المقدّمة الثانية
أخبر الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأ نّه سيأتي رجال
بعده يقولون : اتلوا علينا من القرآن فحسب ولا يكتفون بحديث الرسول .
وما أشرنا إليه في المقدّمة الأولى كان من قول الله تعالى في إثبات
حجيّة سنّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)مع النصّ القرآني وقد
قال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الصدد أيضاً ما
رواه أصحاب الصحاح بمدرسة الخلفاء :
أ ـ
في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة والدارمي ومسند أحمد واللّفظ
للأوّل في باب لزوم السنّة من كتاب السنّة :
عن المقدام بن معدي كرب([1])
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انّه قال :
«ألا إنِّي أُوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته
يقول : عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه حلالاً فأحلُّوه ، وما وجدتم
فيه حراماً فحرِّموه ...» .
وفي آخر الحديث بسنن الترمذي : «وإنّ ما حرّم رسول الله كما حرّم
الله» .
وفي سنن ابن ماجة : (مثل ما حرّم الله) .
وفي مسند أحمد عنه ، قال :
حرّم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم خيبر أشياء ثمّ قال :
«يوشك أحدكم أن يكذّبني وهو متّكئ على أريكته يُحدِّث بحديثي ،
فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما
وجدنا فيه من حرام حرَّمناه . ألا وإنّ ما حرّم رسول الله مثل ما
حرّم الله»([2]) .
ب ـ
في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة ومسند أحمد واللّفظ للأوّل :
عن عبيد الله بن أبي رافع([3])
عن أبيه ، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال :
«ألا لا ألفينَّ أحداً منكم متّكئاً على أريكته يأتيه الأمر بما أمرت
به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري ، ما وجدت في كتاب الله
اتّبعته ! » .
وفي مسند أحمد : «ما أجد هذا في كتاب الله»([4]) .
ج ـ
في كتاب الخراج من سنن أبي داود ، باب في تعشير أهل الذمّة .
عن العرباض بن سارية السلمي([5])
قال :
(نزلنا خيبر ومعه مَن معه من أصحابه ، وكان صاحب خيبر رجلاً مارداً
منكراً فأقبل إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال : يا
محمّد ! ألكم أن تذبحوا حمرنا وتأكلوا ثمرنا وتضربوا نساءنا ؟ فغضب ـ
يعني النبيّ ـ وقال : يا ابن عوف ! إركب فرسك ثمّ ناد : «ألا إنّ
الجنّة لا تحلُّ إلاّ لمؤمن ، وأن اجتمعوا للصلاة» .
قال : فاجتمعوا ثمّ صلّى بهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ
قام ، فقال :
«أيحسب أحدكم متّكئاً على أريكته قد يظنّ الله لم يحرِّم شيئاً إلاّ
ما في هذا القرآن ! ألا وإنِّي وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء ، إنّها
لمثل القرآن أو أكثر ، وإنّ الله لم يحلَّ لكم أن تدخلوا بيوت أهل
الكتاب إلاّ بإذنهم ، ولا ضرب نسائهم ، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم
الذي عليهم)([6]) .
د ـ
في مسند أحمد ، عن أبي هريرة([7])
قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لا أعرفنَّ أحداً
منكم أتاه عنِّي حديث وهو متّكئ في أريكته ، فيقول : أُتلُ عليّ به
قرآناً»([8]) .
وقال حسّان بن ثابت([9])
كما في مقدّمة الدارمي : «كان جبريل ينزل على رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) بالسنّة كما ينزل عليه بالقرآن»([10]) .
* * *
هذا بعض ما ورد في القرآن والحديث في الحثّ على الأخذ بسنّة رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والنهي عن مخالفته ، والتشديد على
مَنْ يهمل السنّة بحجّة الاكتفاء بكتاب الله وحده . أضف إلى ذلك
أ نّه لا يمكن أخذ الإسلام من القرآن وحده ، ودون الرجوع إلى سنّة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فإنّنا في إقامة الصلاة
ـ مثلاً ـ نأخذ من حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عدد
ركعاتها وسجداتها ، وأذكارها وشروطها ومبطلاتها ، ومن سيرته نأخذ
كيفيّاتها .
وفي أداء الحجّ نأخذ من سنّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : عقد
إحرامه ، وتشخيص مواقيته ، وأشواط طوافه ، وصلاته ، وسعيه ،
وتقصيره ، وسائر مناسكه في عرفات والمشعر ومنى ، إقامتنا فيهنّ
وإفاضتنا عنهنّ ، ورمي جمراته ، وهديه وحلقه ، وتحديد زمان كلّ منها
وتشخيص مكانها ، واجبها ومسنونها وحرامها .
