واذا كان هناك من الفقهاء المسلمين من يرى كراهيه القضاء
فى المسجد، فان الحقيقه التاريخيه تشير الى ان الرسول
الكريم وخلفاءه من بعده كانوا يقضون فى المسجد، وقد سار
على هديهم العديد من القضاه كشريح والشعبى واضرابهم. وقد
انحى الامام على باللائمه على شريح عندما بلغه انه قضى
لبعض المتخاصمين فى داره، وامره بالكف عن ذلك والجلوس
للتقاضى فى المسجد الجامع لانه (اعدل بين الناس. وانه وهن
بالقاضى ان يجلس فى بيته)((91)) اما تنفيذ العقوبات فلم
يسمح باقامتها فى المسجد كما سنرى ذلك فى محله.
ويذهب المحقق الحلى((92)) الى كراهيه اتخاذ المسجد
مجلسا للقضاء، فجاءت هذه الكراهيه متاخره عن عهد الرسول
واصحابه لاعتبارات مسوغه لا مجال لبحثها هنا، فلكل مقام
مقال.
والحقيقه ان مبدا علانيه المحاكمه انما يعبر عن حق الناس فى
حضور المحاكمه، تعبيرا عن رغبتهم فى الشعور بالعداله
وتحقيق الاطمئنان بالقضاء كى يكون بعيدا عن
الشبهات((93)) وموضع ثقه الجميع وقناعتهم بما تتمخض
عنه المحاكمه من نتائج.
المبحث الثانى المساواه بين الخصوم
ذكر الفقهاء، فى باب آداب القضاء، ان على القاضى ان يسوى
بين الخصوم فى مجلس قضائه، وذلك استنادا الى قول الرسول
الكريم الذى جاء فيه: (من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فليسو
بينهم فى المجلس والاشاره والنظر ولا يرفع صوته على احد
الخصمين)((94))، وقد استلهم الامام امير المومنين على(ع)
هذا المعنى وطبقه نظريا وعمليا، واكده فى وصيته
لشريح((95))، فالقاضى عليه الالتزام بمبدا المساواه بين
الخصوم اثناء المرافعه، تحقيقا لمبدا العداله، اذ لا تلقى العداله
القضائيه حضورا فى مجلس القضاء الا اذا نظر الى الخصوم
بالدرجه نفسها فى الرويه والمحاكمه والمناقشه، من دون ميل
لهذا او ذاك، انما يقتضى الموازنه بين الطرفين المتخاصمين
بكل حياد وترو.
واذا كان مفهوم الحياد لا يحتاج الى توضيح، اذ على القاضى ان
لا يتحيز الى اى طرف دون الاخر انما عليه ان يناقش الادله
والدفوع المقدمه اليه وصولا الى الحقيقه لا غير، ومن
مستلزمات الحياد ان يعلل حكمه فى القضيه مستندا فيه الى
موضوعيه الاثبات والقناعه، فان مفهوم التروى ينصرف الى
وجوب الاستماع الى اقوال اطراف الدعوى، ابتداء بالمشتكى
وانتهاء بالمشكو منه بكل تان واتزان، وان يستحضر رجل القضاء
دائما فى ذهنه ما جاء فى وصيه الرسول لابن عمه على(ع) من
انه (اذا جلس بين يديك خصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع
من الاخر مثل ما سمعت منه فانك ان فعلت ذلك تبين لك
القضاء)((96)).
فالمساواه بين الخصوم فى المرافعه، انطلاقا من مبدا
العداله((97))، شرط لازم للقاضى لغرس الثقه بين
المتخاصمين فى كونهم امام قاض ملتزم بالحق ونصير للعدل،
وقد جسد الامام على(ع) هذا المبدا حتى مع نفسه، كما
يستفاد من الروايه التى تشير الى تغير وجهه الشريف عندما
خاطبه الخليفه عمربن الخطاب، فى قضيه كيديه مثاره ضده،
بعباره: قم يا ابا الحسن واجلس مع خصمك، اذ خاطبه بكنيته
فى مجلس القضاء بدلا عن اسمه((98)) وهذا فيه ما يدل على
عدم تسويته مع خصمه فتامل!
هكذا كان منهج الامام على حتى مع نفسه باستثناء حادثه
مقاضاته مع اليهودى عند القاضى شريح‏بن الحارث -ان صحت
الروايه- عندما كان فى الكوفه حيث لم يستو مع خصمه فى
مجلس قضاء شريح، وذلك اهتداء بحديث الرسول الامين الذى
قال بخصوص اليهود: (اصغروهم حيث اصغرهم اللّه)((99))
فالامام حسب هذه الروايه- كان قد فقد درعه ووجده عند
اليهودى المذكور، فخاصمه فى مجلس شريح، وكان الاخير ان
قضى بالدرع لليهودى بعد ان سال الامام عن بينته، فضحك
امير المومنين وقال: مالى بينه، الا ان الكتابى المذكور لم يخط
خطوات حتى عاد وهو يشهد بالشهادتين بعد ان قال: اما انا
فاشهد واعترف بان الدرع هو درع امير المومنين على‏بن ابى
طالب((100)).
المبحث الثالث رحابه الصدر والحلم والصبر
سيقتصر حديثنا، فى هذا المبحث، على ما ورد فى عهد الامام
الى مالك الاشتر، اذ عبر فيه بما يغنى الموضوع وبايجاز بلاغى
رائع، فلو رجعت الى قوله: (ثم اختر للحكم بين الناس افضل
رعيتك فى نفسك ممن لا تضيق به الامور ولا تمحكه الخصوم
ولا يتمادى فى الزله ولا يحصر فى الفى‏ء الى الحق اذا عرفه...
واقلهم تبرما بمراجعه الخصوم واصبرهم على تكشف الامور
واصرمهم عند اتضاح الحكم)، لظفرت -بعد امعان النظر فى
مدلولاته- بالصفات المفروض ان يتصف بها القاضى ابان
المرافعه، حيث رسم لنا المنهج، وبين فيه المبادى‏ء الجوهريه
التى يمكن ايجاز مضامينها، بقدر تعلق الامر بموضوع هذا
المبحث، بالاتى:
الفقره الاولى رحابه الصدر:
على القاضى، اثناء المرافعه، ان يكون رحب الصدر بحيث (لا
تضيق به الامور) عند تنوع الخصومات وتضارب اوجه القول
فيها وتعدد موضوعاتها التى ربما لا يعثر بشانها على نص فى
المصادر الاساسيه من كتاب او سنه، اذ هنا عليه ولوج باب
الاجتهاد بكل انفتاح ورحابه ومن دون اى تردد. وعليه، فى
الوقت نفسه، ان لا ينهر الخصوم، او يزجرهم بحجه كثره
دعاويهم او غموضها، لانه بنهره لهم وزجره اياهم يكون قد
استنكف عن احقاق الحق، وفى هذا تعسف عليه الابتعاد عنه ما
دام هو مرجع الفصل فى خصومات الناس ومكلف بوزرها.
