وفي الروايات الصحيحة أنّ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لم ينكح إمرأة أُخرى في حياة سيّدة نساء العالمين فاطمة (عليها السلام) ، فالظاهر بأنّه (عليه السلام) أعطى الجارية لأحد المسلمين ، ولكنّ خالداً أحدث نفاقاً !

وقال عمرو بن شاس الأسلمي وهو من أصحاب الحديبية : كنت مع الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في خيله التي بعثه فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى اليمن فجفاني الإمام علي (عليه السلام) بعض الجفاء ، فوجدت في نفسي ، فلمّا قدمت المدينة اشتكيته في مجالس المدينة وأقبلت يوماً ورسول الله جالس ، فلمّا جلست قال (صلى الله عليه وآله) : إنّه والله ياعمرو بن شاس لقد آذيتني !

فقلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون أعوذ بالله والإسلام أن أُوذي رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : « مَن آذى علياً فقد آذاني »([1166]).

وبعد عودة الإمام علي (عليه السلام) وجيشه من اليمن قال له بعض جنوده : أن نركب إبل الصدقة ونريح إبلنا فأبى علينا قائلاً : إنّما لكم منها سهم كما للمسلمين([1167]).

وهذه العدالة الإسلامية التي أجراها الإمام علي (عليه السلام) لم ترق لبعض المسلمين المستغلّين لبيت المال . وهؤلاء هم الذين استمرّوا في بغضهم لعلي (عليه السلام) والميل نحو السائرين على أهوائهم كمعاوية بن أبي سفيان .

الغزوة الثانية
ولمّا عاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تبوك إلى المدينة قدم عليه عمرو بن معدي كرب فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) : أسلم ـ يا عمرو ـ يؤمنك الله من الفزع الأكبر .

فقال : يا محمّد ، وما الفزع الأكبر ، فإنّي لا أفزع !

فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : « ياعمرو ، إنّه ليس ممّا تحسب وتظنُّ إنّ الناس يصاح بهم صيحةً واحدةً ، فلا يبقى ميّتٌ إلاّ نشر ولا حيٌ إلاّ مات ، إلاّ ما شاء الله ، ثمّ يصاح بهم صيحةً أُخرى ، فينشرون ولا حيٌّ إلاّ مات ، إلاّ ما شاء الله ، ثمّ يصاح صيحةً أُخرى ، فينشر من مات ويصفون جميعاً ، وتنشقُّ السماء وتهدُّ الأرض وتخرُّ الجبال ، وتزفر النيران وترمي بمثل الجبال شرراً ، فلا يبقى ذو روح إلاّ انخلع قلبهُ وذكر ذنبه وشغل بنفسه ، إلاّ ما شاء الله ، فأين أنت ـ ياعمرو ـ من هذا ؟ » .

قال عمرو : ألا إنّي أسمع أمراً عظيماً ، فآمن بالله ورسوله ، وآمن معه من قومه ناسٌ ، ورجعوا إلى قومهم .

ثمّ إنّ عمرو بن معدي كرب نظر إلى أُبيّ بن عثعث الخثعمي فأخذ برقبته ، ثم جاء به إلى النبي (صلى الله عليه وآله) : أعدني على هذا الفاجر الذي قتل والدي .

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « أهدر الإسلام ما كان في الجاهلية » .

فانصرف عمرو مرتدّاً فأغار على قوم من بني الحارث بن كعب ومضى إلى قومه ، فاستدعى رسول الله (صلى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأمره على المهاجرين ، وأنفذه إلى بني زبيد ، وأرسل خالد بن الوليد في طائفة من الأعراب وأمره أن يقصد الجُعفي فإذا التقيا فأمير الناس الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) . فسار أمير المؤمنين واستعمل على مقدّمته خالد بن سعيد بن العاص واستعمل خالدٌ على مقدّمته أبا موسى الأشعري .

فأمّا جُعفيّ فإنّها لمّا سمعت بالجيش افترقت فرقتين ; فذهبت فرقة إلى اليمن ، وانضمّت الفرقة الأُخرى إلى بني زبيد ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) فكتب إلى خالد بن الوليد : أنْ قف حيثُ أدركك رسولي .

فلم يقف ، فكتب إلى خالد بن سعيد : تعرّض له حتّى تحبسه .

فاعترض له خالد حتّى حبسه ، وأدركه أمير المؤمنين (عليه السلام) فعنّفه على خلافه ، ثمّ سار حتّى لَقي بني زبيد بواد يقال له كُشر([1168]).

فلمّا رآه بنو زبيد قالوا لعمرو : كيف أنت ـ ياأبا ثور ـ إذا لقيك هذا الغلام القرشي فأخذ منك الأتاوة([1169]

قال : سيعلم إنْ لقيني .

وخرج عمرو فقال : هل من مبارز ؟

فنهض إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) فقام خالد بن سعيد فقال له : دَعْني ياأبا الحسن بأبي أنت وأُمّي أُبارزه .

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : إن كنت ترى أنّ لي عليك طاعةً فقِف مكانك فوقف ، ثمّ برز إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) فصاح به صيحةً فانهزم عمرو وقُتل أخوه وابنُ أخيه وأُخِذت امرأتهُ رُكانةُ بنت سَلامة ، وسُبيَ منهم نسوانٌ ، وانصرف أمير المؤمنين (عليه السلام) وخلَّف على بني زُبيد خالد بن سعيد ليقبضَ صدقاتهم ، ويُؤمنَ من عاد إليه من هُرّابهم مُسلماً([1170]).

وجاء أيضاً : كان عمرو فارس العرب مشهوراً بالشجاعة وكان شاعراً محسناً فقال : دعوني حتّى آتي هؤلاء القوم فإنّي لم أُسمّ لأحد قط إلاّ هابني فلمّا دنا منهما نادى أنا أبو ثور أنا عمرو بن معدي كرب .

فابتدره الإمام علي (عليه السلام) وخالد وكلاهما يقول لصاحبه خلِّني وإيّاه ويفديه بإبيه وأُمّه .

فقال عمرو (إذ سمع قولهما) : العرب تفزع منّي وأراني لهؤلاء جزرة ، فانصرف عنهما (انهزم)([1171]).

فرجع عَمرو بن معدي كرب واستأذن على خالد بن سعيد ، فأذن له فعاد إلى الإسلام ، وكلّمه في امرأته وولده ، فوهبهم له .

