الفصل 28: الإمام علي عليه السلام عند أصحابه و مواليه

إن أصحابه عليه السلام كثيرون،و نحن نذكر هناـإن شاء الله تعالىـمن وفد منهم على معاوية بن أبي سفيان بعد شهادته عليه السلام ذكورا و إناثا لاشتمال أحوالهم و قصصهم على جلالته عليه السلام عندهم و موقعيته لديهم و ما وصفوا من سيرته و عدله ثم على وفائهم له عليه السلام.

1ـقال العلامة الشيخ جعفر النقدي رحمه الله:«لما اجتمع الناس إلى معاوية بن أبي سفيان كتب إلى زياد بن سمية و كان عامله بالكوفة:أوفد علي أشراف أصحاب علي بن أبي طالب و لهم الأمان،و ليكونوا عشرة نفر،خمسة من أهل الكوفة و خمسة من أهل البصرة،فلما ورد عليه الكتاب بعث إلى حجر ابن عدي،و عدي بن حاتم الطائي،و عمرو بن الحمق الخزاعي و هانى‏ء بن عروة المرادي،و عامر بن واثلة الكنانيـو كان يكنى بأبي الطفيلـو دعاهم تجهزوا إلى أمير المؤمنين فقد جعل لكم الأمان و أحب رؤيتكم.

و كتب إلى خليفته بالبصرة أن أوفد إلي الأحنف بن قيس،و صعصعة ابن صوحان،و حارثة بن قدامة السعدي،و خالد بن معمر السدوسي،و شريك ابن الأعور.فلما قدموا عليه أشخصهم جميعا إلى معاوية،فلما قدموا على معاويةحجبهم يومهم و ليلتهم،و بعث إلى رؤساء الشام،فلما جاؤوا و أخذوا مجالسهم قال معاوية لصاحب إذنه:أدخل علي حجر بن عدي.

فلما دخل و سلم،قال له معاوية:يا ابن الأدبر القبيح المنظر أنت القاطع منا الأسباب،و الملتمس بحربنا الثواب،و المساعد علينا أبا تراب؟فقال حجر:صه يا معاوية لا تذكر رجلا كان لله خائفا،و لما يسخطه عائفا،و بما يرضى الله عارفا،خميص الضلوع،طويل الركوع،كثير السجود،ظاهر الخشوع،قليل الهجوع،قائما بالحدود،طاهر السريرة،محمود السيرة،نافذ البصيرة،ملك أمرنا فكان كبعضنا،لم يبطل حقا،و لم يظلم أحدا...ثم بكى حتى نشج،ثم رفع رأسه فقال:أما توبيخك إياي فيما كان من نفسي،فاعلم يا معاوية أني غير معتذر إليك مما فعلت،و لا مكترث مما صنعت،فأعلن بسرك،و أظهر أمرك.

فقال معاوية لصاحب إذنه:أخرجه عني و أدخل علي عمرو بن الحمق الخزاعي.فلما دخل عليه قال له معاوية:يا أبا خزاعة فارقت الطاعة،و أشهرت علينا سيفك،و أهديت إلينا حيفك،فأطلت الإعراض،و شتمت الأعراض،و دلاك بغرور جهلك المحذور،فكيف رأيت صنع الله بصاحبك؟قال:فبكى عمرو حتى سقط لوجهه،فرفعه الشرطي فقال:يا معاوية بأبي و امي من ذكرت و تنقصت،كانـو اللهـالعالم بحكم الله،المجد في طاعة الله،المحدود في غيظ الله،الزاهد في الفانية،الراعب في الباقية،لا يظهر منكرا،و لا يظهر تجبرا،يعمل بما يرضى الله عنه...فقد مزقنا فقده،و تمنينا الموت بعده.

