
الفصل 10: سيرة الإمام على عليه السلام في مطعمه و ملبسه
1ـروى إبراهيم الثقفي عن سويد بن غفلة قال:«دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام القصر
فإذا بين يديه قعب(لبن)أجد ريحه من شدة حموضته،و في يده رغيف ترى قشار الشعير على وجهه
و هو يكسره و يستعين أحيانا بركبته،و إذا جاريته(فضة)قائمة(على رأسه)،فقلت لها:يا فضة
أما تتقون الله في هذا الشيخ لو نخلتم دقيقه؟فقالت:إنا نكره أن يؤجر و نأثم و قد أخذ
علينا أن لا ننخل له دقيقا ما صحبناه،فقال علي عليه السلام:ما يقول؟قالت:سله،فقلت له
ما قلت لها:لو ينخلون دقيقك فبكى ثم قال:بأبي و أمي من لم يشبع ثلاثا متوالية من خبز
بر حتى فارق الدنيا و لم ينخل دقيقهـقال:يعني رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم (1) ».
2ـوـأيضاـعن بكر بن عيسى،قال:«حدثنا جعفر بن محمد بن علي،عن أبيه عليه السلام،قال:كان
علي عليه السلام يطعم الناس بالكوفة الخبز و اللحم،و كان(له)طعام على حدة،فقال قائل
من الناس:لو نظرنا إلى طعام أمير المؤمنين ما هو؟فأشرفوا عليه،و إذا طعامه ثريدة بزيت
مكللة بالعجوة،و كان ذلك طعامه و كانت العجوةتحمل إليه من المدينة (2) ».
3ـأيضا عن معاوية بن عمار،قال:حدثنا جعفر بن محمد بن علي عليهم السلام قال:«ما اعتلج
على علي عليه السلام أمران لله قط،إلا أخذ بأشدهما،و ما زال عندكم يأكل مما عملت يده
يؤتى به من المدينة،و إن كان ليأخذ السويق فيجعله في الجراب،ثم يختم عليه مخافة أن يزاد
فيه من غيره،و من كان أزهد في الدنيا من علي عليه السلام؟! (3) ».
4ـوـأيضاـعن جعفر بن محمد عليهما السلام قال:«أعتق علي عليه السلام ألف مملوك مما عملت
يداه،و إن كان عندكم إنما حلواه التمر و اللبن،و ثيابه الكرابيس،و تزوج عليه السلام
ليلى فجعل له حجلة فهتكها،و قال:حسب أهل علي ما هم فيه (4) ».
5ـو قال أبو جعفر الإسكافي:«و بلغ من صبره ما أن كان الجوع إذا اشتد به و أجهده خرج
يؤجر نفسه في سقي الماء بكف تمر لا يسد جوعته و لا خلته،فإذا أعطي اجرته لم يستبده وحده
حتى يأتي به رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و به من الجوع مثل ما به،فيشتر كان
جميعا في أكله (5) ».
6ـو قال عليه السلام في كتابه لعثمان بن حنيف:«و لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا
العسل،و لباب هذا القمح،و نسائج هذا القز،و لكن هيهات أن يغلبني هواي،و يقودني جشعي
إلي تخير الأطعمة،و لعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص،و لا عهد له بالشبع،أو
أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى و أكباد حرى،أو أكون كما قال القائل:
و حسبك داء أن تبيت ببطنة
و حولك أكباد تحن إلى القد
أ أقنع من نفسي بأن يقال:أمير المؤمنين،و لا اشاركهم في مكاره الدهر،أوأكون أسوة لهم
في جشوبة العيش؟فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها،أو المرسلة
شغلها تقممها،و تكترش من أعلافهاـإلى أن قال:ـلأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص
إذا قدرت عليه مطعوما،و تقنع بالملح مأدوما،و لأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها،مستفرغة
دموعها،أتمتلىء السائمة من رعيها فتبرك و تشبع الربيضة من عشبها فتربض،و يأكل علي من
زاده فيهجع،قرت إذا عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة و السائمة
المرعية (6) ».