ومساله عدم وجود النص لا يصح للقاضى ان يقف منها موقف
الصامت الحائر، انما عليه التعامل معها وفقا لقاعده: (لا تخلو
الواقعه من حكم)((101)) اذ عليه هنا انتهاج طريقه الاصوليين
الذين يمارسون التفريع الفقهى فى اوسع نطاقه((102)) ما
دامت الدعوى لديه معلومه وواضحه وصحيحه، فاستنباط
الاحكام النظريه لا بد من ان يتم من ظواهر الكتاب الذى فيه
تبيان كل شى‏ء، والسنه او من بواطنهما((103)). وقد خطب
الامام على ذات يوم فقال: (ان اللّه حد حدودا فلا تعتدوها،
وفرض فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن اشياء لم يسكت عنها
نسيانا فلا تكلفوها رحمه من اللّه بكم فاقبلوها). ثم اضاف:
(حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك ما اشتبه
عليه من الاثم فهو لما استبان له.. والمعاصى حمى اللّه فمن
يرتع حولهن يوشك ان يدخلها)، كما جاء فى الوسائل((104)).
فبهذه الروحيه الرحبه، وبهذه الذهنيه المتقده، يستطيع
القاضى ان يجد الحكم المناسب، اما التبرم بالخصوم بحجه
زخم مراجعيه او عويصات مشاكلهم، وبالتالى طردهم او
افحامهم او مجادلتهم بما هو خارج عن مقتضيات كشف
الحقيقه، فذلك امر مخل بواجبات وظيفته، اذ لا بد له من سعه
البال كما عليه تجنب التلقين((105)) الذى من شانه حتما
الاضرار بطرف من اطراف الدعوى، فيكون قد ركب الشطط
وغفل عن قوله تعالى: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره
المجرمون)((106))، وقد علل امير المومنين(ع) بان مرجع
الغفله عموما هو الهوى((107))، لذلك امر رضوان اللّه عليه
قائلا: (جاهدوا اهواءكم كما تجاهدون اعداءكم)((108)).
فرحابه الصدر والانفتاح للخصوم والسماح لهم بتقديم ما
يودون عرضه فى المرافعه، كشفا للحقيقه، يعزز فيهم الثقه
بعداله القضاء ويبعد عنهم الياس، وقد قال عز جلاله: (ولولا
دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض) وفى آيه اخرى: (يا
داود انا جعلناك خليفه فى الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا
تتبع الهوى) فجاءت هذه الايه بصيغه الامر حيث لا يصح الحكم
بالهوى لانه بعيد عن الحق واحقاقه وقد قال تعالى ايضا: (ان
الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم) ما داموا
بعيدين عن الهوى (الا ان اولياء اللّه لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون) كما جاء فى سوره يونس.
فالتحلى بالصبر وانفتاح الصدر يقرب صاحبه الى نور الحق
ويبعده عن الهوى والخوف والضلاله، ويروى عن
الرسول(ص)قوله: (الدنيا حلوه خضره، وان اللّه مستخلفكم
فيها فينظر كيف تعملون)((109)).
الفقره الثانيه الفى‏ء الى الحق اذا عرفه:
وعلى القاضى ان (لا تمحكه الخصوم ولا يتمادى فى الزله) اثناء
المرافعه، اى لا يكون حجوجا لجوجا انما عليه ان يلتزم التواضع
ويتمسك بزمامه، لانه سبب للحكم، على حد تعبير
الامام((110)). فالرجوع الى الحق وعدم التمادى فى الزله خير
من الاصرار على الخطا لان مثل هذا الاصرار يوقعه فى الجور
والظلم، لهذا يلزم عليه استبدال زلته -وسبحان من لا يزل-
بما هو صحيح من دون استحياء، وقد قال تعالى: (ونبلوكم
بالشر والخير فتنه والينا ترجعون)((111)) و-(الذى خلق
الموت والحياه ليبلوكم ايكم احسن عملا)((112)) فمن ابتلى
بالقضاء عليه ان ينقب عن الباطل حتى يخرج الحق من جنبيه
-كما فى تعبيره البلاغى- خصوصا وان للخصومه قحما -كما
سبق والمحنا- فالخصومه والمماحكه تهلك اصحابها، وقد اكد
امير المومنين(ع) مره اخرى على ايجابيه الرجوع عن الخطا
فى عهده للاشتر بقوله: (ولا يحصر فى الفى‏ء الى الحق اذا
عرفه).
ومن مستلزمات القاضى فى المرافعه ان يكون قوى الشخصيه
يعرف كيف يدير الدعوى ويضبط المرافعه من دون ازعاج او
انزعاج، فالقضاء لا يلائمه الغضب((113))، وجاء فى وصيه الامام
لشريح: (لا تشاور احدا فى مجلسك وان غضبت فقم ولا تقض
وانت غضبان) كما جاء فى الوسائل، ثم على القاضى ان يتحمل
اللائمه التى عدها عمربن عبد العزيز احدى الخصال الخمس
المطلوبه من القاضى((114)).
الفقره الثالثه الصبر على تكشف الامور:
ويرى الامام(ع) -بحق- وجوب ان يكون القاضى اصبر الناس
(على تكشف الامور)، لا بل عليه ان (لا يكتفى بادنى فهم دون
اقصاه)، ذلك لان مهمته -كما بينا- هى كشف الحقيقه واحقاق
الحق، لا تقريره او انشاوه، فالدعوى المنظوره امامه ليست
سوى وسيله للحصول على الحق بعد كشفه من خلال البينات،
وليست هى الحق بالذات((115))، وهى كاجراء لا يشترط
لقبولها ثبوت الحق او وضوحه ابتداء، انما على القاضى التحقق
من ثبوته عبر مجريات المرافعه، لان الغايه الاساسيه من رفع
الدعوى امامه هى الوصول الى حكم القضاء بتقرير وجود الحق
المدعى به وعائديته من عدمهما.
وتحقيقا للحكم العادل الصحيح على القاضى التعمق فى فهم
الدعوى وهضم ما يقوله اطرافها اثناء المرافعه، وان يركز فكره
على ما يطرح من ادله ودفوع وان لا يكون (كالذين قالوا سمعنا
وهم لا يسمعون)((116)) ثم عليه ان يحلل الادله ويمحصها
بروى كاشفه وفكر ثاقب مقرون بالتانى كى يهتدى الى الصواب.
ولنا فى منهج الامام(ع) من خلال بعض قضاياه وسوابقه ما
يوكد ذلك وبشكل لا لبس فيه، لا بل حتى عند توفر الدليل
كان(ع) لا يتسرع بالاخذ بالدليل على علاته من دون تحليل
ومصابره فى تدقيقه، فالاقرار مثلا لا يعتد به اذا كان مقترنا
بالاكراه، كما سنرى فى المبحث الخاص به عند بحث ادله
الاثبات. ولعل من المناسب ذكر احدى سوابق الامام القضائيه
التى توكد منهجه فى عدم التسرع فى الحكم، تلك هى
المتعلقه بقضيه الشاب الذى ضبط فى حاله سكر، اذ لم يقم
عليه الحد رغم ثبوت جريمه شربه المسكر، فقد تبين له بعد
التحقيق ان شربه كان نتيجه عدم بلوغه خبر التحريم، وذلك
من خلال ارساله رجلين من ثقاه المسلمين اخذا يطوفان
بذلك الشاب فى مجالس المهاجرين والانصار علهم يجدون
من يشهد عليه فى سماعه آيه التحريم، ولكنهما لم يجدا من
شهد ضده، لهذا اخلى الامام على(ع) سبيله((117)).
