فائدة
قلنا فيه أعظم الفوائد و هو أنه تعالى أعلم يوسف (عليه السلام) لو
اشتغل بدفعها عن نفسه فربما تعلقت به فكان يتمزق ثوبه من قدام و كان في علم الله
تعالى أن
[191]
الشاهد يشهد أن ثوبه لو تمزق من قدام لكان
يوسف (عليه السلام) هو الجاني و لو كان ثوبه متمزقا من خلفه لكانت المرأة هي الخائنة فالله
تعالى أعلمه هذا العلم فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى هاربا عنها حتى
صارت شهادة الشاهد حجة على براءته عن المعصية .
الوجه الثاني في الجواب أن نفسر
الهم بالشهوة و هذا مستعمل في اللغة فمعنى الآية و لقد اشتهته و اشتهاها لَوْ لا
أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ لدخل ذلك العمل في الوجود .
الوجه الثالث أن نفسر الهم
بحديث النفس و ذلك لأن المرأة الفائقة في الحسن و الجمال إذا تزينت و تهيأت للرجل
الشاب القوي فلا بد و أن يقع هناك بين الشهوة و الحكمة و بين النفس و العقل
مجاذبات و منازعات فتارة تقوى داعية الطبيعة و الشهوة و تارة تقوى داعية العقل و
الحكمة فالهم عبارة عن جواذب الطبيعة و رؤية البرهان عبارة عن جواذب العبودية و
مثاله الرجل الصالح القائم الصائم في الصيف إذا رأى الجلاب المبرد بالثلج فإن
طبيعته تحمله على شربه إلا أن دينه يمنعه منه هذا لا يدل على حصول الذنب بل كلما
كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبودية أكمل فقد ظهر بحمد الله
صحة القول الذي ذهبنا إليه و لم يبق في يد الواحدي إلا مجرد التصلف و تعديد أسماء
المفسرين و اعلم أن بعض الحشوية روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال ما كذب إبراهيم (عليه السلام) إلا ثلاث
كذبات فقلت الأولى أن لا تقبل مثل هذه الأخبار فقال على طريق الاستنكار فإن لم
تقبله لزمنا تكذيب الرواة فقلت يا مسكين إن قبلنا لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم (عليه السلام) و
إن رددنا لزمنا الحكم بتكذيب الرواة و لا شك أن صون إبراهيم عن الكذب أولى من صون
طائفة من المجاهيل عن الكذب إذا عرفت هذا الأصل فنقول للواحدي و من الذي يضمن أن الذي
نقلوا هذا القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين أم كاذبين .
المسألة الثالثة في أن
المراد بذلك البرهان ما هو أما المحققون المثبتون للعصمة فقد فسروا رؤية البرهان
بوجوه الأول أنه حجة الله تعالى في تحريم الزنى و العلم بما على الزاني من العقاب.
.
[192]
الثاني أن الله تعالى طهر نفوس الأنبياء عن
الأخلاق الذميمة بل نقول إن الله تعالى طهر نفوس المتصلين بهم عنها كما قال
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ
يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أو المراد برؤية البرهان هو حصول تلك الأخلاق و تذكير
الأحوال المردعة لهم عن الإقدام على المنكرات .
الثالث أنه رأى مكتوبا في سقف البيت
وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا .
الرابع أنه
النبوة المانعة عن ارتكاب الفواحش و الدليل عليه أن الأنبياء بعثوا لمنع الخلق عن
القبائح و الفضائح فلو أنهم منعوا الناس عنها ثم أقدموا على أقبح أنواعها و أفحش
أقسامها لدخلوا تحت قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما
لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ.
و أيضا أن الله عير اليهود بقوله أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ
تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ و ما يكون عيبا في حق اليهود كيف ينسب إلى الرسول المؤيد
بالمعجزات .
و أما الذين نسبوا المعصية إلى يوسف فقد ذكروا في تفسير ذلك البرهان
أمورا الأول قالوا إن المرأة قامت إلى صنم مكلل بالدر و الياقوت في زاوية البيت
فسترته بثوب و قالت أستحي من إلهي هذا أن يراني على المعصية فقال يوسف تستحين من
صنم لا يعقل و لا يسمع و لا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت فو الله لا
أفعل أبدا .
الثاني نقلوا عن ابن عباس أنه مثل له يعقوب (عليه السلام) فرآه عاضا على أصابعه و
يقول له لتعمل عمل الفجار و أنت مكتوب في زمرة الأنبياء (عليهم السلام) فاستحى منه و هو قول
عكرمة و مجاهد و كثير من المفسرين .
قال سعيد بن جبير تمثل له يعقوب (عليه السلام) فضرب في صدره
فخرجت شهوته من أنامله .