و قال محمد عبده في شرحه:«كانـكرم الله وجههـإماما علي السلطان،واسع الإمكان،و لو أراد
التمتع بأي اللذائذ شاء لم يمنعه مانع،و هو قوله«لو شئت لاهتديتـالخ».و القز:الحرير،و
الجشع:شدة الحرص،و جملة«و لعلـالخ»حالية عمل فيها تخير الأطعمة،أي هيهات أن يتخير الأطعمة
لنفسه و الحال أنه قد يكون بالحجاز أو اليمامة من لا يجد القرصـأي الرغيفـو لا طمع له
في وجوده لشدة الفقر،و لا يعرف الشبع،و هيهات أن يبيت مبطانا أي ممتلىء البطن و الحال
أن حوله بطونا غرثىـأي جائعةـ،و أكبادا حرىـمؤنث حران أي عطشان،و البطنةـبكسر الباءـ
:البطر و الأشر و الكظة،و القدـبالكسرـ:سير من جلد غير مدبوغ،أي أنها تطلب أكله و لا
تجده،الجشوبة:الخشونة،التقاطها للقمامة أي الكناسة،و تكترش أي تملأ كرشها،لأروضن:أذللن،و
تهش أي تنبسط إلى الرغيف و تفرح به من شدة ما حرمها،و مطعوما حال من القرص كما أن مأدوما
من الملح،أي مأدوما به الطعام،و لأدعنـالخ أي لأتركن مقلتي أي عيني و هي كعين ماء نضب
أي غار معينهاـبفتح و كسرـأي ماؤها الجاري،مستفرغة دموعها أي أبكي حتى لا يبقى دمع،و
الربيضة:الغنم مع رعاتها إذا كانتفي مرابضها،و الربوض للغنم كالبروك للإبل،يهجع أي
يسكن كما سكنت الحيوانات بعد طعامها،الهاملة:المسترسلة،و الهمل من الغنم:ترعى نهارا
بلا راع».
7ـ«أتى(علي عليه السلام)سوق الكرابيس فإذا هو برجل و سيم،فقال:يا هذا!عندك ثوبان بخمسة
دراهم؟فوثب الرجل فقال:نعم،يا أمير المؤمنين!فلما عرفه مضى عنه و تركه،فوقف على غلام
فقال له:يا غلام!عندك ثوبان بخمسة دراهم؟فقال:نعم،عندي ثوبان أحدهما أخير من الآخر،واحد
بثلاثة و الآخر بدرهمين،قال:هلمهما،فقال:يا قنبر!خذ الذي بثلاثة،قال:أنت أولى به،يا
أمير المؤمنين،تصعد المنبر و تخطب الناس،فقال:يا قنبر!أنت شاب و لك شرة الشباب (7) ،و أنا أستحيي من ربي أن أتفضل عليك،لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول
:ألبسوهم مما تلبسون،و أطعموهم مما تأكلون.ثم لبس القميص و مد يده في ردنه (8) فإذا هو يفضل عن أصابعه،فقال:يا غلام!اقطع هذا الفضل،فقطعه،فقال الغلام:هلمه أكفه يا
شيخ،فقال:دعه كما هو فإن الأمر أسرع من ذلك (9) ».
8ـو عن ابن شهر آشوب:«فلما لبس القميص مدكم القميص فأمر بقطعه و اتخاذه قلانس للفقراء (10) ».
9ـعن أبي إسحاق السبيعي،قال:«كنت على عنق أبي يوم الجمعة،و أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليه السلام يخطب و هو يتروح بكمه،فقلت:يا أبه!أمير المؤمنين يجد الحر؟فقال لى
:لا يجد حرا و لا بردا،و لكنه غسل قميصه و هو رطب و لا له غيره فهو يتروح به (11) ».ـعن عبد الله بن أبي الهذيل،قال:«رأيت علي بن أبي طالب عليه السلام و عليه قميص له،إذا
مده بلغ أطراف أصابعه،و إذا قبضه تقبض حتى يكون إلى نصف ساعده (12) ».