ومساله وجوب ان لا يكتفى القاضى بادنى فهم من دون اقصاه
يدخل فى نطاق مدلولها وجوب ان لا ياخذه الشرود فى
المدافعه، فشرود الذهن يبعد القاضى عما يجرى فى مجلسه،
ويجعله غير منتبه الى الاقوال التى تدلى امامه، وان مثل هذا
من شانه المساس بمجريات التحقيق القضائى الذى يجريه فى
الدعوى وبصحته، فتدوين الاقوال من قبل كاتب القاضى
بشكلها المرسل -مثلا- لا يكفى لاخذ الصوره الحقيقيه لما تنم
عليه تلك الاقوال من معنى او مغزى، فلعل كلمه من هذا او
اماره او اشاره من ذاك تظهر من الحقيقه بعض غوامضها، وقد
تكشف عن امور ليست بالحسبان.
ولعل من الطريف ان نذكر ما رواه ابن الجوزى عن ابى العطوف
قاضى حران عندما تقدم اليه رجلان، فقال احدهما: هذا ذبح
ديكا لى فخذ لى بحقه، فاجابهما على الفور ومن دون تامل:
عليكما بصاحب الشرطه فهو الذى ينظر فى الدماء. فقد ادرج
هذا القاضى فى قائمه الحمقى والمغفلين((118)) وكان موفقا
فى هذا الادراج لان المذبوح ديك لا انسان، حيث ان جرائم
الدم كانت تنظر عهد ذاك من قبل رجل الشرطه. فالقاضى اذن
يجب ان لا يستعجل الراى، فالتمييز بين الحق والباطل قد
يدق، احيانا، الى مستوى لا يمكن استيضاحه الا بعد جهد جهيد
من الصبر والاناه فى التحقيق.
ومن القضايا التى علقت فى ذهنى اثناء ممارستى لقضاء
الحج((119)) ان متهما شابا قد مثل امامى، فلفت نظرى
مظهره الخارجى وتقاطيع وجهه التى تنم على الرزانه والبراءه
والشك فى ما اسند اليه من فعل نشل احد المواطنين -والنشل
ابسط جرائم السرقات فى القانون الوضعى- وكاد يعزز ذلك ما
نسبه اليه محاميه من كونه طالبا متفوقا على اقرانه، وهو فى
الصف السادس العلمى، كون التفوق العلمى قرينه تدل على
حصانه اخلاق صاحبها عاده، وعند ورود جواب مدرسته تبين
لى انه راسب لسنتين متتاليتين وانه تارك الدراسه، ولولا هذه
القرينه التى عززت شهاده الشاهد الواحد المتوفره فى القضيه،
وما لاحظته من وشم فى ظهر ساعه احدى يديه التى تدل
رسومه على مظهر لا اخلاقى لكان قد افلت من يد العداله.
الفقره الرابعه الصرامه عند اتضاح الحق:
واخيرا، لا بد من اضافه لما يقتضى ان يكون عليه القاضى من
فطنه وحلم وصبر ان يكون صاحب راى صارم بالحق وقول
فاصل ثابت: (واصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه اطراء
ولا يستميله اغراء) فالصرامه فى الراى مظهر لقوه الشخصيه
واستقلاليتها، لذا على القاضى ان يوازن فى الادله بروح
محايده((120)) كى يصدر قراره الحاسم الصارم بكل دقه
وقناعه. والحياديه هنا لا تعنى وقوفه كالاله الصماء امام الخصوم
انما عليه موازره الحق والميل نحوه حيثما مال، وقد جاء فى
وصيه الامام على لولديه الحسنين قوله: (وقولا بالحق واعملا
للاجر وكونوا للظالمين خصما وللمظلوم عونا)((121)).
ولعل من المناسب، اخيرا، الاشاره الى قول الامام على فى (ان
بين الحق والباطل اربعه اصابع). وعندما سئل عن معنى ذلك
وضع اصابعه بين اذنه وعينه((122)) فقلما ينطوى السماع
على دقه فى القول او مصداقيه كتلك التى فى العين، فالعين
لا تكذب قطعا.
وليس من شك فى ان عباره (اصبرهم على تكشف الامور)
متداخله مع العباره التى تليها وهى (واصرمهم عند اتضاح
الحكم) الوارده فى عهد الامام المذكور ومترابطه معها ايضا من
حيث المعنى، ولا عجب فى ذلك ما دام قائلها هو ابلغ البلغاء
وافصحهم، فالصرامه فى قول الحق بعد كشف مواقعه دليل
على كفاءه القاضى وقوه شخصيته التى لا تتاثر باى ترغيب او
ترهيب، وان ثباته على هذه الروحيه النقيه وصلابه موقفه ليس
الا خصيصه طبيعيه للقاضى الملتزم الذى لا تهمه او تهزه
المفاج‏ات ولا يوثر فيه حسد الحاسدين، وقد قال الرسول
الكريم: (لا حسد الا فى اثنين: رجل اتاه اللّه مالا فسلط على
هلكته الحق، ورجل اتاه اللّه الحكمه فهو يقضى بها ويعمل
بها)((123))، فغدا بصلابته هذه متحسسا بان ابتلاءه بالقضاء
يعنى تحمله وزره على ثقله، الا وهو التنقيب عن الحق بكل ما
اوتى من قوه وجهد وصبر وتجسيد العداله من اوسع ابوابها،
وقليل من يوفق الى ادائها الاداء المطلوب او المامول((124)).
المبحث الرابع الاعتدال النفسى والعضوى
المراد بالاعتدال النفسى للقاضى هو ان تكون نفسيته مرتاحه
ومعتدله او طبيعيه اثناء المرافعه، بحيث لا يعكر صفوها غضب،
وقد المحنا الى ان الرسول الكريم قد منع القضاء عند الغضب،
كما ان الامام على اوصى شريح بالامر نفسه، واضاف قائلا: (لا
تعقد فى مجلس القضاء حتى تطعم)، كما جاء فى الوسائل.
والذى نستنبطه، من سنه الرسول الكريم، وسيره ابن عمه
الامام القضائيه، هو وجوب ابتعاد القاضى عن كل ما يثير فيه
الانفعالات النفسيه من غضب او جوع او فرح الخ...، والا فعليه
ترك مجلس القضاء وتاجيل المرافعه لان من شان تلك
الانفعالات التى تودى به الى الهياج النفسى التاثير على
متطلبات العداله والمساس بقراره لجهه انحرافه عن مساره
المعتدل.
