وهكذا تجد في كلام علي (عليه السلام) ; الدين والسياسة ، والأدب ،
والحكمة ، والوصف العجيب ، والبيان الزاخر .
هذا كتاب علي (عليه السلام) إلى شريح القاضي يعظه ، وقد اشترى داراً ،
ويحذّره من مال المسلمين ، في معان عجيبة ، وأُسلوب خلاّب . وهذا كتابه إلى معاوية
يجادله في الأحقّ بالخلافة ، وقتل عثمان ، في معان لا يحسنها سواه .
وتلك كُتُبه إلى العاملين على الصدقات يعلّمهم فيها واجباتهم في جميع
ملابساتهم .
وذلك عهده إلى محمّد بن أبي بكر حين قلّده مصر ، (وعهده للأشتر) .
وتلك وصيته إلى الحسن عند منصرفه من صفّين لم يدع فيها معنى تتطلّبه
الحياة لمثله إلاّ وجّهه فيها أسمى توجيه ، في فلسفة خصيبة ، وحكم رائعة مفيدة ،
وكل تلك النواحي والأغراض في معان سامية مبسّطة ، يعلو بها العالم الربّاني
الغزير ، والروح السامية الرفيعة ، وتدنو بها القوّة الجبّارة على
امتلاك أزمّة القول ، كأنّما نثل كنانته بين يديه فوضع لكلّ معنى لفظه في أدقّ
استعمال .
ولقد يضيق بي القول فأقف حائراً عاجزاً عن شرح ما يجول بنفسي من تقدير
تلك المعاني السامية ، فيسعدني تصوير الإمام له وهو يقدّم « نهج البلاغة » ; فكان
يخيّل إليّ في كل مقام أو حروباً شبّت ، وغارات شُنّت ، وأنّ للبلاغة دولة ،
وللفصاحة صولة .
بلاغته فوق بلاغة المخلوقين
ماذا يمكننا الكتابة عن بلاغة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه
السلام) وقد بلغت بلاغته منزلة أعلى من قدرة المخلوق ودون منزلة الخالق .
فلا بلاغته تقاس ببلاغة الباري عزّوجلّ ولا بلاغة الناس تقاس ببلاغته .
فكانت خطبه ورسائله (عليه السلام) كسلاسل ذهبية منسجمة وكأُطروحة فضّية
رائعة .
فحكمه هادفة وغاياتها عالية ونصائحه غالية ومواعظه راقية ، عشقها
المؤمنون وارتاح لها المخلصون .
فكم من ورع يزكّي روحه بحكمه المعروفة وكم من مذنب يطهّر نفسه بمواعظه
الشريفة .
وقد قصر العلماء عن درك كنه علمه وبلوغ لبّ سرّه للفارق الشاسع بين
علمه وعلمهم وسرّه وسرّهم ومنزلته عند الله تعالى ومنزلتهم .
قال العالم الكبير ابن أبي الحديد المعتزلي عنه : إمام الفصحاء وسيّد
البلغاء وكلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين .
وقد قال الإمام علي (عليه السلام) : « أنا النقطة أنا الخط أنا الخط
أنا النقطة أنا النقطة والخط »([1316]).
مقدّمة الشريف الرضي :
قال الشريف الرضي : كنت قد بوّبت ما خرج من ذلك أبواباً وفصّلته فصولاً
فجاء في آخرها فصل يتضمّن محاسن ما نقل عنه (عليه السلام) من الكلام القصير في
المواعظ والحكم والأمثال والآداب دون الخطب العلويّة والكتب المبسوطة .
فاستحسن جماعة من الأصدقاء والاخوان ما اشتمل عليه الفصل المقدّم ذكره
معجبين ببدائعه ومتعجّبين من نواصعه([1317]) وسألوني عند ذلك أن
أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في
جميع فنونه ، ومتشعّبات غصونه ، من خطب وكتب ومواعظ وآداب علماً أنّ ذلك يتضمّن
عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ما
لا يوجد مجتمعاً في كلام([1318]) ولا مجموع الأطراف في كتاب .
إذ كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مشرّع الفصاحة وموردها([1319])
ومنشأ البلاغة ومولدها . ومنه (عليه السلام) ظهر مكنونها وعنه أخذت قوانينها وعلى
أمثلته حذا كلّ قائل خطيب([1320]) وبكلامه استعان كلّ
واعظ بليغ ومع ذلك فقد سبق وقصروا وتقدّم وتأخّروا لأنّ كلامه (عليه السلام)
الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي([1321]) وفيه عبقة من الكلام
النبوي فأجبتهم إلى الابتداء بذلك عالماً بما فيه من عظيم النفع ومنشور الذكر
ومذخور الأجر واعتمدت به أن أُبيّن من عظيم قدر أمير المؤمنين (عليه السلام) فى
هذه الفضيلة مضافة إلى المحاسن الدائرة والفضائل الجمّة . وإنّه (عليه السلام)
إنفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأوّلين الذين إنّما يؤثر عنهم منها القليل
النادر والشاذّ الشارد([1322]).
وأمّا كلامه فهو من البحر الذي لا يساجل([1323])،
والجمّ الذي لا يحافل([1324]).
الفصل الثاني : الخطب والرسائل
خطبة الإمام بعد هجوم جيش معاوية على اليمن
قال الإمام علي (عليه السلام) عن تثاقل أصحابه عن الجهاد ومخالفتهم له
في الرأي فقال : ما هي إلاّ الكوفة أقبضها وأبسطها([1325]).
إن لم تكوني إلاّ أنت تهب أعاصيرك([1326]). فقبّحك الله
(وتمثّل بقول الشّاعر) :
لعمر أبيك الخير ياعمرو إنّني *** على وضر من ذا الإناء قليل([1327])
(ثمّ قال (عليه السلام)) أُنبئت بسراً قد اطّلع اليمن([1328])
وإنّي والله لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرّقكم عن
حقّكم([1329]).