و عن أبى الأشعث العنزي،عن ابيه قال:و«رأيت علي بن أبي طالب عليه السلام،و قد اغتسل
في الفرات يوم الجمعة،ثم ابتاع قميص كرابيس بثلاثة دراهم،فصلى بالناس فيه الجمعة،و ما
خيط جربانه بعد (13) ».
11ـقال الغزالي في«الإحياء»:«كان علي بن أبي طالب يمتنع من بيت المال حتى يبيع سيفه،و
لا يكون له إلا قميص واحد في وقت الغسل.لا يجد غيره (14) ».
12ـذكر أبوبكر،أحمد بن مروان المالكي بسنده عن هارون بن عنزة،عن أبيه،قال:«دخلت على
علي بن أبي طالب رضى الله عنه بالخورنق و عليه قطيفة،و هو يرعد من البرد،فقلت:يا أمير
المؤمنين!إن الله قد جعل لك،و لأهل بيتك نصيبا في هذا المال،و أنت تفعل بنفسك هذا؟فقال
:إني و الله،لا أرزء من أموالكم شيئا،و هذه القطيفة التي أخرجتها من بيتيـأو قال من المدينةـ (15) ».
13ـو عنه عليه السلام:«و الله،لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها،و لقد قال
لي قائل:ألا تنبذها عنك؟فقلت:اعزب عني،فعند الصباح يحمد القوم السرى (16) ».
أقول:إن هذه الأخبار و ما شابهها يدل على أن الواجب على الولاة أن يقدرواأنفسهم بضعفة
الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره،و لا يطغي الغني غناه،و لا يزال هذا الفرض مادام في رعيتهم
فقير لا يكفي معونته مؤونته،و لذلك ورد في سيرة القائم عليه السلام أنه يلبس ثياب علي
عليه السلام و يسير بسيرته،و أما إذا كان الإمام إو الولي الشرعي مقبوض اليد غير متصرف
في الأمور فحاله حال سائر الناس في المطعم و الملبس،فإن خير لباس كل زمان لباس أهله،فالمعيار
في هذه الامور المواساة مع ضعفة الناس،و أما إذا ما رفع الفقر و الضعف فأحق من يتمتع
بنعم الله تعالى الامام و الوالي».
تعليقات:
1ـالثقفي:الغارات،ج 1:ص 87.و نخل الدقيق،غربله.
2ـالثقفي:الغارات،ج 1:ص 85.و مكللة:محفوفة،و العجوة:نوع من التمر.
3ـالمصدر،ص 81.و اعتلج:اجتمع.
4ـالمصدر،ص .92
5ـالاسكافي:المعيار و الموازنة،ص .238
6ـنهج البلاغة،قسم الرسائل/الرقم .45
7ـأي حرصه و نشاطه.
8ـالردنـبالضمـ:أصل الكم.
9ـالثقفي:الغارات،ج 1:ص 106.و كف الثوب:خاط حاشيته،و هو الخياطة الثانية بعد الثل.
10ـإبن شهر آشوب:مناقب آل أبي طالب،ج 2:ص .97
11ـالثقفي:الغارات،ج 1:ص 98 و .96
12ـالثقفي:الغارات،ج 1:ص 98 و .96
13ـالمصدر،ص 97.و الجربانـبالضم و التشديدـ:جيب القميص،معرب گريبان.
14ـإبن شهر آشوب:مناقب آل ابي طالب،ج 2:ص .97
15ـالإمام علي أسد الاسلام و قديسه،ص 84،ط بيروت.
16ـنهج البلاغة،خ 158.و قوله:«يحمد القوم السرى»مثل يضرب للرجل يحتمل المشقة للراحة
(راجع«مجمع الأمثال»للميداني فيما أوله عين).