والمعلوم ان مقومات النفس البشريه المعتدله تعتمد
الاطمئنان والثقه وسيطره عوامل الخير والرضى على عوامل
الشر والانهيار، ذلك لان النفس البشريه هى واحده عند
العلماء، ولكن الصور التى تظهر فى سلوكها متعدده، وتضم
جوانب مختلفه. وقد ذهب بعضهم الى ان علاماتها سبق
ذكرهما الاماره واللوامه والملهمه والمطمئنه والراضيه
والمرضيه والكامله((125)). فكلما كانت علامات الخير فيها
غالبه كان صاحبها اكثر اعتدالا واصح.
اما الاعتدال العضوى فهو اعتدال فى اعضاء الجسم وحواسه، اذ
لا يصح للقاضى القضاء فى وقت يكون فيه مريضا يتالم. ولعل
فى مقدمه الاعتدال النفسى والعضوى للقاضى هو ان يتخذ
قراره بالسرعه البديهيه او الوقت المناسب، فقد سئل الامام
على(ع) ذات مره عن العباده التى تستحق العقوبه، فى حالتى
الترك والفعل معا، فكان جوابه الدقيق الذى ينم على سرعه
بديهه وثقه عاليه هو: انها صلاه السكران((126))، فالصلاه لا
يجوز تركها ولكن اتيانها فى موعدها من قبل السكران لا يجوز
ايضا. ومن السوابق الاخرى نذكر حادثه الرجل الذى اشتكى من
آخر امام الامام على(ع)، مدعيا ان خصمه هذا قد افترى عليه
بقوله انه احتلم بامه فكان جوابه الذى اتسم بفوريه المعالجه
لمثل هذه الشكوى القلقه -من دون الخوض فى كنهها وما اذا
كانت تدخل فى باب المخادعات القوليه- قوله: (ان شئت اقمته
لك فى الشمس فاجلد ظله فان الحلم مثل الظل)، واضاف:
(ولكنا سنضربه حتى لا يعود يوذى المسلمين)((127)) وهذا
ينم على ان المشتكى كان من البسطاء السذج، وكان مثار مزاح
المشكو منه المتسبب بايذائه بمثل هذا النوع من المزاح، لهذا
عزره الامام وحسم القضيه بهذا الحكم السليم.
ومن دلائل السرعه فى الحسم والصحه، او الاعتدال النفسى
بابهى صوره، نذكر محاولته الستر لذات البين وعدم توسيع
الشقه بينهم، ففى قضيه الامراه التى جاءت اليه(ع) مدعيه ان
زوجها ياتى جاريتها، كان جوابه لها: ان كنت صادقه رجمناه،
وان كنت كاذبه جلدناك، فلم يكن منها سوى القول: ردونى
الى اهلى((128)).
ومن قضائه الطريف نذكر، فى هذا المجال، قضيه الرجل الذى
ابصر طائرا فتبعه حتى سقط على شجره، فجاء آخر فاخذه
فقضى(ع) ان للعين ما رات ولليد ما اخذت((129)).
الباب الثانى:العمل القضائى عند الامام على(ع)
لا نقاش فى ان القضاء ليس عملا نظريا، او مكتبيا، كالاعمال
الاداريه او الخدميه فى مجال الوظيفه العامه -بالتعبير القانونى
المعاصر- انما هو قبل كل شى‏ء فن -كما سلفت الاشاره- ومناط
هذا الفن هو العمل القضائى بالذات، وما الوظيفه القضائيه سوى
احد اشكال الرقابه التى يتم من خلالها فحص البينات والدفوع
المقدمه من الطرفين المتخاصمين وتدقيقها وموازنتها، على
النحو الذى يتمخض عنه اقرار المصلحه المدعاه -المتنافس
عليها- او عدم اقرارها، ومن ثم فض المنازعات الناشئه عنها
بين اطراف الدعوى بطريق فنى.
فالقاضى عندما ترفع امامه الدعوى، باعتبارها وسيله، يسوغ
للمدعى فيها طلب التحرى عن الحق الذى يكتنفه التنازع او
الغموض لغرض كشفه لا بد ان تكون صحيحه وواضحه((130))
بغيه ربط ما يطرح من جزئيات بشانها فى مجلسه للوقوف على
عائديه الحق المتنازع او كشف حقيقه وجوده ونوعه ثم اقرار ما
تبين له من واقع على نحو ملزم عن طريق الحكم الذى يصدره
لحسم ذلك التنازع، وهذه هى المهمه الاساسيه للقاضى التى
ينصب عليها مجمل العمل القضائى.
وبغيه الوصول الى الحكم الصائب السليم لا بد من امعان النظر
وتفهم معطيات الجانب العملى للقضاء عند الامام على(ع) وما
يمكن استلهامه من يتائم سوابقه القضائيه واستحضار النقى
منها، بوصفه دليلا ثابتا للقاضى الملتزم.
والحق ان قيمه الحلول العمليه التى قررها الامام على‏بن ابى
طالب(ع)، فى جزئيات القضايا التى يرويها لنا تراثه الضخم
بوصفها ملتقى عاما لرجال القضاء عبر العصور، حقيقه لا ريب
فيها لانها -كما سيتبين لنا من خلال صفحات هذا الباب-
طافحه بالابداع وغنيه بالدرر اليتيمه والدقه فى تطبيقات
العداله. لهذا ليس من المنطق على المتتبع غض الطرف عنها
-مهما كان مشربه او ماكله- لا بل ان مجرد اطلاعه عليها سوف
يفرض تاثيرها عليه، واذا ما تعمق فيها فسيجد الغرائب
والعجائب من جواهر الامام القضائيه، وسيظفر بكنوز احجارها
الكريمه رغم تباعد الشقه بين وقتها وبين الثقافات المتعاقبه
عليها الى حد يمس الجوهريات((131)) ورغم ما يلاقيه
المتتبع من صعوبه فى اعطاء الصوره الكامله او الاهتداء الى
الطريق المعبد بشانها بشكل ابهى وادق واوضح، لما تتضمنه
جواهرها وكنوزها الدفينه من بطون المراجع من عمق. وقد
ظلت مساله النظر فى بعثها وسبر غورها ولم جواهرها
وشذراتها من جديد، والتقصى والبحث عن حلقاتها المفقوده،
ظلت من مستلزمات الانسانيه ومقومات سعادتها ووجودها
الامثل لانها بنيت على اساس ثابت رصين (قل نحن نزلنا الذكر
وانا له لحافظون). لهذا سنحاول جهدنا، فى هذا الباب، لتقديم
المامه متواضعه فى هذا الجانب فنتطرق الى موضوع الدعوى
وتكييفها، ثم نعرج الى بحث ادله الاثبات عند الامام على(ع)
وناتى بعد ذلك الى ذكر لواحق فى العمل القضائى ايام خلافته
الراشده. وهذا ما تضمنته الفصول الاربعه التى يقوم عليها هذا
الباب، وذلك فى المنظور المعاصر.
