next page

fehrest page

back page

خاتمة :

في تأويل قوله تعالى وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ فقد اختلف فيه علماء الإسلام و نسب بعضهم نبي الله الصديق إلى الفاحشة التي نزهوا أنفسهم عنها .

فقال فخر الدين الرازي اعلم أن هذه الآية من المهمات التي يجب الاعتناء بالبحث عنها و في هذه الآية مسائل المسألة الأولى في أنه (عليه السلام) هل صدر عنه ذنب أم لا و في المسألة قولان أحدهما أنه (عليه السلام) هم بالفاحشة .

قال الواحدي في كتاب البسيط قال المفسرون و الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم هم يوسف أيضا بهذه المرأة هما صحيحا و جلس منها مجلس الرجل من المرأة فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة عنه .

قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام) بإسناده عن علي (عليه السلام) أنه قال : طمعت فيه و طمع فيها و كان طمعه فيها أنه هم أن يحل التكة .

و عن ابن عباس رضي الله عنه قال حل الهميان و جلس منها مجلس الخائن. و عنه أيضا أنها استقلت له و قعد لها بين رجليها ينزع ثيابه .

ثم إن الواحدي طول في كلمات عديمة الفائدة في هذا الباب و ما ذكر آية يحتج بها أو حديثا صحيحا يعول عليه في تصحيح هذه المقالة و لما أمعن في الكلمات العارية عن الفائدة .

روي : أن يوسف لما قال ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبرئيل (عليه السلام) و لا حين هممت يا يوسف فقال يوسف عند ذلك وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي.

ثم قال و الذين أثبتوا هذا العمل ليوسف كانوا أعرف بحقوق الأنبياء و ارتفاع منازلهم عند الله من الذين نفوا الهم عنه فهذا خلاصة كلامه في هذا الباب. القول الثاني أن يوسف (صلى الله عليه وآله وسلم) كان بريئا من العمل الباطل و الهم المحرم و هذا قول المحققين من المفسرين و المتكلمين و به نقول و عنه نذب .

[188]

و اعلم أن الدلائل الدالة على وجود عصمة الأنبياء (عليهم السلام) كثيرة ذكرناها في سورة البقرة فلا نعيدها إلا أنا نزيد هاهنا وجوها :

فالحجة الأولى : أن الزنى من منكرات الكبائر و الخيانة من معرض الأمانة من منكرات الذنوب و أيضا مقابلة الإحسان العظيم الدائم بالإساءة الموجبة للفضيحة الباقية و العار الشديد من منكرات الذنوب و أيضا الصبي إذا تربى في حجر إنسان و بقي مكفي المئونة مصون العرض من أول صباه إلى زمان شبابه و كمال قوته فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم العظيم من منكرات الأعمال إذا ثبت هذا فنقول إن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف كانت موصوفة بجميع هذه الأربعة و مثل هذه المعصية لو نسبت إلى أفسق خلق الله لاستنكف منها فكيف يجوز إسناده إلى الرسول المؤيد بالمعجزات ثم إنه تعالى قال في عين هذه الواقعة كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ و ذلك يدل على أن ماهية الفحشاء مصروفة عنه و لا شك أن المعصية التي نسبوها إليه أفحش أقسام الفحشاء فكيف يليق برب العالمين أن يشهد في عين هذه الوقعة بكونه بريئا من السوء و الفحشاء مع أنه كان قد أتى بأعظم أنواع السوء و الفحشاء أيضا .

فالآية تدل على قولنا من وجه آخر و ذلك لأنا نقول هب أن هذه الآية لا تدل على نفي هذه المعصية عنه إلا أنه لا شك أنها تفيد المدح العظيم و الثناء البالغ و لا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي عن إنسان إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه و يثني عليه بأعظم المدائح عقيب أن يحكي عنه ذلك الذنب العظيم فإن مثاله ما إذا حكى السلطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب و أفحش الأعمال ثم يذكره بالمدح العظيم و الثناء البالغ عقيبه فإن ذلك يستنكر جدا فكذا هاهنا .

