موقف أمير المؤمنين (عليه السلام) من أحداث عثمان :
و أما أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم يكن تفرده عن نصرته و ترك النهوض بالدفاع عنه خذلانا له لرأي يستصوبه في خلعه و قتله بل كان رأيه (عليه السلام) تابعا في ذلك لعقيدته فيمن تقدم عليه بالأمر من كافة القوم و كان عالما بالعواقب غير شاك في المصالح يرى الموادعة و المهادنة و الرقود و المسالمة إلى انقضاء المدة التي يعلم صواب التدبير فيها بذلك فامتنع (عليه السلام) من التحمل للدفاع عن حصره و قتله بمثل ما امتنع من دفاع المتقدمين عليه في الأمر و ذلك لشيئين معروفين :
أحدهما : لعدم الأنصار له على مراده في ذلك .
و الثاني : لوخيم العاقبة في المباينة للجمهور و لما يقتضي الحرب و يوقع الفتنة و قد دفع (عليه السلام) عنه بالقول في أحوال اقتضت المصلحة عند دفاعه به و أمسك عن الإنكار لما كان القوم عليه و الرأي في حصره و خلعه و قتله لما عرف من جميل العاقبة في ذلك ; و لو لم يكن (عليه السلام) مستودعا علم ذلك كما تذهب إليه الشيعة فيه لكانت مشاهدته للحال و دلائلها تكفيه و تقنعه فيما صنع و رآه في الأحوال و الاختلاف بين ذوي العقول فإن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فعمل (عليه السلام) في اختلاف الأقوال منه و الأفعال على علمه بعواقب الأمور و شاهد الحال فلذلك التبس الأمر على الجمهور في رأيه (عليه السلام) في عثمان و قاتليه.
[201]
فنسبه بعض الناس : إلى الرضا بما صنع القوم بعثمان.
و نسبه آخرون : إلى المواطاة عليه و التأليب.
و نسبه آخرون : إلى الهوى في ذلك و التقصير فيما كان يجب عليه لعثمان.
و نسبه آخرون : إلى الكراهة لما أجرى القوم في حصر الرجل فادعوا أنه كان له مواليا و بأعماله راضيا لكن العجز عن نصرته أقعده عنها.
ثم أكد الشبهة عليهم فيما ذكرناه من اختلاف الاعتقاد في ذلك ما قدمنا ذكره من أفعاله المختلفة مع عثمان تارة ينكر عليه ما أنكره المسلمون و تارة يدفع عنه و ينهى عن قتله القاصدين إلى ذلك من أهل الأمصار و تارة ينكر على من منعه الماء و يغلظ لذلك و يغضب من خلافه فيه و تارة يجلس في بيته و هو يرى الناس يهرعون إليه لقتله و الاجتهاد في طلب دمه فلا يكون منه وعظ في ذلك و لا تخويف بالله عز و جل في ذلك و هو في ظاهر الحال مطاع معظم مسموع المقال مستجاب الأمر متبع الرأي هذا مع هجره عثمان أحيانا و صلحه أحيانا و منازعته له حينا و مسالمته له حينا و تغليظ القول عليه أحيانا و تسهيله عليه أحيانا و سعيه في الصلح بينه و بين الناس زمانا و ترك ذلك إلى الكف عنه زمانا هذا مع أن المحفوظ من قوله فيه بعد قتله مما تختلف ظواهره و تشتبه معانيه.
كقوله (عليه السلام) وقتا : و الله ما قتلت عثمان و لا مالأت على قتله .
[202]
و قوله (عليه السلام) حينا : الله قتل عثمان و أنا معه .
و قوله (عليه السلام) وقتا آخر : لو لم يدخل الجنة إلا قاتل عثمان لما دخلتها و لو لم يدخل النار إلا قاتل عثمان لما دخلتها .
و قوله (عليه السلام) وقتا آخر : و الله ما غاضني قتل عثمان و لا سرني و لا أحببت ذلك و لا كرهته .
و قوله (عليه السلام) : أكبت الله قتلة عثمان .
و قوله (عليه السلام) عند مطالبة القوم له بقتلة عثمان : من قتل عثمان فليقم فقام إليه أربعة آلاف من الناس المتحيزين إليه .
فقال : أ هؤلاء يقتلون بعثمان ; مع كون قتلة عثمان خاصة أنصاره و أعوانه و أصحابه و إظهاره الولاية لهم و التعظيم و المودة و الإكرام مع ثقته بهم و ائتمانه لهم .
و قوله (عليه السلام) مع ذلك : اللهم اقتل قتلة عثمان في بر الأرض و بحرها .
[203]
في أمثال ما ذكرناه و لكن الأفعال و الأقوال التي ذكرناها منه متلائمة غير مختلفة في معناها إذا خص بعضها ببعض و حمل بعضها على بعض في الرأي الذي تقتضيه الأحوال و يوجبه النظر في العلم بالعواقب و تمام المصالح .
[204]
حرب الجمل