الفصل الاول:الدعوى ووقائعها وتكييفها
المعروف ان اللجوء الى القضاء يتم باجراء يتقدم به المدعى الى
القاضى، ويسمى عاده بالدعوى، فما هو مدلولها؟ وما هى
وقائعها؟ وما هو وصفها الشرعى؟ ان الاجابه على ذلك سيكون
موضوع المباحث الثلاثه الاتيه:
المبحث الاول مدلول الدعوى
المعنى اللغوى للدعوى ماخوذ من الدعاء، اذ يقول تعالى فى
سوره يونس، الايه: 25 (واللّه يدعو الى دار السلام) وفى سوره
الانفال، الايه: 24، جاء قوله المقدس: (يا ايها الذين آمنوا
استجيبوا للّه وللرسول اذا دعاكم).
والدعاء ماخوذ من الفعل دعا يدعو بمعنى الطلب((132))،
ومنه استقى العلماء الافاضل المعنى الاصطلاحى للدعوى،
حيث عرفها بعضهم بانها (مطالبه شخص بحق يدعيه على
آخر) وقد يكون هذا الحق عينيا او شخصيا معنويا((133)) او
جنايه ماسه باحدى الضرورات الخمس((134))، وقد يستعمل
الفعل (دعا) بمعنى الزعم او القول المقبول الذى يوجب حقا
على الغير((135))، وهناك من عرف الدعوى بانها (اخبار عن
وجوب حق للمخبر على غيره عند حاكم ليلزمه به)((136)).
ومهما يكن من اختلاف التعابير فى تعريف الدعوى الا ان
مدلولها الاصطلاحى، من حيث النتيجه، واحد، اذ تعنى
الدعوى مطالبه شخص لاخر بحق يدعيه عليه فى مجلس
القضاء. واذا كانت النظريه القديمه، فى فقه القانون الغربى، ترى
ان الدعوى ليست الا الحق متحركا الى القضاء، وليس ثمه فرق
بينهما، فان الاتجاه المعاصر يرى ان الدعوى ليست هى الحق
نفسه وانما هى وسيله للحصول عليه او حمايته((137))، وهذا
هو عين الاتجاه الذى ذهبت اليه الشريعه الاسلاميه منذ بزوغ
شمسها على هذه الارض -كما المحنا- وبهذا تكون هذه
الشريعه بفقهها المعمق اكثر اصاله ودقه وعمقا فى تفريقها بين
الحق والدعوى، وهو ما اخذ به التشريع الوضعى المقارن حاليا.
وكما اوضحنا لا بد من ان تكون الدعوى صحيحه لازمه، ولكى
تكون كذلك يلزم ان تكون معلومه غير مجهوله او مبهمه، وان
يكون ادعاء المدعى قد بنى على اليقين لا الظن او التخمين، اذ
(ان الظن لا يغنى عن الحق شيئا)، كما يقول جلت قدرته، كما
يشترط فى الدعوى خلوها من التناقض. وقد فصل الفقهاء
المسلمين ما يشترط من عناصر الدعوى المتمثله فى المدعى
والمدعى عليه والمدعى به من شروط فى موسوعاتهم الفقهيه
التى يخرجنا بحثها هنا عن موضوعنا، فيمكن لمن اراد التوسع
مراجعتها.
ومن خلال مراجعه سريعه للعمليه القضائيه لامير المومنين
على‏بن ابى طالب(ع)، لم نجد فى سوابقه ما ينم على وجوب
اتباع شكل معين فى رفع الدعوى او الطلب القضائى موضوع
الدعوى، لان الشريعه الاسلاميه اساسا لم تعرف او تقر ايه
شكليه غير منطقيه او قيود تضفى التعقيدات فى اجراءات
الدعوى، فالقاضى عليه ان يدور مع الحق ويتقصى الحقيقه من
خلال الاجراءات التى يراها مفيده فى هذا الصدد، من دون ان
تاخذه لومه لائم ما دام رائده الحق، اذ عليه فور وضوحه اقراره
على نحو ملزم بطريق الحكم من دون ان تعترض سبيله ايه
عثرات او قيود ومن دون اى تردد، بغيه ايصال الحق الى
صاحبه باقرب وقت.
اما فى مجال سير الدعوى، فقد روى العاملى فى وسائله عن
الامام على(ع) ان ابن عمه خاتم النبيين (كان يدعو الخصوم
الى الصلح فلا يزال بهم حتى يصطلحوا)، ويذكر ان الرسول
الامين(ص)قال للامام على(ع) يوما: (يا على، اذا تقاضى اليك
رجلان فلا تقف للاول حتى تسمع من الاخر فانك اذا فعلت
ذلك تبين لك القضاء)((138))، كما روى عن الرسول قوله:
(اذا اتاك احد الخصمين وقد فقئت عينه فلا تحكم له فربما اتى
خصمه وقد فقئت عيناه)((139)).
ومقتضى اقوال الرسول(ص)هذه تدلنا على وجوب ان يراعى
القاضى ابتداء جانبين عندما تطرح امامه دعوى ما: الاول فهم
الدعوى اما الجانب الثانى فهو عرض الصلح، وهذا ما سنبحثه
فى المطلبين ادناه:
المطلب الاول فهم الدعوى:
ينبغى على القاضى، حال رفع الدعوى امامه، ان يبذل جهده
لفهمها فهما شاملا، فيقرا مضمون الادعاء ويتامله -تحريريا كان
ام شفهيا- ويبذل اقصى وسعه للوقوف على سر التخاصم فيها
-عبر البينات والدفوع المقدمه اليه من دون ايه شكليه او قيود
وملاحظه ما يصدر من الطرفين من اشارات او امارات وما تلوح
على محياهم من دلالات، لاكتشاف ما يشوب الدعوى من
ملابسات ومعرفه ظروفها وما احاط بها وبطرفيها من مبهمات
كى يلم بجزئياتها، ناهيك عن جوهرها لفهم تفاصيلها بشكل لا
لبس فيه قبل ان يصدر قراره الحاسم فيها. ولقد ورد فى القرآن
الكريم نحو ثلاث عشره آيه تخص الاحكام المتعلقه بسير
الدعوى وتنظيم اجراءاتها((140)).
فمن القصص القرآنى نذكر ما ورد من نزاع عرض امام فرعون
مصر بين زوجته واحد العاملين فى قصره، وهو نبى اللّه
يوسف(ع)، اذ اتهمته بمراودتها عن نفسها ومحاولته ارغامها
على الفاحشه، ولكن يوسف انكر التهمه، وكادت مكيدتها تنجح
لولا احد وزراء الفرعون، وهو من اقاربها، فقد استخدم مهارته
فى التحقيق بعد فهمه بشكل دقيق مغزى التخاصم بينهما
واهتدى الى وسيله -بهدى البارى تعالى- اعانته فى كشف
الحقيقه على الملا -بعدما لاحظ مغريات الجمال والفتنه التى
اسبغها البارى تعالى على يوسف- الا وهى النظر الى قميص
يوسف الذى تبين منه انه قد شق من الخلف، فكانت النتيجه
التى توصل اليها هى براءه يوسف(ع)((141))، فلولا فهمه
لتفاصيل النزاع، موضوع الدعوى وجوهره لما توصل الوزير
المذكور الى تلك الحقيقه، فاعمال الفكر، بغيه فهم الدعوى
على حقيقتها هو اول ما يجب على القاضى مراعاته.