الثالث قالوا إنه سمع في الهواء قائلا يقول يا ابن يعقوب
لا تكن كالطير له ريش فإذا زنى ذهب ريشه .
الرابع نقلوا عن ابن عباس أن يوسف (عليه السلام) لم
يزدجر برؤية يعقوب حتى ركضه جبرئيل (عليه السلام) فلم يبق فيه شيء من الشهوة إلا خرج.
[193]
و لما نقل الواحدي هذه الروايات تصلف و قال هذا الذي
ذكرناه قول أئمة المفسرين الذين أخذوا التأويل عمن شاهد التنزيل فيقال له إنك لا
تأتينا البتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها فأين الحجة و الدليل و أيضا
فإن ترادف الدلائل على الشيء الواحد جائز و إنه (عليه السلام) كان ممتنعا عن الزنى بحسب
الدلائل الأصلية فلما انضاف إليها هذه الزواجر قوي الانزجار و كمل الاحتراز و
العجيب أنهم نقلوا أن جروا دخل تحت حجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و بقي هناك بغير علمه قالوا
فامتنع جبرئيل (عليه السلام) من الدخول عليه أربعين يوما و هاهنا زعموا أن يوسف (عليه السلام) حال اشتغاله
بالفاحشة ذهب إليه جبرئيل (عليه السلام) .
و العجب أيضا أنهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل
بسبب حضور جبرئيل (عليه السلام) و لو أن أفسق الخلق كان مشغولا بفاحشة فإذا دخل عليه رجل صالح
على زي الصالحين استحى منه و فر و ترك ذلك العمل و هاهنا رأى يعقوب عض على أنامله
و لم يلتفت .
ثم إن جبرئيل (عليه السلام) على جلالة قدره دخل عليه فلم يمتنع عن ذلك القبيح بسبب
حضوره حتى احتاج جبرئيل إلى ركضه على ظهره فنسأل الله تعالى أن يصوننا عن العمى في
الدين و الخذلان في طلب اليقين .
فهذا هو الكلام الملخص في هذه المسألة انتهى كلامه
و تسلطه على الواحدي فيما قمع به أساس كلامه هو مذهب أصحابنا قدس الله أرواحهم .
و
الوجهان اللذان اختارهما أومى الرضا (عليه السلام) إلى أحدهما في حديث أبي الصلت الهروي .
حيث قال : و أما قوله عز و جل في يوسف وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها
فإنها همت بالمعصية و هم يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما داخله فصرف الله عنه قتلها
و الفاحشة و هو قوله كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ يعني الزنى .
و أشار إليهما معا في خبر ابن الجهم .
حيث قال : لقد همت به
و لو لا أن رأى برهان ربه لهم بها كما همت به لكنه كان معصوما و المعصوم لا يهم
بذنب و لا يأتيه و لقد حدثني أبي عن أبيه الصادق (عليه السلام) أنه قال همت بأن تفعل و هم بما
لا يفعل.
أقول : لا يتوهم خطأ في قصده القتل إذ الدفع عن الغرض و الاحتراز عن
المعصية
[194]
لازم و إن انجر إلى القتل و لكنه تعالى نهاه
عن ذلك لمصالح كثيرة و قد ظهر حقيقة الحال فما ورد في روايتنا مما يوافق العامة
فأحمله على التقية .
ثم قال الزجاج و أما قوله وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ففيه إشكال
و ذلك لأن يعقوب (عليه السلام) كان أبا يوسف و حق الأبوة حق عظيم و أيضا إنه كان شيخا و الشاب
يجب عليه تعظيم الشيخ .
و الثالث أنه كان من أكابر الأنبياء إلا أن يعقوب (عليه السلام) كان
أعلى حالا منه .
الرابع أن جده و اجتهاده في تحصيل الطاعات أكثر من جد يوسف .
و لما
اجتمعت هذه الجهات الكثيرة فهذا يوجب أن يبالغ يوسف في خدمة يعقوب فكيف استجاز
يوسف أن يسجد له يعقوب هذا على تقرير السؤال و الجواب عنه من وجوه الأول هو قول
ابن عباس إن المراد بهذه الآية أنهم خَرُّوا لَهُ سُجَّداً أي لأجل وجدانه سجدوا
لله و حاصله أنه كان ذلك سجود الشكر فالمسجود له هو الله إلا أن ذلك السجود إنما
كان لأجله .
و الدليل على صحة هذا التأويل أن قول وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى
الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً مشعر بأنهم صعدوا ذلك السرير ثم سجدوا و لو
أنهم سجدوا ليوسف (عليه السلام) لسجدوا له قبل الصعود إلى السرير لأن ذلك أدخل في التواضع و
حينئذ فيكون المراد من قوله إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ
وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ أي رأيتهم ساجدين لأجلي أي أنها سجدت لله
لطلب مصلحتي و السعي في إعلاء منصبي و عندي أن هذا التأويل متعين لأنه يبعد من عقل
يوسف و دينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولاة و الشيخوخة و
العلم و الدين و كمال النبوة .
