براءة أمير المؤمنين (عليه السلام) من دم عثمان

باب آخر من القول فيما يتصل بالكلام المقدم في معانيه :

قد اشتبه الأمر في رأي أمير المؤمنين (عليه السلام) و مذهبه في حصر عثمان و قتله تشعب أقوال المختلفين في ذلك و لم أجد أحدا من متكلمي أصحابنا الإمامية ذكر مقالا يحصر القول في ذلك و لا كلاما في معناه يوضح الغرض الملتبس على العقلاء و كل فريق عدا الإمامية من أهل القبلة يقول في ذلك بظن و ترجيم و لا يضع يده في شي‏ء منه على معرفة و يقين و الذي تدل الدلائل عليه من رأي أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما صنعه القوم بعثمان من الحصار و مطالبته للخلع و منعه الطعام و الشراب لغاية الإجابة لهم إلى ما دعوه إليه من اعتزال الأمر ثم الهجوم عليه بالقتل و إلقائه على بعض المزابل لا يرون الصلاة عليه و لا الدفن له و يمنعون من ذلك على ما أجمعت

[170]

عليه رواة الآثار و الأخبار المتفق على صحته العلماء بالسير و الآثار الكراهة منه (عليه السلام) لجملة ذلك و اعتزال القوم فيه غير أنه لم يواط على كراهته غيره على نيته فيه و لا وافق سواه من مخالفيه على طويتهم في معناه و ذلك أنه (عليه السلام) لم يتسرع مع القوم في دعاء عثمان إلى الاعتزال و لا رأى ما رأوه من حصاره و ما ولي ذلك من أفعالهم به لأنه (عليه السلام) علم عاقبة الأمر في ذلك و تحققها و لم يخف عليه ما يكون في مستقبل الأوقات من الفتنة بذلك و الاختلاف و الحروب و سفك الدماء بأن مخالفيه لقديم العداوة له و البغضاء له و الشنئان و الحسد و البغي عليه بالطغيان سيقرفونه بقتل عثمان و السعي في دمه بهتا له بذلك على ما ذكرناه من الضعفاء في الدين البعداء عن علمه و لم يصر إلى الاعتزال عما صنعه القوم بالرجل لولائه له و لا لاعتقاده بالجميل فيه و كيف يكون اعتزاله لهم عما رأوه من خلعه و حصره و قتله لاعتقاد الحق له عليهم و ثبوت إمامته بحكم الله في ذلك كما ظنه أولياء الرجل و هو (عليه السلام) يعلم و يعلن أنه مظلوم بدفعه عن الأمر بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تقدم من لا يستحق عليه و التصغير من شأنه و الحط بذلك له عن قدره و إغراء السفهاء بذلك في جحد فضله و إنكار فرضه و تظلمه من القوم جميعا في مقام بعد مقام على التلويح و التصريح و التحقيق و التعريض .

كقوله (عليه السلام) :

[171]

اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم ظلموني و منعوني حقي .

أي إرثي في مقام مشهور.

و قوله (عليه السلام) في مقام آخر : اللهم اجز قريشا عني الجوازي فقد ظلموني حقي و صغروا شأني و منعوني إرثي .

و قوله (عليه السلام) في مقام آخر : لم أزل مظلوما منذ قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

و قوله (عليه السلام) :اللهم اجز عمر لقد ظلم الحجر و المدر .

و قوله (عليه السلام) في مقام آخر : و الذي فلق الحبة و برأ النسمة لعهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلي أنه ستغدر بك الأمة من بعدي .

و قوله (عليه السلام) في مقام آخر :لما قبض الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم نكن نرى أن أحدا يعدل بهذا الأمر عنا أهل البيت حتى قوي من قوي عليه فابتزنا حقنا منه .

و قوله (عليه السلام) في مقام آخر : فلما مضى نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) تقلدها أبو بكر و أنه و الله ليعلم أني أولى بها منه كقميصي هذا و قبض قميصه بيده .

و قوله (عليه السلام) في خطبته المشهورة :

أما و الله لقد تقمصها ابن أبي قحافة و إنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل و لا يرقى إلي الطير فصبرت و في العين قذى و في الحلق

[172]

شجا أرى تراثي نهبا حتى إذا حضر أجله جعلها في صاحبه عمر فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته في كلامه المشهور حتى انتهى إلى الشورى فذكر عمر و قال فجعلها شورى في ستة زعم أني أحدهم فيا لله و للشورى متى اختلج الريب في مع الأولين حتى صرت أقرن بهذه النظائر ثم مد في كلامه حتى انتهى إلى بيعة عثمان فذكر عبد الرحمن في اختياره لعثمان عليه فقال و نهض واحد لضغنه و مال آخر لصهره .

و كان عبد الرحمن صهر عثمان على أخته في الكلام الثابت في الخطبة إلى آخرها.

و قوله (عليه السلام) في أول خطبة خطبها بعد قتل عثمان و بيعة الناس له :

قد مضت أمور كنتم فيها غير محمودي الرأي أما أني لو أشاء أقول لقلت و لكن عفا الله عما سلف سبق الرجلان و قام الثالث كالغراب همته بطنه و فرجه يا ويله لو قص جناحه و قطع رأسه لكان خيرا له حتى انتهى إلى قوله و قد أهلك الله فرعون و هامان و قارون .

يتصل بهذا الكلام إلى آخر الخطبة.

و قوله عند بيعة عبد الرحمن لعثمان يوم الشورى : و الله ما أملت منه إلا ما أمل صاحبك من صاحبه دق الله بينكما عطر منشم .

ثم انصرف.

و أمثال هذا الكلام كثير إن قصدنا إلى إثباته لطال به الكتاب و في ثبوت النص على أمير المؤمنين (عليه السلام) بالإمامة في القرآن و الأخبار المتواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أوضح دليل على أنه (عليه السلام) لم يكن راضيا

[173]

بتقدم أحد عليه في مقام النبوة و لا مصوبا لهم في ادعاء الإمامة فكيف و قد تضافرت الأخبار بما ذكرناه و بما كشف به عن عقيدته فيه و رأيه في القوم على ما بيناه و لو لم يكن عليه نص في الإمامة و لا ورد فيه مقال في إنكار ما صنعه القوم في التقدم عليه في الأمر لكان الدليل القاهر من فضله (عليه السلام) و ثبوته عن جماعتهم بذلك كافيا في كراهة أمرهم و إنكاره عليهم و لو انسد الطريق في ذلك أجمع و اشتبه الأمر فيه لم يعترض ريب في إنكاره لأحداث عثمان بن عفان التي أجمع على إنكارها المهاجرون و الأنصار و التابعون بإحسان و ما تظاهرت به الأخبار من مواليه (عليه السلام) الإنكار عليه في مقام بعد مقام .

[175]

حرب الجمل