابن عبدالمطّلب ، فقال (صلى الله عليه وآله) : ناولني كفّاً من تراب فناولته ثمّ استقبل بها وجوههم قائلا : شاهت الوجوه ، وفي رواية قال : حم لا ينصرون وفي رواية جمع بينهما ، فما خلف اللهُ منهم إنساناً إلاّ ملأت عينيه وفمه ، وقال : انهزَموا وربّ محمّد ، فولّوا مدبرين([1118]).

فكان تراب رسول الله أمضى من سلاح إثني عشر ألف مقاتل ساروا معه ، وأمضى من عصا موسى (عليه السلام) !

وقال الرسول : كان علياً (عليه السلام) لي كالعصا السحرية لموسى (عليه السلام)([1119]).

وأخذت عائشة ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقذفت تراباً في وجوه جيش الإمام علي (عليه السلام) في معركة الجمل قائلة شاهت الوجوه ، فكانت النتيجة فرار جيشها وانتصار أعدائها([1120])!

أمّا دور الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في معركة حنين فكان في ثباته مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين فرَّ عنه المسلمون وإقدامه على قتل حامل لواء المشركين وبطلهم في حنين أبي جرول .

وكان أبو جرول بطل هوازن على جمل أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام القوم ، إذا أدرك ظفراً من المسلمين أكبَّ عليهم ، وإذا فاته الناس رفعه لمن وراءه من المشركين فاتّبعوه وهو يرتجز ويقول :

أنا أبو جَرول لا بَراح *** حتّى نُبيح القومَ أو نُباحَ

فصمد له أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فضرب عجز بعيره فصرعه ثم ضربه فقطّره ثم قال :

قد علم القومُ لدى الصباح *** أنّي في الهيجاء ذو نِصاح

وقتل الإمام علي (عليه السلام) أربعين رجلاً من القوم فكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول بطل الكافرين([1121]).

وقال اليعقوبي : ولمّا انتصرت هوازن صاح العبّاس بأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) : ياأهل بيعة الرضوان ، ياأصحاب سورة البقرة . ومضى الإمام علي بن أبي طالب  (عليه السلام) إلى صاحب راية هوازن فقتله ، وكانت الهزيمة([1122]).

وتبيّن معركة حنين أنّ النصر من قبل الله تعالى وليس بكثرة المسلمين على أعدائهم ففي تلك المعركة كان المسلمون كثيرين فلم تنفعهم كثرتهم ولا عدّتهم ففشلوا وهزموا .

ولمّا بقيت القلّة القليلة من المؤمنين بقيادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحت لواء الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) جاء نصر الله تعالى فسقطت راية الكافرين وتفرّقت فلولهم وانهزمت جموعهم .

وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطى العبّاس بن مرداس السلمي أربعاً من الإبل يومئذ فسخِطها وهو رئيس قومه ، وأنشأ يقول :

(أتجعلُ نهبي) ونهبَ العُبيْـ *** ـدِ([1123]) بين عُيَيْنة والأقرع

فما كان حِصْنٌ ولا حابِسُ *** يفوقان شَيخي في المجْمَعِ

وما كنتُ دونَ أمرىء منهما *** ومَن تضعِ اليوم لا يُرفَعِ

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) : « قُم ـ ياعليّ ـ إليه فاقطع لسانه » .

فقال العبّاس بن مِرداس : فوالله لَهذه الكلِمة كانت أشدَّ عَلَيَّ من يوم خَثعَم ، حين أتونا في ديارنا . فأخد بيدي عليُّ بن أبي طالب فانطلق بي ، ولو أرى أحداً يُخلّصني منه لدعوته ، فقلت : ياعليُّ ، إنّك لقاطعٌ لساني ؟

قال الإمام علي (عليه السلام) : « إنّي لمُمض فيك ما أُمرتُ » .

قال : ثمَّ مَضى بي ، فقلت : ياعليُّ إنّك لقاطعٌ لساني ؟

قال الإمام علي (عليه السلام) : « إنّي لممْض فيك ما أُمرتُ » ، قال : فما زال بي حتّى أدخلني الحظائر ، فقال لي : « أعتدّ ما بين أربع إلى مائة من الابل » .

قلتُ بأبي أنتم وأُمّي ، ما أكرمكم وأحلمكم وأعلمكم !

فقال الإمام علي (عليه السلام) : « إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطاك أربعاً وجَعَلك مع المهاجرين ، فإنّ شئتَ فخُذها ، وإن شئتَ فخذ المائة وكُن مع أهل المائة » .