وقد كان عَمرو لمّا وقف بباب خالد بن سعيد وجَد جزوراً قد نُحِرَتْ ، فجمع قوائمها ثمّ ضربها بسيفه فقطعها جميعاً ، وكان يُسمّى سيفُه الصَمصامة .

والظاهر بأنّ الصمصامة أخذها الإمام علي (عليه السلام) من ابن معدي كرب إذ قال الإمام علي (عليه السلام) في صفّين :

أنا علي صاحب الصمصامة *** وصاحب الحوض لدى القيامة

أخو نبي الله ذي العلامة *** قد قال إذ عمّمني العمامة

أنت أخي ومعدن الكرامة *** ومن له من بعدي الإمامة([1172])

وفي المرّة الثانية في السنة العاشرة خرج الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لغزو مذحج في اليمن فخرج في ثلاثمائة فارس ، فكانت خيلهم أوّل خيل دخلت بلاد مذحج ومرّ على نجران فأخذ منهم ما اتّفقوا على دفعه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) .

وفي اليمن لقى جمعاً من الناس فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا في أصحابه ثم حمل عليهم الإمام علي (عليه السلام) بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلاً فتفرّقوا وانهزموا وتركوا لواءهم قائماً ، فكفّ عن طلبهم ودعاهم إلى الإسلام فسارعوا وأجابوا ، وتقدّم نفر من رؤسائهم فبايعوه على الإسلام قائلين : نحن على من والانا من قومنا وهذه صدقتنا فخذ منها حقّ الله([1173]).

وأخذ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الخمس معه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليرى فيه رأيه وعندما وصل إلى قرية قرب الطائف تسمّى الفتق تعجّل الإمام علي (عليه السلام)وخلف على أصحابه أبا رافع ليقدم على النبي (صلى الله عليه وآله) في حجّة الوداع([1174]).

فسأل أصحاب الإمام علي (عليه السلام) أبا رافع أن يكسوهم من ثياب الصدقة فكساهم ثوبين ثوبين فلمّا كانوا بالسدرة داخلين مكّة خرج الإمام علي (عليه السلام) يتلقّاهم ليقدم بهم فينزلهم فرأى على أصحابه ثوبين ثوبين ، فقال لأبي رافع : ما هذا ؟

قال : كلّموني ففرقت من شكايتهم . وظننت أنّ هذا يسهل عليك ، وكان من قبلك يفعل هذا بهم فقال الإمام علي (عليه السلام) رأيت إبائي عليهم ذلك وقد أعطيتهم ، وقد أمرتك أن تحتفظ بما خلّفت ، فتعطيهم([1175]

 

الفصل الرابع عشر : الأخلاق الراقيّة لعلي (عليه السلام) في الحروب

كانت الأخلاق الحربيّة عند الناس في شبه جزيرة العرب سيّئة جدّاً تتمثّل في  :

تجريد القتيل من لباسه وكشف عورته .

والتمثيل به مثلما فعلت هند بحمزة فخالفها النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام) في منهجهما .

وأكلت هند كبد حمزة .

بيع جثّة القتيل .

الإجهاز على الجريح .

قتل الفارّ من المعركة .

ومع اتِّصاف الإمام علي (عليه السلام) بالشجاعة والإقدام فإنّه يتّصف بالأخلاق في الحرب فقد كتب السرِّي :

(كان من سيرة الإمام علي (عليه السلام) أن لا يقتل مدبراً ولا يذفّف على جريح ولا يكشف ستراً ، ولا يأخذ مالا)([1176]).

ولا يقتل أسيراً .

ولا ينظر إلى عورة كما فعل مع ابن أبي طلحة في معركة بدر وعمرو بن عبد ودّ العامري في معركة الخندق وعمرو بن العاص في معركة صفّين وغيرهم([1177]).

وكان يقتل بصوته وقد بال معاوية على نفسه في معركة صفّين حين دعاه الإمام علي (عليه السلام) للمبارزة([1178]).

فقال معاوية : إنَّ الجبن والفرار من الإمام علي (عليه السلام) لا عار على أحد فيهما([1179]).

ذو الفقار
في تذكرة سبط بن الجوزي ، ذكر أحمد في الفضائل أنّهم سمعوا تكبيراً من السماء في يوم خيبر وقائلا يقول :

لا سيف إلاّ ذو الفقار *** ولا فتى إلاّ علي([1180])

وظاهر الأمر أنّ النداء بذلك القول قد تعدّد في معارك مختلفة ومن أشخاص متعدّدين مرّة من النبي (صلى الله عليه وآله) ومرّة من جبريل ومرّة من رضوان .

ففي كتاب صفّين لنصر بن مزاحم قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول كثيراً :

لا سيف إلاّ ذو الفقار *** ولا فتى إلاّ علي([1181])

وعن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) قال : نادى ملك من السماء يوم بدر يقال له رضوان :

لا سيف إلاّ ذو الفقار *** ولا فتى إلاّ علي

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم بدر ، هذا رضوان ملك من ملائكة الله ينادي :

لا سيف إلاّ ذو الفقار *** ولا فتى إلاّ علي([1182])

وذكر في النصوص بأنّ النبي محمّداً (صلى الله عليه وآله) وعلياً (عليه السلام) لم ينهزما ، وبالإضافة إلى قتل علي (عليه السلام) لأصحاب الألوية ، فإنّه كان يهاجم تجمّعات قريش ويفرّقها !

فأضحت قريش بلا لواء وبلا تجمّعات .

عن أبي رافع قال : لمّا قتل علي بن أبي طالب يوم أُحد أصحاب الألوية ، أبصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) جماعة من مشركي قريش ، فقال لعلي : احمل عليهم فحمل عليهم ففرّق جمعهم ، وقتل عمرو بن عبدالله الجمحي .

قال : ثمّ أبصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) جماعة من مشركي قريش ، فقال لعلي : احمل عليهم . فحمل عليهم ، ففرّق جماعتهم ، وقتل شيبة بن مالك . فقال جبريل : يارسول الله إنّ هذه للمواساة . فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنّه منّي وأنا منه . فقال جبريل  : وأنا منكما . قال : فسمعوا صوتاً :

لا سيف إلاّ ذو الفقار *** ولا فتى إلاّ علي([1183])

الفرَّار
لم يكن لأبي بكر شدّة على الكفّار لما عرف له من الفرار وقد ذكر ابن قتيبة فرار الشيخين في حنين([1184]).