فقال معاوية لصاحب إذنه:أخرجه عني و أدخل علي عدي بن حاتم الطائي.فلما دخل عليه قال له معاوية:ما أبقى الدهر من ذكر علي بن أبي طالب؟فقال عدي:فهل رعي إلا ذكره؟قال:و كيف حبك له؟فتنفس الصعداء و قال:حبي و الله،جديد لا يبيد،و قد تمكن من شغاف الفؤاد إلى يوم المعاد.و قد امتلا من حبه صدري،و فاض فى جسدي و فكري فقال الامويون:يا أمير المؤمنين أصبح‏عدي بعد صفين ذليلا،فبكى عديـرحمه اللهـو أنشأ يقول:

يجادلني معاوية بن حرب‏ 
و ليس إلى الذي يبغي سبيل

يذكرني أبا الحسن عليا 
و خطبي في أبي حسن جليل

فكان جوابه مني شديدا 
و يكفى مثله مني القليل

و قد قال الوليد و قال عمرو: 
عدي بعد صفين ذليل

فقلت:قد صدقتم هدركني‏ 
و فارقني الذين بهم أصول

سيخسر من يوادده ابن هند 
و يربح من يوادده الرسول

فقال معاوية لصاحب إذنه:أخرجه و أدخل علي عامر بن واثلةـو كان يكنى أبا الطفيلـ،فلما دخل عليه رحب معاوية،فقال أصحابه:من هذا الذي رحبت به يا أمير المؤمنين؟فقال:هذا خليل أبي تراب،و فارس أهل العراق،و شاعرهم يوم صفين،فقالوا:الام فارس،و أفحش شاعر،و نالوا منه،فغضب أبو الطفيل و قال:أما و الله يا معاوية ما هؤلاء سبوني،و لا أدري من هم،و إنما أنت شتمتني،فأخبرني من هم؟و إلاـو حق عليـشتمتك فقال معاوية:هذا عمرو بن العاص،و هذا مروان بن الحكم،و هذا سعيد بن العاص،و هذا ابن اختي.

فقال أبو الطفيل:أما عمرو فأنطقته جباية مصر،و أما مروان و سعيد فأنطقتهما جباية الحجاز،و أما ابن اختك فقد وهبته لك،فقال معاوية:يا أبا الطفيل ما أبقى الدهر لك من حب علي؟قال :و الله حب ام موسى لموسى،و أشكو إلى الله التقصير.قال:فما أبقى لك الدهر من وجدك عليه؟قال :وجد العجوز المقلاة و الشيخ الرؤوف.قال:فما ابقي من بغضك لنا؟قال:بغض آدم لإبليس لعنه الله.

فقال معاوية لصاحب إذنه:أخرجه عني و أدخل علي هاني‏ء بن عروة المرادي،فلما دخل قال له معاوية:يا هاني‏ء أنت المائل مع علي بن أبي طالب،و المحارب للمسلمين مع علي يوم صفين؟فقال له هاني‏ء:أني لك يا معاوية بالشرف الشامخ،و المجد الباذخ؟و ما كنتم إلا شظية يخطفها العرب حتى بعث محمد صلى الله عليه و آله و سلم فلان له العباد في جميع البلاد،و أما خروجي عليك يا ابن هند فغير متعذر إليك منه،و لو كنت رأيتك ذلك اليوم لنفذت رمحي بين حضنيك،و الله ما أحببناك مذ أبغضناك،و لا بعنا السيوف التي بها ضربناك.

فقال معاوية لصاحب إذنه:أخرجه عني و أدخل علي صعصعة بن صوحان،فلما دخل عليه نظر فإذا الرجال عليهم السلاح وقوف،و معاوية جالس على سريره،فقال صعصعة:سبحان الله،و لا إله إلا الله،و الله أكبر يرفع بها صوتهـ،فالتفت معاوية يمنة و يسرة فلم ير شيئا يفزعه،فقال :يا صعصعة أظنك تدري ما الله؟فقال:بلى و الله يا معاوية ربنا و رب آبائنا الأولين،و إنه لبالمرصاد من وراء العباد،فقال معاوية:يا صعصعة!ما كنت أحب أن تقوم هذا المقام حتى يصيبك ظفر من أظفاري،قال:و أنا يا معاوية لقد أحببت أن لا أحييك بتحية الخلافة حتى تجري مقادير الله فيك.