ومن الحكايات ذات العلاقه نذكر واقعه الحكم الذى قرره النبى
سليمان(ع) بين امراتين لكل منهما ابن، وقد اكل الذئب
احدهما، فادعت كل منهما ان الابن الناجى هو ابنها، وما
استعمله سليمان من اجراء كشف من خلاله الحقيقه عبر فهمه
بان عاطفه الامومه هى اقوى تاثيرا على فراق الام الحقيقيه
لابنها، وذلك على اثر طلبه سكينا ليقد الطفل المتنازع عليه
بينهما مناصفه، ما دامت اى منهما لم تقدم اليه الدليل فى
اثبات امومتها له، فلم يكن من الصغيره الا التنازل عن الابن
لغريمتها لقاء ابقائه حيا فحكم لها به((142))، استدلالا على
الواقع الفعلى بقرينه الشفقه التى لا تفسير لها الا الامومه، وقد
عرضت قضيه مماثله تماما على الامام على‏بن ابى طالب(ع)
فقضى فيها بالحكم نفسه -كما سبق واشرنا- فلولا فهمه
الدقيق لحقيقه الحادث مثار النزاع وسر الاتهام والتنازع الذى
يكمن فى الغيره والحسد لما توصل الى حكمه الصائب. هذا
خصوصا وان كيدهن كيد عظيم حسب التعبير القرآنى الكريم.
فالقاضى، اذن، عليه الا يكتفى بادنى فهم دون اقصاه حسب
تعبير الامام(ع)- انما عليه الخوض فى زوايا الدعوى لان فى
الزوايا خبايا -كما يقال- ولا بد من ان يستقصى امرها اشد
الاستقصاء لفهمها جيدا، لان النظره الاولى حمقاء كما يروى
عن الرسول الكريم، لهذا نجد الامام(ع) عندما عرضت عليه
قضيه الزوجين اللذين ماتا فى الطاعون على فراش واحد وما
التبس فى امر الميراث فيهما، تبين له ان يد الرجل ورجله كانتا
على المراه فقرر الميراث للرجل، وقال: انه مات بعدها((143))
فقوله هذا لم يكن اعتباطيا، اذ لولا فهمه لما احاط بالحادث من
وقائع لما كشف حقيقه كون الوفاه لم تحصل لهما فى الوقت
نفسه، بدليل وضع الرجل يده ورجله على امراته، اى انه كان لا
يزال حيا بعدها وهو يعالج المرض، الا انه لم يقو على مواجهته
فمات هو الاخر بعدها، فهذه الوقائع قرائن لا تقبل اثبات العكس
لانها ماديه((144))، لهذا استند عليها الامام فى حكمه.
ونود ان نختم هذا المطلب بسابقه قضائيه اخرى للامام
على(ع) حصلت فى مجلس الرسول الكريم، ومجملها((145))
انه(ص)كان جالسا مع اصحابه ذات يوم، فجاءه خصمان، فقال
احدهما: ان لى حمارا وان لهذا بقره وان بقرته قتلت حمارى،
فبدا رجل من الصحابه وتسرع فى الحكم قائلا: لا ضمان على
البهائم، فالتفت الرسول الكريم الى الامام على(ع) الذى كان
ضمن الحاضرين فى مجلس الرسول وقال له: اقض بينهما يا
على، فلم يكن من الامام اصدار قراره الا بعد فهمه وتعمقه فى
كيفيه حصول الحادث مثار هذه الدعوى، اذ استفسر منهما عما
اذا كانا مرسلين ام مشدودين وعما اذا كان احدهما مشدودا
والاخر مرسلا، ولما تبين له من خلال الاقوال ان الحمار كان
مشدودا وان البقره مرسله وان صاحبها وقت الحادث كان معها،
وبعد ان حصل له العلم بهذه الوقائع قضى(ع) على صاحب
البقره بضمان قيمه الحمار لتقصيره المستفاد من تلك
الوقائع((146)).
المطلب الثانى عرض الصلح:
بعد ان يعمل القاضى جهده فى فهم الدعوى ويتوصل الى
حقيقه الامر فيها، عليه الا يسارع فى اصدار حكمه فيها انما
عليه التاكد من نوع الحق المتنازع فيه، فان كان يدخل فى
قائمه الحقوق التى يصح التنازل والصلح فيها فعليه حسم
القضيه صلحا ما امكنه جهده ذلك، لان الصلح يزيل الاحقاد
ويرفع الضغائن((147))، فالقاضى ليس كالاله الصماء انما عليه
المبادره فى جعل الخصم ازاء غريمه ودودا لا لدودا، اذ انه هاد
للمسلمين وناصح قبل ان يكون حاكما فيهم وحكما بينهم، اذ
ليس له افضل من تذكير الخصوم بقوله تعالى (لا تستو الحسنه
ولا السيئه... ادفع بالتى هى احسن، فاذا الذى بينك وبينه
عداوه كانه ولى حميم)، وقد جاء فى سوره آل عمران قوله
تعالى: (انما المومنون اخوه فاصلحوا بين اخويكم) ويقول الحق
ايضا: (وان طائفتان من المومنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما)
فجاءت هاتين الايتين بصيغه الامر لان الصلح، فى المنظور
القرآنى، خير.
ولنا فى سنه الرسول الكريم(ص)خير دليل على ذلك، ونذكر
على سبيل المثال صلحه فى دعوى دين بين كعب‏بن مالك
وابن ابى حدره -كما جاء فى سنن ابى داود- وما يروى عنه
قوله الشريف: (ان الاعمال تعرض على اللّه يوم الاثنين ويوم
الخميس، فيغفر لكل امرى لا يشرك باللّه شيئا الا امرا كانت
بينه وبين اخيه شحناء فيقول: اتركوا هذين حتى
يصطلحا)((148)).
ومنهج الامام على بن ابى طالب(ع) واضح فى هذا السبيل،
فهناك العديد من سوابقه التى دعا فيها الخصوم الى التصالح،
ونذكر منها قضيه الرجلين اللذين تخاصما بشان الدراهم
الثمانيه التى وهبها لهما الضيف الذى استضافاه لمشاركتهما
طعام الغداء، لاختلافهما فى حصه كل منهما من ارغفه التى
تناولاها معا((149)). فالصلح خير من الحكم، ويروى عن
الرسول قوله انه: (ما اهدى المسلم لاخيه هديه افضل من كلمه
حكمه تزيده هدى او ترد عما رده)((150)).
ولعل من الطريف ان نذكر اخيرا ان القاضى مهاجربن نوفل
القرشى كان عندما يجلس للقضاء يبدا بالنصيحه والارشاد
للتصالح، ثم يذكر ما يلزم القاضى من الحساب بما يجب عليه
من التحرى والاجتهاد وبعدها يجنح الى التطرف الظريف حيث
(ياخذ فى النوح حتى ينصرف عنه الخصوم وقد تعاطوا الحقوق
بينهم)((151)).