فعُرِف أبو بكر بالفرَّار الذي لم يثبت في حرب قطّ ولم يحارب قطّ .

وكذلك عُرِف عمر بالفرَّار الذي لم يثبت في حرب قطّ ولم يحارب قطّ .

وكذلك عُرِف عثمان بالفرَّار الذي لم يثبت في حرب قطّ ولم يحارب قطّ .

وأخطر عمل يقوم به الجند فرارهم في الحرب المتسبّب في فرار باقي الجيش وقام الطلقاء وبعض المهاجرين بذلك في معركة حنين ونفّذه أبو بكر وعمر وعثمان في معارك أُحد وخيبر وذات السلاسل .

وعن فرار المهزومين في معركة حنين قال الفضل بن العبّاس : أوّل من فرّ من الناس أبو بكر وعمر وكانا يصيحان : الفرار الفرار .

وفي ذلك يقول سلامة طاعناً عليهما شعراً :

أين كانوا في حنين ويلهم *** وضرام الحرب تخبو وتهب

ذاقت الأرض على القوم بما *** رحبت فاستحسن القوم الهرب

ولله درّ الشيخ كاظم الأزري طاب ثراه حيث يقول :

إن تكن فيهما شجاعة قرم *** فلماذا في الدين ما بذلاها

ذخراه لمنكر ونكير *** أم لأجناد مالك ذخراها

ونادى مالك بن عوف : أروني محمّداً (صلى الله عليه وآله) فأروه فحمل عليه فلقيه أيمن بن عبيد وهو ابن أُمّ أيمن فقتله مالك وأتى إلى النبي ليضربه فبادره أمير المؤمنين (عليه السلام)بالسيف على رأسه فخرج يلمع من بين رجليه .

وكمن أبو جرول على المسلمين وكان على جمل أحمر وبيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام هوازن ان أدرك أحداً طعنه برمحه وإن فاته الناس دفع لمن وراه وجعل يقتلهم وهو يرتجز ويقول : (أنا ابن جرول لا براح) فعمد أمير المؤمنين  (عليه السلام) فضرب عجز بعيره فصرعه وقدّه نصفين وجعل يقول :

فقد علم القوم لدى الصباح *** إنّي لدى الهيجاء ذو نصاح

فانهزم القوم بين يديه([1185]).

من فرّ من مبارزة  علي (عليه السلام)
لقد ذاعت الأبطال قوّة وشجاعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) فانتشرت قصص بطولاته ولطائف أخباره ومراعاته لأخلاق الفارس الإسلامي فكان قدوة فرسان المسلمين ومحاربيهم . فخافته الأبطال وعجزت عن مبارزته الرجال وارتعدت فرائص أعدائه بسماع صوته وذكر اسمه ورؤية رسمه . ففي معركة الجمل نادى علي  (عليه السلام) يازبير اخرج إليّ ، فخرج إليه الزبير شاكّاً في سلاحه ، فقيل ذلك لعائشة ، فقالت وا ثكلك ياأسماء (أُختها زوجة الزبير) ، فقيل لها : إنّ علياً حاسراً فاطمأنّت([1186]).

وبينما فرَّ الأبطال من سيفه فرّ آخرون من كونه على الحق الواضح كما قال النبي (صلى الله عليه وآله) : علي مع الحقّ والحقّ مع علي([1187]).

ولمّا ذكّر علي (عليه السلام) الزبير بحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّك والله ستقاتله وأنت له ظالم قال الزبير : استغفر الله ، والله لو ذكرتها ما خرجت ، فقال له : يازبير ارجع .

فقال : كيف أرجع الآن وقد التقت حَلَقَتَا البِطان ؟ هذا والله العار الذي لا يُغسل ، فقال : يازبير ارجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار ، فرجع الزبير وهو يقول :

اخترت عاراً على نار مؤجّجة *** ما إن يقوم لها خلق من الطين

نادى علي بأمر لست أجلهه *** عار لعمرك في الدنيا وفي الدين([1188])

ثمّ نادى علي (رضي الله عنه) طلحة حين رجع الزبير : ياأبا محمّد ، ما الذي أخرجك ؟ قال : الطلب بدم عثمان ، قال علي : قتل الله أولانا بدم عثمان ، أما سمعت رسول الله  (صلى الله عليه وآله) يقول : « اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه » ، وأنت أوّل من بايعني ثمّ نكثت  ، وقد قال الله عزّوجلّ : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) .

فقال (طلحة) : أستغفر الله ، ثمّ رجع .

فقال مروان بن الحكم : رجع الزبير ويرجع طلحة ، ما أُبالي رميت ههنا أم ههنا ، فرماه في أُكحله فقتله([1189]).

وهذا العمل الفاسق يبطل نظرية الصحابة العدول التى صنعها معاوية .

أصحاب المغازي مأجورون أم محايدون ؟
كان معظم أصحاب المغازي والسيرة من أتباع الحزب القرشي وقد كتبوا سيرهم لملوك بني أُميّة وملوك بني العبّاس ، وبعضهم عنده إنصاف وآخرون ليس عندهم إنصاف . وبعضهم من الناصبين العداء لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) كالذهبي وابن كثير وابن هشام وابن حزم .

فالذهبي دافع عن الوليد بن عقبة بن أبي معيط اليهودي وأنكر نزول قرآن في ذمّه تعصّباً منه للمذهب الأُموي إذ دفع عن الوليد بن عقبة آية (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً) .

وقال إنّها نزلت في عقبة (أبيه)([1190]).

وهاجم المختار افتراءً قائلا : المختار الكذّاب ادّعى أنّ الوحي يأتيه([1191]).

رغبة من الذهبي في تشويه سمعة المختار المعارض للحكم الأُموي والمدافع عن أهل بيت النبوّة .

وكان أعداء الحقّ يتّهمون كلّ ثائر شيعي فاتّهموا الكثير من الثائرين على الطغاة ادّعاءهم النبوّة وكفرهم بالدين .

وهذه الافتراءات تعلّموها من يزيد ومعاوية وأبي سفيان .