فالتفت معاوية إلى عمرو بن العاص و قال:أوسع لصعصعة ليجلس إلى جانبك،فقال عمرو:لا،و الله،لا أوسعت له على ترابيته،فقال صعصعة:نعم،و الله،يا عمرو!إني لترابي و من عبيد أبي تراب،و لكنك مارج من نار،منها خلقت،و إليها تعود،و منها تبعث إن شاء الله،فقال معاوية :يا صعصعة و الله إني هممت أن أحبس عطايا أهل العراق فى هذه السنة،فقال صعصعة:و الله،يا معاوية!لو رمت ذلك منهم لدهمك مائة ألف أمرد على مائة ألف أجرد،و صيروا بطنك ميادين لخيولهم،و قطعوك بسيوفهم و رماحهم،قال:فامتلا معاوية غيظا،و أطرق طويلا ثم رفع رأسه و قال:لقد أكرمنا الله حيث يقول لنبيه و إنه لذكرى لك و لقومك (1) و نحن قومه،وقال تعالى:لإيلاف قريشـإلى قولهـو آمنهم من خوف (2) و نحن قريش،و قال تعالى لنبيه:و أنذر عشيرتك الأقربين (3) و نحن عشيرته الأقربون،فقال صعصعة:على رسلك يا معاوية فإن الله تعالى يقول:فكذب به قومك و هو الحق (4) ،و أنتم قومه،و قال تعالى:و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا (5) و لو زدت زدناك يا معاوية،فأفحمه.

قال معاوية لصاحب إذنه:أخرجه عني و أدخل علي خالد بن معمر السدوسي.فلما دخل قال له معاوية :يا خالد!لقد رأيتك تضرب أهل الشام بسيفك على فرسك الملهوب.فقال خالد:يا معاوية و الله،ما ندمت على ما كان مني،و لا زلت على عزيمتي اثني،و مع ذلك إني عند نفسي مقصر،و الله المستعان و المدبر.فقال له معاوية:ما علمت يا خالد،ما نذرت عند قدومك في قومك؟قال:لا،فقال:نذرت أن انذر مقاتلهم،و أسبي نساءهم،ثم أفرق بين الامهات و الأولاد فيبايعون.فقال خالد:و ما تدري ما قلت في ذلك؟قال:لا،قال:فاسمعه مني،فأنشأ يقول:

يروم ابن هند نذره من نسائنا 
و دون الذي يبغي سيوف قواضب

قال معاوية لصاحب إذنه:أخرجه عني و أدخل علي جارية بن قدامة السعديـو كان قصيرا.فلما دخل قال له معاوية:أركضت علينا الخيل يوم صفين في بني سعد تمنيهم الفتن،و تحملهم على قديمات الإحن مع قتلة أمير المؤمنين عثمان،و قاتلت ام المؤمنين عائشة،و ما أنت إلا جارية !فقال جارية:إن الله فضل على اسمك اسمي،قال:و كيف ذلك؟قال:لأن الجارية لا تكون إلا من أحياء العرب،و المعاوية لا تكون إلا من إناث الكلاب.و أما ما ذكرت من أمير المؤمنين عثمان فأنتم خذلتموه و قتلتموه،و الدار عند نازحة.و أما ام المؤمنين عائشة فلما نظرنا فى كتاب الله عز و جل و لم نجد لها علينا حقا يلزمنا إلا أن تطيع ربها و تقر بيتها،فلما ألقت الجلابيب عن وجهها بطل ما كان لها علينا من حق.و أما ركضي الخيل عليك يوم صفين فإنما ذلك حيث أردت أن تقطع أعناقنا عطشا فلم ننظر في عاقبة،و لم نخف جائحة فثنينا الخيل مع أقدم الناس اسلاما،و أحسنهم كلاما،و أعلمهم بكتاب الله و سنة نبيه،حين أراد جهادك على بصيرة،و أنت على الحمية الجاهلية،فإن أردت نريك مثل ذلك اليوم،فخيلنا معدة،و رماحنا محدة.

قال معاوية لصاحب إذنه،أخرجه و أدخل علي شريكا الحارثي،فلما دخلـو كان دميم المنظرـفقال له معاوية:إنك شريك و مالله شريك،و إنك الأعور،و الصحيح خير من الأعور،و إنك لابن الأصفر،و الأبيض خير من الأصفر،و إنك مخالف،و المستقيم خير من المخالف،و إنك لدميم،و الجميل خير من الدميم،فكيف سدت قومك؟فقال شريك:إنك لمعاوية و ما معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت،فاستنبحتها الكلاب فسميت معاوية:،و انك لابن صخر،و السهل خير من الصخر،و ابن حرب،و السلم خير من الحرب،و ابن امية،و ما امية إلا أمة صغرتها العرب،فكيف صرت أمير المؤمنين علينا؟فأمر معاوية بإخراجه،فخرج و هو يقول:

أيشتمني معاوية بن حرب‏ 
و سيفي صارم و معي لساني

و حولي من بني عمي رجال‏ 
ضراغمة نهش إلى الطعان

يعير بالدمامة من سفاه‏ 
و ربات الجمال من الغواني

قال:ثم نهض معاوية من مجلسه و دخل داره،و في اليوم الثاني دعي بهم‏فاحضروا،و أكرمهم و ردهم إلى أهليهم مكرمين (6) ».

