فصل ; في نفي الإجبار على البيعة :
فإن قال قائل قد وجدتكم فيما احتججتم به على مخالفيكم في إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) و ثبوتها الموجب لضلال مخالفيه و خروجهم بحربه عن الإيمان بعقد الصحابة له على الاختيار و رغبتهم إليه في توليه أمورهم و مسألتهم إياه ذلك و إبائه عليهم حتى اجتمع المسلمون و إلحاح من بايعه طوعا من المهاجرين و الأنصار و قد جاءت الأخبار بضد ذلك و أنه كان قاهرا للأمة مجبرا لها على البيعة مكرها في ذلك الناس فروى الواقدي عن هاشم بن عاصم عن المنذر بن الجهم قال سألت عبد الله بن ثعلبة كيف كانت بيعة علي (عليه السلام) قال رأيت بيعة رأسها الأشتر يقول من لم يبايع ضربت عنقه و حكيم بن جبلة و ذووهما فما ظنك بما يكون أجبر فيه جبرا ثم قال أشهد لرأيت الناس يحشرون إلى بيعته فيتفرقون فيؤتى بهم فيضربون و يعسفون فبايع من بايع و انفلت من انفلت و روى أيضا عن
[112]
سعيد بن المسيب قال لقيت سعيد بن زيد بن نفيل فقلت بايعت قال ما أصنع إن لم أفعل قتلني الأشتر و ذووه قال و قد عرف الناس أن طلحة و الزبير كانا يقولان بايعنا مكرهين و روي عنهما أنهما قالا بايعناه بأيدينا و لم تبايعه قلوبنا.
و الخبر مشهور عن طلحة بن عبيد الله أنه كان يقول بايعت و اللج على رقبتي قال و إذا كانت البيعة لعلي (عليه السلام) قهرا و إضرارا و إكراها للناس و إجبارا لم تثبت إمامته و لم تثبت بيعته كأبي بكر و عمر و عثمان.
فيقال للمعترض لما حكيناه و المائل عما ذكرناه : أما الواقدي فعثماني المذهب معروف بالميل عن علي أمير المؤمنين (عليه السلام) و الذي روي عنه ما روي من إكراه الناس على البيعة لأمير المؤمنين فبالزور له و التخرص عليه بإضافة الأباطيل إليه .
و قد ثبت أن شهادة المشاجر مردودة بالإجماع و حديث الخصم فيما قدح به من عدالة خصمه مطروح بالاتفاق و قول المتهم الظنين غير مقبول بلا اختلاف فلا حجة في الحديث المذكور عن ابن ثعلبة و لو سلم من جميع ما وصفناه من الطعون فيه فإنه خبر واحد يضاد المتواتر الوارد بخلاف معناه فكيف و هو من الوهن على ما بيناه.
و أما خبر ابن المسيب عن سعيد بن زيد بن نفيل فقد صرح فيه بإقرار سعيد بالبيعة و دعواهم أنه بايع خوفا من الأشتر باطلة إذ كان ظاهره بخلاف ما ادعاه فيه و ليس كل من خاف شيئا فقد وقع خوفه موقعه بل أكثر من يخاف متوهم للبعد
[113]
ظان للباطل متخيل للفاسد و لم يذكر سعيد شيئا من أمارات خوفه فتكون له حجة فيما ادعاه و لم يقل أحد إن الأشتر و لا غيره من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) كلموا ممتنعا من بيعته في الحال و لا ضربوا أحدا منهم بسوط و لا نهروه فضلا عن القتل و ضرب الرقاب فكيف يخاف سعيد من الأشتر مع ما ذكرناه و أنى يكون لخوفه وجه صحيح على ما تظناه و هذا يدل على كذب الواقدي فيما أضافه إلى سعيد بن زيد من الخوف و أخبر عنه أو على تمويه سعيد فيما ادعاه.
و أما قول طلحة و الزبير إنهما بايعا مكرهين فالكلام فيه كالكلام على ابن المسيب عن سعيد و التهمة لهما في ذلك أوكد لأنهما جعلاه عذرا في نكثهما البيعة و الخروج عن الطاعة و طلب الرئاسة و الإمرة فلم يجدا إلى ذلك سبيلا مع ما كان منهما في ظاهر الحال من البيعة على الطوع بلا إجبار إلا بدعوى الإكراه و الإحالة في ذلك على الضمائر و البواطن التي لا يعلمها إلا الله تعالى اسمه و قد ثبت في حكم الإسلام الأخذ لهما بمقتضى الإقرار منهما في البيعة و القضاء عليهما بلزوم الطاعة لهما لمن بايعاه و الخلاف عليهما لإمامهما الذي اعترفا ببيعتهما له و صفقا بأيديهما على يده بالعقد له على ظاهر الرضا و الإيثار و سقوط دعواهما للباطن المضاد للحكم الظاهر من ذلك و ما زعماه من حكم الكراهة في قلوبهما على ما ادعياه.
مع أن ظهور مشاحتهما لأمير المؤمنين (عليه السلام) و مظاهرتهما بالعداوة له و بلوغهما في ذلك الغاية من ضرب الرقاب و سفك الدماء يبطل دعواهما على ما يقدح في عدالته و يؤثر في إمامته و يمنعه حقا له على كل حال.
على أنه لو ثبت الإكراه في بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) لمن ادعى المخالفون إكراهه لم يقدح ذلك في إمامته على أصول شيعته الدائنين بالنص عليه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن للإمام المنصوص عليه المفترض الطاعة على الأنام أن
[114]
يكره من أبى طاعته و يضربه بالسوط و السيف على ذلك حتى يفيء إلى أمر الله تعالى و الانقياد له و يأمن بذلك ما يحذر من فتنته و فساده.
و لا يؤثر أيضا في إمامته على مذهب المخالفين القائلين بالاختيار لأنه إذا بايع عندهم من أهل الفضل عدد محصور ثبت له العقد و وجبت له الطاعة و كان له إكراه من أبى البيعة و رام الخلاف و العصيان و إعمال السوط و السيف في ردعه عن ذلك و إكراهه على الطاعة و الدخول مع الجماعة .
و معلوم أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد بايعه على الرضا به من لا يحصى عددهم كثرة ممن جاهد معه في حروبه و بذل دمه في نصرته من المهاجرين البدريين و الأنصار العقبيين و أهل بيعة الرضوان و التابعين بإحسان ممن أثبتنا أسماء بعضهم فيما سبق هذا الفصل من الكتاب فبطل ما تعلق به الخصم من دعوى الإكراه لمن سموه و الجبر في ذلك على ما ادعوه و الاعتماد على أخبار شواذ به يبطلها الظاهر و المنتشر في خلافها من الأخبار .
[115]
حرب الجمل