الفصل الثالث في قصته مع بلقيس و فيه نفش الغنم و وفاته (عليه السلام)
تفسير علي بن إبراهيم كان سليمان (عليه السلام) إذا قعد على كرسيه جاءت جميع
الطير فتظل الكرسي بجميع من عليه من الشمس فغاب عنه الهدهد من بين الطير فوقع
الشمس من موضعه في حجر سليمان فرفع رأسه و قال ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ... الآيات .
فلم يمكث إلا قليلا إذ جاء الهدهد فقال له سليمان أين كنت قال أحطت بما لم
تحط به و حكى له قصة سبأ فقال له سليمان خذ الكتاب إليها .
فجاء به و وضعه في حجرها
فارتاعت من ذلك و جمعت جموعها و قالت لهم إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ
أي مختوم إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ ... الآيات .
و ذكر الكتاب إلى قولها إن كان نبيا من
عند الله كما يدعي فلا طاقة لنا به و لكن سأبعث إليه بهدية فإن كان ملكا يميل إلى
الدنيا فيقبلها و علمنا أنه لا يقدر علينا فبعثت إليه حقة فيها جوهرة عظيمة و قالت
للرسول قل له تثقب هذه الجوهرة بلا حديد و لا نار .
فأتاه الرسول بذلك فأمر سليمان (عليه السلام) بعض جنوده فأخذ خيطا في فمه ثم ثقبها و أخرج الخيط من الجانب الآخر و قال سليمان (عليه السلام) لرسولها فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ
بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا
قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ.
فرجع إليها الرسول فأخبرها بقوة سليمان فعلمت أنه لا محيص لها فارتجلت و خرجت نحو
سليمان .
فلما أخبره الله بإقبالها نحوه قال للجن و الشياطين أَيُّكُمْ يَأْتِينِي
بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا
آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ قال سليمان (عليه السلام) أريد أسرع فقال آصف أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ
[376]
فدعا الله بالاسم الأعظم .
فخرج السرير من تحت كرسي سليمان فقال سليمان
نَكِّرُوا لَها عَرْشَها أي غيروه نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ
الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ .
فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا عَرْشُكِ قالَتْ
كَأَنَّهُ هُوَ و كان سليمان قد أمر أن يتخذ لها بيت من قوارير و وضعه على الماء
ثم قيل لها ادخلي الصرح فظنت أنه ماء فرفعت ثوبها و أبدت ساقيها فإذا عليها شعر
كثير فقيل لها إنه صرح ممرد من قوارير قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ
أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ .
فتزوجها سليمان (عليه السلام) و قال
للشياطين اتخذوا لها شيئا يذهب عنها هذا الشعر فعملوا الحمامات و طبخوا النورة.
فالحمامات و النورة مما أحدثه الشياطين لبلقيس و كذا الأرحية التي تدور على الماء.
و في الكافي عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) : أن الله ما بعث نبيا إلا و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أعلم
منه .
ثم قال إن سليمان بن داود (عليه السلام) قال للهدهد حين فقده ما لِيَ لا أَرَى
الْهُدْهُدَ فغضب لفقده لأنه كان يدله على الماء فهذا و هو طائر أعطي ما لم يعط
سليمان فلم يكن سليمان (عليه السلام) يعرف الماء تحت الهواء أي الأرض و كان الطير يعرفه و أن
الله يقول في كتابه وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ
قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى و قد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال و تقطع
به البلدان و يحيي به الموتى و نحن نعرف الماء تحت الهواء يعني الأرض .
و عن أبي جعفر (عليه السلام) : أن
اسم الله الأعظم على ثلاثة و سبعين حرفا و إنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم
به فخسف بالأرض ما بينه و بين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده ثم عادت الأرض كما
كانت أسرع من طرفة عين و نحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان و سبعون حرفا و حرف عند
الله تبارك و تعالى استأثر به في علم الغيب و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي
العظيم .
و فيه عن أبي عبد
الله (عليه السلام) : من أراد الاطلاء بالنورة فأخذ من النورة بإصبعه فشمه و جعله على طرف أنفه و
قال صلى الله على سليمان بن داود كما أمرنا بالنورة لم تحرقه النورة .