وحاول الكثير من المؤرخين من أصحاب المغازي اتّهام زملائهم المنصفين بالتشيّع لإبعاد الناس عن كتبهم وسيرهم .

فقد اتّهموا محمّد بن إسحاق بالتشيّع في حين أنّه كتب سيرة للمأمون .

إذ أراد الناصبون العداء لأهل البيت (عليهم السلام) الامتناع عن ذكر فضائل المصطفى وأهله .

وضرورة تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان على الإمام علي (عليه السلام) لتعد كتبهم مقبولة في نظرهم .

قال ياقوت الحموي : سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول : كان محمّد بن إسحاق والحسن بن ضمرة وإبراهيم بن محمّد كلّ هؤلاء يتشيّعون ويقدّمون علياً على عثمان .

أقول : كان المعتزلة السنّة يفضّلون علياً (عليه السلام) على أبي بكر وعمر وعثمان .

وقال الشاذكاتي : كان محمّد بن إسحاق بن يسار يتشيّع وكان قدرياً .

وقال أحمد بن يونس : أصحاب المغازي يتشيّعون كابن إسحاق ، وأبي معشر ويحيى بن سعيد الأموي وغيرهم وأصحاب التفسير ، السدي ومحمد بن الكلبي وغيرهما([1192]).

الدلائل والعبر
كانت معركة بدر أوّل غزوة عظمى يقودها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ضدّ الكافرين وكانت غزوة تبوك آخر غزوة كبرى يقودها النبي (صلى الله عليه وآله) .

والفرق بين الإثنين أنّ دولة رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم معركة بدر كانت منحصرة في المدينة أمّا في زمن غزوة تبوك فهي دولة كبرى تشتمل على أغلب أراضي شبه جزيرة العرب .

وثانياً إنّ حامل لواء رسول الله (صلى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان بطل الميدان في معركة بدر حيث قتل نصف رجالهم فنادى جبرئيل باسمه .

لا فتى إلاّ علي *** ولا سيف إلاّ ذو الفقار

وفي غزوة تبوك بقي الإمام علي (عليه السلام) على المدينة خليفة لرسول الله (عليه السلام) .

ووجود أمير المؤمنين في جيش النبي (صلى الله عليه وآله) كان يرهب العدو الخارجي والداخلي ، فهو يقتل أبطال وقادة العدوّ الخارجي ويرهب العدو الداخلي .

ولمّا وجد العدو الداخلي ذلك الفراغ (بقاء علي (عليه السلام) في المدينة) فقد أقدم على محاولة اغتيال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في العقبة([1193])!

وشهدت غزوة تبوك اجتماع خطير للمنافقين بكافّة أصنافهم من قريش بزعامة أبي سفيان ومن الأنصار بزعامة عبدالله بن أُبي يشاركهم في ذلك سائر المنافقين من الأعراب والمندسين في صفوف المهاجرين .

وكان جيش عبدالله بن أُبي في معركة أُحد قريباً في العدد من جيش رسول الله  (صلى الله عليه وآله) لكنّه انسحب من الميدان إلى المدينة .

ولوجود هذا العدد الهائل من المنافقين واليهود في المدينة وأطرافها فقد كانت الحكمة تقتضي إبقاء الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) خليفة عليها في تبوك .

وفعلاً خاف الأعداء ومنهم المنافقون من الهجوم على المدينة والإمام علي  (عليه السلام) فيها .

وفي غزوة تبوك نضجت أفكار المنافقين وتكثّفت جهودهم فبينما كان قرارهم السابق يتمثّل بالإنهزام من معركة حنين ومحاولة رجل منهم قتله فقد تمخّض اجتماعهم الجديد عن الهجوم الجماعي لقيادة المنافقين على شخص الرسول (صلى الله عليه وآله) في معركة تبوك وقتله .

وافتضح دور المتخلفين عن الغزوة وعلى رأسهم كعب بن مالك ورغم العقوبة الإلهية له استمرّ هذا الرجل متزلّفاً للمال وللسلطة مبتعداً عن الحقّ والعدالة إلى أواخر أيام حياته .

وكانت جهود رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمنافقين متضادّة ، فرسول الله (عليه السلام) يريد تعيين علياً  (عليه السلام) خليفة له ، والمنافقون يخطّطون وينفّذون عملية الاستحواذ على خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

وفي ذلك الزمن خلّف النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) على المدينة معلناً أمام المسلمين : « علي منّي بمنزلة هارون من موسى (عليه السلام) »([1194]).

ممّا يستلزم الخلافة العظمى له مثلما كانت الخلافة العظمى لهارون (عليه السلام) لذا وقف المؤمنون إلى جنب هارون في صراعه مع قارون ، ووقف أكثرية اليهود مع قارون  !

ولمّا قال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى (عليه السلام) » سأل المخلصون أنفسهم مع من سيقف المسلمون بعد النبي (صلى الله عليه وآله) مع هارون أم مع قارون ؟

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « ستتبعون سنن من قبلنا حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة فلو دخلوا جحر ضب لدخلتموه »([1195]).

مسيلمة الكذّاب والأشعث
وجاء وفد بني حنيفة وأسلموا فأجازهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولمّا عادوا إلى اليمامة ارتدّ عدو الله مسيلمة وأعلن نبوّته المزيّفة ،  ووضع عنهم الصلاة وأحلّ لهم الخمر والزنا .

ومع ذلك شهد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بالنبوّة ، فأرسل له النبي (صلى الله عليه وآله) رسالة :

بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى مسيلمة الكذّاب ، سلام على من اتّبع الهدى ، أمّا بعد فإنّ الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين .

فأرسل له مسيلمة رسولين فقال لهما النبي (صلى الله عليه وآله) : أنتما تقولان بمثل ما يقول ؟

قالا : نعم .

فقال (صلى الله عليه وآله) : أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما([1196]).

ومن زيف كتاب مسيلمة : الطاحنات طحناً والعاجنات عجناً والخابزات خبزاً والثاردات ثرداً واللاقمات لقماً([1197]).

وقال كذباً : لقد أنعم الله على الحبلى أخرج منها نسمة تسعى بين صفاق وحشا .

