المناقب - الموفق الخوارزمي - ص 236
: - |
|
شدا على شكتى ( 1 )
لا تنكشف
* ابعد عمرو والزبير نأتلف
أم بعد عثمان نبالي من تلف
* يوم لهمدان ويوم للصدف ( 2 )
وفي تميم نخوة لا تنحرف
* نضربها بالسيف حتى تنصرف
فحمل عليه أمير المؤمنين
علي عليه السلام وعمرو لا يشعر به ، فطعنه وصرعه وبدت
عورته ، فصرف علي عليه السلام وجهه فانسل عنه عمرو ،
قيل لعلى في ذلك فقال انه ابن العاص تلقاني بعورته
فصرفت وجهى عنه .
وروى ان عليا " حمل عليه بسيفه وقال
: خذها يابن النابغة فسقط عن فرسه وأبدى عورته ، فقال
له على : يابن النابغة أنت طليق دبرك أيام عمرك ،
وعذله معاوية وقال : ما هذه الفضيحة التي فضحت بها
نفسك ؟ فقال عمرو لمعاوية : يا أبا عبد الرحمان من
يتعرض لبلاء نفسه لا طاقة لي بعلي ولا لك ولا للوليد
ولا لأحد من جموعنا ، وان لم تصدقني فجرب وقد دعاك
مرارا " إلى البراز ولا تبرز إليه وقال عمرو في ذلك :
يذكرني الوليد شجى علي * وصدر المرء يملأه الوعيد
متى
تذكر مشاهده قريش * يطر من خوفه القلب الشديد
فاما في
اللقاء فأين منه * معاوية بن حرب والوليد
وعيرني
الوليد بقاء ليث * إذا ما زار ( 3 )
هابته الأسود
لقيت
ولست اجهله عليا * وقد بلت من العرق اللبود ( 4 )
فاطعنه ويطعنني خلاسا * وماذا بعد طعنته مزيد
فرمها
منه يابن أبي معيط * فأنت الفارس البطل التجيد
واقسم
لو سمعت ندا على * لطار القلب وانتفخ الوريد
|
( 1 ) وفي [ ر ] : شدتي . والشكه بمعنى السلاح
والشدة بمعنى الحملة .
( 2 ) الصدف بكسر الدال : لقلب
عمرو بن مالك بن اشرس . . ( 3 ) زأر : صاح . ( 4 ) اللبود : التي تفرش
. [ * ] |
|
|
ولو لاقيته شقت جيوب * عليك
ولطمت فيك الخدود ( 1 )
وقال معاوية يا عمرو : ولو
عرفت عليا ما أقحمت عليه وقال معاوية في ذلك :
ألا لله
من هفوات عمرو * يعاتبني على تركي برازي
فقد لاقى أبا
حسن عليا * فآب الوائلي مآب خازي
ولو لم يبد عورته
لأودى * به ليث يذلل كل نازي
له كف كأن براحتيها *
منايا القوم تخطف خطف بازي
فان تكن المنية احرزته *
فقد عنى ( 2 ) بها أهل الحجاز ( 3 )
فغضب عمرو وقال :
هل هو إلا رجل لقيه ابن عمه فصرعه أترى السماء قاطرة
لذلك دما .
وروى ان عليا " عليه السلام خرج إلى صف أهل
الشام وقال لكميل ابن زياد : سر إلى معاوية وقل له :
دعوناك إلى الطاعة والجماعة فأبيت وعندت ، وقد كثر
القتل بين المسلمين فابرز إلي حتى يتخلص الناس مما هم
فيه ، فلما أدى كميل رسالة علي عليه السلام قال معاوية
لقومه : ما تقولون ؟ فنهوه عن ذلك إلا عمرو بن العاص
فإنه قال له قد أنصفك وانه بشر مثلك ، فعيره معاوية
فقال : ما هذه العداوة ، أتظن إني ان قتلت تنال
الخلافة والسلطان ؟ فقال عمرو : امازحك فقال معاوية :
يا عمرو إنك قد أشرت بتهمة * ان المبارز كالجدب للنازي
ما للملوك وللبراز وانما * خطف المبارز خطفة من باز
ولقد رجعت وقلت مزحة مازح * والمزح يحمله مقال الهازى
فاجابه عمرو بن العاص فقال :
معاوي ان نكلت عن البراز
* لك الويلات فانظر في المخازي
|
( 1 ) وقعة صفين / 418 . |
( 2 ) وفي وقعة صفين : غنى .
|
( 3 ) وقعة صفين /
407 . [ * ]
|
|
|
معاوي ما اجترمت
إليك ذنبا *
وما أنا بالذي حدثت هازي
وما ذنبي وكم نادى علي * وكبش
القوم يدعو للبراز
فلو بارزته بارزت ليثا " * حديد
القرن أشجع ذا ابتزاز
أضبع في العجاجة يابن هند * وعند
الباه كالتيس الحجازي ( 1 )
فانصرف كميل وأخبر عليا "
عليه السلام بما جرى ، فتبسم علي عليه السلام وضحك
الأشتر وكان مع أمير المؤمنين رجل من آل ذي يزن الملك
يقال له سعيد بن حارثة وكان مسكنه بالشام ، فلما لم
يجب معاوية إلى الطاعة ولم يبايع أمير المؤمنين علي
عليه السلام ترك الشام وأهله وأمواله بها وصار إلى علي
عليه السلام ، وكان عابدا " يصلى كل يوم وليلة مائة
ركعة ، فقال : يا أمير المؤمنين أنا أدعو معاوية إلى
مبارزتي ، فأذن له علي عليه السلام وتبسم إليه وقال له
: سر إليه بسم الله ، فبرز إليه ونادى معاوية ، فبرز
إليه وقال لسعيد : أنسيت ما فعلت في حقك وما أسديت
إليك من المحامد ؟ فقال له سعيد : كنت أظن انك مسلم
مطيع مقتد بامر الله فلما علمت بغيك وظلمك وطلبك الملك
والسلطان بالباطل أبغضتك وعاديتك ثم حمل عليه سعيد بن
حارثة وكانت بينهما ضربات فلم يظفر أحدهما بصاحبه
فانصرفا ، ثم ان معاوية أظهر لعمرو شماتة وقال له
ولملا من قريش : قد أنصفتكم إذ لقيت سعيدا " في همدان
وهو سيدهم فانقطعوا عنه أياما أنفة وغضب عمرو وقال :
تسير إلى ابن ذى يزن سعيد * وتترك في العجاجة من دعاكا
فهل لك في أبي حسن علي * لعل الله يمكن من قفاكا
دعاك
إلى البراز فلم تجبه * ولو بارزته تربت يداكا
وكنت أصم
اذنا داك عنها * وكان سكوته عنها مناكا
فآب الكبش قد
طحنت رحاه * بخطوتها ولم تطحن رحاكا
|
( 1 ) وقعة صفين /
275 . [ * ] |
|
|
فما أنصفت صحبك ( 1 )
يابن
هند * بفرقته وتغضب من سواكا
فلا والله ما أظهرت خيرا
* ولا أظهرت لي إلا هواكا ( 2 )
" قال رضي الله عنه "
: يقال هجنه تهجينا " إذا نسبه إلى الهجينة ، ولبن
هجين : ليس بصريح ، وفي زناده هجنة : إذا كان احد
الزندين واريا والآخر صلودا ، أراد بقوله لا تهجنه
الكعوب أي لا تعيبه كعوبه ، والشكة : السلاح وشكه
بالرمح : خرقه وادخله اللحم قوله : يذكرني الوليد شجا
علي من شجا بالعظم شجا " .