[377]
و روى العياشي بالإسناد قال قال أبو حنيفة
لأبي عبد الله (عليه السلام) كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير قال لأن الهدهد يرى الماء في
بطن الأرض كما يرى أحدكم الدهن في القارورة فنظر أبو حنيفة إلى أصحابه و ضحك فقال
أبو عبد الله (عليه السلام) ما يضحكك قال ظفرت بك جعلت فداك قال و كيف ذلك قال الذي يرى الماء
في بطن الأرض لا يرى الفخ في التراب حتى يأخذ بعنقه فقال أبو عبد الله (عليه السلام) يا نعمان
أ ما علمت أنه إذا نزل القدر أعشى البصر و في قوله لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً
شَدِيداً أي أنتف ريشه و ألقيه في الشمس .
و عن ابن عباس و قيل بأن أجعله بين أضداده أقول ورد أنه أمر بحبسه مع
الحدأة في قفص واحد فلما أشكل الأمر على الهدهد لأن فيه عذابا روحانيا طلب من
سليمان (عليه السلام) أن يعذبه بأشد عذاب الطيور و يخرجه من قفص الحدأة .
فسأل الطيور فقالوا
العذاب الشديد عندنا أن ينتف ريشه الطيور بمناقيرها و تبقي لحمه ملقاة حتى ينبت له
الريش فصبر على هذا العذاب و اختاره على ذلك لأنه عذاب جسماني و ذاك عذاب روحاني.
قال أمين الإسلام الطبرسي اختلف في الهدية فقيل أهدت إليه وصفاء و وصائف ألبستهم
لباسا واحدا حتى لا يعرف الذكر من الأنثى .
عن ابن عباس و قيل أهدت مائتي غلام و
مائتي جارية ألبست الغلمان لباس الجواري و ألبست الجواري لباس الغلمان .
عن مجاهد و
قيل أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج فلما بلغ ذلكسليمان (عليه السلام) أمر الجن فزوقوا
له الآجر بالذهب ثم أمر به فألقي في الطريق في كل مكان صغر في أعينهم ما جاءوا به.
و لما كتبت نسخة الهدية كتبت فيها إن كنت نبيا فميز بين الوصيف و الوصائف و أخبر
بما في الحقة قبل أن تفتحها و قالت للرسول انظر إذا دخلت إليه فإن نظر إليك نظر
غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك أمره و إن نظر إليك نظر لطف
[378]
فاعلم أنه نبي مرسل .
فانطلق الرسول بالهدايا و أتى الهدهد إلى سليمان مسرعا
مخبرا له .
ثم إن سليمان (عليه السلام) جمع الجن و الإنس و الطيور و وضع ميدانا و ذلك أن سليمان (عليه السلام) أمر الجن أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى بضع فراسخ ميدانا واحدا بلبنات من
الذهب و الفضة و أن يجعلوا حول الميدان حائطا شرفها من الذهب و الفضة ففعلوا .
ثم
قال للجن علي بأولادكم فاجتمع خلق كثير فأقامهم عن يمين الميدان و يساره ثم قعد
سليمان في مجلسه على سريره و وضع له أربعة آلاف كرسي عن يمينه و مثلها عن يساره و
أمر الشياطين أن يصطفوا صفوفا فراسخ و أمر الإنس فاصطفوا فراسخ و أمر الوحوش و
السباع و الهوام و الطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه و يساره فلما دنا القوم من
الميدان و نظروا إلى ملك سليمان (عليه السلام) تقاصرت إليهم أنفسهم و رموا بما عندهم من
الهدايا .
فلما وقعوا بين يدي سليمان نظر إليهم نظرا حسنا بوجه طلق و قال ما وراءكم
فأخبره رئيس القوم بما جاءوا به و أعطاه كتاب الملكة فنظر إليه و قال أين الحقة
فأتي بها و حركها و أخبره جبرائيل بما فيها و قال إن فيها درة يتيمة غير مثقوبة و
خرزة مثقوبة معوجة الثقب فقال الرسول صدقت فاثقب الدرة و أدخل الخيط في الخرزة
فأرسل سليمان إلى الأرضة فجاءت فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب
الآخر .
ثم قال من لهذه الخرزة يسلكها الخيط فقالت دودة بيضاء أنا لها يا رسول الله
فثقبتها ثم ميز بين الجواري و الغلمان بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم و أيديهم فكانت
الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به
الوجه و الغلام يأخذ من الآنية يضرب به وجهه و كانت الجارية على باطن ساعدها و
الغلام على ظاهر الساعد و كانت الجارية تصب الماء صبا و كان الماء يحدر على يده
حدرا فميز بينهم بذلك .