وبمعصيتكم إمامكم في الحقّ وطاعتهم إمامهم في الباطل ، وبأدائهم الأمانة إلى
صاحبهم وخيانتكم .
وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم فلو أئتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب
بعلاقته([1330]).
اللّهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني وسئمتهم وسأموني فأبدلني بهم خيراً منهم وأبدلهم
بي شرّاً منّي . اللّهمّ مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء([1331]).
أما والله لوددت أنّ لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم([1332]).
ثمّ نزل (عليه السلام) من المنبر . أقول الارمية جمع رميّ وهو السّحاب
والحميم ههنا وقت الصّيف . وإنّما خصّ الشّاعر سحاب الصّيف بالذّكر لأنّه أشدّ
جفولاً وأسرع خفوفاً([1333]) لأنّه لا ماء فيه . وإنّما الأكثر
إلاّ زمان الشّتاء وإنّما أراد الشّاعر وصفهم بالسّرعة إذا دعوا والإغاثة إذا
استغيثوا والدليل على ذلك قوله : هنالك لو دعوت أتاك منهم .
ومن خطبة له (عليه السلام)
إنّ الله بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله) نذيراً للعالمين وأميناً
على التنزيل وأنتم معشر العرب على شرّ دين وفي شرّ دار متنخّون([1334])
بين حجارة خشن وحيات صمٍّ([1335]) تشربون الكدر
وتأكلون الجشب([1336]).
وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم ، الأصنام فيكم منصوبةٌ والآثام بكم
معصوبةٌ([1337]).
(ومنها) فنظرت فإذا ليس لي معينٌ إلاّ أهل بيتي فضننت بهم عن الموت
وأغضيت على القذى وشرب على الشّجى وصبرت على أخذ الكظم([1338])
وعلى أمرّ من طعم العلقم (ومنها) ولم يبايع حتّى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمناً([1339])
فلا ظفرت يد البائع وخزيت أمانة المبتاع . فخذوا للحرب أهبّتها وأعدّوا لها عدّتها
فقد شبّ لظاها وعلا سناها واستشعروا الصبر فإنّه أدعى إلى النّصر([1340]).
ومن خطبة له (عليه السلام)
أمّا بعد فإنّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه
وهو لباس التّقوى ودرع الله الحصينة وجنّته الوثيقة([1341])
فمن تركه رغبةً عنه ألبسه الله ثوب الذلّ وشملة البلاء . وديّث والقرّ تفرّون فإذا
أنتم والهل من السّيف أفرّ . ياأشباه الرّجال ولا رجال حلوم الأطفال . وعقول ربّات
الحجال([1342]).
لوددت أنّي لم أركم ولم أعرفكم معرفة والله جرّت ندماً وأعقبت سدماً([1343]).
قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً وجرّعتموني نغب التّهمام
أنفاساً([1344])
وأفسدتم عَلَيَّ رأيي بالعصيان والخذلان حتّى لقد قالت قريش إنّ ابن أبي طالب رجلٌ
شجاعٌ ولكن لا علم له بالحرب .
لله أبوهم وهل أحدٌ منهم أشدّ لها مراساً وأقدم فيها مقاماً منّي([1345])
لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، وها أنا ذا قد ذرفت على السّتّين([1346])
ولكن لا رأي لمن لا يطاع([1347]).
ومن خطبة له (عليه السلام)
أمّا بعد فإنّ الدّنيا قد أدبرت وآذنت بوداع([1348])
وإنّ الآخرة قد أشرفت باطّلاع ألا وإنّ اليوم المضمار([1349])
وغداً السّباق والسّبقة الجنّة([1350]) والغاية النّار .
أفلا تائبٌ من خطيئته قبل منيّته ؟ ألا عاملٌ لنفسه قبل يوم بؤسه([1351])؟
ألا وإنّكم في أيّام أمل([1352]) من ورائه أجلٌ فمن عمل في أيّام أمله
قبل حضور أجله نفعه عمله ولم يضرّه أجله ومن قصّر في أيّام أمله قبل حضور أجله فقد
خسر عمله وضرّه أجله ألا فاعملوا في الرّغبة كما تعملون في الرّهبة([1353])
ألا وإنّي لم أر كالجنّة نام طالبها ، ولا كالنّار نام هاربها([1354])
ألا وإنّه من لا ينفعه الحقّ يضرّه الباطل([1355]) ومن لم يستقم به
الهدى يجرّ به الضّلال إلى الرّدى ألا وإنّكم قد أمرتم بالظّعن([1356])
ودللتم على الزّاد . وإنّ أخوف ما أخاف عليكم اتّباع الهوى وطول الأمل . تزوّدوا
من الدنيا ما تحرزون أنفسكم به غداً([1357]) (أقول) لو كان كلامٌ
يأخذ بالأعناق إلى الزّهد في الدّنيا ويضطرّ إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام .
وكفى به قاطعاً لعلائق الآمال وقادحاً الاتّعاظ والازدجار ومن أعجبه قوله (عليه
السلام) (ألا وإنّ اليوم المضمار وغداً السّباق والسّبقة الجنّة والغاية النّار)
فإنّ فيه مع فخامة اللّفظ وعظم قدر المعنى وصادق التمثيل وواقع التشبيه سرّاً
عجيباً ومعنىً لطيفاً وهو قوله (عليه السلام) (والسّبقة الجنّة والغاية النار)
فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين . ولم يقل السّبقة النّار كما قال : السّبقة
الجنّة لأنّ الاستباق إنّما يكون إلى أمر محبوب وغرض مطلوب وهذه صفة الجنّة وليس
هذا المعنى موجوداً في النار نعوذ بالله منها فلم يجز أن يقول والسّبقة النّار بل
قال والغاية النّار ، لأنّ الغاية ينتهي إليها من لا يسرّه الانتهاء ومن يسرّه ذلك
، فصلح أن يعبّر بها عن الأمرين معاً فهي في هذا الموضع كالمصير والمآل قال الله
تعالى : (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) ولا يجوز في هذا
الموضع أن يقال سبقتكم « بسكون الباء » إلى النّار فتأمّل ذلك فباطنه عجيب وغوره
بعيدٌ .
