ثالثاً ـ  خبر يوم الغدير :

لمّا صدر رسول الله من حجّة الوداع([1]) نزلت عليه في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة([2]) آية :

(يَا أَ يُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )([3]) (المائدة / 67) .

فنزل غدير خمّ من الجحفة([4]) وكان يتشعّب منها طريق المدينة ومصر والشام([5]) ووقف هناك حتّى لحقه من بعده وردّ من كان تقدّم ونهى أصحابه عن سمرات متفرّقات بالبطحاء أن ينزلوا تحتهنّ ، ثمّ بعث إليهنّ فقُمّ ما تحتهنّ من الشوك([6]) ونادى بالصلاة جامعة([7]) وعمد إليهنّ([8]) وظلّل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بثوب على شجرة سمرة من الشمس ، فصلّى الظهر بهجير([9]) ثمّ قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ وقال ما شاء الله أن يقول ، ثمّ قال : «إنِّي اُوشك أن اُدعى فاُجيب ، وإنِّي مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ؟ » .

قالوا : نشهد أ نّك بلّغت ونصحت فجزاك الله خيراً .

قال : «أليس تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله وأنّ الجنّة حقّ وأنّ النار حقّ ؟ » .

قالوا : بلى نشهد ذلك .

قال : «اللّهمّ اشهد» .

ثمّ قال : «ألا تسمعون ؟ » .

قالوا : نعم .

قال : «يا أ يُّها الناس ! إنِّي فرط وأنتم واردون عليَّ الحوض وإنّ عرضه ما بين بصرى إلى صنعاء([10]) فيه عدد النجوم قدحان من فضّة ، وإنِّي سائلكم عن الثقلين ، فانظروا كيف تخلّفونني فيهما» .

فنادى مناد : وما الثقلان يا رسول الله ؟

قال : «كتاب الله ، طرف بيد الله وطرف بأيديكم ، فاستمسكوا به ، لا تضلّوا ولا تبدّلوا ، وعترتي أهل بيتي ، وقد نبّأني اللطيف الخبير أ نّهما لن يتفرّقا حتّى يردا عليَّ الحوض ، سألت ذلك لهما ربِّي ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهما فهما أعلم منكم»([11]) .

ثمّ قال : «ألستم تعلمون أنِّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ » .

قالوا : بلى يا رسول الله !([12]) .

قال : «ألستم تعلمون ـ أو تشهدون ـ أنِّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه ؟ » .

قالوا : بلى يا رسول الله([13]) .

ثمّ أخذ بيد عليّ بن أبي طالب بضبعيه فرفعها حتّى نظر الناس إلى بياض إبطيهما([14]) ، ثمّ قال :

«أ يُّها الناس ! الله مولاي وأنا مولاكم([15]) ; فمن كنت مولاه ، فهذا عليّ مولاه([16]) . اللّهمّ والِ مَنْ والاه ، وعادِ مَنْ عاداه([17]) ، وانصر مَنْ نصره ، واخذل مَنْ خذله([18]) ، وأحبّ مَنْ أحبّه ، وابغض مَنْ أبغضه»([19]) .

ثمّ قال : «اللّهمّ اشهد»([20]) .

ثمّ لم يتفرّقا ـ  رسول الله وعليّ  ـ حتّى نزلت هذه الآية :

(اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ) (المائدة / 3) .

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضا الربّ برسالتي والولاية لعليّ»([21]) .

وفي باب ما نزل من القرآن بالمدينة من تأريخ اليعقوبي :

(إنّ آخر ما نزل عليه : (اليَوْمَ أكْمَلْتُ ... ) وهي الرواية الصحيحة الثابتة ، وكان نزولها يوم النصّ على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ  صلوات الله عليه  ـ بغدير خمّ)([22]) .

فلقيه عمر بن الخطّاب بعد ذلك فقال له : هنيئاً لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة([23]) .

وفي رواية قال له : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب([24]) .


1  مجمع الزوائد 9 / 105 و 163 ـ 165 . وأنقل عن هذه الصفحات في ما يأتي من هذا البحث .

2  رواه الحاكم الحسكاني في 1 / 192 ـ 193 .