وكانت آياته منكوسة : تفل في بئر قوم سألوه ذلك تبرّكاً فجفّ ماؤها ، ومسح رأس صبيٍّ فقرع قرعاً فاحشاً ، ودعا لرجل في ابنين له بالبركة فرجع إلى منزله فوجد أحدهما قد سقط في البئر والآخر قد أكله الذئب .

ومسح على عيني رجل استشفى بمسحه فابيضّت عيناه([1198]).

وانتهت حركة مسيلمة بالفشل والخذلان إذ قتله المسلمون وهزموا جيشه !

وقدم الأشعث بن قيس على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مسلماً في ثمانين راكباً من كندة وقد رجّلوا جممهم وتكحّلوا وعليهم جبب الحبرة قد كفّفوها بالحرير .

فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ألم تسلموا ؟

قالوا : بلى .

قال : فما بال هذا الحرير في أعناقكم ؟

فشقّوه منها فألقوه([1199]).

ثمّ ارتدّ الأشعث في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصبح من حزب مسيلمة الكذّاب .

وأذّن الأشعث بن قيس لمسيلمة الكذّاب وأذّن شبث بن ربعي لسجاح المتنبئة ثم تزوّج مسيلمة من سجاح !

وبقى الأشعث  على كفره ونفاقه الى أن ختم أعماله بالمشاركة فى قتل الإمام علي بن أبى طالب (عليه السلام) .

ولقد أراد النبي أن يبعث له جيشاً لمحاربته لكنّ أعداءه الداخليين قتلوه بعد ذلك([1200]).

 

الباب الثالث : علاقة النبي ـ الامام (عليهما السلام)

الفصل الأوّل : المنزلة الخاصّة للإمام (عليه السلام)

 الألقاب النبويّة للإمام علي (عليه السلام) أمير المؤمنين
نزل فى الإمام قوله  تعالى : (وَكُلَّ شَيْء أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُبِين)([1201]).

أقتصر في هذا الباب على ذكر روايتين :

الأُولى : روى الشيخ سليمان البلخي القندوزي المتوفّى سنة 1293([1202]) عن عمّار بن ياسر (رضي الله عنه) قال :

كنت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) سائراً ، فمررنا بواد مملوء نملاً ، فقلت : ياأمير المؤمنين ، ترى أحد من خلق الله يعلم عدد هذا النمل ؟!

قال : نعم ياعمّار ، أنا أعرف رجلاً يعلم عدده ، وكم فيه ذكر ، وكم فيه أُنثى .

فقلت : مَن ذلك الرجل ؟

فقال : ياعمّار ، ما قرأت في سورة ياسين (وَكُلَّ شَيْء أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُبِين)  ؟

فقلت : بلى يامولاي .

فقال : أنا ذلك الإمام المبين .

الثانية : في نفس الكتاب : في المناقب بالسند عن أبي الجارود ، عن محمّد الباقر (عليه السلام) ، عن أبيه ، عن جدّه الحسين (عليه السلام) ، قال :

لمّا نزلت هذه الآية : (وَكُلَّ شَيْء أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُبِين) .

قالوا : يارسول الله ، هو التوراة ، أو الإنجيل ، أو القرآن ؟ قال : لا .

فأقبل إليه أبي (عليه السلام) فقال (صلى الله عليه وآله) : « هو هذا الإمام الذي أحصى الله فيه علم كلّ شيء »([1203]).

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « سلِّموا على علي بإمرة المؤمنين »([1204]).

وذكر الرسول لعائشة : « أَنّ علياً أمير المؤمنين وسيّد المسلمين »([1205]).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله) : « لو يعلم الناس متى سمّي الإمام علي أمير المؤمنين ما أنكروا فضله سمّي بذلك وآدم بين الروح والجسد قال الله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) فقال تعالى : أنا ربّكم ومحمّد نبيّكم وعلي أميركم » .

وذكر الحارث بن الخزرج صاحب راية الأنصار أَنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال لعلي : «  لا يتقدّمك إلاّ كافر وإنّ أهل السماوات يسمّونك أمير المؤمنين » .

ولمّا قال الإمام علي (عليه السلام) مرَّة للرسول (صلى الله عليه وآله) : « السلام عليك يارسول الله فقال  (صلى الله عليه وآله)  : وعليك السلام ياأمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته .

فقال (عليه السلام) : أنت حي وتسمّيني أمير المؤمنين ؟

قال : نعم . إنّما سمّاك جبريل عند الله »([1206]).

أسماء الإمام (عليه السلام) وألقابه

الصدِّيق الأكبر والفاروق الأوّل
قال الإمام : « أنا الصدِّيق الأكبر وأنا الفاروق الأوّل أسلمت فبل الناس وصلّيت قبل صلاتهم لا يقولها بعدي إلاّ كذّاب »([1207]).

سمّاه النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) علياً وهو أوّل من سمّي بذلك في هذه الدنيا([1208]).

وسمَّته أُمّه حيدرة وهو من أسماء الأسد لذا قال الإمام علي (عليه السلام) في معركة خيبر عندما برز إلى ملك اليهود مرحب اليهودي :

أنا الذي سمَّتني أُمّي حيدرة *** كليث غابات شديد قسورة([1209])

ومن الأحاديث النبويّة في علي (عليه السلام) :

روى أبو ذرّ وسلمان الفارسي أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) أخذ بيد عليّ (عليه السلام) وقال : « إنّ هذا أوّل من آمن بي ، وهذا أوّل من صافحني يوم القيامة ، وهذا الصدّيق الأكبر ، وهذا فاروق هذه الأُمّة يفرّق بين الحقّ والباطل »([1210]).

روى الصحابي الجليل أبو ذرّ قال : سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول : « عليّ أنت الصّدّيق الأكبر ، وأنت الفاروق الّذي تفرّق بين الحقّ والباطل »([1211]).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « ستكون من بعدي فتنة ، فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب فإنّه أوّل من آمن بي ، وأوّل من يصافحني يوم القيامة ، وهو الصدّيق الأكبر ، وهو فاروق هذه الأُمّة »([1212]).

يعسوب المؤمنين
قال النبي (صلى الله عليه وآله) : « هذا ـ وأشار إلى الإمام ـ يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الظالمين »([1213]).

وروى أبو سعد قال : دخلت على عليّ (عليه السلام) وبين يديه ذهب فقال : « أنا يعسوب المؤمنين ، وهذا ـ أي الذهب ـ يعسوب المنافقين » ، ثمّ قال : « بي يلوذ المؤمنون ، وبهذا يلوذ المنافقون »([1214]).