وكذلك أكثر كلامه (عليه السلام) (وفي بعض النّسخ) وقد جاء في رواية
أُخرى (والسّبقة الجنّة) بضمّ السّين . والسّبقة عندهم اسمٌ لما يجعل للسّابق إذا
سبق من مال أو عرض والمعنيان متقاربان لأنّ ذلك لا يكون جزاءً على فعل الأمر
المذموم وإنّما يكون جزاءً على فعل الأمر المحمود([1358]).
ومن خطبة له (عليه السلام)
أيّها النّاس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم([1359])
كلامكم يوهى الصمّ الصّلاب([1360]) وفعلكم يطمع فيكم
الأعداء . تقولون في المجالس كيت وكيت . فإذا جاء القتال قلتم حيدي حياد([1361])
ما عزّت دعوة من دعاكم ولا استراح قلب من قاساكم([1362]) أعاليل بأضاليل .
دفاع ذي الدّين المطول([1363]) لا يمنع الضّيم الذّليل . ولا يدرك
الحقّ إلاّ بالجدّ . أيّ دار بعد داركم تمنعون ومع أىّ إمام بعدي تقاتلون المغرور
والله من غررتموه ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسّهم الأخيب([1364]).
ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل([1365]) أصبحت والله لا
أُصدّق قولكم ولا أطمع في نصركم ولا أوعد العدوّ بكم ما بالكم ؟ ما دواؤكم ؟ ما
طبّكم ؟ القوم رجالٌ أمثالكم أقولاً بغير عمل وغفلةً من غير ورع وطمعاً في غير
حقٍّ([1366]).
ومن كلام له (عليه السلام) في معنى قتل عثمان
لو أمرت به لكنت قاتلاً . أو نهيت عنه لكنت ناصراً([1367])
غير أنّ من نصره لا يستطيع أن يقول خذله من أنا خيرٌ منه . ومن خذله لا يستطيع أن
يقول نصره من هو خيرٌ منّي([1368]) وأنا جامعٌ لكم أمره
: قلوبكم مألوسةٌ([1369]) فأنتم لا تعقلون ما أنتم لي بثقة سجيس
اللّيالي([1370])
وما أنتم بركن يمال بكم ولا زوافر عزٍّ يفتقر إليكم([1371])
ما أنتم إلاّ كإبل ضلَّ رعاتها . فكلّما جمعت من جانب انتشرت من آخر . لبئس لعمر
الله سعر نار الحرب أنتم([1372]) تكادون ولا تكيدون . وتنقص أطرافكم
فلا تمتعضون([1373])
لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون . غلب والله المتخاذلون([1374])
وأيم الله إنّي لأظنّ بكم أن لو حمس الوغى واستحرّ الموت قد انفرجتم عن ابن أبي
طالب انفراج الرّأس([1375])والله إنّ امرأً يمكّن عدوّه من نفسه
يعرق لحمه([1376])
ويهشم عظمه . ويفري جلده لعظيمٌ عجزه ضعيفٌ ما ضمّت عليه جوانح صدره([1377])
أنت فكن ذاك إن شئت([1378]) فأمّا أنا فوالله دون أن أعطي ذلك ضرب
بالمشرفيّة تطير منه فراش الهام . وتطيح السّواعد والأقدام([1379])
ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء .
أيّها النّاس إنّ لي عليكم حقّاً ولكن عَلَيَّ حقٌّ . فأمّا حقّكم
عَلَيَّ فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم([1380]) وتعليمكم كي لا
تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا . وأمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة والنّصيحة في
المشهد والمغيب . والإجابة حين أدعوكم . والطّاعة حين آمركم .
ومن خطبة له (عليه السلام) بعد التّحكيم
الحمد لله وإن أتى الدّهر بالخطب الفادح([1381])
والحدث الجليل .
وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ليس معه إلهٌ غيره وأنّ
محمّداً عبده ورسوله (صلى الله عليه وآله) .
أمّا بعد فإنّ معصية النّاصح الشّفيق العالم المجرّب تورث الحسرة وتعقب
النّدامة . وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري ونخلت لكم مخزون رأيي([1382])
لو كان يطاع لقصير أمرٌ([1383]) فأبيتم عَلَيَّ إباء المخالفين الجفاة
والمنابذين العصاة . حتّى ارتاب النّاصح بنصحه([1384]). وضنّ الزّند بقدحه
فكنت وإيّاكم كما قال أخو هوازن :
أمرتكم أمري بمنعرج اللّوى *** فلم تستبينوا النّصح إلاّ ضحى الغد
ومن خطبة له (عليه السلام) في تخويف أهل النّهروان([1385])
فأنا نذيركم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النّهر وبأهضام هذا الغائط([1386])على
غير بيّنة من ربّكم ولا سلطان مبين معكم . قد طوّحت بكم الدّار([1387])
واحتبلكم المقدار . وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم عَلَيَّ إباء المخالفين
المنابذين([1388])حتّى
صرفت رأيي إلى هواكم وأنتم معاشر أخفّاء الهام([1389]) سفهاء الأحلام ولم
آت ـ لا أباً لكم ـ بجراً([1390]) ولا أردت لكم ضرّاً([1391]).
ومن كلام له (عليه السلام) يجري مجرى الخطبة([1392])
فقمت بالأمر حين فشلوا . وتطلّعت حين تقبّعوا([1393])
ونطقت حين تمتّعوا ومضيت بنور الله حين وقفوا وكنت أخفضهم صوتاً([1394])
وأعلاهم فوتاً([1395])
فطرت بعنانها واستبددت برهانها([1396]) كالجبل لا تحرّكه
القواصف . ولا تزيله العواصف . لم يكن لأحد في مهمزٌ([1397])
ولا لقائل فيّ مغمزٌ . الذّليل عندي عزيزٌ حتّى آخذ الحقّ له . والقويّ عندي ضعيفٌ
حتّى آخذ الحقّ منه . رضينا عن الله قضاءه وسلّمنا لله أمره([1398]).
