next page

fehrest page

back page

و أما قصته (عليه السلام) مع أوريا

فروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إن داود (عليه السلام) لما جعله الله خليفة في الأرض و أنزل عليه الزبور و أوحى الله عز و جل إلى الجبال و الطير أن يسبحن معه و كان سببه أنه إذا صلى يقوم وزيره لما يفرغ من الصلاة فيحمد الله و يسبحه و يكبره و يهلله ثم يمدح الأنبياء (عليهم السلام) نبيا نبيا و يذكر من فضلهم و أفعالهم و شكرهم في عبادتهم لله سبحانه و الصبر على بلائه و لا يذكر داود فنادى داود (عليه السلام) ربه فقال يا رب قد أثنيت على الأنبياء بما قد أثنيت عليهم و لا تثن علي فأوحى الله عز و جل إليه هؤلاء عباد ابتليتهم فصبروا و أنا أثني عليهم بذلك فقال يا رب فابتلني حتى أصبر فقال يا داود تختار البلاء على العافية إني ابتليت هؤلاء فلم أعلمهم و أنا ابتليتك و أعلمك أنه يأتيك بلائي في سنة كذا في يوم كذا و كان داود يفرغ نفسه لعبادته يوما يقعد في محرابه و يوما يقعد لبني إسرائيل فيحكم بينهم فلما كان في اليوم الذي وعده الله عز و جل فيه اشتدت عبادته و خلا في محرابه و حجب الناس عن نفسه فبينما هو يصلي فإذا طائر قد وقع بين يديه جناحاه من زبرجد أخضر و رجلاه من ياقوت أحمر و منقاره من اللؤلؤ و الزبرجد فأعجبه جدا و نسي ما كان فيه فقام ليأخذه فطار الطائر فوقع على حائط بين داود و بين أوريا و كان داود (عليه السلام) قد بعث أوريا في بعث فصعد داود (عليه السلام) الحائط ليأخذ الطير و إذا امرأة جالسة تغتسل فلما رأت ظل داود نشرت شعرها و غطت به بدنها فنظر إليها داود (عليه السلام) و افتتن بها و رجع إلى محرابه و نسي ما كان فيه و كتب إلى صاحبه في ذلك البعث أن يصيروا إلى موضع كيت و كيت و يوضع التابوت بينهم و بين عدوهم فإذا رجع عنه إنسان كفر و لا يرجع أحد عنه إلا و يقتل فكتب داود إلى صاحبه الذي بعثه أن ضع التابوت بينك و بين عدوك و قدم أوريا بين يدي التابوت فقدمه و قتل فلما قتل دخل عليه الملكان من سقف البيت و قعدا بين يديه ففزع داود منهما فقالا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق و لا تشطط .

[343]

و كان لداود (عليه السلام) حينئذ تسع و تسعون امرأة ما بين مهيرة إلى جارية فقال أحدهما لداود (عليه السلام) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي ظلمني و قهرني فقال داود (عليه السلام) لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ... الآية فضحك المستدعى عليه من الملائكة و قال حكم الرجل على نفسه فقال داود (عليه السلام) تضحك و قد عصيت لقد هممت أن أهشم فاك قال فعرجا فقال الملك المستعدى عليه لو علم داود أنه أحق بهشم فيه مني ففهم داود الأمر و ذكر الخطيئة فبقي أربعين يوما ساجدا يبكي ليله و نهاره و لا يقوم إلا وقت الصلاة حتى انخرق جبينه و سال الدم من عينيه فلما كان بعد أربعين يوما نودي يا داود ما لك أ جائع أنت فنشبعك أو ظمآن فنسقيك أم عريان فنكسوك أم خائف فنؤمنك فقال أي رب و كيف لا أخاف و قد علمت و أنت الحكم العدل لا يجوزك ظلم ظالم فأوحى الله عز و جل إليه تبت يا داود فقال أي رب و أنى لي بالتوبة قال سر إلى قبر أوريا حتى أبعثه إليك و اسأله أن يغفر لك فإن غفر لك غفرت لك قال يا رب فإن لم يفعل قال أستوهبك منه فخرج داود (عليه السلام) يمشي على قدميه و يقرأ الزبور حتى انتهى إلى جبل و عليه نبي عابد يقال له حزقيل فلما سمع دوي الجبال و صوت السباع تسبح علم أنه داود فقال هذا النبي الخاطئ فقال داود يا حزقيل تأذن لي أن أصعد إليك قال لا فإنك مذنب فأوحى الله تعالى إلى حزقيل يا حزقيل لا تعير داود بخطيئته و اسألني العافية فنزل حزقيل و أخذ داود و أصعده إليه فقال داود يا حزقيل هل هممت بخطيئة قط قال لا قال فهل دخلك العجب مما أنت فيه من عبادة الله عز و جل قال لا قال فهل ركنت إلى الدنيا و أحببت أن تأخذ من شهواتها و لذاتها قال بلى ربما عرض ذلك بقلبي قال فما تصنع قال أدخل هذا الشعب فأعتبر بما فيه فدخل داود (عليه السلام) الشعب فإذا بسرير من حديد عليه جمجمة بالية و عظام نخرة