و قيل : إنها أنفذت مع هداياها عصا كانت تتوارثها ملوك حمير و
قالت أريد أن تعرفني رأسها من أسفلها و بقدح قالت تملؤه ماء ليس من الأرض و لا من
السماء فأرسل سليمان العصا إلى الهواء و قال أي الرأسين سبق إلى الأرض فهو أصلها و
أمر الخيل .
[379]
فأجريت حتى عرقت و ملأ القدح من عرقها و قال
هذا ليس من ماء الأرض و لا من ماء السماء .
فلما رجع الرسول و علمت أنه نبي تأهبت
للمسير إليه و أخبره جبرائيل (عليه السلام) فعند ذلك قال سليمان (عليه السلام) أيكم يأتيني بعرشها قبل أن
تسلم فيحرم عليه أخذ مالها و قيل أراد أن يجعل دليلا و معجزة على صدقه و نبوته
لأنها خلفته في دارها و وكلت به ثقات قومها يحفظونه و يحرسونه .
و أما كيفية
الإتيان به فذكر العلماء في ذلك وجوها أحدها أن الملائكة حملته بأمر الله تعالى .
و
الثاني أن الريح حملته .
و الثالث أن الله تعالى خلق فيه حركات متوالية .
و الرابع
أنما انحرف مكانه حيث هو هناك ثم نبع بين يدي سليمان (عليه السلام) .
و الخامس أن الأرض طويت له
و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) .
و السادس أنه أعدمه الله في موضعه و أعاده في مجلس
سليمان (عليه السلام) .
و في تفسير العياشي عن الحسن العسكري (عليه السلام) : أنه سئل أ كان سليمان (عليه السلام) محتاجا إلى
علم آصف بن برخيا يعني حتى أحضر له عرش بلقيس فقال (عليه السلام) إن سليمان لم يعجز عن معرفة
ما عرفه آصف لكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أحب أن يعرف أمته من الجن و الإنس أنه الحجة من بعده و ذلك من
علم سليمان (عليه السلام) أودعه آصف بأمر الله ففهمه الله ذلك لئلا يختلف في إمامته و دلالته
كما فهم سليمان (عليه السلام) في حياة داود (عليه السلام) لتعرف إمامته و نبوته من بعده لتأكيد الحجة على
الخلق .
و في تفسير العسكري (عليه السلام) : أن سليمان لما سار من مكة و نزل باليمن قال الهدهد إن سليمان (عليه السلام) قد اشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا و عرضها
ففعل ذلك و نظر يمينا و شمالا فرأى بستانا لبلقيس فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا
هو بهدهد فهبط عليه و كان اسم هدهد سليمان (عليه السلام) يعفور و اسم هدهد اليمن عنقير فقال
عنقير ليعفور من أين أقبلت و أين تريد قال أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود (عليه السلام) قال و من سليمان بن داود قال ملك الجن و الإنس و الطير و الوحوش و الشياطين و
الرياح فمن أين أنت قال أنا من هذه البلاد
[380]
قال و من
ملكها قال امرأة يقال لها بلقيس و إن لصاحبكم سليمان ملكا عظيما و ليس ملك بلقيس
دونه فإنها ملكة اليمن و تحت يدها اثني عشر ألف قائد فهل أنت منطلق معي حتى تنظر
إلى ملكها قال أخاف أن يتفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء قال
الهدهد اليماني إن صاحبك ليسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة فانطلق معه و نظر إلى
بلقيس و ملكها و ما رجع إلى سليمان إلا وقت العصر فلما طلبه سليمان فلم يجده دعا
عريف الطيور و هو النسر فسأله عنه فقال ما أدري أين هو و ما أرسلته مكانا ثم دعا
بالعقاب فقال على بالهدهد فارتفع فإذا هو بالهدهد مقبلا فانقض نحوه فناشده الهدهد
بحق الله الذي قواك و غلبك علي إلا ما رحمتني و لم تعرض لي بسوء فولى عنه العقاب و
قال له ويلك ثكلتك أمك إن نبي الله حلف أن يعذبك أو يذبحك ثم طارا متوجهين إلى
سليمان (عليه السلام) فلما انتهى إلى المعسكر تلقته النسر و الطير فقالوا توعدك نبي الله فقال
الهدهد أ و ما استثنى نبي الله فقالوا بلى أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ
فلما أتيا سليمان و هو قاعد على كرسيه قال العقاب قد أتيتك به يا نبي الله فلما
قرب الهدهد منه رفع رأسه و أرخى ذنبه و جناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان (عليه السلام) فأخذ برأسه فمده إليه فقال أين كنت فقال يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله
تعالى فارتعد سليمان (عليه السلام) و عفا عنه .