أتراني أكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والله لأنّا أوّل من صدّقه فلا
أكون أوّل من كذب عليه فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي وإذا الميثاق في
عنقي لغيري([1399]).
ومن خطبة له (عليه السلام)
وإنّما سمّيت الشبهة شبهةً لأنّها تشبه الحقّ . فأمّا أولياء الله
فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى([1400]). وأمّا أعداء الله
فدعاؤهم فيها الضّلال ودليلهم العمى . فما ينجو من الموت من خافه ولا يعطي البقاء
من أحبّه .
ومن خطبة له (عليه السلام)
منيت بمن لا يطيع إذا أمرت([1401]) ولا يجيب إذا دعوت .
لا أباً لكم ما تنتظرون بنصركم ربّكم . أما دينٌ يجمعكم ولا حميّةٌ تحمشكم([1402])
أقوم فيكم مستصرخاً وأُناديكم متغوّثاً فلا تسمعون لي قولاً . ولا تطيعون لي أمراً
. حتّى تكشف الأُمور عن عواقب المساءة([1403]) فما يدرك بكم ثارٌ
ولا يبلغ بكم مرامٌ . دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسرّ .
وتثاقلتم تثاقل النّضو الأدبر([1404]) ثمّ خرج إليّ منكم
جنيدٌ متذائبٌ ضعيفٌ كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون([1405]).
(أقول) قوله (عليه السلام) متذائبٌ أي مضطربٌ من قولهم تذاءبت الرّيح أي اضطرب
هبوبها . ومنه سمّي الذّئب ذئباً لاضطراب مشيته([1406]).
ومن كلام له (عليه السلام)
في الخوارج لمّا سمع قولهم لا حكم إلاّ لله قال (عليه السلام) كلمة
حقٍّ يراد بها باطلٌ . نعم إنّه لا حكم إلاّ لله . ولكن هؤلاء يقولون لا امرة إلاّ
لله ; وإنّه لابدّ للنّاس من أمير برٍّ أو فاجر([1407]) يعمل في إمرته
المؤمن . ويستمتع فيها الكافر . ويبلغ الله فيها الأجل . ويجمع به الفيء ، ويقاتل
به العدوّ . وتأمن به السّبل . ويؤخذ به للضّعيف من القويّ حتّى يستريح به برٌّ
ويستراح من فاجر (وفي رواية أُخرى أنّه (عليه السلام) لمّا سمع تحكيمهم قال) وأمّا
الإمرة الفاجرة فيتمتّع فيها الشّقيُّ إلى أن تنقطع مدّته وتدركه منيّته([1408]).
ومن خطبة له (عليه السلام)
إنّ الوفاء توأم الصّدق([1409]) ولا أعلم جنّةً أوقى
منه . ولا يغدر من علم كيف المرجع . ولقد أصبحنا في زمان قد اتّخذ أكثر أهله الغدر
كيساً([1410])
ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة . ما لهم قاتلهم الله قد يرى الحوّل القلّب
وجه الحيلة ودونه مانعٌ من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها ،
وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين([1411]).
ومن كلام له (عليه السلام)
أيّها النّاس إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنتان : اتّباع الهوى ، وطول
الأمل([1412])
فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ وأما طول الأمل فينسي الآخرة ألا وإنّ الدّنيا
قد ولّت حذّاءً([1413])
فلم يبق منها إلاّ صبابةٌ([1414]) كصبابة الإناء
اصطبّها صابّها . ألا وإنّ الآخرة قد أقبلت ولكل منهما بنون . فكونوا من أبناء
الآخرة ، ولا تكونوا أبناء الدّنيا ، فإنّ كلّ ولد سيلحق بأُمّه يوم القيامة .
وإنّ اليوم عمل ولا حسابٌ وغداً حسابٌ ولا عملٌ . (أقول) الحذّاء السّريعة . ومن
النّاس من يرويه جذّاء([1415]).
ومن كلام له (عليه السلام)
وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد للحرب بعد إرساله جرير بن عبدالله
البجلي إلى معاوية : إنّ استعدادي لحرب أهل الشام وجريرٌ عندهم إغلاقٌ للشّام وصرف
لأهله عن خير إن أرادوه . ولكن قد وقتّ لجرير وقتاً لا يقيم بعده إلاّ مخدوعاً أو
عاصياً . والرّأي عندي مع الأناة ، فأردوا ولا أكره لكم الإعداد([1416]).
ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه([1417]). وقلّبت ظهره وبطنه
فلم أر لي إلاّ القتال أو الكفر ، إنّه قد كان على النّاس وال أحدث أحداثاً وأوجد
للنّاس مقالاً فقالوا ثمّ نقموا فغيّروا([1418]).
ومن كلام له (عليه السلام)
لمّا هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية وكان قد ابتاع سبي بني
ناجية من عامل أمير المؤمنين (عليه السلام) وأعتقهم([1419])
فلمّا طالبه بالمال خاف منه وهرب إلى الشّام([1420]).
قال الإمام : قبّح الله مصقلة . فعل فعل السّادات وفرّ فرار العبيد .
فما أنطق مادحه حتّى أسكته ، ولا صدّق واصفه حتّى بكّته . ولو أقام لأخذنا ميسوره([1421])وانتظرنا
بماله وفوره([1422]).
ومن خطبة له (عليه السلام)
الحمد لله غير مقنوط من رحمته . ولا مخلوٍّ من نعمته . ولا مأيوس من
مغفرته .
