فصل ; في البيعة لأمير المؤمنين (عليه السلام) :

قد ثبت بمتواتر الأخبار و متظاهر الأحاديث و الآثار أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان معتزلا للفتنة بقتل عثمان و أنه بعد عن منزله في المدينة لئلا تتطرق عليه الظنون برغبته في البيعة للأمرة على الناس و أن الصحابة لما كان من أمر عثمان ما كان التمسوه و بحثوا عن مكانه حتى وجدوه فصاروا إليه و سألوه القيام بأمر الأمة و شكوا إليه ما يخافونه من فساد الأمة فكره إجابتهم إلى ذلك على الفور و البدار لما علمه من عاقبة الأمور و إقدام القوم على الخلاف عليه و المظاهرة له بالعداوة و الشنئان فلم يمنعهم إباؤه من الإجابة عن الإلحاح فيما دعوه إليه و أذكروه

[90]

بالله عز و جل و قالوا له إنه لا يصلح للإمامة بالمسلمين سواك و لا نجد أحدا يقوم بهذا الأمر غيرك فاتق الله في الدين و كافة المسلمين.

فامتحنهم عند ذلك بذكر من نكث بيعته بعد أن أعطاها بيده على الإيثار و أومأ لهم إلى مبايعة أحد الرجلين و ضمن النصرة لهما متى أرادا لإصلاح الدين و حياطة الإسلام فأبى القوم عليه تأمير من سواه و البيعة لمن عداه .

و بلغ ذلك طلحة و الزبير فصارا إليه راغبين في بيعته منتظرين للرضا بتقدمه فيهما و إمامته عليهما فامتنع الاستظهار فألحا عليه في قبول بيعتهما له و اتفقت الجماعة كلها على الرضا به و ترك العدول عنه إلى سواه و قالوا إن لم تجبنا إلى ما دعوناك إليه من تقليد الأمر و قبول البيعة انفتق في الإسلام ما لا يمكن رتقه و انصدع في الدين ما لا يستطاع شعبه .

فلما سمع ذلك منهم بعد الذي ذكرناه من الإباء عليهم و الامتناع لتأكيد الحجة لنفسه بسط (عليه السلام) يده لبيعتهم فتداكوا عليه تداك الإبل على حياضها يوم ورودها حتى شقوا أعطافه و وطئوا ابنيه الحسن و الحسين (عليهما السلام) بأرجلهم لشدة ازدحامهم عليه و حرصهم على البيعة له و الصفقة بها على يده رغبة بتقديمه على كافتهم و توليته أمر جماعتهم لا يجدون عنه معدلا و لا يخطر ببالهم سواه لهم موئلا فتمت بيعته بالمهاجرين و البدريين و الأنصار و العقبيين المجاهدين في الدين و السابقين إلى الإسلام من المؤمنين و أهل البلاء الحسن مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الخيرة البررة الصالحين .

[91]

و لم تكن بيعته (عليه السلام) مقصورة على واحد و اثنين و ثلاثة و نحوها في العدد ; كما كانت بيعة أبي بكر مقصورة على بعض أصحابه على بشير بن سعد فتمت بها عنده , ثم اتبعه عليها من تابعه من الناس .

و قال بعضهم : بل تمت ببشير بن سعد و عمر بن الخطاب .

و قال آخرون منهم : بل تمت بالرجلين المذكورين و أبي عبيدة بن الجراح و سالم مولى أبي حذيفة ; و اعتمدوا في ذلك على أن البيعة للإمام لا تتم بأقل من أربعة نفر من المسلمين .

و قال بعضهم : بل تمت بخمسة نفر بشير بن سعد و أسيد بن خضير من الأنصار و عمر و أبو عبيدة و سالم من المهاجرين ; ثم بايعه الناس بعد تمامها بالخمسة المذكورين .

و ممن ذهب إلى هذا المذهب الجبائي و ابنه و البقية من أصحابهما في هذا الزمان.

و قالوا في بيعة عمر بن الخطاب مثل ذلك ; فزعم من يذهب إلى أن البيعة تتم بواحد من الناس و هم جماعة من المتكلمين منهم الخياط و البلخي و أبو مجالد و من ذهب مذهبهم من أصحاب الاختيار أن الإمامة تمت لعمر بأبي بكر وحده و بعقده له إياه دون من سواه.

و كذلك قالوا في عثمان بن عفان و العقد له إنه تم بعبد الرحمن بن عوف خاصة و خالفهم على ذلك من أضاف إلى المذكورين غيرهم في العقد فزعم أن بيعة عمر انفردت من الاختيار له عن الإمام و عثمان إنما تم له الأمر ببيعة بقية أهل الشورى

[92]

و هم خمسة نفر أحدهم عبد الرحمن فاعترفت الجماعة من مخالفينا بما هو حجة عليهم في الاختلاف على أئمتهم و بشذوذ العاقدين لهم و انحصار عددهم بمن ذكرناه.

و ثبتت البيعة لأمير المؤمنين (عليه السلام) بإجماع من حوته مدينة الرسول من المهاجرين و الأنصار و أهل بيعه الرضوان و من انضاف إليهم من أهل مصر و العراق في تلك الحال من الصحابة و التابعين لهم بإحسان و لم يدع أحد من الناس أنها تمت له بواحد مذكور و لا إنسان مشهور و لا بعدد محصور فيقال تمت بيعته بفلان واحد أو فلان و فلان كما قيل في بيعة أبي بكر و عمر و عثمان.

حرب الجمل