3  شواهد التنزيل للحسكاني 1 / 189 و 191 ـ 193 وأسباب النزول للواحدي ، ص 130 ، والدر المنثور 2 / 298 ، وفتح القدير 2 / 57 ، وتفسير النيسابوري 6 / 194 .

4  مجمع الزوائد 9 / 163 ـ 165 . وابن كثير 5 / 209 ـ 213 .

5  مادة ( الجحفة ) من معجم البلدان .

6  مجمع الزوائد 9 / 105 ، والسمر : نوع من الشجر ، وقُمّ : كُنِس . وقريب منه لفظ ابن كثير 5 / 209 .

7  مسند أحمد 4 / 281 . وسنن ابن ماجة ، باب فضل علي . وتأريخ ابن كثير 5 / 209 و 5 / 210 .

8  مجمع الزوائد 9 / 163 ـ 165 .

9  مسند أحمد 4 / 281 . وسنن ابن ماجة ، باب فضل علي . وتاريخ ابن كثير 5 / 212 .

10  كانت بصرى إسماً لقرية بالقرب من دمشق ، واُخرى بالقرب من بغداد .

11  مجمع الزوائد 9 / 162 ـ 163 و 165 . وبعض ألفاظه في روايات الحاكم 3 / 109 ـ 110 . وابن كثير 5 / 209 .

12  مسند أحمد 1 / 118 و 119 و 4 / 281 . وسنن ابن ماجة 1 / 43 ، ح 116 ، وجاء (نعم) في مسند أحمد 4 / 281 ، 368 ، 370 و 372 . وابن كثير 5 / 209 ، ولدى ابن كثير 5 / 210 : (ألست أولى بكلّ امرئ من نفسه) .

13  مسند أحمد 4 / 281 ، 368 ، 370 و 372 . وابن كثير 5 / 209 و 212 .

14  في رواية الحاكم الحسكاني 1 / 190 : فرفع يديه حتّى يرى بياض إبطيه ، وفي ص 193 منه : حتّى بان بياض إبطيهما . وضَبْعاه : الضَّبْع بسكون الباء : وسط العضد بلحمه . لسان العرب ، مادة : (ضبع) .

15  الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل 1 / 191 . وعند ابن كثير 5 / 209 : وأنا مولى كلّ مؤمن .

16  في جميع روايات الباب بجميع المصادر التي ذكرناها إلى هنا .

17  مسند أحمد 1 / 118 و 119 و 4 / 281 ، 370 ، 372 و 373 و 5 / 347 و 370 . ومستدرك الحاكم 3 / 109 . وسنن ابن ماجة ، باب فضل عليّ . والحاكم الحسكاني 1 / 190 و 191 . وتأريخ ابن كثير 5 / 209 و 210 ـ 213 ، وقال ابن كثير في 5 / 209 : فقلت لزيد : هل سمعته من رسول الله ؟ فقال : ما كان في الدوحات أحد إلاّ رآه بعينيه وسمعه باُذنيه . ثمّ قال ابن كثير : قال شيخنا أبو عبدالله الذهبي : وهذا حديث صحيح .

18  مسند أحمد 1 / 118 و 119 . ومجمع الزوائد 9 / 104 ، 105 و 107 . وشواهد التنزيل 1 / 193 . وتأريخ ابن كثير 5 / 210 و 211 .

19  شواهد التنزيل للحسكاني 1 / 191 . وتأريخ ابن كثير 5 / 210 .

20  شواهد التنزيل 1 / 190 .

21  رواه الحاكم الحسكاني عن أبي سعيد الخدري 1 / 157 ـ 158 ، ح 211 و 212 ، وعن أبي هريرة ، ص 158 ، ح 213 . وفي تأريخ ابن كثير 5 / 214 أوردها بإيجاز .

22  اليعقوبي 2 / 43 .

23  مسند أحمد 4 / 281 . وسنن ابن ماجة ، باب فضائل عليّ . والرياض النضرة 2 / 169 ، ولفظ (بعد ذلك) في تأريخ ابن كثير 5 / 210 .

24  شواهد التنزيل 1 / 157 و 158 .