علي هو الولي

(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)([1215]).

نزلت الآية الكريمة في حقّ الإمام علي (عليه السلام) حينما تصدّق بخاتمه على مسكين في المسجد ، وعبّرت عنه بصيغة الجمع ، وهي : (وَالَّذِينَ آمَنُواْ) دون المفرد ; تعظيماً لشأنه وتعظيماً في احترامه .

روى ابن عبّاس أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعليّ : « أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي  »([1216]).

روى الخطيب البغدادي بسنده عن الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) أنّه قال :

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « سألت الله فيك خمساً فأعطاني أربعاً ومنعني واحدةً ; سألته فأعطاني فيك أوّل من تنشقّ الأرض عنه يوم القيامة ، وأنت معي ، معك لواء الحمد وأنت تحمله ، وأعطاني أنّك وليّ المؤمنين بعدي ... » الحديث([1217]).

روى النسائي بسنده أنّ قوماً شكوا عليّاً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتألّم ، والغضب يبصر في وجهه ، وقال : « ما تريدون من عليّ ؟ إنّ عليّاً منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن من بعدي »([1218]).

والولي هو السيّد الزعيم القادر على التصرّف والإدارة .

أمير المؤمنين
من الألقاب الشائعة للإمام (عليه السلام) (أمير المؤمنين) وإذا أُطلق فلا ينصرف إلى سوى الإمام ، يقول الدكتور زكي مبارك :

(أمير المؤمنين هو اللقب الاصطلاحي لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، فإن رأى القارئ في كتاب قديم من غير نصّ على اسم فليعرف أنّ المراد هو عليّ بن أبي طالب  (عليه السلام))([1219])، وقد أفضى النبيّ (صلى الله عليه وآله) هذا اللقب عليه .

روى أبو نعيم بسنده عن أنس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ياأنس ، اسكب لي وضوءاً ، ثمّ قام فصلّى ركعتين ، ثمّ قال : « ياأنس ، أوّل من يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين ، وسيّد المسلمين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، وخاتم الوصيّين » .

قال أنس : قلت : اللّهمّ اجعله رجلاً من الأنصار وكتمته ، إذ جاء عليّ (عليه السلام) ، فقال : مَن هذا ياأنس ؟

فقلت : عليّ ، فقام مستبشراً فاعتنقه ثمّ جعل عرق وجهه بوجهه ويمسح عرق عليّ بوجهه ، قال علي : يارسول الله ، لقد رأيتك صنعت شيئاً ما صنعت بي من قبل ، قال : « وما يمنعني وأنت تؤدّي عنّي » ؟

وقال النبي (صلى الله عليه وآله) : « أنت أخي وأبو ولدي تقاتل على سنّتي وتبرئ ذمّتي ، من مات في عهدي فهو كبّر الله ، ومن مات في عهدك فقد قضى نحبه ، ومن مات يحبّك بعد موتك ختم الله له بالأمن والإيمان ما طلعت شمس أو غربت ، ومن مات يبغضك مات ميتةً جاهليّةً »([1220]).

روى الحاكم بسنده أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجد عليّاً وعمّاراً في دقعاء([1221]) من التراب فأيقظهما ، وحرّك عليّاً فقال : « قم ياأبا تراب ألا أُخبرك بأشقى النّاس ؟ رجلين : احيمر ثمود عاقر النّاقة ، والّذي يضربك على هذه ـ أي على هامة رأسك  ـ فيخضب هذه ـ أي لحيته ـ منها »([1222]).

دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على فاطمة فقال لها : أين ابن عمّك ؟

فقالت : هو ذاك مضطجعاً في المسجد ، فجاءه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فوجده قد سقط رداؤه على ظهره ، وخلص التراب إلى ظهره فجعل يمسح التراب عن ظهره ويقول : «  اجلس أبا تراب » ، فوالله ما سمّاه به إلاّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ووالله ما كان له اسم أحبّ إليه منه([1223]).

وشاع هذا اللقب بين المسلمين ونظمه الشعراء ، وكان فيما نظمه بعضهم :

وجاء رسول الله مرتضياً له *** وما كان عن زهرائه في تشرّد

فمسح عنه التّراب إذ مسّ جلده *** وقد قام منها آلفاً للتّفرّد

وقال له قول التّلطّف : قم أبا *** تراب كلام المخلص المتودّد([1224])

سدّ الأبواب
وفي دار علي وفاطمة (عليهما السلام) حصلت المنقبة الإلهية في سدّ الأبواب إلاّ باب محمّد  (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) .

(في ذكر سدّ الأبواب) من مسند أحمد بن حنبل عن زيد بن أرقم قال : كان لنفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبواب شارعة في المسجد  فقال يوماً : سدّوا هذه الأبواب إلاّ باب علي (عليه السلام) ، قال : فتكلّم في ذلك أُناس ، قال : فقام رسول الله  (صلى الله عليه وآله)فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد فإنّي أمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب علي  (عليه السلام) ، فقال فيه قائلكم ، والله ما سددت شيئاً ولا فتحته ولكنّي أُمرت بشيء فاتّبعته . وبالإسناد المقدّم عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه أنّ عمر بن الخطّاب قال : لقد أُوتي علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثلاثاً لأن أكون أُوتيتها أحبّ إليّ من أن أُعطى حمر النعم : جوار رسول الله (صلى الله عليه وآله) له في المسجد ، والراية يوم خيبر ، والثالثة نسيها سهيل . وبالإسناد عن ابن عمر قال : كنّا نقول : خير الناس أبو بكر ثمّ عمر ، ولقد أُوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لأن يكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم ، زوّجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ابنته ، وولدت له ، وسدّ الأبواب إلاّ بابه في المسجد ، وأعطاه الراية يوم خيبر([1225]).