ولا مستنكف عن عبادته . الّذي لا تبرح منه رحمةً . ولا تفقد له نعمةٌ .
والدّنيا دار مُنى لها الفناء([1423]).
نهج البلاغة
ويأتي في عنوان 11 من الفصل الثّلاثين أنّ قوله (عليه السلام) : « إنّ
الحقّ لا يعرف بالرّجال » وقوله (عليه السلام) : « انظر إلى ما قال ، ولا تنظر إلى
مَن قال » بلا قيمة([1424]).
وقال الجاحظ : أجمعوا على أنّهم لم يجدوا كلمة أقلّ حرفاً ، ولا أكثر
ريعاً ، ولا أعمّ نفعاً ، ولا أحثّ على تبيين ، ولا أهجى لمن ترك التفهّم وقصّر في
الافهام من قول علي (عليه السلام) : « قيمة كلّ امرء ما يحسنه »([1425]).
وقال الخليل : أحثّ كلمة على طلب علم قول عليّ بن أبي طالب (عليه
السلام) : « قدر كلّ امرئ ما يحسن »([1426]).
وقال الرضيّ في خصائصه : قوله (عليه السلام) : « كلمة حقّ يراد بها
باطل » في ردّ قول الخوارج « لا حكم إلاّ لله » أبلغ عبارة عن أمر الخوارج لما
جمعوا من حسن الاعتراء والشّعار ، وقبح الإبطان والإضمار([1427]).
وقال الرضي أيضاً فيه في قوله (عليه السلام) : « لم يذهب مالك ما وعظك
» :
سبحان الله ما أقصر هذه الكلمة من كلمة ، وأطول شأو بدرها في مضمار
الحكمة([1428]).
وقال في نهج البلاغة في قوله (عليه السلام) « فلئن أمر الباطل لقديماً
فعل » .
إنّ في هذا الكلام الأدنى من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع
الاستحسان ، وإنّ حظّ العَجب منه أكثر من حظّ العُجب به ، وفيه مع الحال الّتي
وصفنا زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان ولا يطّلع فجّها إنسان ولا يعرف ما أقول
إلاّ من ضرب في هذه الصناعة بحقّ وجرى فيها على عرق وما يعقلها إلاّ العالمون([1429]).
وقال في قول الإمام (عليه السلام) : « فإنَّ الغاية أمامكم إلخ » .
إنَّ هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه ، وبعد كلام رسوله (صلى
الله عليه وآله) بكلّ كلام لمال به راجحاً ، وبرز عليه سابقاً . فأمّا قوله (عليه
السلام) « تخفّفوا تلحقوا » فما سمع كلام أقلّ منه مسموعاً ولا أكثر محصولاً ، وما
أبعد غورها من كلمة وأنقع نطفتها من حكمة([1430]).
وقال في خطبة 28 : « لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزّهد
في الدنيا ويضطرّ إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام ، وكفى به قاطعاً لعلائق
الآمال ، وقادحاً زناد الإتّعاظ ، والإزدجار »([1431]).
وقال في خطبة 80 : إذا تأمّل المتأمّل قوله (عليه السلام) « من أبصر
بها بصّرته » وجد تحته من المعنى العجيب والغرض البعيد ما لا تبلغ غايته ، ولا
يدرك غوره ، ولا سيّما إذا قرن إليه قوله (عليه السلام) : « ومن أبصر إليها أعمته
» فإنّه يجد الفرق بين أبصر بها وأبصر إليها واضحاً نيّراً وعجيباً باهراً([1432]).
وقال الرضي في قوله (عليه السلام) : « لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير
عمل ـ إلخ » .
لو لم يكن في هذا الكتاب إلاّ هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة وحكمة
بالغة وبصيرة لمبصر وعبرة لناظر مفكّر([1433]).
إلى غير ذلك من كلماتهم في كلامه (عليه السلام) ممّا لو استقصيت لصارت
كتاباً فللّه درّه في جمعه هذا الكتاب فكم اهتدى به من يوم تأليفه إلى يومنا هذا ،
وكم يهتدي به إلى الأبد مع أنّه أتقن به لغة العرب ، وأمتن به قواعد الأدب ، فشكر
الله سعيه وأعطاه خير جزاء .
لكنّه ـ الرضي ـ لمّا كان متهالكاً على نقل كلّ كلام فصيح منسوب إليه
(عليه السلام) لم يتفطّن أنّ الخصم قد يحتال ويزوّر عليه لسانه (عليه السلام)
بتزويق كلامه كما ترى ذلك في خطبة 90 و 166 و 266 وفي نقله خطبة 6 لمّا أُشير عليه
بأن لا يتّبع طلحة والزبير وقد تكلّمنا حولها .
الكتب والرسائل
والرسائل أعمّ من الكتب فيمكن أن تكون الرسائل برسل يؤدّون المطالب
شفاهاً .
الفصل الثالث : الحِكَم والمواعظ
الّتي لم تكن في خطبة أو كتاب ورسالة ، وبالقيد يكون الثّالث قسيماً
للأوّلين وإلاّ في الخطب والكتب أيضاً حكم ومواعظ كثيرة ، وقد ذكرنا في أكثر
عناوين الأبواب الثلاثة مدارك وأسانيد لكونها كلامه (عليه السلام) . فإنكار
النّصّاب لكون النّهج كلامه (عليه السلام) غير مسموع في قبال البيّنة مع أنّ
كثيراً منه بل جلّه يصحّح متنه وسنده لا سيّما الشّقشقيّة الّتي أنكروها خصوصاً([1434]).
وقال (ابن أبي الحديد) عند قوله (عليه السلام) : « واعلموا أنّه ليس
لهذا الجلد الرّقيق صبر على النّار » : إنّ كثيراً من أرباب الهوى يقولون : إنّ
كثيراً من نهج البلاغة كلام محدّث صنعه قوم من فصحاء الشّيعة . قال وربما عزوا
بعضه إلى الرّضي وغيره قال : وهؤلاء قوم أعمت العصبيّة أعينهم فضلّوا عن النّهج
الواضح وركبوا بيّنات الطّريق ضلالاً وقلّة معرفة بأساليب الكلام . قال وأنا أوضح
لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط .
