الباب الثالث: الامام على عليه السلام و اربعة من منازل الآخرة و مواقفها

قال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام:

«إني و من يجري مجراي من الأئمة لابد لنا من حضور جنائزكم في أي بلد كنتم فاتقوا الله في أنفسكم».

(المناقب لابن شهر آشوب،ج 4:ص 292)

الفصل 1: حضوره عليه السلام عند المحتضر بنفسه الشريفة و شخصه

1ـعن أبان بن تغلب،عن أبي داود الأنصاري،عن الحارث الهمداني (1) ،قال:«دخلت على أمير المؤمنين،علي بن أبي طالب عليه السلام فقال:ما جاء بك؟فقلت:حبي لك،يا أمير المؤمنين!فقال:يا حارث أتحبني؟قلت:نعم،و الله،يا أمير المؤمنين،قال:أما لو بلغت نفسك الحلقوم رأيتني حيث تحب،و لو رأيتني و أنا أذودالرجال (2) عن الحوض ذود غريبة الإبل لرأيتني حيث تحب،و لو رأيتني و أنا مار على الصراط بلواء الحمد بين يدي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لرأيتني حيث تحب (3) ».

2ـو عن الحارثـأيضاـيقول:أتيب أمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة،فقال:يا أعور!ما جاء بك؟قال:فقلت يا أمير المؤمنين،جاء بي و الله حبك،قال:فقال:أما إني ساحدثك لتشكرها،أما إنه لا يموت عبد يحبني فتخرج نفسه حتى يراني حيث يحب،و لا يموت عبد يبغضني فتخرج نفسه حتى يراني حيث يكره (4) ».

3ـعن الأصبغ بن نباتة (5) ،قال:«دخل الحارث الهمداني على أمير المؤمنين،علي بن أبي طالب عليه السلام في نفر من الشيعة و كنت فيهم،فجعل الحارث يتأود (6) في مشيته،و يخبط الأرض (7) بمحجنه (8) ،و كان مريضا،فأقبل عليه أمير المؤمنين عليه السلامـو كانت له منه منزلةـفقال:كيف تجدك،يا حارث؟فقال:نال الدهر (9) ـيا أمير المؤمنين!ـمني،و زادني أوارا و غليلا (10) اختصام أصحابك ببابك،قال:و فيم خصومتهم؟قال:فيك و في الثلاثة من قبلك،فمن مفرط منهم غال (11) ،و مقتصدتال (12) ،و من متردد مرتاب،لا يدري أيقدم أم يحجم (13) ،فقال:حسبك،يا أخاه همدان،ألا إن خير شيعتي النمط الأوسط (14) إليهم يرجع الغالي،و بهم يلحق التالي.

فقال له الحارث:لو كشفتـفداك أبى و اميـالرين (15) عن قلوبنا،و جعلتنا في ذلك على بصيرة من أمرنا.

قال عليه السلام:قدك (16) فأنك امرؤ ملبوس عليك (17) إن دين الله لا يعرف بالرجال،بل بآية الحق،فاعرف الحق تعرف أهله.

يا حارث إن الحق أحسن الحديث،و الصادع (18) به مجاهد،و بالحق أخبرك‏فأرعني سمعك (19) ،ثم خبر به من كان له حصافة (20) من أصحابك،ألا إني عبد الله،و أخو رسوله،و صديقه الأول،صدقته و آدم بين الروح و الجسد،ثم إني صديقه الاول في امتكم حقا،فنحن الأولون،و نحن الآخرون،و نحن خاصتهـيا حارث!ـو خالصته،و أنا صنوه و وصيه و وليه،و صاحب نجواه و سره،اوتيت فهم الكتاب،و فصل الخطاب،و علم القرون و الأسباب،و استودعت ألف مفتاح،يفتح كل مفتاح ألف باب،يفضي كل باب إلى ألف ألف عهد،و ايدت و اتخذت و أمددت بليلة القدر نفلا (21) ،و إن ذلك يجرى لي و لمن استحفظ من ذريتي ما جرى الليل و النهار حتى يرث الله الأرض و من عليها.

و ابشرك يا حارث لتعرفني عند الممات،و عند الصراط،و عند الحوض،و عند المقاسمة،قال الحارث :و ما المقاسمة،يا مولاي؟قال:مقاسمة النار،اقاسمها قسمة صحيحة،أقول:هذا وليي فاتركيه،و هذا عدوي فخذيه.

ثم أخذ أمير المؤمنين عليه السلام بيد الحارث فقال:يا حارث!أخذت بيدك كما أخذ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بيدي فقال ليـو قد شكوت إليه حسد قريش و المنافقين ليـ:إنه إذا كان يوم القيامة أخذت بحبل الله و بحجزته(يعني عصمته من ذي العرش تعالى)و أخذت أنت يا علي بحجزتي،و أخذ ذريتك بحجزتك،و أخذ شيعتكم بحجزتكم.فماذا يصنع الله بنبيه،فما يصنع نبيه بوصيه؟خذها إليك يا حارث،قصيرة من طويلة.نعم،أنت مع من أحببت،و لك ما اكتسبتـيقولها ثلاثاـ.

فقام الحارث يجر ردائه،و هو يقال:ما ابالي بعدها متى لقيت الموت أو لقيني.قال جميل بن صالحـأحد رواة الحديثـ:و أنشدني أبو هاشم السيد الحميري رحمه الله فيما تضمنه هذا الخبر :

قول علي لحارث عجب‏ 
كم ثم اعجوبة له حملا

يا حار همدان من يمت يرني‏ 
من مؤمن أو منافق قبلا (22)

يعرفني طرفه و أعرفه‏ 
بنعته و اسمه و ما عملا

و أنت عند الصراط تعرفني‏ 
فلا تخف عثرة و لا زللا

أسقيك من بارد على ظمأ 
تخاله (23) في الحلاوة العسلا

أقول للنار حين توقف لل 
عرض دعيه لا تقربي الرجلا

دعيه لا تقربيه إن له‏ 
حبلا بحبل الوصي متصلا (24)

أقول:يستفاد من كتب التراجم و الرجال و من الأحاديث التي مرت عليك:أن الحارث الأعور الهمدانيـرضى الله عنهـكان من الموالين المخلصين قد أصابته المحن و المصائب،و أوذي في سبيل مولاه و سيده من أوغاد الناس و النواصب حتى جاء مريضا إلى حضور مولاه و في يده عصا،يعوج في مشيته و يستقيم اخرى،و شكا نوائبه إلى سيده و مولاه،فلما رأى علي عليه السلام وليه مهموما و مغموما تسلاه و بشره برؤيته و معرفته في أربعة مواقف،التي هي أشد المواقف و أصعب الطرق بقوله عليه السلام:«و ابشرك يا حارث،لتعرفني عند الموت،و عند الصراط،و عندالحوض و عند المقاسمة».

فيدور كلامه عليه السلام للحارث الهمداني حول أربعة منازل من منازل الآخرة و مواقفها،فعلى هذا جعلنا وجيزتنا هذه في شرح كلامه عليه السلام على أربعة فصول:

1ـمنزلته عليه السلام عند المحتضر،2ـمنزلته عليه السلام عند الصراط،3ـمنزلته عليه السلام عند الحوض،4ـمنزلته عليه السلام عند المقاسمة.

و في الفصل الاول يستدل على أن حضوره عليه السلام عند المحتضر يكون بعينه و شخصه و نعته و نفسه و معاينة المحتضر له عيانا،و كذلك حضور النبي و أهل بيته الكرام المعصومين عليهم السلام،و يرد على من زعم أن الذي يشهده المحتضر عند الموت و يراه هو صور الأئمة عليهم السلام المشابهة لصورهم الاصلية،أو ثمرة ولايتهم أو بغضهم لا أشخاصهم الشريفة و أعيانهم المباركة،و يبحث.

في الثاني عن حضوره عليه السلام عند الصراط و إعطائه الموالين المحبين الجواز و البراءة .

و في الثالث عن حضوره عند الحوض و سقايته المخلصين له عليه السلام من الكوثر،و منعه و طرده المخالفين عنه.