التهذيب عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل وَ
داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ
الْقَوْمِ فقال لا يكون النفش إلا بالليل إن على صاحب الحرث أن يحفظ الحرث بالنهار
و ليس على صاحب الماشية حفظها بالنهار إنما رعيها و أرزاقها بالنهار فما أفسدت
فليس عليها و على صاحب الماشية حفظ الماشية بالليل عن حرث النهار فما أفسدت بالليل
فقد ضمنوا و إن داود (عليه السلام) حكم للذي أصاب زرعه رقاب الغنم و حكم سليمان اللبن و الصوف
في هذا العام .
و فيه عنه (عليه السلام) : قال له أبو بصير قول الله عز و جل وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ
إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ قلت حين حكما في الحرث كانت قضية واحدة فقال إنه
كان أوحى
[381]
الله عز و جل إلى النبيين قبل داود (عليه السلام) إلى أن
بعث داود (عليه السلام) أي غنم نفشت في الحرث فلصاحب الحرث رقاب الغنم و لا يكون النفش إلا
بالليل و إن على صاحب الزرع أن يحفظ بالنهار و على صاحب الغنم حفظ الغنم بالليل
فحكم داود (عليه السلام) بما حكمت به الأنبياء (عليهم السلام) من قبله و أوحى الله تعالى إلى سليمان أي غنم
نفشت في الزرع فليس لصاحب الزرع إلا ما خرج من بطونها و كذلك جرت السنة بعد سليمان (عليه السلام) و هو قول الله عز و جل وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً فحكم كل واحد منهما
بحكم الله عز و جل .
تفسير علي بن إبراهيم عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كان في بني
إسرائيل رجل كان له كرم و نفشت فيه غنم لرجل بالليل و قضمته و أفسدته فجاء صاحب
الكرم إلى داود (عليه السلام) فاستدعى على صاحب الغنم فقال داود (عليه السلام) اذهب إلى سليمان (عليه السلام) ليحكم
بينكما فقال سليمان (عليه السلام) إن كانت الغنم أكلت الأصل و الفرع فعلى صاحب الغنم أن يدفع
إلى صاحب الكرم الغنم و ما في بطنها و إن كانت ذهبت بالفرع و لم تذهب بالأصل فإنه
يدفع ولدها إلى صاحب الكرم و كان هذا حكم داود و إنما أراد أن تعرف بنو إسرائيل أن
سليمان (عليه السلام) وصيه بعده و لم يختلفا في الحكم و لو اختلف حكمهما لقال كنا لحكمهما
شاهدين .
الكافي عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إن الإمامة عهد من الله
عز و جل معهودة لرجال مسمين ليس للإمام أن يزويها عن الذي يكون من بعده أن الله
تبارك و تعالى أوحى إلى داود (عليه السلام) أن اتخذ وصيا من أهلك فإنه قد سبق في علمي أن لا
أبعث نبيا إلا و له وصي من أهله و كان لداود (عليه السلام) عدة أولاد فيهم غلام كانت أمه ضد
داود (عليه السلام) و كان لها محبا فدخل داود (عليه السلام) عليها حين أتاه الوحي فقال لها إن الله عز و جل
أوحى إلي أن أتخذ وصيا من أهلي فقالت له امرأته فليكن ابني قال ذاك أريد و كان
السابق في علم الله المحتوم أنه سليمان (عليه السلام) فأوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام) أن لا تعجل
دون أن يأتيك أمري فلم يلبث أن ورد عليه رجلان يختصمان في الغنم و الكرم فأوحى
الله تعالى إلى داود (عليه السلام) أن اجمع ولدك فمن قضى بهذه القضية فأصاب فهو وصيك من بعدك
فجمع داود (عليه السلام) ولده فلما أن قضى الخصمان قال سليمان (عليه السلام) يا صاحب الكرم متى دخلت غنم
هذا الرجل كرمك قال دخلته ليلا قال قد قضيت عليك يا صاحب
[382]
الغنم بأولاد غنمك و أصوافها في عامك ثم قال له داود (عليه السلام) فكيف لم تقض برقاب الغنم
و قد قوم ذلك علماء بني إسرائيل فكان ثمن الكرم قيمة الغنم فقال سليمان إن الكرم
لم يجتث من أصله و إنما أكل حمله و هو عائد في قابل فأوحى الله عز و جل إلى داود (عليه السلام) أن القضاء في هذه القضية ما قضى سليمان به يا داود أردت أمرا و أردنا غيره فدخل
داود (عليه السلام) على امرأته فقال لها أردنا أمرا و أراد الله غيره و لم يكن إلا ما أراد
الله عز و جل و سلمنا و كذلك الأوصياء (عليهم السلام) ليس لهم أن يتعدوا بهذا الأمر فيجاوزون
صاحبهم إلى غير .