ضرارة بن ضمرة

2ـإن معاوية و فد عليه ضرارة بن ضمرةـو كان من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام و من خواصهـو أراد أن يفتك به،فلما رأى زهده و تقوا و اشتغاله بالآخرة عن دنيا،عدل عن ذلك و أراد امتحانه،فقال:صف لي عليا،فقال:اعفني،فقال:أقسمت عليك بحقه إلا ما وصفته،قال:أما إذا كان و لا بد فإنهـو الله كان بعيد المدى،شديد القوى،يقول فصلا،و يحكم عدلا،ينفجر العلم من جوانبه،و تنفلق الحكمة من لسانه،يستوحش من الدنيا و زهرتها،و يأنس بالليل و وحشته،كانـصلوات الله عليهـغزير الدمعة،طويل الفكرة،يعجبه من اللباس ما خشن،و من الطعام ما جشب،كان فينا كأحدنا،يجيبنا إذا سألناه،و يأتينا إذا دعوناه،و نحنـو اللهـمع تقربه لنا و قربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له،كانـصلوات الله عليهـيعظم أهل الدين،و يقرب المساكين،لا يطمع القوي في باطله،و لا ييأس الضعيف من عدله،و إنى أشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفهـو قد أرخى الليل سدوله و غارت نجومهـقابضا على لحيته،يتململ تململ السليم،و يبكي بكاء الحزين،و هو يقول:يا دنيا غري غيري،أبي تعرضت؟أم إلي تشوقت؟هيهات!قد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك،فعمرك قصير،و خطرك كبير،و عيشك حقير،آه من قلة الزاد،و بعد السفر،و وحشة الطريق.

فبكى معاوية و قال:رحم الله،أبا الحسن!قد كانـو اللهـكذلك،فكيف حزنك عليه يا ضرار؟قال :حزن من ذبح ولدها في حجرها،فهي لا يرقأ دمعتها،و لا تخفى فجعتها.فأمر له بمال جزيل،فلم يقبل منه شيئا و انصرف،و هو يندب‏أمير المؤمنين عليه السلام (7) ».

بكارة الهلالية

3ـقال عمر رضا كحالة:«كانت من نساء العرب الموصوفات بالشجاعة،و الإقدام،و الفصاحة،و الشعر،و النثر،و الخطابة،و كانت من أنصار علي بن أبي طالب في حرب صفين،فخطبت بها خطبا حماسية حضت بها القوم أن يخوضوا غمارات الحرب بدون خوف و لا وجل،و قد وفدت على معاوية بن ابي سفيان بعد أن كبرت سنها و دق عظمها و معها خادمان لها و هي متكئة عليهما و بيدها عكاز،فسلمت على معاوية بالخلافة فأحسن عليها الرد و أذن لها في الجلوس،و كان عنده مروان بن الحكم و عمرو بن العاص،فابتدأ مروان فقال:أما تعرف هذه يا أمير المؤمنين؟قال:و من هي؟قال:هي التي كانت تعين علينا يوم صفين،و هي القائلة:

يا زيد دونك فاستشر من دارنا 
سيفا حساما في التراب دفينا

كان مذخورا لكل عظيمة 
فاليوم أبرزه الزمان مصونا

فقال عمرو بن العاص:و هى القائلة يا أمير المؤمنين:

أترى ابن هند للخلافة مالكا 
هيهات ذاك و ما أراد بعيد

منتك نفسك في الخلاء ضلالة 
أغراك عمرو للشقا و سعيد

فارجع بأنكد طائر بنحوسها 
لاقت عليا أسعد و سعود

فقال سعيد:يا أمير المؤمنين و هي القائلة:

لقد كنت آمل أن أموت و لا أرى‏ 
فوق المنابر من امية خاطبا

و الله،أخر مدتي فتطاولت‏ 
حتى رأيت من الزمان عجائبا

في كل يوم لا يزال خطيبهم‏ 
وسط الجموع لآلى أحمد عاتبا

ثم سكت القوم،فقالت بكارة:نبحتني كلابك يا أمير المؤمنين!و اعتورتني،فقصر محجني،و كسر عجي،و غشي بصري،و أناـو اللهـقائلة ما قالوا،لا أدفع بتكذيب،فامض شأنك،فلا خير في العيش بعد أمير المؤمنين.قال معاوية:إنه لا يضعك شي‏ء فاذكري حاجتك تقضى،فقضى حوائجها و ردها إلى بلدها (8) ».