و في الرابع عن حضوره عليه السلام عند الجنة و النار،و تقسيمهما بنفسه الشريفة لا باعتبار أن التقسيم بحبه و بغضه دون حضور شخصه.

الأول: في حضور النبى و على و أولاده المعصومين عليهم السلام عند المحتضر

1ـرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:«و الذي نفسي بيده لا تفارق روح جسد صاحبها حتى يأكل من ثمار الجنة،أو من شجرة الزقوم،و حين يرى ملك الموت يراني و يرى عليا و فاطمة و حسنا و حسيناـصلوات الله عليهم أجمعينـفإن كان يحبنا قلت:ياملك الموت!ارفق به إنه كان يحبني و يحب أهل بيتي،و إن كان يبغضنا قلت:يا ملك الموت!شدد عليه إنه كان يبغضني و يبغض أهل بيتي (25) ».

2ـعن الصادق عليه السلام،أنه قال:«من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه،و من كره لقاء الله كره الله لقاءه،قال أصحابه:هلكنا يا ابن رسول الله،فإنا لا نحب الموت،فقال عليه السلام ذاك عند معاينة رسول الله و أمير المؤمنينـصلوات الله عليهماـ،ما من ميت يموت إلا حضر عنده محمد و عليـصلوات الله عليهماـفإذا رآهما المؤمن استبشر و سر،فيقوم النبي صلى الله عليه و آله و سلم لينصرف فيقول:إلى أين؟و قد كنت أتمنى أن أراكما،فقال صلى الله عليه و آله و سلم:أتحب أن ترافقنا؟فيقول:نعم،فوصي به ملك الموت و يخبره أنه لهما محب،فهذا يحب لقاء الله و يحب الله لقاءه،و أما عدوهما فلا شى‏ء أكره و أبغض عليه من رؤيتهما،فيعرف الملك أنه عدو لهما،فهو يكره لقاء الله و الله يكره لقاءه».

قال المصنف:«و هذا الحديث يصرح بحضور محمد و عليـصلوات الله عليهماـعند كل ميت و روية المؤمن لهما حقيقة،لا مجازا (26) ».

3ـعن مسمع بن عبد الملك كردين البصري،قال:«قال لي أبو عبد الله عليه السلام:يا مسمع !أنت من أهل العراق،أما تأتي قبر الحسين عليه السلام؟قلت:لا،أنا رجل مشهور عند أهل البصرة و عندنا من يتبع هوى هذا الخليفة،و عدونا كثير من اهل القبائل من النصاب و غيرهم،و لست آمنهم أن يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيمثلون بي،قال لي:أفما تذكر ما صنع به؟قلت:نعم،قال :فتجزع؟قلت:إي و الله،و أستعبر لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك علي،فأمتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي.

قال:رحم الله دمعتك،أما انك من الذين يعدون من أهل الجزع لنا،و الذين يفرحون لفرحنا، و يحزنون لحزننا، و يخافون لخوفنا، و يأمنون إذا أمنا.

أما إنك سترى عند موتك حضور ابائي لك و وصيتهم ملك الموت بك،و ما يلقونك به من البشارة أفضل،و لملك الموت أرق عليك و أشد رحمة لك من الام الشفيقة على ولدها.

قال:ثم استعبر و استعبرت معه،فقال:الحمد لله الذي فضلنا على خلقه الرحمة،و خصنا أهل البيت.يا مسمع!إن الأرض و السماء لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين عليه السلام رحمة لنا،و ما بكى لنا من الملائكة أكثر،و ما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا،و ما بكى أحد رحمة لنا و لما لقينا إلا رحمه الله قبل أن تخرج الدمعة من عينه،فإذا سالت دموعه على خده فلو أن قطرة من دموعه سقطت في جهنم لأطفأت حرها حتى لا يوجد لها حر،و إن الموجع لنا قلبه ليفرح يوم يرانا عند موته فرحة لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتي يرد علينا الحوض،و إن الكوثر ليفرح بمحبنا إذا ورد عليه حتى إنه ليذيقه من ضروب الطعامـالحديث (27) ».

4ـعن أبي الظبيان،قال:«كنت عند أبي عبد الله عليه السلام،فقال:ما يقول الناس في أرواح المؤمنين بعد موتهم؟قلت:يقولون:في حواصل طيور خضر،فقال:سبحان الله!المؤمن أكرم على الله من ذلك،إذا كان ذلك أتاه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام و معهم ملائكة الله عز و جل المقربون،فإن أنطق الله لسانه بالشهادة له بالتوحيد،و للنبي صلى الله عليه و آله و سلم بالنبوة،و الولاية لأهل البيت شهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام و الملائكة المقربون معهم،و إن اعتقل لسانه خص الله نبيه صلى الله عليه و آله و سلم بعلم ما في قلبه من ذلك،فشهد به،و شهد على شهادة النبي علي و فاطمة و الحسن و الحسينـعلى جماعتهم من الله أفضل السلامـو من حضر معهم من الملائكة،فإذا قبضه الله إليه صير تلك‏الروح إلى الجنة في صورة كصورته،فيأكلون و يشربون،فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت في الدنيا (28) ».

5ـعن ابن سنان،عن أبي عبد الله عليه السلام،قال:«ما يموت موال لنا و مبغض لأعدائنا إلا و يحضره رسول الله و أمير المؤمنين و الحسن و الحسينـصلوات الله عليهم أجمعينـفيراهم و يبشرونهـالحديث (29) ».

6ـقال أمير المؤمنين عليه السلام:«تمسكوا بما أمركم الله به،فما بين أحدكم و بين أن يغتبط (30) و يرى ما يحب إلا أن يحضره رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و ما عند الله خير و أبقىـالحديث (31) ».

7ـعن ابن أبي يعفور،قال:«قال لي أبو عبد الله عليه السلام:قد استحييت مما اردد هذا الكلام عليكم:ما بين أحدكم و بين أن يغتبط إلا أن تبلغ نفسه هذهـو أهوى بيده إلى حنجرتهـيأتيه رسول الله و عليـصلوات الله عليهماـيقولان له:أما ما كنت تخاف فقد آمنك الله منه،و ما كنت ترجو فأمامك (32) ».

8ـعن موسى بن جعفر عليهما السلام،قالـفي اجتماع من الشيعة بنيشابورـلعلي بن راشد:«أعرف أصحابك و أقرئهم عني السلام،و قل لهم:إني و من جرى مجراي من أهل البيت لا بد من حضور جنائزكم في اي بلد كان و كنتم،فاتقوا الله في أنفسكم و أحسنوا الأعمال لتعينونا على خلاصكم و فك رقابكم من النار (33) ».

9ـعن أبي حمزة الثمالي،قال:«قلت لأبي جعفر عليه السلام:ما يصنع بأحدنا عندالموت؟قال :أما و الله،يا أبا حمزة!ما بين أحدكم،و بين أن يرى مكانه من الله منا إلا أن يبلغ نفسه هيهناـثم أهوى بيده إلى نحرهـ،ألا ابشرك يا أبا حمزة؟فقلت:بلى،جعلت فداك،فقال:إذا كان ذاك أتاه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم،و علي عليه السلام معه يقعد عند رأسه فقال لهـإذا كان ذلكـرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:أما تعرفني؟أنا رسول الله،هلم إلينا فما أمامك خير لك مما خلفت،أما ما كنت تخاف فقد أمنته،و أما ما كنت ترجو فقد هجمت عليه،أيتها الروح أخرجي إلى روح الله و رضوانه،و يقول له علي عليه السلام مثل قول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم.

ثم قال:يا أبا حمزة!ألا اخبرك بذلك من كتاب الله؟قول الله:/الذين آمنوا و كانوا يتقون/ـالآية (34) .