قال الشاعر : [ لا تنكروا
القتل وقد سبينا ] في حلقكم عظم وقد شجينا ( 3 ) وتقول
: عليك بالكظم وان شجيت بالعظم . وفي المثل : ويل للشجى من الخلى أي يذكرنى صرعته اياي وذلك لي شجى ،
ويقال : خزي خزيا ومخزاة : ذل واخزاه الله وهو من أهل
المخازي ، ورجل خز وامرأة خزية ، خزيه وخزي منه مثل
استحياه واستحيى منه خزاية وهي شدة الحياء ، وأصابتنا
خزية أي خصلة يستحيى منها
.
والجدب : القوى العظيم
الشديد ، ولذلك وصف به الظليم وقيل الجدب : الطويل
الكامل الخلق في اعتدال ، والنازي من نزا الفحل على
الطروقة ينزو نزوا " فهو ناز ونزاء ، ومن المجاز قوله
يتنزي إلى الشر أي يتسرع إليه ، ونزا الطعام : غلا ،
وأكمة ، نازية : مرتفعة عما حولها ، كأنها نزت عن وجه
الأرض .
والهازئ من قولهم هزاء به ومنه وهزى وتهزى
واستهزى ، فحذف الهمزة واشبع الكسرة ويقال : ترب الشئ
، لزق بالتراب وترب الرجل ، افتقر فهو تارب ويقال تربت
يداك أي خبت وخسرت ، فلم تظفر بشئ والكبش في أصل الوضع
الذكر من أولاد الغنم إذا كبر يقال انتطحت الكباش ثم
استعمل في سيد القوم ومددهم . يقال : هو كبش
|
( 1 ) في [ و ] ويحك . |
( 2 ) وقعة صفين / 432 .
|
( 3 ) ما بين المعقوفتين من
المطبوع
. [ * ]
|
|
|
الكتيبة وهم كباش الكتائب .
قال رضي الله عنه : وكان معاوية على التل ، مع وجوه
قريش ، ينظر إلى علي عليه السلام يقتل كل من بارزه ،
فقال : لقد دعاني علي إلى البراز حتى استحييت من قريش
فقال له عتبة : أله عن هذا كأن لم تسمعه ، فقد علمت
انه قتل حريثا وفضح عمرا " وقتل كل من برز إليه وانما
يقوم مقامك بسر بن ارطاة ، فقال بسر : ما كان أحد أحق
بمبارزته من ابن حرب ، فاما إذا ابيتموه فانا له وكان
عند بسر ابن عم له فقال :
أنت له يابسر ان كنت مثله *
وإلا فان الليث للضبع آكل
كأنك يابسر بن ارطاة جاهل *
بشداته في الحرب أو متجاهل
متى تلقه فالموت في رأس
رمحه * وفي سيفه شغل لنفسك شاغل
وما بعده في آخر الخيل
عاطف * وما قبله في أول الخيل حامل ( 1 )
فقال بسر :
خرج منى شئ ، فانا استحى أن ارجع عنه ، فغدا بسر إلى
المعركة فرأى عليا عليه السلام في أول الخيل منقطعا "
عن خيله مع
الأشتر وهو يريد التل ويقول
:
أني علي فسلوني تخبروا *
سيفي حسام وسناني أزهر
منا
النبي الطاهر المطهر * وحمزة الخير وصنوي جعفر
له جناح
في الجنان أخضر * ذا أسد الله وفيه مفخر
هذا الهزبر
وابن هند مجحر ( 2 ) * مطرد مذبذب مؤخر
فاستقبله بسر
قريبا من التل فطعنه علي عليه السلام ولم يعرف أنه بسر
، فانحنى سيفه فدفعه بيده فصرعه على وجهه وانكشفت
عورته فانصرف عنه علي ، فناداه الأشتر : يا أمير
المؤمنين انه بسر ، فقال : دعه لعنه الله فحمل ابن
|
( 1 ) رجل عطوف وعطاف : يحمى المنهزمين . |
( 2 ) من " أجحره " : ألجأه السبع
أن يدخل جحره
. [ * ]
|
|
|
عم بسر على علي عليه السلام
وهو يقول :
أرديت بسرا " والغلام ثائره * أرديت شيخا "
غاب عنه ناصره
فحمل عليه الأشتر وهو يقول :
اكل يوم
رجل شيخ شاغرة * وعورة وسط العجاج ظاهرة
تبرزها طعنة
كف واترة * عمرو وبسر رميا بالفاقرة ( 1 )
وطعنه الأشتر فكسر صلبه ، قام بسر من ضربة علي عليه السلام
وولت خيله وناداه أمير المؤمنين علي عليه السلام : يا
بسر معاوية كان أحق بهذا منك ، فرجع بسر إلى معاوية
فقال له معاوية : ارفع طرفك فقد ادال الله عمرا منك
فقال في ذلك النضر بن الحارث :
أفي كل يوم فارس
تندبونه * له عورة وسط العجاجة بادية
يكف بها عنه علي
سنانه * ويضحك منها في الخلاء معاوية
بدت أمس من عمر وفقنع رأسه * وعورة بسر مثلها فرج جارية ( 2 )
فقولا
لعمرو وابن ارطاة أبصرا * سبيلكما لا تلقيا الليث
ثانية
ولا تحمدا إلا الحيا وخصاكما * كما كانتا والله
للنفس واقية
فلولاهما لم تنجوا من سنانه * وتلك بما
فيها عن العود ناهية
متى تلقيا الخيل المشيحة صبحة *
وفيها علي فاتركا الخيل ناحية
وكونا بعيدا حديث لا
تبلغ القنا * وحمى الوغى ان التجارب كافية
وان كان منه
بعد في النفس حاجة * فعودا إلى ما شئتما هي ماهية
وكان
بسر بعد ذلك إذا لقى الخيل التي فيها علي عليه السلام
تنحى ناحية عنه ( 3 ) . وروى أن أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب عليه السلام كان يقول أيام
|
( 1 ) وقعة صفين / 461 - والفاقرة : الداهية تكسر فقار
الظهر .
( 2 ) وفي وقعة صفين : وعورة بسر مثلها حذو حاذية ولا يخلو من مناسبة .
