تناقض مواقف عائشة :
و مما يؤكد ما ذكرناه من غرض القوم في مباينة أمير المؤمنين (عليه السلام) و مظاهرته بالخلاف و أنه لم يكن لإقامة حق و اجتهاد رأي في إصابة طاعة و حوزة مثوبة بل كان لضغائن بينه و بينهم لأسباب سالفة و آنفة و طمع في عاجل و حسد له و بغي عليه و أن حكم المرأة فيما ذكرناه ظاهر لذوي الاعتبار ما أجمع على نقله رواة الآثار و نقلة السير و الأخبار أنه : لما قتل عثمان بن عفان خرج النعاة إلى الآفاق فلما وصل بعضهم إلى مكة سمعت بذلك عائشة فاستبشرت بقتله و قالت : قتلته أعماله إنه أحرق كتاب الله و أمات سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقتله الله .
قالت : و من بايع الناس ؟
فقال لها الناعي : لم أبرح من المدينة حتى أخذ طلحة بن عبيد الله نعاجا لعثمان و عمل مفاتيح لأبواب بيت المال و لا شك أن الناس قد بايعوه ; فقال : إيها ذا الإصبع قد وجدوك لها كافيا و بها محسنا .
ثم قالت : شدوا رحلي فقد قضيت عمرتي لأتوجه إلى منزلي .
فلما شد رحلها و استوت على مركبها سارت
[162]
حتى بلغت سرفا - موضع معروف بهذا الاسم - لقيها عبيد ابن أم كلاب , فقالت له : ما الخبر ؟
فقال : قتل عثمان .
فقالت : قتل نعثل ; فقالت : خبرني عن قصته و كيف كان أمره ؟
فقال : لما أحاط الناس بالدار و به رأيت طلحة بن عبيد الله قد غلب على الأمر و اتخذ مفاتيح على بيوت الأموال و الخزائن و تهيأ ليبايع له ; فلما قتل عثمان مال الناس إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) و لم يعدلوا به طلحة و لا غيره و خرجوا في طلب علي يقدمهم الأشتر و محمد بن أبي بكر و عمار بن ياسر حتى أتوا عليا (عليه السلام) و هو في بيت سكن فيه ; فقالوا له : بايعنا على الطاعة لك .
فتلكأ ساعة .
فقال الأشتر : يا علي إن الناس لا يعدلون بك غيرك فبايع قبل أن تختلف الناس .
قال ; و في الجماعة : طلحة و الزبير .
فظننت أن سيكون بين طلحة و الزبير و علي كلام قبل ذلك .
فقال الأشتر لطلحة : قم يا طلحة فبايع ; قم يا زبير فبايع ; فما تنتظران ؟
فقاما فبايعا , و أنا أرى أيديهما على يده يصفقانها ببيعته .
ثم صعد علي بن أبي طالب (عليه السلام) المنبر فتكلم بكلام لا أحفظه إلا أن الناس بايعوه يومئذ على المنبر و بايعوه من الغد .
فلما كان اليوم الثالث خرجت و لا أعلم ما جرى بعدي .
فقالت : يا أخا بني بكر أنت رأيت طلحة بايع عليا ؟
فقلت : إي و الله ; رأيته بايعه و ما قلت إلا ما رأيت طلحة و الزبير أول من بايعه .
فقالت : إنا لله , أكره و الله الرجل , و غصب علي بن أبي طالب أمرهم , و قتل خليفة الله مظلوما ; ردوا بغالي , ردوا بغالي .
فرجعت إلى مكة .
قال : و سرت معها فجعلت تسألني في المسير , و جعلت أخبرها بما كان .
فقالت لي : هذا بعدي , و ما كنت أظن أن الناس يعدلون عن طلحة
[163]
مع بلائه يوم أحد .
قلت : فإن كان بالبلاء فصاحبه الذي بويع أشد بلاء و عناء .
فقالت : يا أخا بني بكر لم أسألك غير هذا ; فإذا دخلت مكة و سألك الناس ما رد أم المؤمنين فقل القيام بدم عثمان و الطلب به .
و جاءها يعلى بن منية فقال لها : قد قتل خليفتك الذي كنت تحرضين على قتله .
فقالت : برأت إلى الله من قاتله .