قلتُ : أشر عَلَيَّ . قال علي (عليه السلام) : « فإنّي آمرُكَ أن تأخُذَ ما أعطاك وترضى » .

قلتُ : فإنّي أفعل([1124]).

ذكروا لمّا قال النبي (صلى الله عليه وآله) : اقطعوا عنّي لسانه ، قام عمر بن الخطّاب فأهوى إلى شفرة كانت في وسطه ليسلّها فيقطع بها لسانه ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين : قم أنت فأقطع لسانه([1125]).

فالناس تفهم الأقوال على قدر عقولها !

حصار الطائف
والطائف بلد كثير الأعناب والنخيل جنوب شرقي مكّة على قمّة جبل غزوان وارتفاعه 1630 متراً .

وأهالي الطائف من المحاربين القدماء للإسلام ومن المشاركين في حرب الأحزاب . ولم يشترك عروة بن مسعود في حرب الطائف إذ كان في جرش يتعلّم صنعة العرادة والمنجنيق والدبّابة([1126]).

ولمّا قدم المنهزمون من ثقيف ومَنِ انضمّ إليهم من غيرهم إلى الطائف ، وهم فلول معركة حنين أغلقوا عليهم مدينتهم واستحصروا وجمعوا ما يحتاجون إليه لسنة كاملة وقائد ثقيف كنانة بن عبد ياليل .

ثم خرج من حِصن الطائف نافع بن غيلان بن مُعتب في خَيل من ثقيف ، فلقيهُ أمير المؤمنين (عليه السلام) بِبَطنَ وَجٍّ فقتله ، وانهزم المشركون ولَحِق القوم الرعبُ فتوجّه منهم جماعة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فأسلَموا([1127]).

ونزل إلى رسول الله بضعة عشر رجلاً من رقيق أهل الطائف فأعتقهم ، منهم أبو بكرة بقيع بن الحارث بن كلدة ، (وإنّما قيل له أبو بكرة ببكرة نزل فيها) ، وغيره .

فلمّا أسلم أهل الطائف تكلّمت سادات أُولئك العبيد في أن يردّهم رسول الله  (صلى الله عليه وآله) ، إلى الرقّ .

فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : لا أفعل ، أُولئك عتقاء الله .

ونزل من الطائف مالك بن عوف زعيم هوازن فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومدحهُ بشعر وأسلم فوهب له رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهل بيته ومائة من الإبل واستعمله على من أسلم من قومه ومن حول الطائف([1128]) وقد أسلم وفد هوازن بعد أن أرجع لهم رسول الله  (صلى الله عليه وآله) السبي([1129]).

وقتل علي (عليه السلام) بطل الطائف الذي طلب مبارزة المسلمين .

وهو يقول : إنّ على كلّ رئيس حقّاً  أن يروى الصعدة أو يدقّا([1130]).

 

الفصل  الحادي عشر : غزوة تبوك

ولم يكن عدوٌّ أخوفَ عند المسلمينَ من الروم ، وذلك لِما عاينوا منهم (إذ كانوا يقدمون عليهم تجّاراً) من العَدَدَ والعُدَّة والكُراع . وكان رسول الله قد غزا غزوة تبوك  في حرٍّ شديد .

فبعد عودة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الطائف أقام في المدينة ما بين ذي الحجّة إلى رجب ثم أمر الناس بالتهيّؤ لغزو الروم وذلك في زمن عسرة من الناس وشدّة من الحرّ وجدب من البلاد وحين طابت الثمار وأحيت الظلال .

فالناس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه ، وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الشام للمطالبة بدم جعفر بن أبي طالب والرغبة في نشر الإسلام فحضَّ أهل الغنا على النفقة فأتوا بنفقات وقوّوا الضعفاء .

وسمّي هذا الجيش بجيش العسرة لقلّة النفقات وسمّيت الغزوة بغزوة الروم . وتبوك موضع بين وادي القرى والشام([1131]). والمسلمون في ثلاثين ألفاً من الناس والخيل عشرة آلاف فرس([1132]).

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قلّما يخرج في غزوة إلاّ كنى عنها وأخبر أنّه يريد غير الذي يصمد له إلاّ ما كان من غزوة تبوك فإنّه بيّنها للناس لبعد الشقّة وشدّة الزمان وكثرة العدو الذي يصمد له ليتأهّب الناس لذلك ، وأمر الناس بالجهاز وأخبرهم أنّه يريد الروم فتجهّز الناس على ما في أنفسهم من الكره لذلك الوجه وقد عظَّموا ذكر الروم وغزوهم .