( 3 ) وقعة صفين / 462 . [ * ] |
|
|
صفين : والله ما سمعت بامة قد آمنت
بنبيها وقاتلت أهل بيت نبيها غيركم .
قال رضي الله عنه
: وروى عن حبة العرنى قال : لما نزل علي عليه السلام
بمكان يقال له البليخ ( 1 ) على جانب الفرات نزل راهب
من صومعته فقال لعلي عليه السلام : ان عندنا كتابا
توارثناه من آبائنا كتبه أصحاب عيسى بن مريم عليه
السلام اعرضه عليك ؟ فقال علي عليه السلام : نعم فما
هو قال الراهب : بسم الله الرحمن الرحيم . الذي قضى
فيما قضى ، وسطر فيما كتب ، انه باعث في الأميين رسولا
منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويدلهم على سبيل الله لا
فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزى بالسيئة
السيئة ولكن يعفو ويصفح ، أمته الحمادون الذين يحمدون
الله على كل نشز ( 2 ) وفي كل صعود وهبوط تذل ( 3 )
ألسنتهم بالتهليل والتكبير وينصره الله على كل من
ناواه فإذا توفاه الله اختلفت أمته ثم اجتمعت فلبثت
بذلك ما شاء ، ثم يمر
رجل من أمته بشاطئ هذا
الفرات يأمر بالمعروف وينهى ؟ عن المنكر ويقضى بالحق
ولا يوكس ( 4 ) الحكم ، الدنيا أهون عليه من الرماد في
يوم عصفت به الريح والموت أهون عليه من شرب الماء على
الظماء يخاف الله في السر وينصح له في العلانية لا
يخاف في الله لومة لائم ، فمن ادرك ذلك النبي من أهل
هذه البلاد فآمن به كان ثوابه رضوان والجنة ; ومن أدرك
ذلك العبد الصالح
|
( 1 ) البليخ : اسم نهر
بالرقة يجتمع فيه الماء من عيون . . ويتشعب من ذلك
الموضع انهار تسقى بساتين وقرى ثم تصب في الفرات تحت
الرقة بميل - معجم البلدان .
( 2 ) النشز بالفتح
والتحريك : المتن المرتفع من الأرض - والصعود والهبوط
: ما ارتفع وما انخفض من الأرض .
( 3 ) يذل ، من الذل
بالكسر والضم : اللين .
( 4 ) الوكس : النقص
. [ * ] |
|
|
فلينصره فان القتل معه شهادة
فأنا مصاحبك لا أفارقك حتى يصيبني ما أصابك قال : فبكى
علي وقال : الحمدلله الذي لم يجعلني عنده منسيا " ،
الحمدلله الذي ذكرني عنده في كتب الأبرار ، فمضى
الراهب معه وكان فيما ذكر يتغدى مع أمير المؤمنين عليه
السلام ويتعشى حتى أصيب بصفين ، فلما خرج الناس يدفنون
قتلاهم قال أمير المؤمنين عليه السلام : اطلبوه فلما
وجده صلى عليه ودفنه وقال : هذا منا أهل البيت واستغفر
له مرارا " ( 1 ) .
" قال رضي الله عنه " : وفي اليوم
السابع والعشرين نادى أمير المؤمنين علي عليه السلام :
هل من معين ؟ فقال اثنا عشر الفا " : نموت بين يديك
وكسروا جفون سيوفهم وسار علي عليه السلام بهم وهو يقول
:
دبوا دبيب النمل لا تفوتوا *
وأصبحوا بحربكم وبيتوا
حتى تنالوا الثار أو تموتوا * أو لا فأنى طال ما عصيت
قد قلتم لو جئتنا فجيت * ليس لكم ما شئتم وشيت
بل ما
يشاء المحيى المميت
وحمل الأشتر وقال :
ابعد عمار وبعد
هاشم * وابن بديل فارس الملاحم
نرجو البقاء ضل حكم
الحاكم
وحمل حارثة بن قدامة وقال :
جرت بأسباب الفناء
مذحج * يحار فيها البطل المدجج ( 2 )
يقدمها تميمها
والمذحج * قوم إذا ما حسموها انضجوا
روحوا إلى الله
ولا تعرجوا * دين قويم وسبيل منهج ( 3 )
وحمل علي عليه
السلام والناس معه وخرق الصفوف وأزال الألوف
|
( 1 ) وقعة صفين / 147 . ( 2 ) المدجج : اللابس
السلاح كأنه المستتر به . ( 3 )
وقعة صفين / 403
. [ * ] |
|
|
فرآه معاوية فركب فرسه ومر
هاربا . فقال معاوية ثم ذكرت قول قيس بن الحطيم فنزلت
وقلت لأصحابي ما يمنعني من الانهزام إلا قول قيس حيث
يقول :
أبت لي أسرتي وأبى
بلائي * واخذي الحمد بالثمن
الربيح
وإعطائي على العلات مالي * وضربي هامة البطل
المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو
تستريحي
لأدفع ( 1 ) عن مآثر صالحات *
واحمي بعد عن
عرض صحيح
ألا من مبلغ الاحلاف عنى * وقد تهدى النصيحة
للنصيح ( 2 )
واشتد القتال وحمل الرؤساء على الرؤساء
واضطرب الناس ولم يسمع إلا وقع الحديد على الحديد
والهام .
قال رضي الله عنه وروى ان في اليوم الخامس
والثلاثين ، اجتمع أهل العراق عند خيمة أمير المؤمنين
علي عليه السلام ينتظرون خروجه ، فخرج وركب فرسه البحر
وعليه درع رسول الله صلى الله عليه وآله ، متقلدا "
سيفه ، متختما " بخاتمه ، متعمما بعمامته السحاب وخرج
إلى المعركة ولم يكلم أحدا " ، وكان معاوية سبق عليا "
عليه السلام إلى المعركة فقال له عمرو بن قيس بن عامر
العكي - وهو رئيس عك - اما عك فلا تخرج من قولي ولكن
مر القواد والرؤساء وفرسان الشام فليحملوا بحملتي
فانهم ان فعلوا ذلك هزمت أهل العراق وأرحتك مما أنت
فيه ، وكانت عك أشجع أهل الشام وأصبرهم على القتال
وأشدهم على أهل العراق وكانوا يلزمون الأرض ويشدون
أنفسهم ، بعضهم ببعض وربيعة وهمدان ومذحج أشجع أهل
العراق وأصبرهم على حر القتال وأطوعهم لأمير المؤمنين
علي بن أبي طالب ، وأشدهم على معاوية وقومه ، وقد لقى
هو وقومه منهم كل بلاء ثم حمل رئيس
|
( 1 ) في [ ر ] : ( خ ل ) اناضل عن مآثر . |
( 2 ) وقعة صفين /
404 . [
* ]
|
|
|
عك وحمل محمد ابن الحنفية
والعباس بن ربيعة الهاشمي وعبد الله بن جعفر وارتفع
الغبار وثار القتام ( 1 ) ، وجرت الدماء واختلط القوم
ولم يعرف أحد صاحبه واشتد البلاء وقتل الأشتر من عك
خلقا " كثيرا " ، وفقد أهل العراق أمير المؤمنين عليه
السلام وساءت الظنون وقالوا : لعله قتل ، فعلا البكاء
والنحيب ، ونهاهم الحسن من ذلك وقال : ان علمت الأعداء
ذلك منكم ، اجترؤا عليكم وان أمير المؤمنين عليه
السلام أخبرني بأن قتله يكون بالكوفة ، وكانوا على ذلك
إذ أتاهم شيخ يبكى وقال : قتل أمير المؤمنين عليه
السلام وقد رأيته صريعا " بين القتلى ، فكثر البكاء
والانتحاب ، فقال الحسن : يا قوم هذا الشيخ يكذب فلا
تصدقوه وإن أمير المؤمنين عليه السلام قال : يقتلنى
رجل من مراد في كوفتكم هذه .