10ـعن الإمام العسكري عليه السلام:«إن المؤمن الموالي لمحمد و آله الطيبين،المتخذ لعلي بعد محمد إمامه الذي يحتذي مثاله،و سيده الذي يصدق أقواله و يصوب أفعاله،و يطيعه بطاعة من يندبه من أطائب ذريته لامور الدين و سياسته،إذا حضره من أمر الله تعالى ما لا يرد،و نزل به من قضائه ما لا يصد،و حضره ملك الموت و أعوانه،و جد عند رأسه محمدا رسول الله و من جانب آخر عليا سيد الوصيين،و عند رجليه من جانب الحسن سبط سيد النبيين،و من جانب آخر الحسين سيد الشهداء أجمعين،و حواليه بعدهم خيار خواصهم و محبيهم الذين هم سادة هذه الامة بعد ساداتهم من آل محمد،ينظر العليل المؤمن إليهم فيخاطبهم،بحيث يحجب الله صوته عن آذان حاضريه كما يحجب رؤيتنا أهل البيت و رؤية خواصنا عن أعينهم ليكون إيمانهم بذلك أعظم ثوابا لشدة المحنة عليهم.

فيقول المؤمن:بأبى أنت و امى،يا رسول رب العزة،بأبى أنت و امي،يا وصي‏رسول رب الرحمة،بأبى أنتما و أمي،يا شبلي محمد و ضرغاميه،يا ولديه و سبطيه،يا سيدي شباب أهل الجنة المقربين من الرحمة و الرضوان،مرحبا بكم معاشر خيار أصحاب محمد و علي و ولديهما،ما كان أعظم شوقي إليكم،و ما أشد سروري الآن بلقائكم،يا رسول الله!هذا ملك الموت قد حضرني،و لا أشك في جلالتي في صدره لمكانك و مكان أخيك.

فيقول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:كذلك هو،فأقبل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم على ملك الموت،فيقول:يا ملك الموت!استوص بوصية الله في الإحسان إلى مولانا و خادمنا و محبنا و مؤثرنا،فيقول له ملك الموت:يا رسول الله!مره أن ينظر إلى ما أعد الله له في الجنان،فيقول له رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:لينظر إلى العلو،فينظر إلى ما لا يحيط به الألباب،و لا يأتي عليه العدد و الحساب،فيقول ملك الموت:كيف لا أرفق بمن ذلك ثوابه،و هذا محمد صلى الله عليه و آله و سلم و أعزته زواره؟يا رسول الله!لو لا أن الله جعل الموت عقبة لا يصل إلى تلك الجنان إلا من قطعها لما تناولت روحه،و لكن لخادمك و محبك هذا اسوة بك و بسائر أنبياء الله و رسله و أوليائه الذين اذ يقوا الموت لحكم الله تعالى.

ثم يقول محمد صلى الله عليه و آله و سلم:يا ملك الموت!هاك أخانا قد سلمناه إليك،فاستوص به خيرا،ثم يرتفع هو و من معه إلى روض الجنان،و قد كشف من الغطاء و الحجاب لعين ذلك المؤمن العليل،فيراهم المؤمن هناك بعد ما كانوا حول فراشه،فيقول:يا ملك الموت!الوحي،الوحي (35) ،تناول روحي و لا تلبثني ههنا فلا صبر لي عن محمد و أعزته،و ألحقني بهم،فعند ذلك يتناول ملك الموت روحه فيسلها كما يسل الشعرة من الدقيق،و إن كنتم ترون أنه في شدة فليس هو في شدة بل هو في رخاء و لذة.فإذا ادخل قبره وجد جماعتنا هناك،و إذا جاءه منكر و نكير قال أحدهما للآخر:هذا محمد و علي و الحسن و الحسين و خيار صحابتهم بحضرة صاحبنا،فلنتصنع لهما (36) ،فيأتيان فيسلمان على محمد سلاما مفردا،ثم يسلمان على على سلاما مفردا،ثم يسلمان على الحسنين سلاما يجمعانهما فيه،ثم يسلمان على سائر من معنا من أصحابنا،ثم يقولان:قد علمنا يا رسول الله،زيارتك في خاصتك لخادمك و مولاكـالحديث (37) ».

11ـعن محمد بن سنان،عن عمار بن مروان،قال:حدثني من سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول :«منكم و الله،يقبل،و لكم و الله،يغفر،إنه ليس بين أحدكم و بين أن يغتبط و يرى السرور و قرة العين إلا أن تبلغ نفسه ههناـو أومأ بيده إلى حلقه ثم قال:ـإنه إذا كان ذلك و احتضر حضره رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و علي و جبرئيل و ملك الموت عليهم السلام،فيدنو منه علي عليه السلام فيقول:يا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إن هذا كان يحبنا أهل البيت فاحبه،و يقول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:يا جبرئيل إن هذا كان يحب الله و رسوله و أهل بيت رسوله فأحبه،و يقول جبرئيل لملك الموت:إن هذا كان يحب الله و رسوله و أهل بيت رسوله فأحبه و ارفق به،فيدنو منه ملك الموت فيقول:يا عبد الله،أخذت فكاك رقبتك،أخذت أمان براءتك،تمسك بالعصمة الكبرى في الحياة الدنيا.

قال:فيوفقه الله عز و جل،فيقول:نعم،فيقول:و ما ذاك؟فيقول:ولاية علي بن أبي طالب،فيقول :صدقت،أما الذي كنت تحذره فقد آمنك الله عنه،و أما الذي كنت ترجوه فقد أدركته،أبشر بالسلف الصالح مرافقة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و علي و فاطمة عليهما السلام ثم يسل نفسه سلا رفيقاـالحديث (38) ».ـعلي بن عقبة،عن أبيه،قال:«دخلنا على أبي عبد الله عليه السلام أنا و المعلى بن خنيس،فقال :يا عقبة!لا يقبل الله من العباد يوم القيامة إلا هذا الذي أنتم عليه،و ما بين أحدكم و بين أن يرى ما تقر به عينه إلا أن تبلغ نفسه هذهـو أومأ بيده إلى الوريد قال:ـثم اتكأ و غمز إلي المعلى أن سله،فقلت:يابن رسول الله!إذا بلغت نفسه هذه فأي شي‏ء يرى؟فردد عليه بضعة عشر مرة:أي شي‏ء يرى؟فقال في كلها:يرى،لا يزيد عليها،ثم جلس في آخرها فقال:يا عقبة !قلت:لبيك و سعديك،فقال:أبيت إلا أن تعلم،فقلت:نعم،يابن رسول الله!إنما ديني مع دمي،فإذا ذهب دمي كان ذلك،و كيف لي بك يابن رسول الله كل ساعة؟و بكيت،فرق لي فقال:يراهما و الله،قلت :بأبى أنت و امي،من هما؟فقال:ذاك رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و علي عليه السلام،يا عقبة!لن تموت نفس مؤمنة أبدا حتى تراهما،قلت:فإذا نظر إليهما المؤمن أيرجع إلى الدنيا؟قال :لا،بل يمضي أمامه،فقلت له:يقولان شيئا جعلت فداك؟فقال:نعم،يدخلان جميعا على المؤمن،فيجلس رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عند رأسه و علي عليه السلام عند رجليه،فيكب عليه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فيقول:يا ولي الله! أبشر،أنا رسول الله،إني خير لك مما تترك من الدنيا،ثم ينهض رسول الله فيقوم عليه عليـصلوات الله عليهماـحتى يكب عليه فيقول:يا ولي الله أبشر،أنا علي بن أبي طالب الذي كنت تحبه،أما لأنفعنك.

ثم قال أبو عبد الله عليه السلام:أما إن هذا في كتاب الله عز و جل،قلت:أين هذا جعلت فداك من كتاب الله؟قال:في سورة يونس،قول الله تبارك و تعالى ههنا:/الذين آمنوا و كانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا و في الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم/ (39) .

أقول:قوله:«ديني مع دمي»المراد بالدم الحياة،أي لا أترك طلب الدين‏ما دمت حيا،و في الكافي«إنما ديني مع دينك»أي إنما يستقيم ديني إذا كان موافقا لدينك.

13ـعن ام سلمةـرضى الله عنهاـ،قالت:«قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام:يا علي!إن محبيك يفرحون في ثلاثة مواطن:عند خروج أنفسهم و أنت هناك تشهدهم،و عند المسائلة في القبور و أنت هناك تلقنهم،و عند العرض على الله و أنت هناك تعرفهم (40) ».

