نصيحة أمير المؤمنين (عليه السلام) لعثمان :

و روى المدائني عن علي بن صالح قال : ذكر ابن دأب قال لما عاب الناس على عثمان ما عابوا كلموا عليا فيه فدخل عليه و قال إن الناس ورائي قد كلموني فيك و الله ما أدري ما أقول لك ما أعرف شيئا تنكره و لا أدلك على شي‏ء تجهله إنك لتعلم ما نعلم ما سبقناك إلى شي‏ء فنخبرك عنه و لا خلونا بأمر فنعلمك و قد رأيت كما رأينا و سمعت كما سمعنا و صحبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما صحبنا و ما ابن أبي قحافة و لا ابن الخطاب بأولى بشي‏ء من عمل الخير منك و أنت أقرب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد نلت من صهره ما لم ينالا فالله الله في نفسك فإنك و الله ما تبصر من عمى و لا تعلم من جهل و إن الطريق لواضحة بينة و إن أعلام الدين لقائمة تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدى و هدي به أحيا سنة معلومة و أمات بدعة مجهولة و إن السنن لنيرة لها أعلام و إن البدع لظاهرة لها أعلام و إن شر الناس عند الله إمام جائر ضل و ضل به و أمات سنة معلومة و أحيا بدعة متروكة و إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

[188]

يقول يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير و لا عاذر فيلقى في جهنم فيدور فيها كما تدور الرحى ثم يرتطم في غمرة جهنم و إني أحذرك أن تكون إمام هذه الأمة الذي يقتل فإنه كان يقال يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل و القتال إلى يوم القيامة و يلتبس عليها أمرها و تنشب الفتن فيها فلا يبصرون الحق لعلو الباطل يموجون فيها موجا و يمرجون فيها مرجا فلا تكن لمروان سيقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السن و تقضي العمر .

فقال له عثمان : كلم الناس في أن يؤجلوني حتى أخرج إليهم من مظالمهم .

فقال (عليه السلام) : ما كان في المدينة فلا أجل فيه و ما غاب فأجله وصول أمرك إليهم .

فقال له عثمان : و الله قد علمت ما تقول أما و الله لو كنت بمكاني ما عنفتك و لا ثلبتك و لا عبت عليك و لا جئت منكرا و لا عملت سوء أن وصلت رحما أو سددت خلة.

[189]

ثم خرج عثمان , فجلس على المنبر مغضبا , فقال :

أما بعد فإن لكل شي‏ء آفة و لكل نعمة عاهة و إن آفة هذه الأمة و عاهة هذه النعمة عيابون طعانون يرونكم ما تحبون و يسرون ما تكرهون يقولون لكم و تقولون طغام أمثال النعام يتبعون أول ناعق أحب مواردها إليها البعيد لا يشربون إلا نغصا و لا يردون إلا عكرا لا يقوم لهم رائد و الله لقد عبتم علي بما أقررتم لابن الخطاب بمثله و لكنه وطئكم برجله و ضربكم بيده و قمعكم بلسانه فدنتم له ما أحببتم أو كرهتم و أوطأتكم كتفي و كففت يدي و لساني عنكم فاجترأتم علي أم و الله لأنا أعز نفرا و أقرب ناصرا و أكثر عددا و أقمن من قال هلم أتي إلي و لقد أعددت لكم أقرانكم و أفضلت عليكم فضلا و كشرت لكم عن نابي و أخرجتم مني خلقا لم أكن أحسنه و منطقا

[190]

لم أكن به أنطق فكفوا عني ألسنتكم و طعنكم و عيبكم على ولاتكم فما الذي تفقدون من حقكم و الله ما قصرت في بلوغ شي‏ء ممن كان قبلي و ما وجدتكم تختلفون عليه فما بالكم فما لي لا أصنع في الفضل ما أريد فلم كنت إذن إماما.

فقام مروان بن الحكم فقال : إن شئتم حكمنا بيننا و بينكم السيف فنحن و أنتم كما قال الشاعر :

زرعنا لهم أحسابنا فنمت لهم *** مغارسهم إذ ينبتون على الدمن

فقال عثمان لمروان : اسكت أسكتك الله , دعني و أصحابي , ثم نزل عثمان.

[191]

فلما كان بعد أيام عاد إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) فوعظه .

فقال له : لست ألومك يا علي و إني لأعلم شأنك لي دعني و أصحابي .

فقال له علي (عليه السلام) : قد أديت إليك ما أوجب الله علي ; و خرج من عنده .

فلم يكن بأسرع من عثمان أن خرج إلى المسجد فرقى المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال :

أما بعد أيها الناس فو الله ما عاب علي من عاب منكم إلا و أنا أعرفه و لكني منتني نفسي و كذبتني نصيحتي و ضل عني رشدي .

و قد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول من زل فليتب و من أخطأ فليتب .

و لا تتمادوا بالهلكة إن من تمادى في الجور بعد عن الطريق فأنا أول من اتعظ أستغفر الله إذا زللت فليأتني أشرافكم فيردوني فو الله لئن ردني إلى الحق عبد لأكونن له كالمرقوق إن ملك صبر و إن عتق شكر و ما عن الله مذهب إلا إليه لا يعجزن عنكم خياركم أن يدنوا إلي لئن أبت يميني لتتابعني شمالي .