فأقول : لا يخلو إمّا أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه
والأوّل باطل بالضّرورة لأنّا نعلم بالتّواتر صحّة أسناد بعضه إليه (عليه السلام)
، وقد نقل المحدّثون كلّهم أو جلّهم والمورّخون كثيراً منه ، وليسوا من الشيعة لينسبوا
إلى غرض في ذلك ، والثاني يدلّ على ما قلناه لأنّ من قد أنس بالكلام والخطابة وشدّ
طرفاً من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب لابدّ أن يفرّق بين الكلام الرّكيك
والفصيح ، وبين الفصيح والأفصح ، وبين الأصيل والمولّد ، وإذا وقف على كرّاس واحد
يتضمّن كلاماً لجماعة من البلغاء أو لاثنين منهم فقط فلابدّ أن يفرّق بين الكلامين
ويميّز بين الطّريقتين ، ألا ترى أنّا مع معرفتنا بالشعر ونقده لو تصفّحنا ديوان
أبي تمام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق
مباينتها لشعر أبي تمام ونفسه وطريقته ومذهبه في القريض . ألا ترى أنّ العلماء
بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر
وكذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئاً كثيراً لما ظهر لهم أنّه ليس من ألفاظه ولا من
شعره ، وكذلك غيرهما من الشعراء ولم يعتمدوا في ذلك إلاّ على الذّوق خاصّة ، وأنت
إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءً واحداً ونفساً واحداً وأُسلوباً واحداً
كالجسم البسيط الّذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في
الماهيّة ، وكالقرآن العزيز أوّله كأوسطه وأوسطه كآخره وكلّ سورة منه
وكلّ آية مماثلة في المآخذ والمذهب والفنّ والطريق والنّظم لباقي الآيات والسّور ،
ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك . فقد ظهر لك بهذا
البرهان الواضح ضلال من زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إليه (عليه السلام)([1435]).
قلت : وما ذكره في غاية الجودة لكن يستثنى منه ما أشرنا إليه في أوّل
الكتاب فليحذف كما حذف من شعر أبي تمام وأبي نواس بالقاعدة التي ذكرها ، وقد
برهنّا على ما قلنا عند شرح عناوين ما ذكرنا هذا والذي يظهر من كتب اللغة كالصحاح
والأساس([1436])
وغيرهما عدم صحّة استعمال « كرّاس واحد » بل « كرّاسة واحدة » وكون الكرّاس جمعاً
. ثمّ إنّ اخواننا جاوزوا الحدّ في الحطّ من قدره (عليه السلام) اقتداءً بسلفهم .
فتارة أنكروا بعض كلامه كونه منه كالشّقشقيّة أو غيرها([1437])،
وأُخرى نسبوا كلامه (عليه السلام) إلى غيره فنسبوا كلامه (عليه السلام) « أيّها
الناس إنّا قد أصبحنا في دهر عنود » إلى معاوية([1438]) كلّ ذلك إرادة
لإطفاء نوره (عليه السلام) ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره .
وقد ذكر هذا القول السديد في نهج البلاغة([1439]).
من حِكَم الإمام (عليه السلام)
قال (عليه السلام) : « فإنّكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم
لجزعتم ووهلتم([1440])،
وسمعتم وأطعتم ، ولكن محجوبٌ عنكم قد عاينوا ، وقربٌ ما يطرح الحجاب ! ولقد بصّرتم
إن أبصرتم ، وأُسمعتم إن سمعتم ، وهديتم إن اهتديتم ، وبحقٍّ أقول لكم : لقد
جاهرتكم العبر ، وزجرتم بما فيه مزدجرٌ . وما يبلّغ عن الله بعد رسل السّماء إلاّ
البشر »([1441]).
وفيها حِكَم مهمّة لعالم ما بعد الموت تستحق التدبّر عند طلاّب الدنيا
والآخرة ومن أقواله في إدبار الدنيا وحلول المصاعب :
« أمّا بعد ، فإنّ الدّنيا قد أدبرت ، وآذنت بوداع ، وإنّ الآخرة قد
أشرفت باطّلاع ، ألا وإنّ اليوم المضمار ، وغداً السّباق ، والسّبقة الجنّة([1442])،
والغاية النّار ، أفلا تائب من خطيئته قبل منيّته ! ألا عاملٌ لنفسه قبل يوم بؤسه
! ألا وإنّكم في أيام أمل من ورائه أجلٌ ، فمن عمل في أيّام أمله قبل حضور أجله
فقد نفعه عمله ، ولم ضرره أجله . ومن قصّر في أيّام أمله قبل حضور أجله ، فقد خسر
عمله ، وضرّه أجله . ألا فاعملوا في الرّغبة كما تعملون في الرّهبة ، ألا وإنّي لم
أر كالجنّة نام طالبها ، ولا كالنّار نام هاربها ، ألا وإنّه من لا ينفعه الحقّ
يضرّه الباطل ، ومن لا يستقم به الهدى ، يجرّ به الضّلال إلى الرّدى . ألا وإنّكم
قد أُمرتم بالظّعن ، ودللتم على الزّاد . وإنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنتان : اتّباع
الهوى ، وطول الأمل ، فتزوّدوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غداً » .
وعلّق الشريف الرضي على هذا المقطع من كلامه (عليه السلام) بقوله :
أقول : إنّهُ لو كان كلامٌ يأخذ بالأعناق إلى الزهد في الدنيا ، ويضطر
إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام ، وكفى به قاطعاً لعلائق الآمال ، وقادحاً زناد
الاتّعاظ والازدجار .