14ـعن ابن أبي يعفور،قال:«كان خطاب الجهني خليطا لنا و كان شديد النصب لآل محمد،و كان يصحب نجدة الحروري،قال:فدخلت عليه أعوده للخلطة و التقية فإذا هو مغمى عليه في حد الموت،فسمعته يقول:ما لي و لك يا علي،فأخبرت بذلك أبا عبد الله عليه السلام فقال أبو عبد الله عليه السلام رآه و رب الكعبة،رآه و رب الكعبة،رآه و رب الكعبة (41) ».

15ـعن الفضيل بن يسار،عن أبى جعفر،و عن جعفر عليهما السلام أنهما قالا:حرام على روح أن تفارق جسدها حتى ترى الخمسة:محمدا و عليا و فاطمة و حسنا و حسينا،بحيث تقر عينها أو تسخن عينها (42) ».

16ـعن سدير الصيرفي،قال:«قلت لأبي عبد الله عليه السلام:جعلت فداك يابن رسول الله،هل يكره المؤمن على قبض روحه؟قال:لا،و الله،إنه إذا أتاه ملك الموت بقبض روحه جزع لذلك،فيقول ملك الموت:يا ولى الله!لا تجزع فو الذي بعث محمدا لأنا أبر بك و أشفق عليك من الوالد الرحيم لو حضرك،افتح عينيك فانظر،قال:و يمثل (43) له رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و أمير المؤمنين و فاطمة الزهراء والحسن و الحسين و الأئمة من ذريتهم،فيقال له:هذا رسول الله و أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة عليهم السلام رفقاؤك.

قال:فيفتح عينه فينظر فينادي روحه مناد من قبل رب العزة،فيقول:«يا أيتها النفس المطمئنة (إلى محمد و أهل بيته)ارجعي إلى ربك راضية(بالولاية)مرضية(بالثواب)فادخلي في عبادي(يعني محمدا و أهل بيته)و ادخلى جنتي»فما شي‏ء أحب إليه من استلال روحه و اللحوق بالمنادي (44) ».

17ـعن الحكم بن عتيبة،قال:«بينا أنا مع أبى جعفر عليه السلام و البيت غاض بأهله إذ أقبل شيخ يتوكأ على عنزة له (45) حتى وقف على باب البيت،فقال:السلام عليك،يابن رسول الله و رحمة الله و بركاته،ثم سكت .

فقال أبو جعفر عليه السلام:و عليك السلام و رحمة الله و بركاته،ثم أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت و قال:السلام عليكم،ثم سكت حتى أجابه القوم جميعا و ردوا عليه السلام،ثم أقبل بوجهه على أبي جعفر عليه السلام،ثم قال:يابن رسول الله أدنني منك جعلني الله فداك،فو الله إنى لأحبكم و احب من يحبكم،و و الله ما احبكم و احب من يحبكم لطمع في دنيا و(الله)إني لا بغض عدوكم و أبرأ منه،و و الله ما ابغضه و أبرأ منه لوتر (46) كان بيني و بينه،و الله إني لاحل حلالكم،و احرم حرامكم،و أنتظر أمركم فهل ترجو لي جعلني الله فداك؟

فقال أبو جعفر عليه السلام:إلي،إلي،حتى أقعده إلى جنبه،ثم قال:أيها الشيخ،إن أبى علي بن الحسين عليهما السلام أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه،فقال له أبي عليه السلام :إن تمت ترد على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و على علي و الحسن و الحسين و علي بن الحسين،و يثلج قلبك و يبرد فؤادك و تقر عينك و تستقبل بالروح و الريحان مع‏الكرام الكاتبين لو بلغت نفسك ههناـو أهوى بيده إلى حلقهـو إن تعش ترى ما يقر الله به عينك (47) و تكون معنا في السنام الأعلى (48) .

فقال الشيخ:كيف قلت،يا أبا جعفر؟فأعاد عليه الكلام،فقال الشيخ:الله أكبر،يا أبا جعفر،إن أنا مت أرد على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و على علي و الحسن و الحسين و علي بن الحسينـصلوات الله عليهم أجمعينـو تقر عيني و يثلج قلبي و يبرد فؤادي و أستقبل بالروح و الريحان مع الكرام الكاتبين لو قد بلغت نفسي إلى ههنا،و إن أعش ارى ما يقر الله به عيني فأكون معكم في السنام الأعلى؟

ثم أقبل الشيخ ينتحب،ينشج هاهاها حتى لصق بالأرض،و أقبل أهل البيت ينتحبون و ينشجون لما يرون من حال الشيخ،و أقبل أبو جعفر،يمسح بأصبعة الدموع من حماليق عينيه (49) و ينفضها،ثم رفع الشيخ رأسه فقال لأبي جعفر عليه السلام:يابن رسول الله:ناولني يدك جعلني الله فداك،فناوله يده و قبلها و وضعها على عينيه و خده،ثم حسر عن بطنه و صدره فوضع يده على بطنه و صدره،ثم قام،فقال:السلام عليكم،و أقبل أبو جعفر عليه السلام ينظر في قفاه و هو مدبر،ثم أقبل بوجهه على القوم،فقال:من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا،فقال الحكم بن عتيبة:لم أر مأتما قط يشبه ذلك المجلس (50) ».

أقول:بعد ما لاحظت هذه الأخبار و الأحاديث التي هي قليلة من كثيرة فاعلمـوفقك اللهـأن حضور النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أمير المؤمنين و الأئمة من ولده عليهم السلام عند المحتضر من عقائد الإمامية و خصائصهم،و قد ثبت ذلك عندهم بإجماع الأكابرو نقل المتواتر،و بإرسالهم إياه إرسال المسلمات بحيث لا يختلجه ريب و لا يعتريه وهم حتى صارت هذه المسألة عندهم كواحد من الضروريات في مذهبهم،و هم أخذوا هذا الإعتقاد من أهل البيت عليهم السلام،بل اعترف و أقر به بعض أعاظم العامة كابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة الذي يأتي كلامه عند نقل أقوال العلماء في ذلك إن شاء الله تعالى.

و الذيـجدير بالذكرـهو أن الأخبار و الأحاديث التي شاهدتها في هذا الباب مختلفة في تعابيرها،يظهر من بعضها أنهم عليهم السلام يمثلون للمحتضر كقول الصادق عليه السلام:«و يمثل له رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و أمير المؤمنين عليه السلام و فاطمة الزهراء و الحسن و الحسين عليهم السلام»،و من بعضها أن المحتضر يراهم و يعرفهم كقول أمير المؤمنين عليه السلام:يا حار!لتعرفني عند الممات،و عند الصراط،و عند الحوض،و عند المقاسمة»،و كذا قول الصادق و الباقر عليهما السلام:«حرام على روح أن تفارق جسدها حتى ترى الخمسة محمدا صلى الله عليه و آله و سلم و عليا و فاطمة و حسن و حسين عليهم السلام»،و كذا قول الصادق عليه السلام:«رآه و رب الكعبة»قاله ثلاثا.

و يظهر من أكثرها و جلها أنهم عليهم السلام يحضرون عند الميت بأنفسهم الشريفة و أشخاصهم العينية،و يبشرونه و يلقونه،و يجلسون عند رأسه و عند رجليه،و يعرفونه لجبرئيل عليه السلام كقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم:يا علي!إن محبيك يفرحون في ثلاثة مواطن:عند خروج أنفسهم و أنت هناك تشهدهم...»،و قول الصادق عليه السلام:«ما يموت موال لنا إلا و يحضره رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و أمير المؤمنين و الحسن و الحسين عليهم السلام»،و أيضا:«ما من ميت يموت إلا حضر عنده محمد صلى الله عليه و آله و سلم و علي عليه السلام»،و أيضا:«حضره رسول الله و علي عليهما السلام»و أيضا:«فيدنو منه علي فيقول:يا رسول الله !إن هذا كان يحبنا أهل البيت،فيقول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:يا جبرئيل!إن هذا يحبنا»،و أيضا:«يأتيه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و علي عليه السلام يقولان له...».