المبحث الثانى وقائع الدعوى
وقائع الدعوى هى مجموعه الامور التى يستند اليها المدعى
فى دعواه، فهى والحاله هذه تنصب على مصدر الحق المدعى
به. والمراد بالمصدر هنا الاسباب التى تنشى‏ء الحق او تثبته او
تقرره من خلال تلك الوقائع، فجنايه القتل شبه العمد تنشى‏ء
حق الديه، وواقعه استيلاء شخص على ملك الغير تنشى‏ء
للمالك حق استرداد ملكه، وواقعه ايقاع الطلاق تنشى‏ء للزوجه
المطلقه حق استلام آجل مهرها خلافا لشرط المده، وهكذا.
وبعباره اوضح، اذا كان موضوع الدعوى هو المطالبه بتعويض
عن الفعل الضار، مثلا، كضمان مالك الدابه لما سببته للغير من
ضرر اثناء ركوبه عليها بفعل الوط‏ء على نحو ما جاء فى احدى
السوابق القضائيه للامام((152))، فموضوع الدعوى هو ذلك
الضمان القائم على التعويض المطالب به عما سببته تلك الدابه
من ضرر لذلك الغير بفعل التقصير.
ومن الامثله المعاصره يمكن ايراد حادثه من اوقف سيارته فى
وسط طريق عام مظلم من دون وضعه العلامه الداله
الفسفوريه، فهذه وقائع توجب الضمان لصاحب السياره الاخرى
التى جاءت واصطدمت بها.
المبحث الثالث تكييف الدعوى
التكييف لغه يعنى التعويد. يقال كيف الشى‏ء، اى عوده على
سلوك معين ونهج معلوم. اما فى الاصطلاح الثانوى فيقوم
مفهومه على تحديد طبيعه موضوع النزاع واعطائه الوصف
القانونى الملائم، تمهيدا لاسناده الى النص القانونى المحدد.
فتكييف الدعوى يقصد به اذن وصفها الشرعى الذى يسبغ او
يضفى الحياه القانونيه على النزاع مثار الدعوى، لتعيين النص
القانونى واجب التطبيق((153)) هذا فى فقه القانون الوضعى.
اما فى الفقه الاسلامى فقد جاء، فى كتاب اعلام الموقعين، لابن
قيم الجوزيه انه (لا يتمكن المفتى ولا الحاكم من الفتوى
والحكم الا بنوعين من الفهم احدهما فهم الواقع واستنباط
حقيقه ما وقع بالقرائن والامارات حتى يحيط به علما، والنوع
الثانى فهم الواجب فى الواقع، وهو فهم حكم اللّه فى كتابه او
لسان رسوله فى هذا الواقع، ثم يطبق احدهما على الاخر وان
المطلوب من كل من يحكم بين اثنين ان يعلم ما يقع، ثم
يحكم فيه بما يجب). ومضمون هذا النص يعطينا معنى تكييف
القاضى لوقائع الدعوى واعطائه الوصف الذى ينص عليه
المشرع الاسلامى فى حاصل فهم الواقع فى الدعوى المرفوعه
امامه، فيرد هذا الواقع الى نص الحكم الشرعى ليطبقه عليه
من دون ان يتقيد بالوصف الذى اضفاه الخصوم على تلك
الوقائع. فاذا كانت واقعه الدعوى تمثل عقدا معترفا به من لدن
المتداعيين فان ثبوت العقد لوحده لا يكفى لغرض الحكم بل
يلزم معرفه نوع هذا العقد هل هو عقد بيع ام هبه ام اجاره، وما
اليه من العقود التى وضع المشرع الاسلامى لكل نوع منها
احكامه التى فصلها الفقهاء، فعمله الفنى هذا هو ما يطلق عليه
ب(التكييف الشرعى للعقد)، والعبره فى العقود من حيث
التكييف بالمقاصد والمعانى لا بالالفاظ والمبانى((154)) وهذه
القاعده الفقهيه مستمده من حديث الرسول الكريم: (انما
الاعمال بالنيات وان لكل امرى‏ء ما نوى)((155)).
فالتكييف الذى يقوم به القاضى اذن عباره عن تطبيق القاعده
الشرعيه وارسائها على ما يثبت لديه من وقائع، وهى مساله
تلقى حضورها الرحب لديه بفعل الكفاءه العلميه اذ لا بد من
كونه قد علم علما مسبقا، فان للدعوى عده اوصاف، فقد تكيف
على اساس انها دعوى استرداد الحق حاله استيلاء شخص على
عقار آخر، فيرفع صاحب العقار دعوى امام القضاء ليسترد،
بوساطتها، عقاره، او دعوى منع التعرض كان يكون الملك فى
يد حائزه وهكذا.
وفى نطاق المسائل الجزائيه يمكن ان نورد المثال بواقعه اخذ
المال، فقد تكيف هذه الواقعه على انها غضب اذا ما تم اخذه
بالقوه والمجاهره، وقد تكيف سرقه اذا تم اخذه بخفه، وكان
المال هذا محرزا((156)).
ومساله التكييف هذه يمكن استظهارها فى قضاء الامام على(ع)
من خلال بعض قضاياه فى جزئيات المسائل التى حكم فيها،
وعلى سبيل المثال نذكر حادث السكارى الاربعه الذين تباعجوا
بالسكاكين ونال كل واحد منهم من الجراح مناله، اذ قضى(ع)
بحبسهم حتى يفيقوا، فمات منهم فى السجن اثنان، وعلى اثر
ذلك جاء قوم المتوفين اليه قائلين له: اقدنا، اى احكم لنا من
الاثنين الباقيين بالقصاص بدعوى انهما قتلا صاحبيهما،
فاجاب قائلا: وما علمكم بذلك، فلعل كل واحد منهما قتل
صاحبه! فقالوا: لا ندرى فاحكم فى هذه القضيه بما علمك اللّه،
فقال(ع): (ديه المقتولين على قبائل الاربعه بعد مقاصه
الحيين منهما بديه جراحهما)((157))، فوقائع هذه القضيه
فيها اكثر من وصف شرعى، ففيها الجراح وفيها القتل، وهذا قد
يكون عمدا او بغير عمد، ولكن تعمق الامام فى مجريات
الحادث وظروفه اوصله الى القناعه بان التخاصم الذى حصل
بين الجناه الاربعه وتباعجهم بالسكاكين لم يكن عن قصد
القتل، خصوصا وان وعيهم غير سليم بسبب السكر، وانما
حصلت الوفاه لاثنين منهم نتيجه النزف وشده الجراح، لهذا
كيف امير المومنين الفعل الذى اسفر عنه موت الاثنين على
انه قتل خطا يوجب الديه وليس قتل عمد يوجب القود.
ومن السوابق الاخرى نذكر قضيه الصبيان الذين كانوا يلعبون
باخطار لهم، فرمى احدهم بخطره، فاصاب رباعيه صاحبه
فرفع ذووه شكواهم الى الامام على(ع)، وعندما اقام الرامى
-المشكو منه- البينه بانه قال: حذار -اى نبه وحذر صاحبه-
فادرا عنه الامام القصاص، ثم قال: قد اعذر من حذر((158))
حيث لم يتبين للامام اى قصد جنائى خاص لدى المشكو
منهم، بل حصل القتل نتيجه خطا المجنى عليه بالذات لعدم
اكتراثه بتحذير زميله له((159)).