[344]

و إذا لوح من حديد فيه مكتوب فقرأه داود فإذا فيه أنا أورى بن سلم ملكت ألف مدينة و بنيت ألف مدينة و افتضضت ألف جارية فكان آخر أمري أن صار التراب فراشي و الحجارة وسادي و الحيات و الديدان جيراني فمن رآني فلا يغتر بالدنيا و مضى داود حتى أتى قبر أوريا فناداه فلم يجبه ثم ناداه فلم يجبه ثم ناداه ثالثة فقال أوريا يا مالك يا نبي الله لقد شغلتني عن سروري و قرة عيني قال يا أوريا اغفر لي خطيئتي فأوحى الله عز و جل يا داود بين له ما كان منك فناداه داود فأجابه في الثالثة فقال يا أوريا فعلت كذا و كذا و كيت و كيت فقال أوريا أ تفعل الأنبياء مثل هذا فناداه فلم يجبه فوقع داود على الأرض باكيا فأوحى الله عز و جل إلى صاحب الفردوس ليكشف عنه فكشف عنه فقال أوريا لمن هذا قال لمن غفر لداود خطيئته فقال يا رب قد وهبت لداود خطيئته فرجع داود إلى بني إسرائيل و كان إذا صلى قام وزيره يحمد الله و يثني عليه و يثني على الأنبياء (عليهم السلام) ثم يقول كان من فضل نبي الله داود (عليه السلام) قبل الخطيئة كيت و كيت فاغتم داود (عليه السلام) فأوحى الله عز و جل إليه يا داود قد وهبت لك خطيئتك و ألزمت عار ذنبك بني إسرائيل قال يا رب كيف و أنت الحكم الذي لا يجور قال لأنه لم يعالجوك النكير و تزوج داود (عليه السلام) بامرأة أوريا بعد ذلك فولد منها سليمان (عليه السلام) ثم قال الله عز و جل فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ .

و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) : أن داود كتب إلى صاحبه أن لا تقدم أوريا بين يدي التابوت و رده فقدم أوريا إلى أهله و مكث ثمانية أيام ثم مات.

أقول : هذا الحديث محمول على التقية لموافقته مذاهب العامة و رواياتهم و عدم منافاته لقواعدهم من جواز مثله على الأنبياء .

و الأخبار الواردة برده كثيرة من طرقنا فلا مجال لتأويله إلا الحمل على التقية .

عيون الأخبار بإسناده إلى أبي الصلت الهروي قال : سأل الرضا (عليه السلام) علي بن محمد بن الجهم فقال ما يقول من قبلكم في داود (عليه السلام) فقال يقولون إن داود كان في

[345]

محرابه يصلي إذ تصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور فقطع داود صلاته و قام ليأخذ الطير فخرج الطير إلى الدار فخرج في أثره فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حنان فاطلع داود في أثره فإذا بامرأة أوريا تغتسل فلما نظر إليها هواها و كان قد أخرج أوريا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدم أوريا أمام الحرب فقدم أوريا فظفر أوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود فكتب إليه ثانية أن قدمه أمام التابوت فقدم فقتل أوريا و تزوج بامرأته قال فضرب على جبهته و قال إنا لله و إنا إليه راجعون لقد نسبتم نبيا من أنبياء الله على التهاون بصلاته حين خرج في أثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل فقال يا ابن رسول الله ما كانت خطيئته فقال ويحك إن داود ظن أن ما خلق الله عز و جل خلقا هو أعلم مني فبعث الله عز و جل إليه الملكين فتسورا المحراب فقالا خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ فعجل داود (عليه السلام) على المدعى عليه فقال لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ و لم يسأل المدعي البينة على ذلك و لم يقبل على المدعى عليه فيقول له ما يقول فكان هذا خطيئة داود لا ما ذهبتم إليه أ لا تسمع الله عز و جل يقول يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ... الآية فقال يا ابن رسول الله فما قصته مع أوريا قال الرضا (عليه السلام) إن المرأة في أيام داود (عليه السلام) كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا و أول من أباح الله له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود (عليه السلام) فتزوج بامرأة أوريا لما قتل و انقضت عدتها منه فذلك الذي شق على أوريا .

و عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما تقول فيما يقول الناس في داود (عليه السلام) و امرأة أوريا فقال ذلك شي‏ء تقوله العامة .

و عنه (عليه السلام) : قال لو أخذت أحدا يزعم أن داود (عليه السلام) وضع يده عليها لحددته حدين حدا للنبوة و حدا لما رماه به .