أو كقول موسى بن جعفر عليهما السلام:«لا بد لنا من حضور جنائزكم في أي بلد كان وكنتم ...»أو كقول أبى عبد الله عليه السلام:«إذا حيل بينه و بين الكلام أتاه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و من شاء الله (51) ،فجلس رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عن يمينه،و الآخر عن يساره،فيقول له رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:أما ما كنت ترجو فهو ذا أمامك».

أقول:إن هذه الأخبار صريحة دالة على حضورهم عند المحتضر و إن كانت كيفية حضورهم لنا مجهولة،فلا يلزم الفحص عنها لنا،فإن شئت زيادة توضيح فلا حظ كلمات أعاظم العلماء في ذلك:

الثاني: أقوال العلماء حول حضور المعصومين عليهم السلام عند المحتضر:

1ـقال العلامة المجلسي رحمه الله:«اعلم أن حضور النبي صلى الله عليه و آله و سلم و الأئمةـصلوات الله عليهم أجمعينـعند الموت مما قد ورد به الأخبار المستفيضة،و قد اشتهر بين الشيعة غاية الإشتهار،و إنكار مثل ذلك لمحض استبعاد الأوهام ليس من طريقة الأخيار،و أما نحوة حضورهم و كيفيته فلا يلزم الفحص عنه،بل يكفي فيه و في أمثاله الإيمان به مجملا على ما صدر عنهم عليهم السلام (52) ».

2ـقال العلامة الطباطبائي رحمه الله:«أقول:و هذا المعنى(أي حضور الأئمة عليهم السلام)مروي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بطرق كثيرة جدا (53) ».

3ـقال النحرير الشيخ الحر العاملي رحمه الله:«و الأحاديث في ذلك(أي في حضور الأئمة عليهم السلام)أكثر من أن تحصى،و قد تجاوزت حد التواتر،و دلالتها قطعية (54) ».ـقال العلامة الفيض القاساني رحمه الله:«أقول:إن هذه الرؤية إنما تكون في النشأة البرزخية لا الحسية،و إن ذلك حقيقة لا تجوز فيه،و يشبه أن يكون رؤية المعصومينـصلوات الله عليهمـمختصة بمن غلب عليه ذكرهم في الحياة الدنيا إما لمحبة شديدة منه لهم،أو لبغض شديد،و تصديق ذلك قول الله عز و جل:/و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته/ (55) يعني المسيح على نبينا و عليه السلام (56) ».

5ـقال الشيخ الأقدم،المفيد رحمه الله:«القول في رؤية المحتضرين رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و أمير المؤمنين عليه السلام عند الوفاة:هذا باب قد أجمع عليه أهل الامامة،و تواتر به الخبر عن الصادقين من الأئمة عليهم السلام،و جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال للحارث الهمداني:

«يا حار همدان!من يمت يرني‏ 
من مؤمن أو منافق قبلا»

«يعرفني طرفه و أعرفه‏ 
بعينه و اسمه و ما فعلا»

في أبيات مشهورة،و فيه يقول إسماعيل بن محمد(الحميري)السيد رحمه الله:

و يراه المحضور حين تكون‏ 
الروح بين اللهاة (57) و الحلقوم

و متى ما يشاء أخرج للناس‏ 
فتدمى وجوههم بالكلوم (58) .

أقول:فانظر كيف ادعى رحمه الله الاجماع و تواتر الخبر في ذلك،كذلك العلامة المجلسي رحمه الله بقوله:«و إنكار مثل ذلك لمحض استبعاد الأوهام ليس من طريق الأخيار»،و كذلك العلامة الفيض رحمه الله بقوله:«إن ذلك حقيقة لا تجوز فيه»،أيضاالعلامة الطباطبائي و المحدث النحرير،الشيخ الحر العامليـرحمهما اللهـو كذلك ابن أبي الحديد بقوله:«إنه لا يموت ميت حتى يشاهده حاضرا عنده»و بقوله:«و ليس هذا بمنكر».و لم يذهب أحد من الأصحاب إلى تأويل هذه الأخبار و لا توجيهها،نعم،قال الشيخ الأجل،المفيد رحمه الله في ذيل العبارة الماضية بعد ادعائه الإجماع على حضورهم عليهم السلام عند المحتضر:«غير أني أقول فيه:إن معنى رؤية المحتضر لهما عليهما السلام هو العلم بثمرة ولايتهما أو الشك فيهما و العداوة لهما،أو التقصير في حقوقهما...».

و ذهبـأيضاـإلى هذا القول السيد الأجل،علم الهدىـتغمده الله برحمتهـبقوله:«قوله عليه السلام:«من يمت يرني»أنه يعلم في ذلك الحال ثمرة ولايته عليه السلام و إنحرافه عنه. ..و إنما اخترنا هذا التأويل لان أمير المؤمنين عليه السلام جسم فكيف يشاهده كل محتضر؟و الجسم لا يجوز أن يكون في الحالة الواحدة في جهات مختلفه... (59) ».

و أنا ما أقول شيئا في هذين الرجلين العظيمين السندين اللذين تفتخر بهما الإمامية بل جميع المسلمين في كل الأعصار،غير أني أعلم أن الأخبار الماضية الصريحة الناطقة بحضور النبي و أمير المؤمنين و الأئمة المعصومين عليهم السلام عند المحتضر لا توافق قولهما و لا تساعد رأيهما،و ما أنا بمتفرد بهذا بل يكون جمع من العلماء العظام معترضين على هذا التوجيه،و ههنا أنا أذكر كلامهم توضيحا للمرام:

قال العلامة المجلسي رحمه الله بعد ذكر خمسة أوجه و الخامس للسيد رحمه الله:«و لا يخفى أن الوجهين الأخيرين بعيدان عن سياق الأخبار،بل مثل هذه التأويلات رد للأخبار و طعن في الآثار...و يمكن أن يكون لهم أجساد مثالية كثيرة لما جعل‏الله لهم من القدرة الكاملة التي بها امتازوا عن سائر البشرـإلى أن قال:ـو الأولى في أمثال تلك المتشابهات الإيمان بها و عدم التعرض لخصوصياتها و تفاصيلها و إحالة علمها إلى العالم عليه السلام كما مر في الأخبار التي أوردناها في باب التسليم،و الله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم (60) ».

و قال الشيخ الجليل الحسن بن سليمان الحلي،تلميذ الشهيد الأولـرحمهما اللهـبعد نقل كلام الشيخ السعيد المفيد رحمه الله:«الشيخ رحمه الله اعترف بالحديث و صدقه لكنه أوله بمعنى علم المحتضر بثمرة ولايتهما و الشك فيهما و العداوة لهما و التقصير في حقوقهما على اليقين بعلامات يجدها في نفسه دون رؤية البصر لأعيانهما و مشاهدة النواظر لأجسادهما باتصال الشعاع،فيقال له:أهذا الذي أنكرت من رؤية البصر لأجسادهما بعينهما و قلت:إنه ليس المراد،بل المراد العلم بثمرة ولايتهما أو عداوتهما،قل:هل هو شى‏ء استندت فيه إلى برهان من الكتاب أو من السنة يجب التسليم له و الإنقياد إليه و الإعتماد عليه كما روي عن الصادق عليه السلام،أنه قال:«من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال،و من أخذ دينه من الكتاب و السنة زالت الجبال و لم يزل»أو أخذته من غيرهما (61) ».