ومن مناقب الفقيه ابن المغازلي عن عدي بن ثابت قال : خرج رسول الله  (صلى الله عليه وآله) إلى المسجد فقال : « إنّ الله أوحى إلى نبيّه موسى أن ابن لي مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاّ موسى وهارون وإبنا هارون ، وأنّ الله أوحى إليّ أن أبني مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاّ أنا وعلي وابنا علي » . وبالإسناد المتقدّم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال  : لمّا قدم أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة لم يكن لهم بيوت فكانوا يبيتون في المسجد ، فقال لهم النبي (صلى الله عليه وآله) : لا تبيتوا في المسجد فتحتلموا ، ثمّ إنّ القوم بنوا بيوتاً حول المسجد وجعلوا أبوابها إلى المسجد ، وإنّ النبي (صلى الله عليه وآله) بعث إليهم معاذ بن جبل فنادى أبا بكر ، فقال : إنّ رسول الله يأمرك أن تخرج من المسجد وتسدّ بابك  ، فقال  : سمعاً وطاعة ، فسدّ بابه وخرج من المسجد ، ثمّ أرسل إلى عمر فقال  : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأمرك أن تسدّ بابك الذي في المسجد وتخرج منه .

فقال : سمعاً وطاعة لله ولرسوله غير أنّي أرغب إلى الله تعالى في خوخة في المسجد ، فأبلغه معاذ ما قاله عمر .

ثمّ أرسل إلى عثمان وعنده رقيّة فقال : سمعاً وطاعة ، فسدّ بابه وخرج من المسجد ثمّ أرسل إلى حمزة (رضي الله عنه) فسدّ بابه فقال : سمعاً وطاعة لله ولرسوله ، وعلي  (عليه السلام)على ذلك متردّد لا يدري أهو فيمن يقم أو فيمن يخرج ؟ وكان النبي  (صلى الله عليه وآله) قد بنى له في المسجد بيتاً بين أبياته ، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) : اسكن طاهراً مطهّراً .

فبلغ حمزة قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي ، فقال : يامحمّد تخرجنا وتمسك غلمان بني عبدالمطّلب فقال له نبي الله : لو كان الأمر إليّ ما جعلت دونكم من أحد ، والله ما أعطاه إيّاه إلاّ الله وإنّك لعلى خير من الله ورسوله ، أبشر فبشّره النبي (صلى الله عليه وآله) فقتل يوم أُحد شهيداً ، ونَفَسَ ذلك رجال على علي (عليه السلام) ، فوجدوا في أنفسهم وتبيّن فضله عليهم وعلى غيرهم من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) فقام خطيباً فقال : إنّ رجالا يجدون في أنفسهم في أن أُسكن علياً (عليه السلام) في المسجد ، والله ما أخرجتهم ولا أسكنت ، إنّ الله عزّوجلّ أوحى إلى موسى وأخيه أن تبوءا  لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة ، وأمر موسى أن لا يسكن مسجده ولا ينكح فيه ولا يدخله إلاّ هارون وذرّيته ، وأنّ علياً بمنزلة هارون من موسى وهو أخي دون أهلي ولا يحلّ مسجدي لأحد ينكح فيه النساء إلاّ علي وذرّيته .

حديث سدّ الأبواب غير باب علي (عليه السلام) متواتر عند المسلمين غير أنّ معاوية حاول إيجاد مناقب كاذبة للخلفاء حسداً منه لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) فصنع حديث سدّ الأبواب إلاّ خوخة أبي بكر كذباً وافتراءً ولم يكن لأبي بكر باب على المسجد النبوي .

وذكر ابن أبي الحديد المعتزلي تزويرات الأحاديث قائلا : في مقابلة هذه الأحاديث نحو (لو كنت متّخذاً خليلا) فإنّهم وضعوا في مقابله حديث الإخاء ونحو سدّ الأبواب فإنّه كان لعلي (عليه السلام) فقلبته البكرية إلى أبي بكر ونحو (ائتوني بدواة وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه إثنان) ثمّ قال (يأبى الله تعالى والمسلمون إلاّ أبا بكر) فإنّهم وضعوه في مقابل الحديث المروي عنه في مرضه (ائتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لا تضلّون بعده أبداً) فاختلفوا عنده وقال قوم منهم لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله ونحو حديث (أنا راض عنك فهل أنت عنّي راض([1226]).

قال ابن كثير : عن ابن عباس الحديث الطويل وفيه سدّ الأبواب غير باب علي (عليه السلام) . وكذا رواه شعبة عن أبي بلج . ورواه سعد بن أبي وقّاص قال أبو يعلى حدّثنا موسى بن محمد بن حسّان حدّثنا محمد بن إسماعيل بن جعفر الطحّان حدّثنا غسّان بن بسر الكاهلي عن مسلم عن خيثمة عن سعد أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) سدّ أبواب المسجد وفتح باب علي (عليه السلام) فقال الناس في ذلك فقال : ما أنا فتحته ولكن الله فتحه([1227]) .

إغلاق أبواب المسجد باستثناء بابين
رواية سدّ الأبواب في المسجد من الروايات الصحيحة ، جاء في الإصابة :

لمّا أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) بسدّ الأبواب التي في المسجد شقَّ عليهم . قال حبّة : إني لأنظر إلى حمزة بن عبدالمطّلب ، وهو يجرّ قطيفة حمراء ، وعيناه تذرفان يقول : أخرجت عمَّك ، وأبا بكر وعمر والعبّاس وأسكنت ابن عمّك([1228])...

وعن أبي الطفيل في حديث مناشدة الإمام علي (عليه السلام) للمجتمعين يوم الشورى قال علي (عليه السلام) : سد النبي أبواب المهاجرين وفتح بابي ، حتّى قام إليه حمزة والعبّاس فقالا : يارسول الله سددت أبوابنا وفتحت باب الإمام علي ؟

فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : ما أنا فتحت ... بل الله فتح([1229]).

وجاء في رواية بأنَّ حمزة ورقيّة كانا على قيد الحياة عند سدّ الأبواب ، وإنّ أبا بكر وعمر قد سدَّا بابيهما ، ثمّ أرسل إلى عثمان (وعنده رقية) .

فقال عثمان : سمعاً وطاعة وسدّ بابه .

وسنّ الإمام علي (عليه السلام) حينها 25 سنة .

فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) : أُسكن طاهراً مطهَّراً ، فبلغ حمزة قول النبي (صلى الله عليه وآله)لعلي  ، فقال : يامحمّد تخرجنا وتمسك غلمان بني عبدالمطّلب ؟

فقال له نبي الله : لا ، لو كان الأمر لي ما جعلت من دونكم من أحد ، واللهِ ما أعطاه إيّاه إلاّ الله ، وإنّك لعلى خير من الله ورسوله ، أبشر فبشّره النبي (صلى الله عليه وآله) فقُتِل يوم أُحد شهيداً([1230]).