ثم إنّ رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله وهم البكّاؤون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم فاستحملوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكانوا أهل حاجة فقال :

(لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ)([1133]) قال فبلغني أنّ يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبدالرحمن بن كعب وعبدالله بن مُغَفل وهما يبكيان فقال لهما ما يُبكيكما .

قالا جئنا رسول الله ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوّى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحاً فارتحلاه وزوّدهما من تمر فخرجا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

وجاء المعذِّرون من الأعراب فاعتذروا إليه فلم يعذرهم الله عزّوجلّ وكانوا من بني غفار منهم خفاف بن أيماء بن رحضة ثم استتبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) سفره وأجمع السير .

وخرج رسول الله يوم الخميس إلى غزوة تبوك وخرجوا في تبوك الرجلان والثلاثة على بعير وخرجوا في حرّ شديد فأصابهم يوماً عطش شديد حتّى جعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ويشربون ماءها فكان ذلك عسرة من الماء وعسرة من الطهر وعسرة من النفقة([1134]).

ثم إنّ أبا خيثمة أخا بني سالم رجع بعد أن سار رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيّاماً إلى أهله في يوم حارّ فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائط قد رشّت كلّ واحدة منهما عريشها وبرّدت له فيه ماءً وهيّأت له فيه طعاماً فلمّا دخل قام على باب العريشين فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : في الضحِّ والرِّيح وأبو خيثمة في ظلال باردة وماء بارد وطعام مهيّأ وامرأة حسناء في ماله مقيمٌ ما هذا بالنّصف ثم قال والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتّى ألحق برسول الله فهيّئا لي زاداً ففعلتا ثمّ قدّم ناضحه فارتحله ثمّ خرج في طلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى أدركه حين نزل تبوك  .

وأدرك أبو خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق بطلب رسول الله (صلى الله عليه وآله)فترافقا حتّى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب إنّ لي ذنباً فلا عليك أن تخلف عنّي حتّى آتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ففعل ثمّ سار حتّى إذا دنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله)وهو نازل بتبوك قال الناس : يارسول الله هو والله أبو خيثمة فلمّا أناخ أقبل فسلّم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له رسول الله : أولى لك ياأبا خيثمة ثمّ أخبر رسول الله الخبر فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيراً ودعا له بخير([1135]).

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين مرّ بالحجر (مساكن ثمود) نزلها واستقى الناس من بئرها فلمّا راحوا منها قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لا تشربوا من مائها شيئاً ولا تتوضّأوا منها للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوا الإبل ولا تأكلوا منه شيئاً .

ولا يخرجنّ أحد منكم الليلة لهبوب ريح شديدة إلاّ ومعه صاحب له وقال  (صلى الله عليه وآله)  : لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلاّ أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم وتقنّع (صلى الله عليه وآله) بردائه وهو على الرحل([1136]).

وكانوا قد استقوا الماء من آبار ثمود فأراقها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورحل بهم إلى البئر التي كانت تشرب منها الناقة([1137]).

ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر يطلب بعيراً له فأمّا الذي ذهب لحاجته فإنّه خُنق على مذهبه وأمّا الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتّى طرحته في جبل طىّء فأخبر بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : ألم أنهكم أن لا يخرج أحد إلاّ ومعه صاحب له ثم دعا الذي أُصيب على مذهبه فشفي وأمّا الآخر الذي وقع بجبل طيّء فإنّ طيّأ أهدته لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قدم المدينة .

من دلائل النبوّة
وجاء أبو ذرّ على بعيره فلمّا أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ثمّ خرج يتبع أثر رسول الله ماشياً ونزل رسول الله في بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال يارسول الله إنّ هذا الرجل يمشي على الطريق وحده فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) كُن أبا ذرّ فلمّا تأمّله القوم قالوا : يارسول الله هو أبو ذرّ ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرحم الله أبا ذرّ يمشي وحده ويموت وحده ويُبعث وحده([1138]).

ولمّا نفى عثمان أبا ذرّ إلى الربذة أصابه بها قدره ولم يكن معه أحد إلاّ امرأته وغلامه فأوصاهما أن غسّلاني وكفّناني ثم ضعاني على قارعة الطريق فأوّل ركب يمرّ بكم قولوا : هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله فأعينونا على دفنه فلمّا مات فعلا ذلك به ثم وضعاه على قارعة الطريق فأقبل عبدالله بن مسعود ورهط من أهل العراق عُمّاراً فلم يرعهم إلاّ بجنازة على الطريق قد كادت الإبل تطأها ، وقام إليهم الغلام فقال هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله فأعينونا على دفنه .