الفصل الثانى:طرق الاثبات عند الامام على(ع)
الاثبات، بمعناه القضائى، اقامه الدليل امام القضاء لاثبات تصرف
معين كالعقود او لاثبات واقعه ما كالسرقه، فاقامه الدليل على
وجود الحق المدعى به يعنى اثباته.
وموضوع الاثبات يعد من ادق المسائل الفنيه فى العمل
القضائى وفقهه، وما طرقه سوى وسائله التى تحقق للقاضى
علما مكتسبا بالحادث او القضيه موضوع الدعوى المكلف
بالحكم فيها، كون الدعوى -كما اشرنا- لا يشترط لقبولها ثبوت
الحق المدعى به فيها ابتداء، انما يتم التحرى عن وجوده
وعائديته وكشف مبهماته عبر وسائل الاثبات المتحصله فى
مجلس القضاء، فيكون القاضى -والحاله هذه- قد الم بحقيقه
الحق المتنازع فيه، وانكشفت معالمه على النحو الذى يقتضى
اقراره بشكل ملزم عن طريق الحكم.
وجدير بالتنويه ان للفقه الاسلامى اتجاهين بخصوص طرق
الاثبات او ادلته، الاول ياخذ بالاثبات المقيد، وهو راى جمهور
الفقهاء، اذ يذهبون الى القول بان وسائل الاثبات جاءت على
سبيل الحصر، وهى: الشهاده والاقرار واليمين والكتابه
والقرينه، وهناك من اضاف اليها علم القاضى
الشخصى((160)).
اما الاتجاه الثانى فلا ياخذ بذلك الراى، لتبنيه مبدا الاثبات
المطلق، فيذهب الى القول: صحيح ان تلك الادله قطعيه
الورود فى الكتاب والسنه الا ان هذا لا يعنى عدم جواز الركون
الى غيرها، فورودها لم يكن على سبيل الحصر، وهو الاتجاه
الادق والاصح والاعدل لانه يفتح المجال امام صاحب الحق فى
اثبات ما يدعيه بكافه الطرق المتاحه والمقبوله شرعا -بطريق
النقل او العقل- وهو الاتجاه الذى تدلنا آثار الامام على(ع)
الادبيه وسوابقه القضائيه على انتهاجه، له لا بل انه نهجه الذى
سار على هداه الكثير من الاعلام، نذكر منهم صاحب كتاب
اعلام الموقعين((161)) الذى يقول: (ان اللّه سبحانه ارسل
رسله وانزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذى قامت
به الارض والسماوات، فاذا ظهرت امارات العدل واسفر وجهه
باى طريق كان فثم شرع اللّه ودينه)، وابن فرحون الذى قال:
(فمتى ظهر الحق واسفر طريق العدل فثم شرع اللّه
ودينه)((162)).
وبناء على ما تقدم، فليس من العدل، ولا من المنطق، رفض
اجراء المضاهاه لخطوط المحرر الكتابى -وليكن سند دين
مثلا- او بصمه الابهام لوقوع الانكار عليها من قبل من اسندت
اليه بالطرق العلميه المبتكره حديثا، بحجه عدم النص عليها او
انها لم تكن معروفه فى عهد الرسول والصحابه من بعده مثلا،
لا بل قل ان الحوادث ومفردات الحياه اليوميه البسيطه لدى
الناس آنذاك لم تكن تعهدها.
والحقيقه ان القرآن الكريم فيه تبيان كل شى‏ء، ومن ذلك
اختلاف بصمات اصابع الانسان كما يستدل من مفهوم قوله
تعالى: (ايحسب الانسان الن نجمع عظامه، بلى قادرين على ان
نسوى بنانه)((163)) فاصابع اليد لدى الانسان تختلف
بنانها((164)) من شخص لاخر حيث لا تتشابه خطوطها بين
اثنين من البشر ولا تتقارب لحكمه اقتضتها المشيئه الربانيه،
وهى وحدها معجزه من معاجز القرآن الربانيه، حيث تحدى
البارى تعالى اعداء الايمان بقوله: (بلى قادرين على ان نسوى
بنانه)، وقد تجلت تلك الحكمه الربانيه من خلال كون اختلاف
خطوط البنان تفيد فى التعريف ومعرفه عائديه البصمه، وقد
استعملت انكلترا لاول مره عام 1884 طريق الاستعراف
والتعريف بوساطه بصمات الاصابع((165))، كما ان التقنيه
الحديثه((166)) اخذت تكشف لنا بعض جوانب تلك الحكمه،
وكما يقول اللّه تعالى: (سنريهم آياتنا فى الافاق وفى انفسهم
حتى يتبين لهم انه الحق اولم يكف بربك انه على كل شى‏ء
شهيد)((167)).
اما اختبار الخط الكتابى وتمييزه من قبل الخبير المختص لمن
انكره، بعد اخذ عينه من خطوطه لمقارنتها بخطه الذى انكره،
بغيه معرفه ما اذا كان يعود اليه ام لا، فانه وسيله اثبات لم تكن
معروفه فى بدايه العهد الاسلامى، ولم تعرف الا بعد عده
قرون((168)). فالقاضى عليه ان يطلب من المدعى ايضاح
دعواه وتقديم ما لديه من ادله او بينات ما دام عب‏ء الاثبات يقع
عليه عاده((169))، وقد روى عن الرسول الامين قوله: (لو
يعط‏ى الناس بدعواهم لادعى الرجال اموال قوم ودماءهم،
ولكن البينه على المدعى واليمين على من انكر). وفى روايه
اخرى جاء قوله: (انما اقضى بينكم بالبينات والايمان وبعضكم
الحن بحجته من بعض، فايما رجل قطعت له من مال اخيه
شيئا فانما قطعت له به قطعه من نار)((170))، هذا من جهه،
ومن جهه اخرى فهناك قواعد على القاضى مراعاتها بخصوص
ادله الاثبات، كالتقيد بنوع الدليل وحدوده، فاثبات جريمه الزنا
لا يصح الا باربعه شهود عدول كما ان الشاهد منهم لكى تعتبر
شهادته لا بد من ان يشهد برويه الميل فى المكحله، وذلك
كنايه عن رويه الفرج فى الفرج((171))، وقد جاءت الموسوعات
الفقهيه لاعلام الامه زاخره بتفصيلات هذا الجانب الذى
يخرجنا تقصيه عن موضوعنا.
وحيث ان القاضى منقب عن الحقيقه والحق، فان متطلبات
ولايته الشرعيه تلزمه القيام بتحليل الدليل وفحصه للوقوف
على مدى قوته ومصداقيته من دون الاخذ به على علاته -كما
سنرى ذلك فى منهج الامام على(ع) من خلال مباحث هذا
الفصل- وتتطلب منه ايضا ان لا يضيف عليها او يحرفها بما
يخالف الحقيقه او يكرس الادله، من دون مسوغ، فيلتبس عليه
الامر وتضيع عند ذلك الحقيقه.