وروى أنه حكى للرشيد : ان
الأبطال بصفين جثوا على الركب وكسفت الشمس ، وثار
القتام واظلمت الدنيا ، وضلت الألوية وفقدت الرايات
ومرت مواقيت الصلاة لا يسجد فيها إلا تكبيرا " ولا
يسمع إلا وقع الحديد على الهام ، حتى تكادموا بالأفواه
ونادى القوم في تلك الغمرات : يا معاشر العرب ، الله
الله في الحرمات من النساء والبنات فغشي على الرشيد
حتى رش عليه الماء ، فأفاق وقد اصفر لونه ودموعه تنحدر
على لحيته ، وكان الأشتر يطلب أمير المؤمنين عليه
السلام في ذلك اليوم راية راية ، وقال لغلامه هاشم :
أنظر هل رجع إلى موقفه وأنا أطلبه في العسكر ، فان
بشرتني برجوعه فلك كذا وكذا ، وكان علي عليه السلام
حينئذ مع سعيد بن قيس الهمداني وهمدان فوارسه الخواص
فوجده الأشتر عنده فرآه علي عليه السلام متغيرا " عن ؟
؟ اكيا " ، فقال له : ما خبرك ؟ أفقدت ابنك
إبراهيم ،
أم ما أصابك غير ذلك ؟
|
( 1 ) القتام : الغبار الاسود أو الظلام
. [ * ] |
|
|
فقال الأشتر :
كل شئ سوى
الإمام صغير * وهلاك الأمير أمر كبير
قد رضينا وقد أصيب لنا اليوم * رجال هم الحماة الصقور
من رأى غرة
الوصي علي * انه في دجى الحنادس نور
قال رضي الله عنه
يقال كدمه : عضه بأدنى الفم ، وحمار مكدم : معضض ،
وتكادموا : تفاعل من ذلك ; وقولهم : الدواب تكدم
الحشيش إذا لم تستمكن من الحشيش ، وفي المرعى كدامة
بقية ، مجاز ما قدمنا .
واشتدت المناجزة بين همدان وعك
حتى قتل من همدان يومئذ ثلاثمائة رجلا " واثنا عشر
رجلا " : وقتل من عك ثمانمائة وسبعون وقيل : ثمان مائة
وثمانون رجلا " قال سعيد بن القيس الهمداني وهو رئيسهم
:
وقد علمت عك بصفين اننا * إذا ما التقى الخيلان
نطعنهم شزرا
ونحمل رايات الطعان بحقها * فنوردها بيضا
ونصدرها حمرا
" قال رضي الله عنه " : روى انه في اليوم
السابع والثلاثين من حروب صفين لما أصبح أمير المؤمنين
عليه السلام أتاه أولا
سعيد بن قيس الهمداني ووقف
خيله مع راياته ، ثم أتاه الأشتر في عسكره ، وحجر بن
عدى الكندي وقيس بن سعد بن عبادة ، ثم أتاه عبد الله
بن عباس وسليمان بن صرد وصغيره بن خالد والأحنف بن قيس
ورفاعة بن شداد وجندب بن زهير ، وخرج أمير المؤمنين
عليه السلام في درع رسول الله صلى الله عليه وآله
وفوقها خفتان أخضر محشو بالقز وهو متقلد سيف رسول الله
صلى الله عليه وآله ومعه حجفته ، وبيده قضيب رسول الله
الممشوق ، وسلم عليه القوم وانصرفوا إلى معسكرهم وأقبل
[ علي عليه السلام ] على الأشتر فقال : يا مالك معي
راية لم أخرجها إلا يومى هذا وهي أول راية أخرجها
النبي صلى الله عليه وآله وقد قال لي عند وفاته صلى
الله عليه وآله : يا أبا الحسن انك لتحارب الناكثين
والقاسطين والمارقين وأي تعب ونصب يصيبك من أهل الشام
فاصبر على ما أصابك ، ان الله
مع الصابرين ، وأخرج الراية وقد عفت وبليت وبكى الناس
لما رأوها بكاء عاليا " وقبلها من وجد إليها سبيلا
وقال علي عليه السلام لقنبر : اخرج رمح رسول الله صلى
الله عليه وآله الملموس [ بيده ] ويرثه منى الحسن ولا
يستعمله وينكسر بيد ابني الحسين ولقد أخبرني رسول الله
صلى الله عليه وآله باخبار كثيرة . يا مالك ان الدنيا
دنية خلقت للفناء والخير خير الآخرة ، فانها خلقت
للبقاء ، ثم سار ومعه الناس إلى المعركة وصفوا الصفوف
وتأهبوا للقتال ، فأول من برز من صف أهل الشام رجل
عليه درع مذهبة وبيضة عادية وبيده سيف حميري وصاح : يا
أهل العراق ، تزعمون ان اليوم تجرى الدماء على الأرض
كما تجرى [ الماء ] في النهر ؟ وقد صدقتم اليوم نسفك
دماءكم ، فليبرز إلي أشجعكم ، فبرز إليه عمرو بن عدي
بن وهب بن خصيب بن يعمر النخعي وقال له : يا شامي أنت
أول قتيل يومنا هذا ، ثم تكافحا فسبقه عمرو بالضربة
فصرعه ووقف مكانه ونادى : يا أهل الشام ليبرز إلي آخر
، فبرز إليه رجل مشهور بالشجاعة ، مذكور بالحماسة ،
كان معاوية يعده لشدته يقال له أبو جندب عبيد بن ذويب
السكوني اليماني ، فقتل أبو جندب عمرا " فبرز إليه عبد
الله بن بشر بن عوز ( 1 ) النخعي فقتله أيضا " أبو
جندب فبرز إليه الشخير بن يحيى النخعي وكان فقيها
صالحا " سخيا جوادا " ، فقتله أبو جندب أيضا " فقال
الأشتر وقد اغتاظ لأنه قتل جماعة من قومه لبعض بني عمه
وهو طرفة بن عبيدة : انزع درعك وناولني رايتك فانى
أبرز إليه ولعله يعرفني إذا بزرت إليه في زيي ، فلا
يحاربني ، فاعطاه ذلك فبرز إليه الأشتر وأبو جندب ينظر
إلى قتلاه ، فصاح عليه الأشتر وقال : قاتلك الله إذ
قتلت سادات نخع ، فقال : لان القتل وجب عليهم بخروجهم
على الإمام عثمان وقتال
|
( 1 ) في [ و ] عون . [
* ] |
|
|
معاوية ، فقال الأشتر : ما
أعظم حماقتكم وقد خدعكم معاوية بهذا ، انتم أطوع الناس
لمخلوق وأعصاهم للخالق ، ولم يعلم أبو جندب انه الأشتر
فحمل عليه أبو جندب وضربه بسيفه فاتقاه الأشتر بحجفته
، ثم ضربه الأشتر على رأسه فرمى به ووقف مكانه ودعا
بآخر ، فبرز إليه فقتله الأشتر وكان يقتل كل من برز
إليه حتى قتل منهم أحد عشر رجلا ، ثم انصرف وكأنه مصاب
فقال له أخوه : كم مرة تخاطر بنفسك وبروحك وقد قيل في
المثل :
ياجرة يستقى بها زمنا " * لابد من أن تصير
منكسرة
فقال الأشتر :
أبعد عمار وبعد هاشم * وابن بديل
فارس الملاحم
أرجوا البقاء ضل حكم الحاكم * لقد عضضنا أمس بالأباهم
فاليوم لا نقرع ( 1 ) سن النادم
وكان قبل
ذلك قتل عمار بن ياسر وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص ابن أخى سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن بديل الخزاعي " رض "
وكانوا فرسان العراق ومردة الحروب ورجال المعارك وحتوف
الأقران وأمراء الأجناد وأنياب أمير المؤمنين وقد
فعلوا باهل الشام ما بقى ذكره على ممر الاحقاب حتى
احتالوا لقتلهم فقتلوا فذكرهم الأشتر في شعره متأسفا "
.