فاستهلّ عبدالله بن مسعود يبكي ويقول : صدق رسول الله تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك ثم نزل هو وأصحابه فواروه([1139]).

أعمال المنافقين في حملة تبوك
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم وهو في جهازه للجد بن قيس أخي بني سلمة هل لك ياجد العام في جلاد بني الأصفر ؟

فقال يارسول الله أو تأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشدّ عجباً بالنساء منّي وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهنّ .

فأعرض عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال قد أذنت لك ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي)([1140]) والرغبة بنفسه عن نفسه (صلى الله عليه وآله) أعظم وإنّ جهنّم لمن ورائه([1141]).

وقال قائل من المنافقين لبعض لا تنفروا في الحرّ زهادة في الجهاد وشكّاً في الحقّ وإرجافاً بالرسول فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم : (وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)([1142]).

ثمّ إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) جدَّ في سفره فأمر الناس بالجهاز والانكماش وخَصَّ أهل الغنى فاحتسبوا .

وتخلّف كعب بن مالك بن أبي أخو بني سلمة (وكعب بن مالك لم يبايع علياً  (عليه السلام) في خلافته) ومرارة بن الربيع أخو بني عمرو بن عوف وهلال بن أُميّة أخو بني واقف وأبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف([1143]).

من هو بمنزلة هارون من موسى (عليهم السلام) ؟
قال أحمد بن حنبل والبلاذري واليعقوبي والبيهقي : خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) غرّة رجب سنة 9 هجرية واستخلف علياً (عليه السلام) على المدينة([1144]).

فكان الإمام علي (عليه السلام) خليفة محمد (صلى الله عليه وآله) كما خلّف موسى (عليه السلام) هارون (عليه السلام) عند ذهابه إلى الطور لقوله تعالى : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي)([1145]).

وتثبت لعلي (عليه السلام) جميع منازل هارون (عليه السلام) الثابتة في الآية سوى النبوّة ومن منازله الإمامة المراد بقوله : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) .

لمّا خلَّف النبي (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) على المدينة قال له الإمام علي (عليه السلام) : أتخلفني في النساء والأطفال ؟

فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : « إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك ألا ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى . إلاّ أ نَّه لا نبي من بعدي ولا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي ، وأنت ولي كلّ مؤمن ومؤمنة من بعدي »([1146]).

وكان البعض يخاف أشدَّ الخوف من وصول الإمام علي (عليه السلام) إلى خلافة النبي  (صلى الله عليه وآله)  ، لأنَّ ذلك يعني سيطرة بني هاشم على الحكم ، وحرمان قريش من الخلافة  .

وعُرفت خلافة الإمام علي (عليه السلام) الإلهية أكثر عندما تركه الرسول (صلى الله عليه وآله) على المدينة المنورة خليفة له ليحفظها واصفاً إيّاه بهارون من موسى . وكان موسى (عليه السلام) قد قال : (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي)([1147]).

(وَقَالَ مُوسَى لاَِخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)([1148]).

من الأُمور الغريبة أنّ شياطين بني أُميّة كانوا يسعون لطمر وإخفاء فضائل الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ولمّا كانت تلك الفضيلة متواترة ومنتشرة في الآفاق اندفعوا لإفراغها من محتواها وتحريف دلالتها وهدفها وتزوير شواهد الموضوع وقرائنه  .

أو إيجاد فضيلة مشابهة لهذه الفضيلة لشخص آخر ، مثلما فعلوا في قضية سدّ أبواب المسجد إذ أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسد الأبواب إلاّ بابه وباب الإمام علي  (عليه السلام)فصنعوا حديثاً مزوّراً : سدّوا كلّ خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر([1149]). ونسوا خوخة عمر وعثمان !

وفي قضية غزوة تبوك صحّحوا حديث النبي (صلى الله عليه وآله) أنت مني مثل هارون من موسى إلاّ أنهم كذبوا بتولية النبي (صلى الله عليه وآله) لمحمد بن مسلمة (اليهودي السابق) أو سباع بن عرفطة([1150]) على المدينة .

فالمنافقون أرادوا الطعن في قول النبي (صلى الله عليه وآله) المذكور لعلي (عليه السلام) .