وعن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) : لمّا أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسدّ الأبواب التي في المسجد خرج حمزة يجرّ قطيفة حمراء وعيناه تذرفان وهو يبكي .

فقال (صلى الله عليه وآله) : ما أنا أخرجتك ، وما أنا أسكنته ، ولكنّ الله أسكنه([1231]).

فالظاهر أنّ سدّ الأبواب قد حدث في السنة الثانية للهجرة أي قبل معركة أُحد التي قُتِل فيها حمزة ، وهناك روايات جاء فيها اسم العبّاس إلى جنب اسم حمزة ، ممّا يؤكّد وقوع الحادثة بعد معركة بدر العظمى بعد أسر العبّاس بن عبدالمطّلب فيها .

ومن المؤكّد إغلاق النبي (صلى الله عليه وآله) لأبواب أصحابه المشرعة على المسجد في وقت مبكّر بعد هجرته إلى المدينة لحرمة دخول الجنب إلى المسجد المطهّر واستثناء الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ونفسه (صلى الله عليه وآله) من ذلك .

واستثنى الله تعالى محمّداً (صلى الله عليه وآله) وعلياً (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) من سدّ الأبواب يؤكّد الآية القرآنية في طهارة أهل البيت (عليهم السلام) : (إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً)([1232]).

وهذا يدعم ما ذكره النبي (صلى الله عليه وآله) لاحقاً : « من كنت مولاه فهذا الإمام علي مولاه ، والإمام علي منِّي مثل هارون من موسى ، وإنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي » .

وقد ذكرت حادثة سدّ الأبواب بواسطة عشرات الصحابة منهم الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وسعد بن أبي وقّاص ، وعبدالله بن عبّاس وأبو سعيد الخدري وعمر بن الخطّاب ، وعبدالله بن عمر بن الخطّاب ، وزيد بن أرقم والبرّاء بن عازب  ، وجابر بن سمرة ، وأنس بن مالك ، وجابر بن عبدالله ، وابن مسعود ، وأبو ذرّ الغفاري ، وأُمّ سلمة في أُمّهات الكتب الإسلامية([1233]).

وجاء في مسند أحمد بن حنبل من عدَّة طرق : فتكلّم الناس فخطب رسول الله  (صلى الله عليه وآله) فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد فإنّي أُمِرت بسدّ هذه الأبواب غير باب الإمام علي ، فقال فيه قائلكم ، واللهِ ما سددت شيئاً ولا فتحته ، وإنّما أُمرت بشي فاتّبعته([1234]).

وقال عمر بن الخطّاب : لقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لاَن تكون لي واحدة منهنَّ أحبّ إليَّ من حمر النعم : زوَّجه رسول الله ابنته وولدت له ، وسدَّ الأبواب إلاّ بابه في المسجد ، وأعطاه الراية يوم خيبر([1235]).

وبالرغم من كلّ هذه المصادر الإسلامية المهمّة عبر عشرات الصحابة فقد كذَّب ابن تيمية الناصبي تلك الأحاديث([1236]). دون دليل علمي إتّباعاً لطريقته في طرح وتكذيب الأحاديث التي لا تنسجم مع منهجه .

ولو كذَّب المبطلون الأحاديث الصحيحة بأهوائهم لبطلت الأحاديث كلّها ! وقد ردَّ ابن حجر العسقلاني قائلا : وهذه الأحاديث (أحاديث سدّ الأبواب) يقوّي بعضها بعضاً ، وكلّ طريق منها صالح للاحتجاج فضلا عن مجموعها .

وأضاف : فهذه الطرق المتظافرة من روايات الثقات تدلّ على أنّ الحديث صحيح دلالة قويّة .

وقال : فكيف يدّعي الوضع على الأحاديث الصحيحة بمجرد التوهّم ، ولو فتح هذا الباب لادّعي في كثير من الأحاديث الصحيحة البطلان ، ولكن يأبى الله ذلك والمؤمنون([1237]).

وقال الجويني : حديث (سدّ الأبواب) رواه نحو من ثلاثين رجلا([1238]).

معاوية : لا تتركوا خبراً في علي (عليه السلام) إلاّ وأتوني بمناقض له
وكتب معاوية بن أبي سفيان كتباً إلى الآفاق جاء فيها : لا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وأتوني بمناقض له في فضائل الصحابة ، فإنَّ هذا أحبُّ إليَّ وأقرُّ لعيني([1239]).

وتبعاً لأوامر معاوية في هذا المجال فقد روى المبطلون حديثاً مفاده لا يبقين في المسجد باب إلاّ سدّ ، إلاّ باب أبي بكر ، أو لا يبقين في المسجد خوخة إلاّ خوخة أبي بكر ... قال ذلك (صلى الله عليه وآله) في مرضه الذي مات فيه([1240]).

وقد روى هذا الحديث الموضوع إسماعيل بن عبدالله أبي أُويس بن عبدالله الأصبحي  ، أبو عبدالله المدني .

فقال عنه ابن معين : لا يساوي فلسين ، وقال هو وأبوه يسرقان الحديث .

وقال الدولابي : في الضعفاء .

وقال النضر بن سلمة : كذّاب .

وقال سلمة بن شبيب : سمعته يقول : ربما كنت أضع الحديث لأهل المدينة ، إذا اختلفوا في شيء .

ومن رواة الحديث فليح بن سليمان ، أبو يحيى المدني ، وفليح لقب غلب عليه ، واسمه عبدالملك ، قال ابن معين : ليس بثقة .

وقال مرّة : يتَّقى حديثه .

وقال الطبري : ولاّه المنصور على الصدقات لأنّه أشار عليه بحبس بني الحسن  (عليه السلام) ، لمّا طلب محمد بن عبدالله بن الحسن .

وضعَّفه أبو حاتم ومظفّر بن مدرك والنسائي وأبو داود وأبو أحمد وعلي بن المديني([1241]).

كما أنّ أبا بكر لم يكن عنده بيت جنب المسجد ، وأنّه ليس من أهل البيت المطهّرين (عليهم السلام) ، ليثبت له ذلك([1242]).