فقال لها : الآن !؟
ثم قال لها : أظهري البراءة ثانيا من قاتله .
قال : فخرجت إلى المسجد فجعلت تتبرأ ممن قتل عثمان.
و هذا الخبر يصرح مضمونه عما ذكرناه من أنها لم تزل مقيمة على رأيها في استحلال دم عثمان ; حتى بلغها أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد بويع دون طلحة و الزبير ; قلبت الأمر و أظهرت ضد الذي كانت عليه من الرأي , و أنه لو تم الأمر لطلحة لأقامت على ما كانت عليه و أن طلحة و الزبير كانا على الرأي الأول في عثمان و أنهما رجعا عنه لما فاتهما ما كانا يأملانه من ذلك و لم يرجعا عنه لما أظهراه من بعد الندم على قتل عثمان و الدعاء إلى قتلته و لا رجعا عنه استبصارا بضلالة .
فأعلمنا ذلك أن الذي ادعته الحشوية لهم من اجتهاد الرأي فيه باطل و منحل .
و أن دعوى المعتزلة في الشبهة عليهما فيما صارا إليه من خلاف أمير المؤمنين (عليه السلام) ليس بصحيح ; بل الحق في ذلك ما ذهبت إليه الشيعة في تعمدهم الخلاف و أسباب ذلك العداوة له و الشنئان مع الطمع في الدنيا و السعي في عاجلها و التأميل للتأمر على الناس و التملك لأمرهم و بسط اليد عليهم .
و أن الرجلين خاصة لما أيسا من نيل
[164]
ما طمعا فيه من الأمر فوجدا الأمة لا تعدل بأمير المؤمنين أحدا و عرفا رأي المهاجرين و الأنصار في ذلك أرادا الحظوة عنده بالبدار إلى بيعته و ظنا أنهما بذلك يشركانه في أمره فلما استويا بالحال من بعد وضح لهما أمره و رأيه و تحققا أنهما لا يليان معه أمرا فامتحنا ذلك مع ما غلب في ظنهما كما ذكرناه بأن صارا إليه بعد استقرار الأمر له ببيعة المهاجرين و الأنصار و بني هاشم و كافة الناس إلا من شذ من بطانة عثمان و كانوا على خفاء لأشخاصهم مخافة على دمائهم من أهل الإيمان .
فصارا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فخطب إليه طلحة ولاية العراق و طلب منه الزبير ولاية الشام فأمسك (عليه السلام) عن إجابتهما في شيء من ذلك .
فانصرفا و هما ساخطان منه , فعرفا ما كان غلب في ظنهما قبل من رأيه (عليه السلام) فتركاه يومين أو ثلاثة أيام ثم صارا إليه و استأذنا عليه فأذن لهما و كان في علية في داره فصعدا إليه و جلسا عنده بين يديه , و قالا : يا أمير المؤمنين قد عرفت حال هذه الأزمنة و ما نحن فيه من الشدة و قد جئناك لتدفع إلينا شيئا نصلح به أحوالنا و نقضي به حقوقا علينا .
فقال (عليه السلام) : قد عرفتما مالي بينبع فإن شئتما كتبت لكما منه ما تيسر .
فقالا : لا حاجة لنا في مالك بينبع .
فقال لهما : فما أصنع ؟
فقالا له : أعطنا من بيت المال شيئا فيه لنا كفاية .
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : سبحان الله و أي يد لي في بيت المال , ذلك للمسلمين و أنا خازنهم و أمين لهم , فإن شئتما رقيت المنبر و سألتهم ذلك مما شئتما فإن أذنوا فيه فعلت ; و أنى لي بذلك و هو لكافة المسلمين شاهدهم
[165]
و غائبهم , لكني أبلي لكما عذرا .
قالا : ما كنا بالذي يكلفك ذلك و لو كلفناكه لما أجابك المسلمون .
فقال لهما : فما أصنع ؟
قالا : سمعنا ما عندك , ثم نزلا من العلية و في أرض الدار خادمة لأمير المؤمنين (عليه السلام) فسمعتهما يقولان : و الله ما بايعناه بقلوبنا و إن كنا بايعناه بألسنتنا .
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً .
[166]
حرب الجمل