إذاً لا يمكن العمل بالقرآن وحده في إقامة الصلاة وأداء الحجّ دون
الرجوع إلى سنّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكذلك شأن سائر
الأحكام .
ولهذا لا بدّ لنا من الرجوع إلى القرآن والسنّة معاً لأخذ الإسلام
عنهما ، ولا يفصل بينهما إلاّ مَن أراد أن (يتحرّر) من قيود الإسلام
ويعمل وفق هوى نفسه ، فإنّ ذلك ميسور له مع سلخ السنّة المفسّرة
للقرآن عن القرآن ثمّ تأويل القرآن وفق ما يهواه .
1
المقدام بن معدي كرب بن عمرو الكندي أحد الوافدين من كندة على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وروى عنه سبعة وأربعين
حديثاً أخرجها أصحاب الصحاح والسنن عدا مسلم . مات بالشام سنة
سبع وثمانين وهو ابن إحدى وتسعين سنة . أسد الغابة (4 / 411)
وجوامع السيرة (ص 280) وتقريب التهذيب (2 / 272) .
2
سنن أبي داود ، كتاب السنّة ، باب في لزوم السنّة 4 / 255 ،
ح 4604 وط تصحيح محمد محيي الدين عبدالحميد 4 / 200 ، سنن
الترمذي ، كتاب العلم ، باب ما نهى عنه 10 / 132 و 133 ، سنن ابن
ماجة ، المقدّمة ، باب تعظيم حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) والتغليظ على مَن عارضه ، (ح 12) 1 / 6 ، سنن الدارمي ،
المقدّمة ، باب السنّة قاضية على كتاب الله (ح 1) 1 / 144 ، مسند
أحمد 4 / 132 ، 130 ـ 131 .
3
عبيدالله بن أبي رافع مولى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان
كاتب عليّ وهو ثقة من الطبقة الثالثة وأخرج حديثه أصحاب المجامع
الحديثية جميعاً .
4
سنن أبي داود ، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد ، باب في لزوم
السنّة 4 / 200 ، ح 4605، سنن الترمذي ، كتاب العلم ، باب ما نهى
عنه 10 / 133 ، سنن ابن ماجة ، المقدّمة، باب تعظيم حديث رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والتغليظ على من عارضه 1 / 6 ـ
7 ، مسند أحمد 6 / 8 .
5
أبو نجيح عرباض بن سارية السلمي روى عن رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) (31 حديثاً) أخرجها أصحاب الصحاح غير البخاري ومسلم ،
توفي سنة خمس وسبعين أو في فتنة ابن الزبير . أسد
الغابة (3 / 399) وجوامع السيرة (ص 281) وتقريب التهذيب (2 /
17) .
6
سنن أبي داود، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد ، كتاب الخراج
والامارة والفيء باب تعشير أهل الذمة 3 / 170 (ح 2050) .
7
أبو هريرة القحطاني الدوسي كنِّي بأبي هريرة لهرّة كان يلعب بها
في صغره أو لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رآه وفي
كمه هرّة فقال : «يا أبا هريرة» فكنّي بها ، أسلم عام خيبر
وشهدها ، روى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (5374
حديثاً) وأخرج أحاديثه جميع أصحاب أهل الحديث . أُسد
الغابة (5 / 315) ، وجوامع السيرة (ص 275) . وبقيّة ترجمته في
عبدالله بن سبأ ط أُوفسيت ، طهران سنة 1393 هـ ، (1 / 160) .
8
سنن ابن ماجة ، المقدّمة ، باب تعظيم حديث الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) والتغليظ على من عارضه 1 / 9 ـ 10 ، مسند أحمد 2 /
367 .
9
أبو عبدالرحمن أو أبو الوليد ، حسّان بن ثابت بن المنذر الأنصاري
الخزرجي شاعر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان يفاخر عنه
في مسجده وقال فيه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إنّ الله
يؤيِّد حسّاناً بروح القدس ما نافح عن رسول الله» وكان من أجبن
الناس ولم يشهد مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً من
مشاهده لجبنه ، ووهب له النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) سيرين
أخت مارية فولدت له عبدالرحمن ، روى عن رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) حديثاً واحداً أخرجه أصحاب الصحاح ما عدا الترمذي ،
ومات قبل الأربعين أو سنة خمسين أو أربع وخمسين من الهجرة وهو
ابن مائة وعشرين سنة . أسد
الغابة (2 / 5 ـ 7) وجوامع السيرة (ص 308) وتقريب التهذيب (1 /
161) .
10
سنن الدارمي ، المقدمة ، باب السنّة قاضية على كتاب الله 1 /
145 .