ثم برز من أهل الشام رجل ونادى : يا أهل العراق من
الذي قتل منا احد عشر رجلا وفيهم أخى وعمى وابن خالتي
فقال [ الأشتر : ] وأنت تلحق بهم ان شاء الله الساعة ،
فقال الشامي :
أنا الغلام الاريحي الكندي * اختال في
الديباج والفرند
فضربه الأشتر فرمى برأسه ثم دعا أمير
المؤمنين عليه السلام قنبرا " وقال له : سر إلى
الميمنة وقل لعبدالله بن جعفر ولا بني محمد : إذا حملت
فاحملوا معي
|
( 1 ) في [ و ] : يقرع
. [ * ] |
|
|
وقال لكميل بن زياد : قل
لسليمان بن صرد وتكون على الميسره وكذلك أرسل إلى
أصحاب الميسرة وأوصاهم بذلك ثم تقدم وانتظر الناس
حملته ومعه الأشتر ومحمد وغيرهما ، وزحف الناس بعضهم
إلى بعض وارتموا بالنبل حتى فنيت ثم تطاعنوا بالرماح
حتى تكسرت ، ثم تضاروبا بالسيوف وعمد الحديد واشتد
القتال حتى جرت الدماء جرى الماء ، وانهزم عرب اليمن
وكان وقع الحديد على الحديد أشد هولا " من الصواعق
والجبال حين تنهدم وانكسفت الشمس وثار القتام وضلت
الألوية والرايات ووصلوا النهار بالليل وهي ليلة
الهرير وأصبح أهل العراق والمعركة خلف ظهورهم وافترقوا
عن سبعين ألف قتيل .
في رواية : وحمل الوليد بن عقبة
على أمير المؤمنين عليه السلام مع ألف فارس فحمل عليه
أمير المؤمنين مع الف فارس ، فانهزم الوليد ومن معه
ولم يتبعهم أمير المؤمنين ، وكذلك كان يفعل ، فقال
الاصبغ بن نباته وصعصعة بن صوحان : يا أمير المؤمنين
كيف يكون لنا الفتح وإذا هزمناهم لم نقتلهم وإذا
هزمونا قتلونا ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام : ان
معاوية لا يعمل بكتاب الله ولا بسنة رسوله ولست أنا
كمعاوية ولو كان عنده علم وعمل لما حاربني والله بيني
وبينه .
قيل لم ير رئيس قوم مذ خلق الله الدنيا قتل
بيده ما قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه
السلام في ذلك اليوم وتلك الليلة وهي ليلة الهرير إذ
وصلوا الليل بالنهار في القتال حتى روى انه قتل في تلك
الليلة بيده خمسمائة رجل وزيادة وفي رواية قتل من
أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك اليوم والليلة
ألفا رجل وسبعون رجلا وفيهم اويس القرني زاهد زمانه
وخزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين وقتل من أصحاب
معاوية [ في ذلك اليوم ] سبعة آلاف رجل . قال رضي الله
عنه : ومن المكاتبات التي جرت بين أمير المؤمنين عليه
السلام وبين معاوية لعنه الله أيام صفين ، كتب علي بن
أبي طالب إلى
معاوية لعنه الله : أما بعد
فان لله عبادا " آمنوا بالتنزيل وعرفوا التأويل ،
وفقهوا في الدين وبين الله فضلهم في القرآن الحكيم ،
وانتم في ذلك الزمان أعداء الرسول تكذبون بالكتاب
وتجتمعون على حرب المسلمين من ثقفتم منهم ، عذبتموه أو
قتلتموه حتى أذن الله تعالى بإعزاز دينه وإظهار نبيه
صلى الله عليه وآله وادخل العرب في دينه أفواجا "
وأسلمت له هذه الأمة طوعا " وكرها " ، فكنتم ممن دخل
في هذا الدين اما رغبة واما رهبة ، حتى فاز أهل السبق
بسبقهم وفاز المهاجرون الأولون بفضلهم ، فلا ينبغي لمن
ليست له مثل سوابقهم ان ينازعوهم في الأمر الذين هم
أهله وأولياؤه فيجور ويظلم ولا ينبغي لمن كان له قلب
أو ألقى السمع وهو شهيد أن يجهل قدره ويعدو طوره ولا
يشقي نفسه بالتماس ما ليس له ولا هو أهله وان أولى
الناس بهذا الأمر قديما وحديثا أقربهم من الرسول
وأعلمهم بالكتاب والتأويل وأفقههم في الدين وأولهم
إسلاما " وأفضلهم اجتهادا فاتقوا الله الذي إليه
ترجعون ، وَلاَ تَلْبِسُواْ
الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ
وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 1 ) ، واعلموا ان خيار عباد الله الذين
يعملون بما يعلمون وشر عباد الله الجهال الذين ينازعون
بالجهل أهل العلم . ألا واني ادعوكم إلى كتاب الله
وسنة نبيه وحقن دماء هذه الأمة ، فان قبلتم أصبتم
وهديتم ، وان أبيتم إلا الفرقة وشق عصا هذه الأمة لم
تزدادوا من الله إلا بعدا " ولم يزداد الله عليكم الا
سخطا " ( 2 ) .