 

الفصل الثاني عشر : غزوة بني طي

غزوة علي (عليه السلام) لقبيلة طي
بعد انتشار الإسلام في مكّة والطائف بدأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفكّر في نشر الإسلام في سائر مناطق جزيرة العرب ، ومن هذه المناطق جبل طيء وقبيلة طيء أوّل قبيلة تعلّمت الخط العربي من الحيرة وقالوا : أوّل من تعلّم الخط العربي إسماعيل (عليه السلام) .

وفي السنة التاسعة من شهر ربيع الآخر أرسل النبي (صلى الله عليه وآله) ، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في سريّة إلى ديار طيء وأمره أن يهدم صنمهم الفلس ، فسار إليهم وأغار عليهم ، فغنم وسبى وكسر الصنم المقلّد بسيفين يقال لأحدهما مخذم وللآخر رَسوب ، فأخذهما الإمام علي (عليه السلام) وحملهما إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وكان الحارث بن أبي شمر أهدى السيفين للصنم ، فعلّقا عليه . وأسر الإمام علي (عليه السلام) بنتاً لحاتم الطائي ، أخذها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، بالمدينة([1151]).

وأمّا إسلام عدي بن حاتم فقال عدي : جاءت خيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فأخذوا أُختي وناساً فأتوا بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

فقالت أُختي : يارسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فأمنن عليَّ مَنَّ الله عليك .

فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : ومَن وافدك ؟

قالت : عدي بن حاتم . قال النبي (صلى الله عليه وآله) : الذي فرّ من الله ورسوله ! فمنّ عليها ، وإلى جانبه رجل قائم وهو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال : سليه حُملاناً . فسألته  ، فأمر لها به وكساها وأعطاها نفقة .

وكان حاتم الطائى نصرانيّاً وعرف بمكارم الأخلاق وعلى رأسها الكرم بالمال والطعام ، وتربّى عدي في هذا البيت الكريم([1152]).

قال عدي : كنت ملك طيء آخذ منهم المرباع وأنا نصراني ، فلمّا قدمت خيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، هربت إلى الشام من الإسلام وقلت أكون عند أهل ديني .

فبينا أنا بالشام إذ جاءت أُختي وأخذت تلومني قائلة : فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها ، ثمّ قالت لي : أرى أن تلحق بمحمّد سريعاً فإن كان نبيّاً كان للسابق فضله ، وإن كان ملكاً كنت في عزّ وأنت أنت .

قال : فقدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فسلّمت عليه وعرّفته نفسي ، فانطلق بي إلى بيته ، فلقيته امرأة ضعيفة فاستوقفته ، فوقف لها طويلا تكلّمه في حاجتها .

فقلت : ما هذا بملك ، ثمّ دخلت بيته فأجلسني على وسادة وجلس على الأرض ، فقلت في نفسي : ما هذا ملك([1153]).

فقال لي : ياعدي إنّك تأخذ المرباع وهو لا يحلّ في دينك ، ولعلّك إنّما يمنعك الإسلام ما ترى من حاجتنا وكثرة عدوّنا ، والله ليفيضنّ المال فيهم حتّى لا يوجد مَن يأخذه ، ووالله لتسمعنّ بالمرأة تسير من القادسية على بعيرها حتّى تزور هذا البيت لا تخاف إلاّ الله ، ووالله لتسمعنّ بالقصور البيض من بابل قد فتحت .

قال عدي : فأسلمت ، ورأيت القصور البيض وقد فتحت ، ورأيت المرأة تخرج إلى البيت لا تخاف إلاّ الله ، ووالله لتكوننّ الثالثة ليفيضنّ المال حتّى لا يقبله أحد([1154]).

فأخلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله) المتمثّلة في حديثه مع امرأة فقيرة وجلوسه على الأرض هي التي جذبت عدي بن حاتم الطائي للإسلام . وبمثل هذه الأخلاق تخلّق النبي سليمان (عليه السلام) الذي جالس الفقراء وقال : مسكين مع المساكين .

ولا ننس تأثير فعل النبي (صلى الله عليه وآله) في فكّه أسر بنت حاتم الطائي ونفقته عليها وإيصالها إلى الشام([1155]).

وأصبح عدي من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن أتباع الإمام علي (عليه السلام) وقد أراد معاوية أيّام ملكه النيل من الإمام علي (عليه السلام) فقال لعدي أين الطرفات ؟ يعني بنيه طريفاً وطارفاً وطرفة .

قال عدي قُتلوا يوم صفّين بين يدى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

فقال معاوية : ما أنصفك ابن أبي طالب إذ قدَّم بنيك وأخَّر بنيه .