و قال الشيخ الجليل الحسن بن سليمان الحلي،تلميذ الشهيد الأولـرحمهما اللهـبعد نقل كلام الشيخ السعيد المفيد رحمه الله:«الشيخ رحمه الله اعترف بالحديث و صدقه لكنه أوله بمعنى علم المحتضر بثمرة ولايتهما و الشك فيهما و العداوة لهما و التقصير في حقوقهما على اليقين بعلامات يجدها في نفسه دون رؤية البصر لأعيانهما و مشاهدة النواظر لأجسادهما باتصال الشعاع،فيقال له:أهذا الذي أنكرت من رؤية البصر لأجسادهما بعينهما و قلت:إنه ليس المراد،بل المراد العلم بثمرة ولايتهما أو عداوتهما،قل:هل هو شى‏ء استندت فيه إلى برهان من الكتاب أو من السنة يجب التسليم له و الإنقياد إليه و الإعتماد عليه كما روي عن الصادق عليه السلام،أنه قال:«من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال،و من أخذ دينه من الكتاب و السنة زالت الجبال و لم يزل»أو أخذته من غيرهما (62) ؟فإنا وجدنا هذا التأويل لا يوافق الأخبار الواردة عنهم عليه السلام الصريحة الصحيحة من أن الأموات يرون الأموات و الأحياء بعد الموت و كذلك الأحياء يرونهم حقيقة في اليقظة و النوم،و يرون أهاليهم و ما يسرهم فيهم و ما يغمهم،و نذكر إن شاء الله تعالى بعض ما رويناه في هذا المعنى و أنه حقيقة لا مجاز.

و منعه رحمه الله من رؤيته لهما عليهما السلام بسبب عدم اتصال الشعاع،جوابه أن يقال له:هبك علمت أن الرؤية في هذا العالم اتصال الشعاع من الرائي إلى المرئي فمن أين‏لك هذا الحكم يجري بعد الموت في عالم البقاء و الله سبحانه يقول:/و كان الله على كل شي‏ء مقتدرا/ (63) ،و يقول:/و يخلق ما لا تعلمون/ (64) ،و قد جاء في الحديث عنهم عليهم السلام:«لا تقدر عظمة الله تعالى على عقلك فتهلك،فقدرته سبحانه بلا كيف و لا يحيط بها العلم»،و لو سئل المنكر لرؤية المحتضر لهماـصلى الله عليهماـعند موته عيانا:هل يقدر الله سبحانه أن يري المحتضرين الحججـصلوات الله عليهم أجمعينـعند الممات و بعده كما أقدر النائم أن يرى من يراه في أبعد البلاد في حياة المرئي و بعد موته على صورته و قالبه الذى كان يعرفه به،و ربما أكل معه و شرب،و تحدنا بما قد يفيد العلم،أو لا يقدر؟لا سبيل إلى إنكار القدرة،فإذا جاز وقوعها فلا يجوز تأويله و العدول عن الظاهر من غير ضرورة و لا امتناع،و قد روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«من رآني فقد رآني فإني لا يتمثل بي الشيطان،و من رأى أحدا من أوصيائي فقد رآه فإنه لا يتمثل بهم الشيطان»،و هذا الحديث يعم في الحياة و بعد الممات،و هو نص في الباب (65) ».

و قال العلامة النوري رحمه الله:«السادس من الإحتمالات:أن يكون المراد من الحضور كشف الحجاب عن بصر المحتضر فيراهم عليهم السلام و هم في مستقرهم و مقامهم من ذلك العالم من دون حركة و سير منهم لذلك،كرؤية الناس جميعا كوكبا معينا في آن واحد في أمكنة متباعدة ...و مع ذلك كله فلا يساعده ما مر من الأخبار (66) ».

أقول:نعم،لا توافقه الأخبار،لأن الأخبار و الأحاديث صريحة بأن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يجلس عند رأس المحتضر،و علي عليه السلام عند رجليه أو يدنو منه،أويأتيه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم،أو أتاه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم،و هذه الأحاديث لا تساعد كشف الحجاب عن بصر المحتضر فيرونهم و هم عليهم السلام في مقامهم من دون حركة منهم (67) .

و قال المحدث الكبير و العالم الخبير،السيد نعمة الله الجزائري رحمه الله بعد نقل الأخبار الكثيرة في حضور النبي و أهل بيته الكرام عليهم السلام عند المحتضر:«و لم يذهب أحد من الأصحاب إلى تأويل هذا و لا إلى إنكاره.نعم،ذهب سيدنا الأجل علم الهدىـتغمده الله برحمتهـإلى تأويله فقال:معنى قوله:«من يمت يرني»أنه يعلم في ذلك الحال ثمرة ولايته عليه السلام و انحرافه عنه،لأن المحتضر قد روي أنه إذا عاين الموت و قاربه ارى في تلك الحال ما يدل على أنه من أهل الجنة و النار،و قد تقول العرب:رأيت فلانا،إذا رأى ما يتعلق به من فعل أو أمر يعود إليه،و إنما اخترنا هذا التأويل لأن أمير المؤمنين عليه السلام جسم فكيف يشاهده كل محتضر؟و الجسم لا يجوز أن يكون في الحالة الواحدة في جهات مختلفة،و لهذا قال المحصلون:إن ملك الأموات الذي يقبض الأرواح جنس،و لا يجوز أن يكون واحدا لأنه جسم (68) و الجسم لا يجوز أن يكون في حالة واحدة في أماكن متعددة،فقوله تعالى:/يتوفيكم ملك الموت/ (69) أراد به الجنس كما قال:/و الملك على أرجائها/ (70) .

هذا كلامه رحمه الله،و العجب منه كيف ارتكب تأويل هذه الأخبار الكثيرة مع أن‏بعضها من جهة صراحته في المطلوب غير قابل للتأويل لهذا الدليل العقلي،و قد أسلفنا الجواب عن كلامه رحمه الله و هو أن شيخنا المعاصرـأدام الله أيامهـبنى هذا على تعدد البدن المثالي فيكون لعلي عليه السلام أبدان متعددة كل بدن منها في مكان من الأمكنة المختلفة.

و أما الذي رجحناه نحن أخذا من مفاهيم الأخبار فهو القول بالتمثل،بأن الله سبحانه يمثل للميت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و أمير المؤمنين و الأئمة عليهم السلام كما مثله لأهل السماوات حين رآه النبي صلى الله عليه و آله و سلم في جميع السماوات واقفا يصلي و الملائكة تصلي خلفه فقال:هذا علي بن أبي طالب عليه السلام تركته في الأرض و ها هو قد سبقني إلى السماء،فقال الله عز و جل:هذا شخص مثل علي بن أبي طالب،خلقته في جميع السماوات حتى تنظر إليه الملائكة فتطمئن إليه نفوسهم من شدة حبهم لعلي بن أبي طالب عليه السلام.

و يويده ما رواه الكليني في رواية سدير الصيرفي،عن مولانا عليه السلام في قول ملك الموت للمحتضر:افتح عينيك فانظر،قال:«و يمثل له رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة من ذريتهم عليهم السلام»،فيكون عليه السلام يأتي إلى بعض المحتضرين بنفسه الشريفة و صورته الأصلية،و يأتى إلى بعض آخر بصورته الممثلة المشابهة لتلك الصورة الأصلية،و هذا غير الجواب الأول الذي بني على البدن المثالي،و هذا التمثل من باب ما رواه شيخنا الكلينيـطاب ثراهـقال:قال أمير المؤمنين عليه السلام:«إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا،و أول يوم من أيام الآخرة مثل له ماله و ولده و عمله (71) ...».

أقول:و في كلام السيد الجزائري رحمه الله نظر يأتي في معنى التمثيل في هذا الباب إن شاء الله تعالى.و قال العلامة الشهيد،السيد محمد علي القاضي الطباطبائي رحمه الله في تعليقته على«الأنوار النعمانية»:«إعلم أن الاعتقاد بحضور النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أمير المؤمنين بل الأئمة من ولده عليهم السلام عند المحتضر من اعتقادات الأمامية و من العقائد الحقة الخاصة بهم،و عليه ضرورة مذهبهم،و قد أخذوا و تعلموا هذا الإعتقاد عن أهل البيت سلام الله عليهم،و الدليل العقلي الذي أوجب لسيدنا علم الهدى رحمه الله و شيخه الأعظم،شيخنا المفيد رحمه الله أن ذهبا إلى تأويل الدلائل النقلية الواردة عن أئمتنا عليهم السلام فهو بالنظر إلى الأجسام الطبيعية المادية و مكانها دليل تام لا شك فيه بحسب الظاهر،فإن من الواضح أن حضور الجسم الواحد في آن واحد و حالة واحدة في أمكنة متعددة و جهات مختلفة غير ممكن،و لكن لما لم يتحقق في زمن السيد رحمه الله هذه المباحث على نحو التحليل العلمي،لذا ذهب السيد رحمه الله إلى ذلك التأويل،و أما اليوم فقد حقق في محله أن حضورهم عليهم السلام عند المحتضر لا ينحصر أن يدن في مكان الأجسام الطبيعية كما يتخيل في بادي النظر حتى يرد ذلك الإشكال العقلي،بل من الممكن أن يكون حضورهم في مكان الأجسام اللطيفة أو مكان الأرواح المجردة....