دارمية الحجونية

4ـقال ابن عبد البر:«سهل بن ابى سهل التميمي،عن أبيه قال:حج معاوية فسأل عن امرأة يقال لها:دارمية الحجونيةـو كانت سوداء كثيرة اللحمـفاخبر بسلامتها،فبعث إليها فجي‏ء بها،فقال :ما حالك يا بنت حام؟فقالت.لست لحام إن عبتني،أنا امرأة من بني كنانة،قال:صدقت،أتدرين لم بعثت إليك؟قالت:لا يعلم الغيب إلا الله،قال:قال:بعثت إليك لأسألك علام أحببت عليا و أبغضتني،و واليته و عاديتني؟قالت:أو تعفيني؟قال:لا أعفيك،قالت:أما إن أبيت فإني أحببت عليا على عدله في الرعية،و قسمه بالسوية،و أبغضتك على قتال من هو أولى منك بالأمر،و طلبتك ما ليس لك بحق،و واليت عليا على ما عقد له رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم من الولاء،و حبه المساكين،و إعظامه لأهل الدين،و عاديتك على سفكك الدماء،و جورك في القضاء،و حكمك بالهوى.

قال:فلذلك انتفخ بطنك،و عظم ثدياك،و ربت عجيزتك.قالت:يا هذا،بهندـو اللهـكان يضرب المثل في ذلك لابي.قال معاوية:يا هذه اربعي فإنا لم نقل إلا خيرا،إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها،و إذا عظم ثدياها تروى رضيعها،و إذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها.فرجعت و سكنت .قال لها:يا هذه هل رأيت عليا؟قالت:إى و الله،قال:فكيف رأيته؟قالت:رأيتهـو اللهـلم يفتنه الملك الذي فتنك،و لم تشغله النعمة التي شغلتك.قال:فهل سمعت كلامه؟قالت:نعمـو اللهـيجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت صدا الطست.قال:نعم،قال:صدقت،فهل لك من حاجة؟قالت:أو تفعل إذا سألتك؟قال:نعم،قالت:تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها و راعيها.قال:تصنعين بها ماذا؟قالت:أغدو بألبانها الصغار،و أستحيي بها الكبار،و أكتسب بها المكارم،و أصلح بها بين العشائر،قال:أعطيتك ذلك فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب؟قالت:ماء و لا كصداء،و مرعى و لا كالسعدان،و فتى و لا كمالك،يا سبحان الله!أو دونه.فأنشأ معاوية يقول:

إذا لم أعد بالحلم مني عليكم‏ 
فمن الذي بعدي يؤمل للحلم

خذيها هنيئا و اذكري فعل ماجد 
جزاك على حرب العداوة بالسلم

ثم قال:أما و الله،لو كان علي حيا ما أعطاك منها شيئا،قالت:لا و الله و لا وبرة واحدة من مال المسلمين (9) ».

سودة بنت عمارة بن الاشتر الهمدانية

5ـقال عمر رضا كحالة:«شاعرة من شواعر العرب،ذات فصاحة و بيان،و فدت على معاوية بن أبي سفيان فاستأذنت عليه فأذن لها،فلما دخلت عليه سلمت،فقال لها:كيف أنت يا ابنة الأشتر :قالت:بخير،يا أمير المؤمنين!قال لها:أنت القائلة لأخيك:

شهر لفعل أبيك يا ابن عمارة 
يوم الطعان و ملتقى الأقران

و انصر عليا و الحسين و رهطه‏ 
و اقصد لهند و ابنها بهوان‏إن الإمام أخا النبي محمد 
علم الهدى و منارة الإيمان