[346]

العياشي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ما بكى أحد بكاء ثلاثة آدم و يوسف و داود أما آدم فبكى حين أخرج من الجنة و كان رأسه في باب من أبواب السماء فبكى حتى تأذى به أهل السماء فشكوا ذلك إلى الله فحط من قامته و أما داود فإنه بكى حتى هاج العشب من دموعه و إن كان ليزفر الزفرة فيحرق ما نبت من دموعه و أما يوسف فإنه كان يبكي على أبيه يعقوب و هو في السجن فتأذى به أهل السجن فصالحهم على أن يبكي يوما و يسكت يوما .

و قال الطبرسي اختلف في استغفار داود من أي شي‏ء كان .

فقيل إنه حصل منه على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى و الخضوع و التذلل بالعبادة و السجود كما حكى الله سبحانه عن إبراهيم بقوله وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ .

و أما قوله فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ فالمعنى إنا قبلناه منه و أثبتناه عليه فأخرجه على لفظ الجزاء و هذا قول من ينزه الأنبياء عن جميع الذنوب من الإمامية و غيرهم و من جوز على الأنبياء الصغائر قال إن استغفاره كان لصغيرة .

ثم إنهم اختلفوا في ذلك على وجوه أحدها أن أوريا خطب امرأة فأراد أهلها أن يزوجوها له فبلغ داود جمالها فخطبها أيضا فزوجوها منه و قدموه على أوريا فعوتب داود على الحرص على الدنيا عن الجبائي.

و ثانيها أنه خرج أوريا إلى بعض ثغوره فقتل فلم يجزع عليه جزعه على أمثاله من جنده إذ مالت نفسه إلى نكاح امرأته فعوتب على ذلك بنزول الملكين .

و ثالثها أنه كان في شريعته أن الرجل إذا مات و خلف امرأة فأولياؤه أحق بها إلا أن يرغبوا عن التزويج بها فحينئذ يجوز لغيرهم أن يتزوج بها .

[347]

فلما قتل أوريا خطب داود امرأته و منعت هيبة داود و جلالته أولياءه أن يخطبوها فعوتب على ذلك .

و رابعها أن داود (عليه السلام) كان متشاغلا بالعبادة فأتاه رجل و امرأة متحاكمين إليه فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها و ذلك مباح فمالت نفسه ميل الطباع ففصل بينهما و عاد إلى عبادة ربه فشغله الفكر في أمرها عن بعض نوافله فعوتب .

و خامسها أنه عوتب على عجلته في الحكم قبل التثبت و كان يجب عليه حين سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده فيه و لا يحكم عليه قبل ذلك و إنما أنساه التثبت في الحكم فزعه من دخولهما عليه في وقت العبادة انتهى .

و قال الرازي بعد الطعن في الرواية المشهورة و إقامة الدلائل على بطلانها و ذكر بعض الوجوه السابقة و الكلام عليها .

روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود (عليه السلام) و كان له يوم يخلو بنفسه و يشتغل بطاعة ربه فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم و تسوروا المحراب .

فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواما يمنعونه فخافوا فوضعوا كذبا فقالوا خصمان بغى بعضنا على إلى آخر القصة .

و ليس في لفظ القرآن ما يمكن أن يحتج به في إلحاق الذنب بداود (عليه السلام) إلا ألفاظ أربعة أحدها قوله وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ و ثانيها قوله فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ و ثالثها قوله أَنابَ و رابعها قوله فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ .

ثم نقول و هذه الألفاظ لا يدل شي‏ء منها على ما ذكروه و تقريره من وجوه الأول أنهم لما دخلوا عليه لطلب قتله بهذا الطريق و علم داود (عليه السلام) دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم إلا أنه مال إلى الصفح عنهم طلبا لمرضاة الله تعالى فكانت هذه الواقعة هي الفتنة لأنها جارية مجرى الابتلاء و الامتحان ثم إنه استغفر ربه مما هم به من الانتقام منهم و تاب عن ذلك الهم فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ القدر من الهم و العزم .

و الثاني أنه و إن غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه إلا أنه قدم على ذلك

[348]

الظن و قال لما لم تقم دلالة و لا أمارة على أن الأمر كذلك فبئس ما عملت بهم حتى ظننت بهم هذا .

فكان هذا المراد من قوله وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّه ُوَ أَنابَ منه فغفر الله له ذلك.

الثالث أن دخولهم عليه كان فتنة لداود (عليه السلام) إلا أنه استغفر لذلك الداخل العازم على قتله .

و قوله فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي لاحترام داود (عليه السلام) و تعظيمه انتهى .

و قال البيضاوي و أقصى ما في هذه الأشعار بأنه (عليه السلام) و إن كان له ما لغيره و كان له أمثاله فنبهه الله بهذه القضية فاستغفر و أناب عنه انتهى .

و اعلم أنه لما ثبت عصمة الأنبياء عليهم بالبراهين و الأدلة القاطعة وجب تأويل ما يكون ظاهره منافيا له .

و هذه الوجوه و إن كان يحصل بها الخلاص من القدح في شأن داود (عليه السلام) إلا أن المعول على ما في الأخبار الخالية من التقية .

next page

fehrest page

back page