ومن قوله (عليه السلام) : « ألا وإنّ اليوم المضمار وغداً السّباق ،
والسّبقة الجنّة والغاية النّار » فإن فيه ـ مع فخامة اللفظ ، وعظم قدر المعنى ،
وصادق التمثيل ، وواقع التشبيه ـ سرّاً عجيباً ، ومعنىً لطيفاً ، وهو
قوله (عليه السلام) : « والسّبقة الجنّة ، والغاية النّار» فخالف بين اللفظين
لاختلاف المعنيين ، ولم يقل : « السّبقة الجنّة » ، لأن الاستباق إنّما يكون إلى
أمر محبوب ، وغرض مطلوب ، وهذه صفة الجنة وليس هذا المعنى موجوداً في النار ، نعوذ
بالله منها ! فلم يجز أن يقول : « والسّبقة النّارُ » بل قال :
« والغاية النّار » ; لأن الغاية قد ينتهي إليها من لا يسرّه الانتهاء
إليها ، ومن يسرّه ذلك ، فصَلح أن يعبر بها عن الأمرين معاً ، فهي في هذا الموضع
كالمصير والمآل([1443])،
قال اللهُ تعالى : (قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) .
ولا يجوز في هذا الموضع أن يقال : سبقتكم ـ بسكون الباء ـ إلى النار ،
فتأمّل ذلك . فباطنه عجيب ، وغوره بعيد لطيف .وكذلك أكثر كلامه (عليه
السلام)([1444]).
الاعتقاد بالمنزلة
أتحسبُ أنّك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر ؟
إغاثة الملهوف والمكروب
قال (عليه السلام) : « من كفّارات الذّنوب العظام إغاثة الملهوف ،
والتّنفيس عن المكروب »([1445]) وهي من أقواله الخالدة في مساعدة
المحتاجين .
وصف الدنيا الزائلة
قال (عليه السلام) : « ما أصف من دار أوّلها عناءٌ ، وآخرها فناءٌ ؟ في
حلالها حسابٌ ، وفي حرامها عقابٌ ، من استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها حزن »([1446])
وهي دعوة للحساب في الحلال والفرار من الحرام والتوجّه للامتحان الدنيوي .
الدنيا والزهد فيها
قال (عليه السلام) : « الزّاهدون في الدّنيا قوم وعظوا فاتّعظوا ،
وأيقنوا فعملوا ، إن نالهم يسرٌ شكروا ، وإن نالهم عسرٌ صبروا »([1447]).
وهي أُطروحة عقلائية لمواجهة الأحداث ومراعاة الشكر والصبر .
الرزق في الدنيا والآخرة
قال (عليه السلام) : « إنّ الله عزّوجلّ يعطي الدّنيا من يحبّ ومن لا
يحبّ ، ولا يعطي الآخرة إلاّ من يحبّ ، وقد يجمعهما الله لأقوام »([1448])
وهي التفاتة مهمّة للناس السائلين عن سبب غناء أهل الكفر في الدنيا وتنعّمهم
بنعمها .
التعب والبؤس
قال (عليه السلام) : « ما أقرب الرّاحة من التّعب والبؤس من النّعم
والموت من الحياة »([1449])! وهي دعوة للعبد
المسلم في عدم الركون إلى سعادة الدنيا وخيرها والغفلة عن الموت القريب منه .
الوفاء للصديق
قال (عليه السلام) : « قليلٌ للّصديق الوقوف على قبره ... »([1450]).
أي استحقاق الصديق لمواقف وفائية تتمثّل في أكثر من وقوف على قبره ومن
هذه المواقف مراعاة أُسرته واهداء ثواب الأعمال الصالحة له .
أهميّة الصديق
قال (عليه السلام) : « أعجز النّاس من عجز عن اكتساب الإخوان ، وأعجز
منه من ضيّع من ظفر به منهم »([1451]).
فالأخ والصديق ذخر مهم للمسلم الواعي والمحامي الذي لا يترك ومن عجز عن
تحصيل هذا أو ضيّع ما حصله فهو العاجز الحقيقي .
الملك والدين
قال (عليه السلام) : « الملك والدّين أخوان لا غنى لأحدهما عن الآخر ،
فالدّين آسٌ ـ أي رأس ـ والملك حارس ، فمن لم يكن له آسٌ فمهدوم ، ومن
لم يكن له حارس فضائعٌ »([1452]).
هذه نصائح منه (عليه السلام) لأهميّة الدين والملك في حياة الإنسان .
الكلام
قال (عليه السلام) : « لولا أنّ الكلام يعاد لنفد الكلام » . هذه نابعة
من أهميّة الكلام وإمكانية تكراره وهي مشروع خير من الإمام (عليه السلام) لطلب
العلم وتحقيق الفهم والتدبّر في القراءة .
امتحان الدهر
قال (عليه السلام) : « الدّهر يومان : يوم لك ، ويومٌ عليك ; فإذا كان
لك فلا تبطر ، وإذا كان عليك فاصبر ! فبكلاهما أنت مختبرٌ([1453]).
ففي كلا الوضعين الإنسان في امتحان إمّا النجاح وإمّا الفشل . فلا يبطر
ولا يحزن بل يشكر ويصبر .
العالم والورع
قال (عليه السلام) : « قصم ظهري رجلان : جاهلٌ متنسِّكٌ وعالمٌ
متهتِّكٌ ، فالجاهل يغرّ النّاس بنسكه ، والعالم ينفّرهم بتهتّكه »([1454]).
فالناس تقتدي بالمتنسّكين والعلماء وإذا كان هؤلاء لا يسيرون على الخط
المستقيم وينحرفون عنه فهو البلاء العظيم .
فعلى الجاهل تحصيل العلم وعلى العالم الورع والتقوى .
العلم والفهم
قال (عليه السلام) : « لا خير في عبادة لا علم فيها ، ولا خير في علم
لا فهم فيه ، ولا خير في قراءة لا تدبّر فيها »([1455]).