فلما وصل الكتاب إلى معاوية قام إليه
أبو مسلم الخولاني فقال : صدق علي ، فعلام نقاتله ؟
فوالله ، انه لأحق بالأمر منك قال : أجل ولكنه أطالبه
بدم عثمان ، قال فاكتب إليه بحجتك حتى أحمل كتابك
وآتيه فان أقر بدمه ، سألته الحجة وان أنكر ، نظرنا في
أمرنا قال نعم فكتب [ معاوية ] إلى علي عليه السلام .
|
( 1 ) البقرة : 42 . |
( 2 ) وقعة صفين /
150 . [
* ]
|
|
|
أما بعد ، فان الله اختار
بعلمه محمدا " صلى الله عليه وآله فجعله الأمين على
وحيه ورسولا إلى خلقه ، واختار له من المسلمين أعوانا
، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام
، كان أفضلهم إسلاما " وانصحهم لله ولرسوله خليفته
وخليفة خليفته والخليفة الثالث المظلوم ، عثمان بن
عفان فكلهم حسدت وعلى كلهم بغيت .
عرفنا ذلك في نظرك الشزر وقولك الهجر وتنفسك الصعداء في
إبطائك بالبيعة
عن الخلفاء ، في كل ذلك تقادكما يقاد الجمل المخشوش (
1 ) حتى تبايع وأنت كاره ، ولم تكن لأحد منهم اشد حسدا
" منك لابن عمك عثمان بن عفان وكان أحقهم ان لا تفعل
ذلك به لقرابته وصهره فهجنت محاسنه وقطعت رحمه وأظهرت
له العداوة حتى ضربت إليه الإبل من الآفاق ، وندبت
إليه الخيل العراب ( 2 ) ، فشهر عليه السلاح في حرم
رسول الله صلى الله عليه وآله تسمع الواعية في داره
فلم ترد عليه بقول ولا
فعل ، واقسم ان لو قمت
مقاما " واحدا " ، تنهى الناس عنه ما عدل بك احد ( 3 )
، ولمحى عنك عيب ما كنت تقرف به وأخرى ، أربت ( 4 )
بها عند أولياء عثمان وأنصاره ، إيواؤك قتلته .
فهم
يدك وعضدك وأنصارك وقد ذكر لي أنك تنتفي من دمه ، فان
كنت صادقا " فادفع إلي قتلته ثم نحن أسرع الناس
إليك إجابة ، وإلا فانه ليس لك ولا لأصحابك عندنا إلا
السيوف ، ووالله الذي لا إله غيره ، لنطلبن قتلة عثمان
في البر والبحر والسهل والجبل حتى نقتلهم به أو تلحق
أرواحنا بالله تعالى ( 5 ) : فاخذ أبو مسلم الخولاني
كتابه
|
( 1 ) المخشوش : الذي جعل في عظم
انفه الخشاش وهو بالكسر ، عويد يجعل في انف البعير يشد
به الزمام ليكون اسرع في انقياده .
( 2 ) خيل عراب أو
إبل عراب : كرائم سالمة من الهجنة .
( 3 ) عدل فلانا
بفلان يسوى بينهما - المعجم الوسيط - المستعمل في
المتن على صيغة المجهول من هذه الباب .
( 4 ) أرب فلان بالشئ : كلف به ولزمه - المعجم الوسيط .
( 5 ) وقعة
صفين - لنصر بن مزاحم ص 87 . [ * ] |
|
|
وذهب به مع نفر من قراء الشام
حتى دخلوا على علي عليه السلام فأوصلوا إليه كتاب
معاوية ، فلما قرأه ، كتب جوابه : أما بعد ، فإن أخا
خولان أتاني منك بكتاب تذكر فيه محمدا " صلى الله عليه
وآله ، والحمد لله الذي صدق له الوعد ومكن له في
البلاد وأظهره على أهل عداوته والشنآن من قومه الذين
البوا ( 1 ) عليه العرب وهم قومه الأدنى فالأدنى إلا
قليلا ممن عصمه الله .
ذكرت إن الله اختار له من
المسلمين أعوانا ، أفضلهم زعمت في الإسلام وانصحهم لله
ولرسوله خليفته وخليفة خليفته لعمري ان مكانهما في
الإسلام لعظيم وان المصاب بهما مجرح لجليل .
جزاهما
الله تعالى بأحسن ما عملا وسعيا وذكرت عثمان في الفضل
ثالثا فان يكن محسنا فسيلقى ربا شكورا " ، يضاعف [ له
] الحسنات ، ويجزى الثواب الجسيم ، وان يك مسيئا " ،
فسيلقى ربا " لا يتعاظمه ذنب يغفره ، ولعمري ،
إني
لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الإسلام
، كنا أهل البيت أول من آمن وصدق بما أرسل به فأراد
قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا وهموا بنا الهموم
وفعلوا بنا الأفاعيل وامسكوا منا ( 2 ) المادة وقطعوا
منا الميرة ( 3 ) ومنعونا الماء العذب وأحلونا الخوف
واضطرونا إلى جبل وعر ( 4 ) وكتبوا بينهم كتابا " أن
لا يواكلونا ولا يشاربونا ولا يبايعونا ولا يناكحونا
ولا نأمن فيهم حتى ندفع إليهم نبينا فيقتلوه ويمثلوا
به ، فحج الناس كفارا " ونحن نحج مؤمنين ، اكبر ذلك
أبوك وأنت فعزم الله على منعه والذب عن حوزته ،
فمؤمننا يرجو الثواب ، وكافرنا يحامى عن الأصل ، وأنا
أول أهل بيتي إسلاما " معه ومن أسلم بعدنا أهل البيت
من قريش فحليف ممنوع وذو عشيرة تحامى عنه ، ثم
|
( 1 ) ألب القوم : جمعهم - المعجم
الوسيط . ( 2 ) في المخطوطات : عنا
. ( 3 ) الميرة بالكسر : ما
يجلب من الطعام .
( 4 ) الوعر : المكان المخيف الوحش -
المكان الصلب ضد السهل
. [ * ] |
|
|
أمر الله نبيه صلى الله عليه
وآله بقتال المشركين ، فكان يقدم أهل بيته إلى حر
الأسنة والسيوف حتى قتل عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب
يوم بدر وقتل حمزة يوم أحد وقتل جعفر بمؤتة وزيد بن
حارثة وأسلم الناس نبيهم يوم حنين غير العباس عمه ،
وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمه ، وأراد
من لو شئت يا معاوية ، ذكرت اسمه ، مثل الذي أرادوا من
الشهادة مع رسول الله صلى الله عليه وآله غيره إلا أن
آجالا أجلت ومنية أخرت .
