خروج طلحة و الزبير إلى مكة :

فتركاه يومين آخرين و قد جاءهما الخبر بإظهار عائشة بمكة ما أظهرته من كراهة أمره و البراءة ممن قتل عثمان و الدعاء إلى نصرته و الطلب بدمه و أن عمال عثمان قد هربوا من الأمصار إلى مكة بما احتجنوه من أموال المسلمين لخوفهم من أمير المؤمنين (عليه السلام) و من معه من الأنصار و المهاجرين و أن مروان بن الحكم ابن عم عثمان و يعلى بن منية خليفته و عامله باليمن و عبد الله بن عامر بن كريز ابن خاله و عامله على البصرة قد اجتمعوا مع عائشة و هم يدبرون الأمر في الفتنة .

فصار الرجلان إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) و تيمما وقت خلوته فلما دخلا عليه قالا : يا أمير المؤمنين قد جئناك نستأذنك للخروج في العمرة .

فلم يأذن لهما .

فقالا : نحن بعيدو العهد بها , ائذن لنا فيها .

فقال لهما : و الله ما تريدان العمرة , و لكنكما تريدان الغدرة , و إنما تريدان البصرة .

فقالا : اللهم غفرا , ما نريد إلا العمرة .

فقال لهما (عليه السلام) : احلفا لي بالله العظيم أنكما لا تفسدان على أمور المسلمين و لا تنكثان لي بيعة و لا تسعيان في فتنة .

فبذلا ألسنتهما بالأيمان الوكيدة فيما استحلفهما عليه من ذلك .

فلما خرجا من عنده لقيهما ابن عباس فقال لهما : فأذن لكما أمير المؤمنين ؟

قالا : نعم .

فدخل على أمير المؤمنين (عليه السلام) , فابتدأه (عليه السلام) و قال : يا ابن عباس أ عندك خبر ؟

فقال : قد رأيت طلحة و الزبير .

فقال له : إنهما استأذناني في العمرة فأذنت

[167]

لهما بعد أن استوثقت منهما بالأيمان أن لا يغدرا و لا ينكثا و لا يحدثا فسادا ; و الله يا ابن عباس ما قصدا إلا الفتنة , فكأني بهما و قد صارا إلى مكة ليستعينا على حربي فإن يعلى بن منية الخائن الفاجر قد حمل أموال العراق و فارس لينفق ذلك و سيفسد هذان الرجلان على أمري و يسفكان دماء شيعتي و أنصاري .

فقال عبد الله بن عباس : إذا كان عندك الأمر كذلك فلم أذنت لهما ؟ و هلا حبستهما و أوثقتهما بالحديد و كفيت المسلمين شرهما .

فقال له (عليه السلام) : يا ابن عباس أ تأمرني أن أبدأ بالظلم و بالسيئة قبل الحسنة و أعاقب على الظنة و التهمة ; أؤاخذ بالفعل قبل كونه , كلا و الله لا عدلت عما أخذ الله علي من الحكم بالعدل و لا القول بالفصل ; يا ابن عباس إنني أذنت لهما و أعرف ما يكون منهما لكنني استظهرت بالله عليهما و الله لأقتلنهما و ليخيبن ظنهما و لا يلقيان من الأمر مناهما فإن الله يأخذهما بظلمهما لي و نكثهما بيعتي و بغيهما علي .

و هذا الخبر و الذي تقدمه مع ما ذكرناه من الأثر موجود في مصنفات أصحاب السير فقد أورده أبو مخنف لوط بن يحيى في كتابه الذي صنفه في حرب الجمل و جاء به الثقفي عن رجاله الكوفيين و الشاميين و غيرهم و لم يورد أحد من أصحاب الآثار نقيضه في معناه و لا أثبت ضده في فحواه و من تأمل ذلك علم أن القوم لم يكونوا فيما صنعوه على جميل طوية في الدين و لا نصيحة للمسلمين و أن الذي أظهروه من الطلب بدم عثمان إنما كان تشبيها و تلبيسا على العامة و المستضعفين و لو لا ما جعلوه من شعارهم بدعوى الانتصار بعثمان و التظاهر بتظليم قاتليه و خاذليه

[168]

و الندم على ما فرط منهم فيه لما اختلف اثنان من العلماء و أتباعهم في صواب رأي المسلمين في عثمان و أنهم إنما اجتمعوا على خلعه و قتله باستحقاقه ذلك بالأحداث التي أحدثها في الدين و لكنهم ضلوا بما أظهروه و أفسدوا فسادا عظيما بما أضمروه و لم يؤثر في المستضعفين في هذا الباب إلا لنأيهم عن معرفة الأخبار و تدبر الآثار و اشتبه الأمر فيه على جماعة النظار بجهلهم بما أثبتناه في ذلك من الحديث و بعدهم عن معرفة طرقه و لعل جمهورهم لم يسمع بشي‏ء منه فضلا عن تدبره و كل من ضل عن سبيل الحق إنما ضل بالتقليد و حسن الظن بمن لا يجب حسن الظن به و اعتقاد فضل من خرج عنه بسوء الرأي.

و طريق الإنصاف فيما ذكرناه و النظر فيما وصفناه و التأمل لما أثبتناه من الأخبار فيه و شرحناه و الرجوع إلى أهل السير على اختلافهم في الآراء و المذاهب و إلى كتبهم المصنفة في الفتن تعرف ذلك منهما و من تدبر الأمر يجده على ما وصفناه و الله سبحانه و تعالى ولي التوفيق .

[169]

حرب الجمل