فصل ; في المتخلفين عن أمير المؤمنين (عليه السلام) :

فإن قال قائل كيف يتم لكم دعوى الإجماع على بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) و قد علمتم أن الأخبار قد ثبتت بتخلف سعد بن أبي وقاص و عبد الله بن عمر بن الخطاب و أسامة بن زيد و محمد بن مسلمة و مظاهرتهم له بالخلاف فيما رآه من القتال.

قيل له أما تأخر من سميت عن الخروج مع أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى البصرة فمشهور و رأيهم في القعود عن القتال معه ظاهر معروف و ليس ذلك بمناف لبيعتهم له على الإيثار و لا مضاد للتسليم لإمامته على الاختيار و الذي ادعى عليه الامتناع في البيعة أشكل عليه الأمر فظن أنهم لو تأخروا عن نصرته لكان ذلك منهم لامتناعهم عن بيعته و ليس الأمر كما توهم لأنه قد يعرض للإنسان شك فيمن تيقن سلطانه في صوابه و لا يرى السلطان حمله على ما هو شاك فيه لضرب من الرأي يقتضيه الحال في صواب التدبير و قد يعتقد الإنسان أيضا صواب غيره في شي‏ء و يحمله الهوى على خلافه فتظهر فيما صار إليه من ذلك شبهة تعذره عند كثير من الناس في فعاله و ليس كل من اعتقد طاعة إمامه كان مضطرا إلى وفاقه بل قد يجتمع الاعتقاد لحق

[95]

الرئيس المقدم في الدين مع العصيان له في بعض أوامره و نواهيه و لو لا أن ذلك كذلك لما عصى الله تعالى من يعرفه و لا خالف نبيه من يؤمن به و ليس هذا من مذهب خصومنا في الإمامة فتوضح عنه بما يكسر شبهة مدعية على أن الأخبار قد وردت بإذعان القوم بالبيعة مع إقامتهم على ترك المساعدة و النصرة و تضمنت عذرا لهم زعموا في ذلك و جاءت بما كان من أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما أظهروه من إنكاره له بحسب ما اقتضته الحال في مثله من الخطإ فيما ارتكبوه.

فروى أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي في كتابه الذي صنفه في حرب البصرة عن أصحابه و روى غيره من أمثاله من الرواة للسير عن سلفهم و أصحابهم : أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما هم بالمسير إلى البصرة بلغه عن سعد بن أبي وقاص و ابن مسلمة و أسامة بن زيد و ابن عمر تثاقل عنه فبعث إليهم فلما حضروا قال لهم قد بلغني عنكم هنات كرهتها و أنا لا أكرهكم على المسير معي أ لستم على بيعتي ؟

قالوا : بلى .

قال : فما الذي يقعدكم عن صحبتي ؟

فقال له سعد : إني أكره الخروج في هذا الحرب لئلا أصيب مؤمنا فإن أعطيتني سيفا يعرف المؤمن من الكافر قاتلت معك .

و قال له أسامة : أنت أعز الخلق علي و لكني عاهدت الله أن لا أقاتل أهل لا إله إلا الله ; و كان أسامة قد أهوى برمحه في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى رجل في الحرب من المشركين فخافه الرجل فقال لا إله إلا الله فشجره

[96]

بالرمح فقتله و بلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خبره فقال يا أسامة أ قتلت رجلا يشهد أن لا إله إلا الله ؟

فقال يا رسول الله : إنما قالها تعوذا .

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) له : أ لا شققت قلبه ؟

فزعم أسامة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمره أن يقاتل بالسيف ما قاتل المشركين فإذا قاتل المسلمين ضرب بسيفه الحجر فكسره .

و قال عبد الله بن عمر : لست أعرف في هذا الحرب شيئا أسألك ألا تحملني على ما لا أعرف .

فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام) : ليس كل مفتون معاتب , أ لستم على بيعتي ؟

قالوا : بلى .

قال : انصرفوا فسيغني الله تعالى عنكم.

فقد اعترفوا له (عليه السلام) بالبيعة و أقاموا في تأخرهم عنه معاذير لم يقبلها منهم , و أخبر أنهم بترك الجهاد معه مفتونون و لم ير الإنكار عليهم في الحال بأكثر مما أبداه من ذكر زللهم عن الصواب في خلافه و الشهادة بفتنتهم بترك وفاقهم له لأن الدلائل الظاهرة على حقه تغني عن محاجتهم بالكلام و معرفته بباطن أمرهم الذي أظهروا خلافه في الاعتذار يسقط عنه فرض التنبيه الذي يحتاج إليه أهل الرقدة عن البيان و قد قال الله تعالى في تأكيد ما ذكرناه و حجة على من وصفناه بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ .

[97]

حرب الجمل