قال عدي : بل ما أنصفت أنا علياً اذ قُتل وبقيت([1156])!

 

الفصل الثالث عشر : غزوة علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى اليمن

اليمن دولة كبيرة في شبة جزيرة العرب ولكثرة المياه فقد نشأت فيها حضارات راقية وبنيت السدود وعلى رأسها سدّ مأرب .

وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى اليمن مرّتين ; مرّة إلى قبيلة همدان في السنة الثامنة للهجرة ومرّة إلى قبيلة مذحج في السنة العاشرة للهجرة([1157]).

والبعث الأوّل في أواخر سنة ثمان إلى همدان وأمّا الثاني فكان في رمضان سنة عشر إلى مذحج([1158]).

الغزوة الأُولى
ودعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) أن يعسكر بقباء حتّى يجتمع أصحابه ، فعقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لواءه وأخذ عمامة فلفّها مثنية مربعة فجعلها في رأس رمح ثم دفعها إليه ، وعمّمه عمامة ثلاثة أكوار وجعل ذراعاً بين يديه وشبراً من ورائه([1159]).

وقال النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) : إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتّى يقاتلوك  ، فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتّى يقتلوا منكم قتيلاً ، فإن قتلوا منكم قتيلاً فلا تقاتلهم ، تلوّمهم ترهم أناة ثم تقول لهم :

هل لكم إلى أن تقولوا لا إله إلاّ الله ؟ فإن قالوا نعم فقل هل لكم أنْ تصلُّوا ؟

فإن قالوا نعم فقل : هل لكم أن تخرجوا من أموالكم صدقةً تردُّونها على فقرائكم ؟

فإن قالوا نعم فلا تبغ منهم غير ذلك ، والله لأن يهدي الله على يدك رجلاً واحداً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت([1160]).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) مر أصحاب خالد بن الوليد من شاء منهم يعقب معك فليعقب ومن شاء فليقبل([1161]).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) وخالد : إنْ التقيتما فالأمير الإمام علي (عليه السلام) .

وكان النبي (صلى الله عليه وآله) قد بعث أوّلاً خالد بن الوليد إلى اليمن فبقي يدعوهم إلى الإسلام ستّة أشهر فلم يجيبوه([1162]).

ولمّا قرأ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) رسالة النبي (صلى الله عليه وآله) لقبيلة همدان أسلموا جميعاً في يوم واحد فكتب الإمام علي (عليه السلام) بذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسجد شكراً لله([1163]) وقال السلام على همدان ثلاثاً ثمّ تتابع أهل اليمن على الإسلام .

وفي اليمن خطب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الناس وفيهم كعب الأحبار قائلاً : إنّ من الناس من يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار وفيهم من لا يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار ، ومن يعطِ باليد القصيرة يُعطَ باليد الطويلة .

فسألوا كعباً فقال : من الناس من يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار فهو المؤمن بالكتاب الأوّل ولا يؤمن بالكتاب الآخر وأمّا قوله منهم من لا يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار فهو الذي لا يؤمن بالكتاب الأوّل ولا الآخر وأمّا قوله : من يُعطِ باليد القصيرة يُعطَ باليد الطويلة فهو ما يقبل الله من الصدقات([1164]).

وبعدما وزّع الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الغنائم على المقاتلين من نساء وأموال اصطفى لنفسه جارية منهنّ .

فبعث خالد بن الوليد بريدة الأسلمي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ليخبره بذلك ويوقع في الإمام علي (عليه السلام) ولمّا وصل بريدة إلى المدينة قال له : إمضِ لما جئت له فإنّه سيغضب لابنته ممّا صنع علي . فدخل بريدة على النبي (صلى الله عليه وآله) ومعه كتاب خالد ، فجعل يقرؤه ووجه رسول الله يتغيّر .

فقال بريدة : يارسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّك إن رخّصت للناس في مثل هذا ذهب فيؤهم .

فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) : ويحك يابريدة أحدثت نفاقاً إنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام)يحلُّ له من الفيء ما يحلُّ لي إنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) خيرُ الناس لك ولقومك ، وخير من أخلف من بعدي لكافّة أُمّتي ، يابريدة إحذر أن تبغض علياً فيبغضك الله .

قال بريدة : فتمنّيت أنّ الأرض إنشقّت بي فسخت فيها ، وقلت : أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله ، يارسول الله استغفر لي فلن أُبغض علياً أبداً ولا أقول فيه إلاّ خيراً ، فاستغفر له النبي (صلى الله عليه وآله)([1165]).