الوجه الثاني في الجواب أن يقال إنهم جعلوا يوسف
كالقبلة و سجدوا لله شكرا لنعمة وجدانه كما يقال سجدت للكعبة قال حسان .
ما كنت أعرف أن الأمر منصرف *** عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أ ليس أول من صلى لقبلتكم *** و أعرف الناس بالآثار و السنن
فقوله وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً أي جعلوه كالقبلة ثم سجدوا لله شكرا
لنعمة وجدانه .
[195]
الوجه الثالث في الجواب أن التواضع قد
يسمى سجودا كقوله.
ترى الأكم فيها سجدا للحوافر .
إلا أن هذا مشكل لأنه تعالى قال وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً و الخرور
إلى السجدة مشعرة بالإتيان بالسجدة على أكمل الوجوه و أجيب عنه بأن الخرور يعني به
المرور فقط .
قال الله تعالى لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً يعني لم
يمروا .
الوجه الرابع في الجواب أن نقول الضمير في قوله وَ خَرُّوا لَهُ غير عائد
إلى الأبوين لا محالة و إلا لقال و خروا له ساجدين بل الضمير عائد إلى إخوته و إلى
سائر من كان يدخل عليه لأجل التهنئة فالتقدير و رفع أبويه على العرش مبالغة في
تعظيمهما .
و أما الإخوة و سائر الداخلين فخروا له ساجدين و إن قالوا فهذا لا يلائم
قوله يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ .
قلنا إن تعبير الرؤيا لا يجب
أن يكون مطابقا للرؤيا حسب الصورة و الصفة من كل الوجوه فسجود الكواكب و الشمس و
القمر تعبيره تعظيم الأكابر من الناس له .
و لا شك أن ذهاب يعقوب مع أولاده من
كنعان إلى مصر لأجل نهاية التعظيم له فيكفي هذا القدر في صحة الرؤيا فأما أن يكون
التعبير في الصفة و الصورة فلم يقل بوجوبه أحد من العقلاء .
الوجه الخامس في الجواب
لعل الفعل الدال على التحية و الإكرام في ذلك الوقت هو السجود فكان مقصودهم من السجود
تعظيمه و هو في غاية البعد لأن المبالغة في التعظيم كان أليق بيوسف منها بيعقوب
فلو كان الأمر كما قلتم لكان من الواجب أن يسجد يوسف ليعقوب الوجه السادس فيه أن
يقال لعل إخوته حملتهم الأنفة و الاستعلاء على أن يسجدوا له على سبيل التواضع و
علم يعقوب أنهم لو لم يفعلوا ذلك لصار ذلك سببا لثوران الفتن و ظهور الأحقاد
القديمة مع كونها فهو (عليه السلام) مع جلالة قدره و عظيم حقه بسبب الأبوة و التقدم في النبوة
فعل ذلك السجود حتى تصير مشاهدتهم لذلك سببا لزوال تلك الأنفة و النفرة عن قلوبهم.
[196]
أ لا ترى أن السلطان الكبير إذا نصب محتسبا فإذا أراد
تربيته مكنه من إقامة الحسبة عليه ليصير ذلك سببا في أن لا يبقى في قلب أحد منازعة
ذلك المحتسب في إقامة الحسبة فكذلك هاهنا .
الوجه السابع لعل الله تعالى أمر يعقوب
بتلك السجدة لحكمة خفية لا يعرفها إلا هو كما أمر الملائكة بسجودهم لآدم لحكمة لا
يعرفها إلا هو و يوسف (عليه السلام) ما كان راضيا بذلك في قلبه إلا أنه لما علم أن الله أمره
بذلك سكت انتهى .
أقول أفعال الأنبياء (عليهم السلام) غير محتاجة إلى هذه التكلفات لأن النبي لا
ينطق عن الهوى .
و هذا السجود الذي رآه يوسف (عليه السلام) في المنام و منام الأنبياء نوع من الوحي.
فما أوحى إلى يوسف في المنام أوحاه إلى يعقوب في اليقظة كما أن رؤيا إبراهيم ذبح
ولده صار سببا لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظة .
و سواء كان ذلك السجود ليوسف (عليه السلام) أو
لله تعالى شكرا على الوجدان أو غير ذلك لا إشكال فيه لأن السجود ليوسف إذا كان
بأمر الله تعالى فهو سجود لله لأنه وقع امتثالا لأمره كالسجود إلى القبلة دون باقي
الجهات .
و الله أعلم و رسوله و أهل بيته المعصومون سلام الله عليهم أجمعين .
[197]