و لهم عليهم السلام بحسب نفوسهم القدسية القدرة و الإستعداد بالتصرف في جميع الأمكنة من أمكنة الأجسام الكثيفة و اللطيفة و الأرواح الأدنى و الوسطى و العليا،و إحاطة التصرف في عالم الملك و الملكوت بإذن الله تعالى و إقداره.نعم،إن كان المكان منحصرا إلى مكان الجسم المادى فقط فيرد حينئذ ذلك الإشكال العقلى،و لكن ليس كذلك (72) ».

و عنه رحمه اللهـأيضا:«و مما هو جدير بالذكر هنا أن لبعض المحققين في تحقيق تعدد الأمكنة كلمة قيمة لا مجال لذكرها تفصيلا،و أما إجمالها فهو:«أن قسم‏المكان على ستة أقسام،ثلاثة منها في الأجسام،و من الأجسام الكثيفة و المتوسطة و اللطيفة،و ثلاثة منها للأرواح من الأرواح الأدنى و الوسطى و العليا،و يختلف تزاحم الأجسام في تلك الأمكنة بعضها مع بعض و عدمه،و سرعة الحركة و السير فيها أيضا مختلفة،و للأنبياء و الأولياء المعصومين عليهم السلام مراتب و درجات،و لهم بحسب نفوسهم القدسية القدرة و الاستعداد بالتصرف في جميع تلك الأمكنة و الإحاطة بجميع الملك و الملكوت بإذن الله تعالى و إقداره».

و بعد إمعان النظر و التأمل فيما ذكره ينحل بعض الشبهات و الإشكالات التي يتخيلها الإنسان كحضور الأئمة عليهم السلام في آن واحد في أمكنة متعددة و سيرهم في مدة قليلة إلى مسافة كثيرة بعيدة،و أمثال ذلك،و أظن أن وجود تلك الأمكنة و سرعة الحركة فيها و تفاوتها في هذا العصر من البديهيات،و أكثرها من المشاهدات و الحسيات،و راجع إلى كتاب«وسيلة المعاد»للعلامة الجليل المولى حبيب الله القاساني رحمه الله تجد تفصيل ما ذكرناه (73) ».

نظر المؤلف في المسألة:

و لما بلغ الكلام في هذا البحث إلى هنا جدير بنا أن نشير إلى نكتة مهمة ينبغي التوجه إليها و هي:إن للخلقة أسرارا،و لكل من العوالم سننا و أطوارا،فإن عالم الطبيعة أضيق العوالم و أخسها،و عالم الآخرة أوسع العوالم و أشرفها،و لكل واحد منهما نظام خاص و سنن معينة فعلى هذا إياك أن تقايس بين النظامين،و أن تجري أحكام كل واحد منهما على الآخر،فإن من شؤون هذا العالم العنصري الطبيعي عدم إمكان وقوع جسم واحد في وقت واحد في أمكنة متعددة،و قول من يقول:«كيف يمكن أن يكون جسم واحد في آن واحد و حالة واحدة في أمكنة متعددة؟»صحيح واضح لا شك فيه،و لكن فيه قياس نظام هذا العالم‏المادي بنظام عالم الآخرة،و الحال أن للآخرة نظاما خاصا و أحكاما معينة مخصوصة بها،و أن سننها لا تطابق سنن الدنيا فى جميع الشؤون،فلا يرد الإشكال المذكور من حضور النبي صلى الله عليه و آله و سلم و الأئمة من ولده عليهم السلام عند المحتضر بأشخاصهم و أنفسهم الشريفة(لأن حضورهم عليهم السلام إنما يقع في أول مرحلة من مراحل الآخرة.)و هذا التفاوت بين النظامين منصوص عليه في بعض الآيات و الأخبار الواردة عن المعصومين،فها إليك بعض نصوصها:

فأما الآيات فهى:

نظام الدنيا:/إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا/ (74) .

نظام الآخرة:/فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة/ (75) .

نظام الدنيا:/و جاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد/ (76) .

نظام الآخرة:/و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون/ (77) .

نظام الدنيا:/هو الذي جعل الشمس ضياء و القمر نورا و قدره منازل لتعلموا عدد السنين و الحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون/ (78) .

نظام الآخرة:/متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا و لا زمهريرا/ (79) .

فالإمعان في هذه الآيات الشريفة يشهد لما قلناه من تفاوت النظامين،فإن تكون الإنسان و خلقته يكون في الدنيا من نطفة أمشاج بخلاف الآخرة فإن الإنسان يقوم فيها من زجرة واحدة لا من مني يمنى كما يكون في الدنيا.و أيضا،إن الموت و الهلاك في الدنيا من السنن القطعية و إن الآخرة لهي الحيوان،لا هلاك فيها و لا ممات.

و أيضا،إن من أهم سنن الدنيا جريان الشمس و القمر،و الحال أنهما في الآخرة جمعا و كورا فلا يكون فيها شمس و لا قمر.

و أما الاخبار فهى:

1ـعن أبي الحسن الرضا عليه السلام،أنه قال:«إن الشمس و القمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له،و ضوؤهما من نور عرشه،و حرهما من جهنم،فإذا كانت القيامة عاد إلى العرش نورهما،و عاد إلى النار حرهما،فلا يكون شمس و لا القمر (80) ».

2ـو عنه عليه السلام:«إن أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن:يوم يلد و يخرج من بطن امه فيرى الدنيا،و يوم يموت فيعاين الآخرة و أهلها،و يوم يبعث حيا فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا (81) ».

3ـقال رجل:«يا رسول الله!هل في الجنة من ليل؟قال:و ما هيجك على هذا؟قال:سمعت الله يذكر في الكتاب:/و لهم رزقهم فيها بكرة و عشيا/ (82) ،فقلت:الليل من البكرة و العشي،فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:ليس هناك ليل و أنما هو ضوء و نور،يرد الغدو على الرواح و الرواح على الغدو،و تأتيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلوات التي كانوا يصلون فيها في الدنيا،و تسلم عليهم الملائكة (83) ».

4ـفي تفسير علي بن إبراهيم رحمه الله:«قوله:/النار يعرضون عليها غدوا و عشيا/ (84) ،قال:ذلك في الدنيا قبل القيامة،و ذلك أن في القيامة لا يكون غدو و عشي،لأن الغدو إنما يكون في الشمس و القمر،و ليس في جنان الخلد و نيرانها شمس و لا قمر (85) ».

أقول:فلاحظ كيف أثبت أبو الحسن الرضا عليه السلام أحكاما للآخرة لم تكن معهودة في الدنيا بقوله عليه السلام:«فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا»،و قوله:«فلا يكون شمس و لا قمر»،و كذلك قول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:«ليس هناك ليل و إنما هو ضوء و نور»،و كذلك ما ذكر في تفسير علي بن إبراهيم رحمه الله من نفي الغدو و العشي في القيامة،و الحال أنه من أهم سنن الدنيا جريان الشمس و القمر و الليل و النهار و العشي و الغدو،فيستفاد من ذلك كله أن نظام الآخرة مغاير لنظام الدنيا،و المقايسة بين أحكامهما غير صحيحة،و أن لكل من العالمين نظاما خاصا لا تجري أحكام أحدهما على الآخر.