والله ولي الإحسان إليهم
والمنان على أهل بيتي بما أسلفوا من الصالحات وقد أنزل
الله تعالى في كتابه فضلهم يوم حنين فقال : " فأنزل
الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين " ( 1 ) وانما
عنانا بذلك دون غيرنا فتذكر في الفضل غيرنا وتدعنا فلم
لا تذكر فيه من استشهد في الله ورسوله منا ؟ وما ذاك
إلا لحسدك إيانا وبغيك علينا ، كما ان تلك عادتك فينا
فهل سمعت يا معاوية بأهل بيت نبي في سالف الأمم ، اصبر
على الضراء واللأواء ( 2 ) وحين البأس والمواطين
الكريهة من هؤلاء النفر الذين عددتهم من أهل بيتي ؟
وفي المهاجرين والأنصار خير كثير .
جزاهم الله بأحسن
أعمالهم ، وذكرت يا معاوية حسدي الخلفاء وبغيي عليهم
فمعاذ الله من الحسد والبغي ، بل أنا المحسود المبغي
عليه فاما الإبطاء عنهم والنكرة لأمرهم فاني لست أعتذر
إلى الناس منه ان الله تعالى لما قبض محمدا " صلى الله
عليه وآله اختلف الناس فقالت قريش : منا الأمير ،
وقالت الأنصار : منا الأمير ، فقالت قريش : ان محمدا
منا ونحن أحق بالأمر منكم ، فعرفت الأنصار ذلك فسلموا
إليهم الأمر والسلطان ، فاستحقتها قريش بمحمد صلى الله
عليه وآله فان يكن هذا هكذا فان أولى الناس بمحمد ،
أولاهم بها وإلا فان الأنصار أعظم الناس سهما " في
الإسلام ولا أرى أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا
وللأنصار ظلموا بل قد عرفت أن حقي ، هو
|
( 1 ) الفتح : 26 . ( 2 ) اللأواء : الشدة وضيق المعيشة
- النهاية
. [ * ] |
|
|
المأخوذ . فقد تركته لهما ، اما عدلا واما صلحا " غير حرجين ولا متبوعين واما ما
ذكرت من أمر عثمان فانه فعل ما قد علمت ورأيت من الحدث
وفعل الناس ما قد رأيت من التعيير وقد علمت يا معاوية
إني كنت من أمر عثمان في عزلة يسعني من ذلك ما وسع
أصحاب محمد ( 1 ) صلى الله عليه وآله الا أن تتجنى
فتجن ما بدا لك ، ولعمري لقد أيقنت ما دم عثمان عندي
ولا قبلي ولا أنت وليه وان دونك لأولياء ولكن الدنيا
آثرت ولها كدحت وأنت بعثمان تربصت وقد استنصرك في
حياته فما نصرت وأما ما ذكرت من دفع قتلة عثمان إليك
فانه لا يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك لأنهم محتجون
في دم عثمان بان عثمان قد قتل منهم ، قبل قتلهم إياه
فهم متأولون في ذلك ومحتجون فيه [ فاما ما ذكرت من انك
تطلبهم في البر والبحر فاقسم بالله لئن لم تنته وتنزع
عن سفهك يابن آكلة الأكباد لتجدنهم يطلبونك ولا
يكلفونك طلبهم وكان أبوك أتاني حين ولى الناس أبا بكر
فقال : أنت أحق الناس بهذا الأمر منهم كلهم بعد محمد
وأنا يدك على من شئت فابسط يدك ، أبايعك فأنت أعز
العرب دعوة فكرهت ذلك ، كراهة للفرقة وشق عصى الأمة ،
لقرب عهدهم بالكفر والارتداد فان كنت تعرف من حقي ما
كان أبوك يعرفه أصبت رشدك وان لم تفعل ، استعنت بالله
عليك ونعم المستعان وعليه توكلت واليه أنيب ] ( 2 ) .
روى انه قال للخولاني : يا أبا مسلم من معاوية حتى
أدفع إليه قتلة عثمان ؟ إنما عليه أن يبايعني كما
بايعني المهاجرون والأنصار ، ثم يجتمع أولياء عثمان
ويقتص لهم الإمام من قتلة والدهم ، ويحكم بما أمر الله
به ، ولكن معاوية لا يجد ما يستغوي به الناس غير هذا ،
ولعمري لو وجدت سبيلا
|
( 1 ) في [ و ] : يمنعني ما يمنع
أصحاب محمد .
( 2 ) وقعة صفين / 88 وما
بين المعقوفتين في [ ر ] تقديم وتأخير وما في المتن
على ترتيب [ و ] . [ * ] |
|
|
إلى الاقادة منهم في حكم الله
تعالى ما أخذتني في [ أهل ] مصر لابن " أروى " ( 1 )
هوادة .
فلما وصل كتابه إلى معاوية وأتاه أبو مسلم
بالحجج ، قال معاوية : لست أنكر كل ما قال في فضائل
نفسه وأهل بيته غير انه لا يقنعني إلا أن يدفع إلي
قتلة عثمان ، فخرج أبو مسلم في جماعة كثيرة حتى لحق
بعلي رضي الله عنه .
وقال علي عليه السلام : إني لا أتعجب من معاوية وبغضه وحسده ولكن أتعجب من النعمان بن
بشير وعبد الله بن عامر بن كريز وقد رأوا منزلتي عند
رسول الله صلى الله عليه وآله وجعل يقول :
أسأت إذ
أحسنت ظني بكم * والحزم سوء الظن بالناس
من أحسن الظن بأعدائه * تجرع الهم بأنفاس
وكتب معاوية إلى علي عليه
السلام مع رجل من السكاسك يقال له عبد الله بن عقبة
وكان من ناقلة العراق ( 2 ) فكتب : أما بعد ، فاني
أظنك ان لو علمت ان الحرب تبلغ بك ما بلغت وعلمنا لم
نجبها بعضنا على بعض وإن كنا قد غلبنا على عقولنا ،
فقد بقى منها ما تندم على ما مضى ونصلح به ما بقى وقد
كنت سألتك الشام ، على أن لا تلزمني ( 3 ) لك طاعة ولا
بيعة فأبيت ذلك علي ( 4 ) فأعطاني الله ما منعت وأنا
أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس فإنك لا ترجو من
البقاء إلا ما أرجو ولا أخاف من القتل إلا ما تخاف ،
وقد والله رقت الاجناد وذهبت الرجال ونحن بنو
|
( 1 ) ابن اروى : اسم آخر لعثمان ، كان ينادى به ،
وإروى ، هي أمه وهي بنت كريز بن عبدالشمس - راجع
أسد
الغابة 5 / 391 .
( 2 ) وفي [ و ] وكتب معاوية الباغي
الطاغي إلى أمير المؤمنين عليه السلام .
( 3 ) في
الأصلين : " على ان تلومني " بدل " تلزمني " وهو تصحيف
.