الثالث : أن الأنبياء متى صدرت عنهم زلة أو هفوة استعظموا ذلك و أتبعوها بإظهار الندامة و التوبة و لو كان يوسف هاهنا على هذه الكبيرة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بالتوبة و الاستغفار و لو أتى بالتوبة لحكى الله عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع و حيث لم يوجد شي‏ء من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب و لا معصية .

الرابع : أن كل من له تعلق بتلك الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف (عليه السلام) عن المعصية .

[189]

و اعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة يوسف و تلك المرأة و زوجها و النسوة و الشهود و رب العالمين شهد ببراءته عن الذنب و إبليس أيضا أقر ببراءته من المعصية و إذا كان الأمر كذلك فحينئذ لم يبق للمرء المسلم توقف في هذا الباب .

أما بيان أن يوسف (عليه السلام) ادعى البراءة من الذنب فهو قوله (عليه السلام) هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي و قوله رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ .

و أما بيان أن المرأة اعترفت بذلك فلأنها قالت للنسوة وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ و أيضا قالت الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ .

و أما بيان أن زوج المرأة أقر بذلك فهو قوله إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ .

و أما الشهود فقوله شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ ... إلى آخر الآية .

و أما شهادة الله فقوله كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ فقد شهد الله في هذه الآية على طهارته سبع مرات أولها قوله لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ و اللام للتأكيد و المبالغة .

و الثاني قوله وَ الْفَحْشاءَ أي كذلك يصرف عنه الفحشاء .

و الثالث قوله مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ مع أنه قال تعالى وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً .

الرابع قوله الْمُخْلَصِينَ و فيه قراءتان تارة باسم الفاعل و تارة باسم المفعول فوروده باسم الفاعل دل على كونه إتيانا بالطاعات و القربات مع صفة الإخلاص و وروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى أخلصه لنفسه و على كلا الوجهين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزها مما أضافوه إليه .

و أما بيان أن إبليس أقر بطهارته فلأنه قال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين و يوسف من المخلصين لقوله تعالى إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ و كان هذا إقرار من إبليس بأنه ما أغواه و ما

[190]

أضله عن طريق الهدى و عند هذا فقول هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف (عليه السلام) هذه الفضيحة إن كانوا من أتباع دين الله فليقبلوا شهادة الله على طهارته و إن كانوا من أتباع إبليس و جنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته و لعلهم يقولون كنا في ابتداء الأمر تلامذة إبليس إلا أنا زدنا عليه في السفاهة كما قال الحروري .

و كنت فتى من جند إبليس فارتقى *** بي الأمر حتى صار إبليس من جندي

‏فلو مات قبلي كنت أحسن بعده *** طرائق فسق ليس يحسنها بعدي

فثبت بهذه الدلائل أن يوسف (عليه السلام) بري‏ء عما يقوله هؤلاء الجهال و إذا عرفت هذا فنقول الكلام على ظاهر هذه الآية يقع في مقامين المقام الأول أن نقول لا نسلم أن يوسف (عليه السلام) هم بها و الدليل أنه تعالى قال وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ و جواب لو لا هاهنا مقدم و هو كما يقال قد كنت من الهالكين لو لا أخلصك .

ثم ذكر للزجاج سؤالات و أجاب عنها ثم قال المقام الثاني في الكلام على هذه الآية أن نقول سلمنا أن الهم قد حصل إلا أنا نقول إن قوله وَ هَمَّ بِها لا يمكن حمله على ظاهره لأن تعليق الهم بذات المرأة محال لأن الهم من جنس القصد و لا يتعلق بالذوات الباقية فثبت أنه لا بد من إظهار فعل مخصوص يجعل متعلق ذلك الهم و ذلك الفعل غير مذكور فهم زعموا أن ذلك المضمر هو إيقاع الفاحشة و نحن نضمر شيئا يغاير ما ذكروه و بيانه من وجوه الوجه الأول أنه (عليه السلام) هم بدفعها عن نفسه و منعها من ذلك القبيح لأن الهم هو القصد فوجب أن يحمل في كل واحد على القصد الذي يليق به فاللائق بالمرأة القصد إلى تحصيل اللذة و التمتع و القصد اللائق بالرسول المبعوث إلى الخلق و إلى زجر العاصي عن معصيته و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هممت بفلان أي بضربه و دفعه فإن قالوا فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ .

next page

fehrest page

back page