فالآن أقول:اشهد الله،أن المستفاد لي من مفاهيم الأخبار الكثيرة و من بعض الآيات القرآنية (86) بمعونة الأخبار هو حضور النبي صلى الله عليه و آله و سلم و علي و الأئمة من ولده عليهم السلام عند المحتضر بأشخاصهم،و أنفسهم الشريفة،و أعيانهم المباركة،و إن لم تكن كيفية حضورهم لنا معلومة مشهودة،لا ما ذهب إليه العلمان السندان:سيدنا الأجل،علم الهدى،الشريف المرتضى،و شيخنا المعظم السعيد،المفيدـرحمهما الله تعالى و تغمدهما برحمته و غفرانهـمن أن المقصود من حضور النبي و أهل بيته الكرام عليهم السلام هو العلم بثمرة ولايتهم و رؤية أثر محبتهم أو بغضهم و عداوتهم.

و لعمري،إن طرح تلك الأخبار الكثيرة التي جاوزت حد التواتر و تضعيفها أولى و أحرى من إرتكاب هذا التأويل،فإنه لم يتبين لي كيف أولا الأحاديث التي‏هي صريحة في المطلوب و ناطقة بالمقصود بما ذهبا إليه،كقوله عليه السلام:«يحضره رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و أمير المؤمنين و الحسن و الحسين عليهم السلام»،أو:«ما من ميت يموت إلا حضره محمد صلى الله عليه و آله و سلم و علي عليه السلام»،أو:«فجلس رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عن يمينه و الآخر عن يساره»،أو«يا حار!لتعرفني عند الممات»،أو:«يجلس رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عند رأسه،و علي عليه السلام عند رجليه»،أو:«يا ولي الله أنا علي بن أبي طالب»،أو:«فيقوم علي عليه السلام حتى يكب عليه»أو:«فيقول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:يا ولى الله!أبشر،أنا رسول الله،إنى خير لك»،أو:«يا على!إن محبيك يفرحون في ثلاثة مواطن:عند خروج أنفسهم و أنت هناك تشهدهم،و عند المسألة في القبور و أنت هناك تلقنهم،و عند العرض على الله و أنت هناك تعرفهم»،أو:«فيقول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:يا جبرئيل!إن هذا كان يحبنا أهل البيت»،أو كقول ملك الموت:«أبشر بالسلف الصالح مرافقة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و علي و فاطمة عليهما السلام»،أنشدك الله أيها القارى‏ء هل تفهم من هذه الأخبار غير ما ذكرناه؟أمعن النظر فيها و اجعل نفسك قاضيا.

إن قلت:يحتمل أن يحمل و يأول هذه الأخبار على حضورهم عليهم السلام نحو التمثل و المثال و الصورة،لا على نحو الحقيقة و العينية و الواقعية كما يدل على هذا حديث التمثل (87) .

قلت:هذا الوجه و إن تعرض له العلامة المجلسي رحمه الله على وجه الإحتمال و الإمكان بقوله :«يمكن أن يخلق الله تعالى لكل منهم مثالا بصورته،و هذه الأمثلة يكلمون الموتى و يبشرونهم من قلبهم عليهم السلام كما ورد في بعض الأخبار بلفظ التمثيل (88) ،و اختارهـأيضاـتلميذه السيد نعمة الله الجزائري رحمه الله على نحو الحتم والجزم بقوله :«و أما الذي رجحناه نحن أخذا من مفاهيم الأخبار فهو القول بالتمثل...فيكون عليه السلام (يعني رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم)يأتي إلى بعض المحتضرين بنفسه الشريفة و صورته الأصلية،و يأتي إلى بعض آخر بصورته الممثلة المشابهة لتلك الصورة الأصلية... (89) »إلا أن هذا مضافا إلى مخالفته للأخبار الماضية الناطقة بأنهم عليهم السلام يحضرون عند المحتضر بأعيانهم لا أمثالهم و أشباههم و صورتهم المشابهة لصورتهم الأصلية مناف لما في ذيل حديث التمثل،إذ جاء في ذيله:«فيقال له:هذا رسول الله و أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسينـصلوات الله عليهمـرفقاؤك».

و هذه العبارات لا تساعد التمثل المذكور بتا،أعني أنه لا يجوز أن يقال لأشباههم عليهم السلام:هذا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و أمير المؤمنين عليه السلام و هكذا سائر الأئمة عليهم السلام،وـأيضاـإن معنى التمثل غير المثول و هو الانتصاب بين يدي أحد أو الحضور عنده،و يمكن أن يقرأ ما في الحديث على صيغة المجرد فيكون بهذا المعنى دون التمثل،و الشاهد على ذلك ما جاء في البحار عن محمد بن علي عليهما السلام،قال:«مرض رجل من أصحاب الرضا عليه السلام فعاده فقال:كيف تجدك؟قال:لقيت الموت بعدك؟ـيريد ما لقيه من شدة مرضهـفقال عليه السلام:كيف لقيته؟قال:شديدا أليما،قال:ما لقيته إنما لقيت ما يبدؤك به يعرفك بعض حاله،إنما الناس رجلان:مستريح بالموت،و مستراح منه،فجدد الإيمان بالله و بالولاية تكن مستريحا،ففعل الرجل ذلك،ثم قال:يابن رسول الله!هذه ملائكة ربي بالتحيات و التحف يسلمون عليك و هم قيام بين يديك،فأذن لهم بالجلوس.

فقال الرضا عليه السلام:اجلسوا ملائكة ربي،ثم قال للمريض:سلهم امروا بالقيام بحضرتي؟فقال المريض:سألتهم فذكروا أنه لو حضرك كل من خلقه الله من‏ملائكته لقاموا لك و لم يجلسوا حتى تأذن لهم،هكذا أمرهم الله عز و جل،ثم غمض الرجل عينيه،و قال:السلام عليك يابن رسول الله،هذا شخصك ماثل لي مع أشخاص محمد صلى الله عليه و آله و سلم و من بعده من الأئمة عليهم السلام و قضى الرجل (90) ».

أقول:و الشاهد قوله«ماثل لي»حيث اطلق عليه عليه السلام و على رسول الله و الأئمة المعصومين عليهم السلام،و هو فاعل من الثلاثي المجرد،لا يقال:هو ماض من المفاعلة،لأنه من هذا الباب لم يستعمل إلا للمشابهة و هو غير مناسب هنا (91) ».

و مما يسهل الأمر و يؤيد حضورهم(ع) بأنفسهم الشريفة عند المحتضرين في ساعة واحدة في أمكنة مختلفة الأخبار المشتملة لوعدهم (ع) زيارة زائريهم و مواليهم بعد الموت كقول أبي عبد الله الصادق(ع) «من زارني في حياته زرته بعد وفاته» (92) ، و عند تطاير الكتب،و عند الصراط،و عند الميزان،كقول أبى الحسن الرضا عليه السلام:«من زارني على بعد داري و شطون مزاري أتيته يوم القيامة في ثلاثة مواطن حتى اخلصه من أهوالها :إذا تطايرت الكتب يمينا و شمالا،و عندالصراط،و عند الميزان (93) »،أو حضورهم عند جنائز مواليهم في أي بلد كانوا كقول ابي الحسن الكاظم عليه السلام:إنى و من يجري مجراي من الأئمة لا بد لنا من حضور جنائزكم في أي بلد كنتم،فاتقوا الله في أنفسكم (94) »،وـأيضاـالأخبار الناطقة بأن من رآهم فقد رآهم كقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم :«من رآني في منامه فقد رآني لأن الشيطان لا يتمثل في صورتي و لا في صورة أحد من أوصيائي (95) ».

فإن المناط و المعيار في كل هذه الموارد واحد،فإذا يمكن لهم عليهم السلام أن يجيئوا لزيارة الوف الجنائز لمواليهم،أو ملايين نفر من زائريهم في المواطن الثلاثة المذكورة في حديث أبى الحسن الرضا عليه السلام في ساعة واحدة و في أمكنة متعددة فكذلك يمكن لهم أن يحضروا عند آلاف من المحتضرين بلا فرق بين الموارد أصلا،لأن حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز سواء.