فقد الجيوش و سر أمام لوائه‏ 
قدما بأبيض صارم و سنان

قالت:إي و الله،ما مثلي من رغب عن الحق أو اعتذر بالكذب،قال لها:فما حملك على ذلك؟قالت :حب علي و اتباع الحق.قال:فو الله ما أرى عليك من أثر علي شيئا.قالت:يا أمير المؤمنين مات الرأس و بتر الذنب،فدع عنك تذكار ما قد نسي،و إعادة ما مضى،قال:هيهات ما مثل مقام أخيك ينسى و ما لقيت من قومك و أخيك.قالت:صدقتـو اللهـيا أمير المؤمنين!ما كان أخي خفى المقام ذليل المكان و لكن كما قالت الخنساء:

و إن صخرا لتأتم الهداة به‏ 
كأنه علم في رأسه نار

و بالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيت منه،قال:قد فعلت،فقولي ما حاجتك؟قالت :يا أمير المؤمنين!إنك أصحبت للناس سيدا،و لأمرهم متقلدا،و الله سائلك من أمرنا و ما افترض عليك من حقنا،و لا يزال يقوم علينا من ينوء بعزك،و يبطش بسلطانك،فيحصدنا حصد السنبل،و يدوسنا دوس البقر،و يسومنا الخسيسة و يسلبنا الجليلة،هذا بسر بن أرطاة قدم علينا من قبلك.فقتل رجالى،و أخذ مالى،و لو لا الطاعة لكان فينا عز و منعة،فاما عزلته عنا فشكرناك،لا فعرفناك.

فقال معاوية:أتهددني بقومك؟لقد هممت أن أحملك من قتب أشرس فأردك إليه ينفذ فيك حكمه،فأطرقت تبكي،ثم أنشأت تقول:

صلى الإله على جسم تضمنه قبر 
فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبغي به بدلا 
فصار بالحق و الإيمان مقرونا

قال معاوية:و من ذلك؟فقالت:علي بن أبي طالب،قال:و ما صنع بك حتى صار عندك كذلك؟قالت :قدمت عليه في رجل و لاه صدقتنا،فكان بيني و بينه مابين الغث و السمين،فأتيت عليا عليه السلام لأشكو إليه،فوجدته قائما يصلي،فلما نظر إلي انفتل من صلاته ثم قال لي برأفة و تعطف:ألك حاجة؟فأخبرته الخبر،فبكى ثم قال:اللهم إنك أنت الشاهد علي و عليهم أني لم آمرهم بظلم خلقك،و لا بترك حقك.ثم أخرج من جيبه قطعة كهيئة طرف الجراب فكتب فيها:بسم الله الرحمن الرحيم قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل و الميزان بالقسط و لا تبخسوا الناس أشياءهم و لا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين و ما أنا عليكم بحفيظ (10) إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك و السلام).فعزله يا أمير المؤمنين،ما خزمه بخزام،و لا ختمه بختام.

فقال معاوية:اكتبوا لها بالانصاف لها و العدل عليها،فقالت:أ لي خاصة أم قومي،عامة؟قال :و ما أنت و غيرك؟قالت:هيـو اللهـإذن الفحشاء و اللوم إن لم يكن عدلا شاملا،و إلا أنا كسائر قوي،قال:هيهات لمظكم ابن أبي طالب الجرأة،و غركم قوله:

فلو كنت بوابا على باب جنة 
لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

ثم قال:اكتبوا لها و لقومها بحاجتها (11) ».

ام الخير بنت الحريش الباقية

6ـقال عمر رضا كحالة:«من ربات الفصاحة و البلاغة،قدمت على معاوية بن أبي سفيان بعد أن كتب إلى و اليه بالكوفة أن أوفد علي ام الخير بنت الحريش...فقال(معاوية لأصحابه):أيكم حفظ كلام ام الخير؟قال رجل من القوم:أنا أحفظه‏يا أمير المؤمنين،و عليها برد زبيدي كثيف الحاشية و هي على جمل أرمك و قد احيط حولها،و بيدها سوط منتشر الضفر،و هي كالفحل يهدر في شقشقة تقول:يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شي‏ء عظيم (12) ،إن الله قد أوضح الحق،و أبان الدليل،و نور السبيل،و رفع العلم،فلم يدعكم في عمياء مبهمة،و لا سوداء مدلهمة،فإلى أين تريدون رحمكم الله؟أفرارا من الزحف؟أم رغبة عن الإسلام؟أم ارتدادا عن الحق؟أما سمعتم الله عز و جل يقول:و لنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم و الصابرين و نبلو أخباركم (13) .