وهي مشروع خير من الإمام (عليه السلام) لطلب العلم وتحقيق الفهم
والتدبّر في القراءة .
الصمت والعبادة
قال (عليه السلام) : « أفضل العبادة الصّمت وانتظار الفرج »([1456]).
فالصمت عن الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة وذكر الله
عبادة .
مراعاة الحق
قال (عليه السلام) : « لا تقطع أخاك على ارتياب ، ولا تهجره دون استعتاب
»([1457]).
يطلب الإمام (عليه السلام) إحقاق الحقّ بلا شبهة وارتياب بل بيقين
وضرورة الاستعتاب .
الودّ والمحبّة
قال (عليه السلام) : « من لانت كلمته وجبت محبّته »([1458]).
وأنشد :
كيف أصبحت كيف أمسيت ممّا *** ينبت الودّ في فؤاد الكريم([1459])؟
فاحترام الناس وتكريمهم بالودّ والمحبّة يكسب الإنسان محبّة وودّاً .
الحسود والراحة
قال (عليه السلام) : « لا راحة لحسود ، ولا إخاء لملول ، ولا محبّة لسي
الخلق »([1460]).
فالحسود يشغله الله تعالى بهمّه العظيم في الحسد والملول المتقلّب لا
استقرار له والسيء الخلق لا راحة منه .
الحليم والجاهل
قال (عليه السلام) : « أوّل عوض الحليم عن حلمه أنّ النّاس أنصاره على
الجاهل »([1461]).
هذا لو توضّح للناس حلم الحليم وجهل الجاهل .
البصير والأحمق
قال (عليه السلام) : « ربما أخطأ البصير قصده ، وأصاب الأحمق رشده »([1462]).
مثلما يقال لكلّ جواد كبوة لكن هذا قليل ونادر ، عبّر عنه الإمام (عليه
السلام) بربما المفيدة للتقليل .
بعض الخصال السيّئة
قال (عليه السلام) : « لا تكوننّ كمن يعجز عن شكر ما أُوتي ، ويبتغي
الزيادة فيما بقي ، ينهى ولا ينتهي ، ويأمر النّاس بما لا يأتي ; يبغض المسيئين
وهو منهم ، يكره الموت لكثرة ذنوبه ، ولا يدعها في طول حياته »([1463]).
هذه الخصائل السيّئة المرفوضة من قبل الإمام كالامتناع عن شكر المنعم ،
وفعل الأعمال السيّئة التي ينكرها وغير ذلك من أفعال طالحة » .
موعظة للعقلاء
ذمّ رجل الدنيا عند الإمام (عليه السلام) فردّ عليه بقوله :
« الدّنيا دار صدق لمن صدّقها ، ودار نجاة لمن فهم عنها ، ودار غنىً
لمن تزوّد منها ، ومهبط وحي الله تعالى ، ومصلّى ملائكته ، ومسجد أنبيائه ، ومتجر
أوليائه فيها الرّحمة ، واكتسبوا فيها الجنّة .
فمن ذا الّذي يذمّها وقد آذنت ببيّنها ، ونادت بفراقها ، وشبّهت
بسرورها السّرور ، وببلائها البلاء ترغيباً وترهيباً .
فياأيّها الذّام للدّنيا ! المعلّل نفسه ، متى خدعتك الدّنيا أم متى
استذمّت إليك ؟ أبمصارع آبائك في البلى ؟ أم بمضاجع أُمّهاتك في الثَّرى ؟ كم
مرّضت بيديك ؟ وكم علّلت بكفيّيك ؟ تطلب له الشّفاء ، وتستوصف له الأطبّاء غداة لا
يغني عنه دواؤك ، ولا ينفعه بكاؤك ، ولا تنجيه شفقتك ، ولا تشفع فيه طلبتك([1464]).
التواضع للأغنياء
قال (عليه السلام) : « من أتى غنيّاً فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه »([1465]).
يوصي الله تعالى بالتواضع للمؤمنين والاعتماد على الموقنين واحترام
الحقّ وترك القضايا المعتمدة على المال وقد قال الإمام علي (عليه السلام) : « أنا
يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين » .
لكن بعض العلماء والمؤمنين لا يتبع وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) .
التجارة بالصدقة
قال (عليه السلام) : « إذا أملقتم فتاجروا الله بالصّدقة »([1466]).
والصدقة لا تحدّد بالمال فقط بل بكلّ عمل خير يبذل لصالح الجماهير يكون
صدقة في سبيل الله تعالى .
الكريم الحقيقي
قال (عليه السلام) : « الكريم لا يلين على قشر ـ أي عسر ـ ولا يقسوا
على يسر »([1467]).
فالكريم لا يعتذر بأعذار سقيمة تخالف منهجه في الجود والكرم .
طمس الموبقات
قال (عليه السلام) : « بقيّة عمر المؤمن لا ثمن لها يدرك بها ما فات
ويحيي بها ما أمات » .
أي ضرورة مواصلة درب الإيمان ببذل الغالي لدرك ما فات من الأعمال
الطيّبة ويردم ما فعله في غفلاته .
فرق الدنيا عن الآخرة
قال (عليه السلام) : « الدّنيا بالأموال ، والآخرة بالأعمال » .
فالمؤمن من استفاد من الأموال في سبيل تحصيل الأعمال الطيّبة فيحصل على
الدنيا والآخرة .
الوقوع في الذلّ
قال (عليه السلام) : « النّاس من خوف الذُّلِّ في الذُّلَّ » .
مثل خوف الإنسان من الفقر الدافع للبخل يجعل الإنسان فعلاً في ذلّ
الفقر قبل حلول الفقر فلا يحتاط الإنسان في هذا أكثر من اللازم .
السكوت أم الكلام
قال (عليه السلام) : « إنَّ من السّكوت ما هو أبلغ من الجواب » . لعدم
الفائدة من الكلام مع شخص أو اشخاص يعرفون الحقّ ويخالفونه .