فقام إليه المقداد بن عمرو , فقال : يا عثمان لا يرحل رحلك من ليس معك.

[192]

و لما نزل عثمان وجد في منزله مروان بن الحكم و سعيد بن العاص و نفرا من بني أمية فلما جلس ; قال له مروان : يا أمير المؤمنين أتكلم أم أصمت ؟

فقالت له نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان : بل اصمت ; فأنتم و الله قاتلوه و موبقوه إنه قال مقالة لا يمكن أن ينزع عنها .

فأقبل عليها مروان فقال لها : و ما أنت و هذا , فو الله لقد مات أبوك و لا يحسن أن يتوضأ .

فقالت له : مهلا عن ذكر الآباء فإنك تخبر عنه و هو غائب تكذب عليه و إن أباك لا يستطيع أن يدفع عنه أما و الله لو لا عفو ربنا عنه لأخبرتك و لم أكذب عليه .

قال مروان : - و أعرض عنها - أتكلم أم أسكت ؟

فقال له عثمان : تكلم .

فقال : بأبي أنت و أمي لوددت أن مقالتك هذه و أنت ممتنع منيع و كنت أول من رضي بها و أعان عليها و لكنك قلت ما قلت حين بلغ الحزام الطبيين و بلغ السيل الزبى أعطى الخطة الذليلة الذليل و الله لإقامة على خطيئة يستغفر

[193]

منها أجمل من توبة تخوف عليها فإنك إن شئت تقربت بالتوبة و لم تقر بالخطيئة و قد اجتمع على الباب مثل الجبال من الناس .

قال : فاخرج إليهم و كلمهم فإني أستحيي منهم .

فخرج مروان , ففتح الباب و الناس يركب بعضهم بعضا ; فقال : ما شأنكم قد اجتمعتم أيها الناس كأنكم جئتم لنهب ; شاهت الوجوه كل منكم آخذ بإذن صاحبه ألا من أريد جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا ; اخرجوا عنا أما و الله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم و لا تحمدوا غب رأيكم ارجعوا إلى منازلكم فإنا و الله ما نحن بمغلوبين على المبادرة و لكن لم نرضها.

فرجع الناس و خرج بعضهم إلى أمير المؤمنين , فقالوا : خرج علينا مروان فقال كذا و كذا و قصوا عليه الخبر .

فخرج علي (عليه السلام) مغضبا حتى دخل على عثمان ; فقال : أ رضيت يا عثمان من مروان و لا يرضى منك إلا بتحرفك عن دينك و بخدعك عن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به و الله ما مروان بذي رأي في دينه و لا نفسه و ايم الله إني لا أراه إلا سيوردك و لا يصدرك و ما أنا عائد

[194]

بعد مقامي هذا لمعاتبتك ; أذهبت و الله شرفك , غلبت على أمرك .

ثم انصرف عنه .

[195]

و بعث عثمان في الحال المسور بن مخرمة الزهري بكتاب إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فإني كتبت إليك كتابي هذا و و الله ما أحسبه يبلغك و أنا حي و قد رأيتك و رضيت بمكانك و اطمأننت إلى نفسك و وثقت بأمنية من مناك و لن تنتهي بك الأمنية دون الذلة أو المنية فإحداهما خير لك من الأخرى فإذا بلغك كتابي هذا فابعث إلي جيشا سريعا برجل معه من أهل ثقتك في نفسك و اجعله حبيب بن مسلمة ثم مره فليجعل اليومين يوما و الليلتين ليلة و المنزلين منزلا و إن استطعت أن تفاجئني مفاجاة فقد ألقيت العصا و لم يبق إلا خذوات و أعط و امنع و هات و هلم و نعم و لا و بين ذلك موت عاجل و أمر ناهض و الدين مع أول صدمة و السلام.

[196]

في أمثال ما أثبتناه من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لعثمان و إنكاره عليه في مقام بعد مقام و اعتزاله أمره و أمر القوم حتى كان منه و منهم ما كان و كيف يكون أمير المؤمنين (عليه السلام) مصوبا رأي عثمان مع ما وصفناه و راضيا بشي‏ء من أفعاله على ما ذكرناه و كيف لا يكون ساخطا مع ما بيناه و مشاركا للقوم جميعا في تبديعه على ما قدمناه غير أنه لم يساعدهم على حصره و لا أعانهم على خلعه و لا شركهم في قتله لما أسلفناه من القول في عاقبة ذلك و علمه بها و إحاطته بجميع ما كان منها و لإقامة الحجة على قارفيه بدمه في بطلان تزويرهم له و إيضاحه عن بهتانهم فيه عليه و ليس ذلك بمناف لرأيه الذي بيناه عنه و شرحناه و لنا في أحكام قاتلي عثمان و خاذليه و حاصريه كلام سنبينه شافعا لهذا الفصل إن شاء الله .

[197]

حرب الجمل