ثم رفعت رأسها إلى السماء و هي تقول:اللهم قد عيل الصبر،و ضعف اليقين،و انتشرت الرغبة،و بيدك يا رب أزمة القلوب،فاجمع الكلمة على التقوى،و ألف القلوب على الهدى،و رد الحق إلى أهله،هلمواـرحمكم اللهـإلى الإمام العادل،و الوصي الوفي،و الصديق الأكبر،إنها إحن بدرية،و أحقاد جاهلية،و ضغائن احدية،و ثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك ثارت بني عبد شمس...

فإلى أن تريدونـرحمكم اللهـعن ابن عم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم،و زوج ابنته،و أبي ابنيه،خلق من طينته،و تضرع من نبعته،و خصه بسره،و جعله باب مدينته،و أعلم بحبه المسلمين،و أبان ببغضه المنافقين،فلم يزل يؤيده الله بمعونته،و يمضي على سنن استقامته،لا يعرج لراحة اللذات،و هو مفلق الهام،و مكسر الأصنام،إذ صلى و الناس مشركون،و أطاع و الناس مرتابون فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر،و أفنى أهل احد،و فرق جمع هوازن،فيالها وقايع زرعت في قلوب قوم نفاقا و ردة و شقاقا؟و قد اجتهدت في القول و بالغت في النصيحة،و بالله التوفيق،و عليكم السلام،و رحمة الله و بركاته (14) ».

أروى بنت الحارث بن عبد المطلب

7ـقال ابن عبد البر:«إن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب دخلت على معاوية و هي عجوز كبيرة،فلما رآها معاوية قال:مرحبا بك و أهلا يا عمة!فكيف كنت بعدنا؟فقالت:يا ابن أخي لقد كفرت يد النعمة،و أسأت لابن عمك فكيف كنت بعدنا؟فقالت:يا ابن أخي لقد كفرت يد النعمة،و أسأت لابن عمك الصحبة،و تسميت بغير اسمك،و أخذت غير حقك من غير دين كان منك و لا من آبائك،و لا سابقة في الإسلام بعد أن كفرتم برسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فأتعس الله منكم الجدود،و أضرع الله منكم الخدود،و رد الحق إلى أهله و لو كره المشركون،و كانت كلمتنا هي العليا،و نبينا صلى الله عليه و آله و سلم هو المنصور،فوليتم علينا بعده،تحتجون بقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و نحن أقرب إليه منكم و أولى بهذا الأمر،فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون،و كان علي بن أبي طالبـرحمه اللهـبعد نبينا بمنزلة هارون من موسى،فغايتنا الجنة،و غايتكم النار.

فقال لها عمرو بن العاص:كفي أيتها العجوزة الضالة و اقصري عن قولك مع ذهاب عقلك إذ لا تجوز شهادتك وحدك.

فقال لها عمرو بن العاص:كفي أيتها العجوزة الضالة و اقصري عن قولك مع ذهاب عقلك إذ لا تجوز شهادتك وحدك.

فقالت له:و أنت يا ابن النباغة!تتكلم و امك كانت أشهر امرأة تغني بمكة و آخذهن لاجرة،اربع على ظلعك،و اعن بشأن نفسك،فو الله ما أنت من قريش في اللباب من حسبها،و لا كريم منصبها،و لقد ادعاك خمسة نفر من قريش كلهم يزعم أنه أبوك،فسئلت أمك عنهم فقالت:كلهم أتاني،فانظروا أشبههم به فألحقوه به،فغلب عليك شبه العاص بن وائل فلحقت به.