( 4 ) في [ و ] : وقد كنت سألتك الشام على ان يكون
منى لك طاعة ولا بيعة
. . [ * ] |
|
|
عبد مناف ليس لبعضنا على بعض
فضل إلا فضل لا يستذل به عزيز ولا يسترق به حر والسلام
( 1 ) فلما انتهى كتاب معاوية إلى علي ، قرأه قال :
العجب لمعاوية وكتابه إلي ، ثم دعا عبد الله بن أبي
رافع كاتبه فقال : اكتب إلى معاوية : أما بعد فقد
جاءني كتابك ، تذكر فيه : انك لو علمت وعلمنا أن الحرب
تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجبها ( 2 ) بعضنا على بعض
وأنا واياك منها في غاية لم نبلغها بعد .
فاما طلبك
منى الشام فاني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس ،
وأما استواؤنا في الخوف والرجاء فإنك لست على الشك
أمضى منى على اليقين ولى أهل الشام بأحرص على الدنيا
من أهل العراق على الآخرة ، وأما قولك ; انا بنو عبد
مناف ، ليس لبعضنا على بعض فضل فكذلك نحن ولكن ليس
أمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان
كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا المحق كالمبطل
، وفي أيدينا فضل النبوة
التي بها قتلنا الحر العزيز
وبعنا الحر الذليل ( 3 ) .
فلما أتى معاوية كتاب علي
عليه السلام ، كتمه عمرا " أياما " ثم دعاه بعد ذلك
فاقرأ الكتاب فشمت به عمرو ولم يكن أحد من قريش أشد
تعظيما لعلي عليه السلام من عمرو بعد يوم لقيه عمرو
فيما كان أشاربه على معاوية .
وكتب معاوية إلى ابن
عباس ومكان يجيبه بقول لين ، وذلك قبل أن تعظم الحرب . فلما قتل أهل الشام ، قال معاوية ان ابن عباس ، رجل
قرشي واني كاتب إليه في عداوة بني هاشم بني أمية
ومخوفه عواقب هذه الحرب ، لعله يكف عنا فكتب إليه :
أما بعد ، فإنكم يا معشر بني هشام لستم إلى أحد
|
( 1 ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم / 470 . ( 2 )
في وقعة صفين . " لم يجنها " . ( 3 )
وقعة صفين / 470
- 471 .
[ * ] |
|
|
بالمساءة أسرع منكم إلى أنصار
ابن عفان حتى إنكم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما دمه
واستعظامهما ما نيل منه فان يك ذلك لسلطان بني أمية
فقد ورثها عدى وتيم وأظهرتم العارفة وقد وقع من الأمر
ما قد ترى وأكلت هذه الحرب بعضها من بعض حتى استوينا
فيها فما أطمعكم فينا ، أطمعنا فيكم وما آيسكم منا ،
آيسنا منكم وقد رجونا غير الذي كان وخشينا دون ما وقع
ولستم بملاقينا اليوم بأحد من حد أمس ولا غدا " بأحد
من حد اليوم وقد منعنا بما كان من ملك الشام ومنعتم
بما كان منكم وابقوا على قريش فانما بقي من رجالنا ستة
: رجلان بالشام ورجلان بالعراق ورجلان بالحجاز فاما
اللذان بالشام فانا وعمرو وأما اللذان بالعراق فأنت
وعلي وأما اللذان بالحجاز فسعد وابن عمر ، و [ اثنان ]
من الستة ناصبان لك وآخران واقفان عليك وأنت رأس هذا
الجمع اليوم وغدا ولو بايع الناس لك بعد عثمان ، كنا
إليك أسرع [ إجابة ] منا إلى علي . في كلام كثير كتب
به إليه ( 1 ) .
فلما انتهى الكتاب إلى ابن عباس ،
استضحك ثم قال : حتى متى يخطب إلى عقلي وحتى متى أحجم
( 2 ) على ما في نفسي . فكتب إليه . أما بعد ، فاما ما
ذكرت من سرعتنا إليك بالمساءة والى أنصار ابن عفان
وسلطان بني أمية ، فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك
حين استنصرك فلم تنصره ، حتى صرت إلى ما صرت إليه
وبيني وبينك في ذلك ابن عمك واخو عثمان ، الوليد بن
عقبة ( 3 ) واما طلحة والزبير فطلبا الملك ونقضا
البيعة فقاتلهما على النكث .
واما قولك : انه لم يبق
من قريش غير ستة فما أكثر رجالهما وأحسن بقيتها
|
( 1 ) وقعة صفين / 414 .
( 2 ) في وقعة صفين
: . . متى أجمجم . . ، والجمجمة : ان لا يبين كلامه من
غير عى - لسان العرب .
( 3 ) هو اخوه لامه
. [ *
] |
|
|
وقد قاتلك من خيارها من قاتلك
ولم يخذلنا إلا من خذلك واما إغراؤك إيانا بعدي وتيم
فأبوبكر وعمر خير من عثمان كما ان عثمان خير منك وقد
بقي لك منا يوم ينسيك ما قبله وتخاف ما بعده واما قولك
اما انه لو بايع الناس لي لاستقامت لي ، فقد بايع
الناس عليا عليه السلام وهو خير منى فلم تستقم له ،
وانما الخلافة لمن كان في الشورى فما أنت والخلافة يا
معاوية وأنت طليق وابن طليق ، وابن رأس الأحزاب وابن
آكلة الأكباد ، فلما انتهى الكتاب إلى معاوية قال هذا
عملي بنفسي لا والله لا اكتب إليه كتابا سنة ( 1 ) .
وكتب معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد بن عبادة اما
بعد ، فانك يهودي وابن يهودي ان ظفر الفريقان إليك
عزلك واستبدل بك وان ظفر أبغضهما إليك نكل بك وقتلك
وقد كان أبوك وتر قوسه ورمى غرضه واكثر الحز واخطأ
المفصل فخذله قومه وأدركه يومه حتى مات بحوران ( 2 )
طريدا " ( 3 ) .
فكتب إليه قيس : اما بعد ، فانما أنت
وثن ابن وثن ، دخلت في الإسلام كرها " وخرجت منه طوعا
" لم يقدم إيمانك ولم يحدث نفاقك وقد كان أبي وتر قوسه
ورمى غرضه فشعب به من لم يبلغ عقبه ، ولا شق غباره
ونحن أنصار الدين الذي منه خرجت وأعداء الدين الذي فيه
دخلت ( 4 ) .
|
( 1 ) وقعة صفين /
415 .
( 2 ) حوران ، بالفتح : كورة واسعة من أعمال
دمشق في القبلة ، ذات قرى كثيرة ومزارع ، قصبتها بصري
ومنها اذرعا وزرع ، وحوران أيضا " ماء بنجد - مراصد
الاطلاع .
( 3 ) و ( 4 ) شرح نهج البلاغة لابن
أبي
الحديد 16 / 43 . [ * ] |
|
|
|