فقال مروان:كفي أيتها العجوز،و اقصدي لما جئت له،فقالت:و أنتـأيضاـيا ابن الزرقاء!تتكلم؟ثم التفتت إلى معاوية فقالت:و الله،ما جرأ علي هؤلاء غيرك،و إن امك القائلة في قتل حمزة :

نحن جزيناكم بيوم بدر 
و الحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان لي عن عتبة من صبر 
فشكر وحشي علي دهري

حتى ترم أعظمي في قبري (15)

و قال عمر رضا كحالة:«فقال معاوية لمروان و عمرو:ويلكما،أنتما عرضتماني لها،و أسمعتماني ما أكره،ثم قال لها:يا عمة!اقصدي قصد حاجتك،و دعي عنك أساطير النساء.قالت:تأمر لي بألفي دينار و ألفي دينار و ألفى دينار،قال:ما تصنعين يا عمة!بألفي دينار؟قالت:أشتري بها عينا خر خارة في أرض خوارة تكون لولد الحارث بن عبد المطلب،قال:نعم،الموضع وضعتها،فما تصنعين بألفي دينار؟قالت:أزوج بها فتيان عبد المطلب من أكفائهم،قال:نعم،الموضع وضعتها،فما تصنعين بألفي دينار؟قالت:أستعين بها عسر المدينة،و زيارة بيت الله الحرام.قال:نعم،الموضع وضعتها،هي لك نعم و كرامة.

ثم قال:أما و الله،لو كان علي ما أمر لك بها،قالت:صدقت،إن عليا أدى الأمانة،و عمل بأمر الله،و أخذ به،و أنت ضيعت أمانتك،و خنت الله في ماله،فأعطيت مال الله من لا يستحقه،و قد فرض الله في كتابه الحقوق لأهلها و بينها فلم تأخذ بها،و دعانا علي إلى أخذ حقنا الذي فرض الله لنا،فشغل بحربك عن وضع الامور مواضعها،و ما سألتك مالك شيئا فتمن به إنما سألتك من حقنا،و لا نرى اخذ شي‏ء غير حقنا،أتذكر عليا فض الله فاك و أجهد بلاغك؟ثم علا بكاؤها و قالت:ألا يا عين ويحك أسعدينا 
ألا و ابكي أمير المؤمنينا

رزينا خير من ركب المطايا 
و فارسها و من ركب السفينا

و من لبس النعال أو احتذاها 
و من قرأ المثاني و المئينا

إذ استقبلت وجه أبي حسين‏ 
رأيت البدر راع الناظرينا

و لا و الله لا أنسى عليا 
و حسن صلاته في الراكعينا

أفي الشهر الحرام فجعتمونا 
بخير الناس طرا أجمعينا

فأمر معاوية لها بستة آلاف دينار،و قال لها:يا عمة أنفقي هذه فيما تحبين...و في رواية قال لها:يا عمة!عفا الله عما سلف،يا خاله هات حاجتك،قالت:ما لي إليك حاجة،و خرجت عنه،فقال معاوية لأصحابه:و الله لو كلمها من في مجلسي جميعا لأجابت كل واحد بغير ما تجيب به الآخر،و إن نساء بني هاشم لأفصح من رجال غيرهم (16) ».

تعليقات:

1ـالزخرف،43:44،و في المصحف:«لذكر لك».

2ـقريش،106:1ـ .4

3ـالشعراء،26: .214

4ـالانعام،6:66.و في المصحف:«و كذب».

5ـالفرقان،254: .30

6ـأشعة الأنوار في فضل الحيدر الكرار،ص 314،ط نجف.

7ـأشعة الأنوار في فضل الحيدر الكرار،ص 326.القمي:سفينة البحار،ج 2:ص 657،مادة«وصف» .

8ـالكحالة:أعلام النساء،ج 1:ص 137،ابن عبد ربه العقد الفريد،ج 1:ص 346.و المحجن:العصا :المعوجة.و العج:رفع الصوت.

9ـابن عبد ربه:العقد الفريد،ج 1:ص 352.و الصداء:عين لم يكن عندهم أعذب منها.و السعدان :نبت ذو شوك،و هو أفضل مراعى الابل.و اربعى:انتظرى.

10ـاقتباس من الأعراف(7:)85 و هود و الشعراء:(26:) .183

11ـالكحالة:أعلام النساء،ج 2:ص 270،ابن عبد ربه:العقد الفريد،ج 1:ص 344.و الغث:الردى الفاسد.و لمظكم:أى علمكم و عودكم.

12ـالحج،22: .1

13ـمحمد(ص)،47: .31

14ـالكحالة:أعلام النساء،ج 1:ص .389

15ـابن عبد ربه:العقد الفريد،ج 1:ص 457.و التعس:الإنحطاط.و الجدود:الحظوظ.و أضرع:أذل .و ترم:تبلى.

16ـالكحالة:أعلام النساء،ج 1:ص .30