يقول مؤلف هذا الكتاب أيده الله تعالى : الأخبار الواردة في هذه القضية
من التعارض و ذلك أن بعضها دال على اختلاف حكمي داود وسليمان (عليه السلام) و بعضهم دال على
اتحاد الحكم و يمكن الجمع بوجوه الأول حمل ما دل على الاختلاف في الحكم على التقية
كما قاله بعض أهل الحديث لانطباقه على أقوال العامة من جواز الاجتهاد على الأنبياء عليهم السلام و بطلانه لا يحتاج إلى البيان .
الثاني حمل الحكم الذي تكلم به سليمان على أنه
ناسخ لحكم داود كما تقدم في الحديث و به قال جماعة من علمائنا و كثير من المعتزلة.
و ما يرد عليه من النسخ إنما يكون في شرائع أولي العزم لمن تقدم عليهم .
فجوابه أن
مثل هذه الأمور الجزئية يجوز وقوع النسخ فيها في كل الشرائع كما قاله بعض علمائنا
رضوان الله عليهم .
الثالث أن الحكم الذي كان عند داود (عليه السلام) هو حكم من تقدمه من الأنبياء (عليهم السلام) و لهذا أحاله على الأنبياء و العلماء .
و أما داود فلم تقع له هذه
المسألة إلى ذلك الوقت و لما أفهمها الله سبحانه سليمان كان ذلك الوحي بذلك الحكم
لداود وسليمان (عليه السلام) فحكمهما واحد و لكنه
[383]
مغاير لما أوحى
الله سبحانه إلى الأنبياء المتقدمين و عليه كان عمل الأنبياء و العلماء إلى عصر
داود (عليه السلام) .
و الوجه الرابع يستفاد من الحديث الذي رواه الثقة علي بن إبراهيم و قد
تقدم .
علل الشرائع و عيون الأخبار مسندا إلى الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) : قال سليمان بن داود (عليه السلام) قال ذات يوم لأصحابه إن الله تبارك و تعالى قد وهب لي ملكا
لا ينبغي لأحد من بعدي سخر لي الريح و الجن و الإنس و الطير و الوحوش و علمني منطق
الطير و آتاني من كل شيء و مع جميع ما أوتيت من الملك ما تم لي سرور يوم إلى الليل
و قد أحببت أن أدخل قصري في غد فأصعد أعلاه و أنظر إلى ممالكي فلا تأذنوا لأحد علي
لئلا ينغص علي يومي قالوا نعم فلما كان من الغد أخذ عصاه بيده و صعد إلى أعلى موضع
من قصره و وقف متكئا على عصاه ينظر إلى ممالكه مسرورا بما أوتي فرحا بما أعطي إذ
نظر إلى شاب حسن الوجه و اللباس خرج عليه من زوايا قصره فلما أبصر به سليمان (عليه السلام) قال
له من أدخلك هذا القصر و قد أردت أن أخلو فيه اليوم فبإذن من دخلت فقال الشاب
أدخلني هذا القصر ربه و بإذنه دخلت فقال ربه أحق به مني فمن أنت قال أنا ملك الموت
قال و فيم جئت قال جئت لأقبض روحك فقال امض لما أمرت به فهذا يوم سروري و أبى الله
عز و جل أن يكون لي سرور دون لقائه فقبض ملك الموت روحه و هو متكئ على عصاه فبقي
سليمان (عليه السلام) متكئا على عصاه و هو ميت ما شاء الله و الناس ينظرون إليه و هم يقدرون
أنه حي فافتتنوا فيه و اختلفوا فمنهم من قال إن سليمان (عليه السلام) قد بقي متكئا على عصاه
هذه المدة الكثيرة و لم يتعب و لم ينم و لم يأكل و لم يشرب إنه لربنا الذي يجب أن
نعبده و قال قوم إن سليمان (عليه السلام) ساحر و إنه يرينا أنه واقف متكئ على عصاه يسحر أعيننا
و ليس كذلك و قال المؤمنون إن سليمان (عليه السلام) هو عبد الله و نبيه يدبر الله أمره بما شاء
فلما اختلفوا بعث الله عز و جل الأرضة في عصاه فلما أكلت جوفها انكسرت العصا و خر
سليمان (عليه السلام) من قصره على وجهه فشكرت الجن للأرضة صنيعها
[384]
لأجل ذلك لا توجد الأرضة في مكان إلا و عندها ماء و طين و ذلك قول الله عز و جل
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ
الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ يعني عصاه فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ
أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ .
ثم قال الصادق (عليه السلام) : و الله ما نزلت هذه الآية هكذا و إنما نزلت فلما تبينت
الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون ما لبثوا في العذاب المهين.
أقول : هذه القراءة نسبها صاحب الكشاف إلى أنها قراءة ابن مسعود.
علل الشرائع
بإسناده إلى أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : أمر سليمان بن داود الجن فصنعوا له قبة من
قوارير فبينما هو متكئ على عصاه في القبة ينظر إلى الجن كيف يعملون و هو ينظر إذ
جاءت منه التفاتة فإذا رجل معه في القبة قال من أنت قال الذي لا أقبل الرشا و لا
إهاب الملوك أنا ملك الموت فقبضه و هو قائم متكئ على عصاه في القبة و الجن ينظرون
إليه فمكثوا سنة يدأبون حوله حتى بعث الله الأرضة الحديث .
و عنه (عليه السلام) : أنه لما هلك سليمان (عليه السلام) وضع إبليس السحر و كتبه في كتاب ثم طواه و
كتب على ظهره هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود (عليه السلام) من ذخائر كنوز العلم
و من أراد كذا و كذا فليفعل كذا و كذا ثم دفنه تحت السرير ثم أخرجه لهم فقرأه فقال الكافرون ما كان سليمان (عليه السلام) يغلبنا إلا بهذا و قال المؤمنون بل هو عبد الله و نبيه فقال جل ذكره وَ اتَّبَعُوا
ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ
لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.
أقول : و روي في السبب الذي لأجله أضافت الكفار من اليهود و غيرهم إلى
سليمان (عليه السلام) و ذلك أنه قد كتب السحر و وضعها في خزائنه .
و قيل : كتمها تحت كرسي لئلا
يطلع الناس عليها و لا يعلمون بها .
فلما مات سليمان (عليه السلام) استخرجت السحرة تلك الكتب و
قالوا إنما تم ملك سليمان (عليه السلام) بالسحر و زينوا السحر في أعين الناس بالنسبة إلى
سليمان و شاع ذلك في اليهود فقبلوه لعداوتهم لسليمان و علموه الناس و جرى بينهم .
[385]
القصص للراوندي بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إن الله تعالى أوحى إلى
سليمان (عليه السلام) أن آية موتك أن شجرة تخرج في بيت المقدس يقال لها الخرنوبة فنظر سليمان (عليه السلام) يوما إلى الخرنوبة قد طلعت في بيت المقدس فقال سليمان (عليه السلام) ما اسمك قالت الخرنوبة
فولى مدبرا إلى محرابه حتى قام متكئا على عصاه فقبضه الله من ساعته.
و في حديث آخر : أنه (عليه السلام) سأل الشجرة ما اسمك قالت الخرنوبة قال لأي شيء أنت قالت للخراب فعلم أنه سيموت
فقال اللهم أعم على الجن موتي ليعلم الإنس أنهم لا يعلمون الغيب و قد كان قد بقي
من بناء بيت المقدس سنة و قال لأهله لا تخبروا الجن بموتي حتى يفرغوا من بنائه و
دخل محرابه و قام متكئا على عصاه فمات و بقي سنة و تم البناء ثم سلط الله على
منسأته الأرضة و كان آصف يدبر أمره في تلك المدة .
و عنه (عليه السلام) : قال قالت بنو إسرائيل لسليمان (عليه السلام) استخلف علينا ابنك فقال لا يصلح
لذلك فألحوا عليه فقال إني أسأله عن مسائل فإن أحسن الجواب فيها أستخلفه ثم سأله
فقال يا بني ما طعم الماء و طعم الخبز و بأي شيء ضعف الصوت و شدته و أين موضع
العقل من البدن و من أي شيء القساوة و الرقة و مم تعب البدن و دعته و مم تكسب
البدن و حرمانه فلم يجبه بشيء فقال أبو عبد الله طعم الماء الحياة و طعم الخبز
القوة و ضعف الصوت و شدته من لحم الكليتين و موضع العقل الدماغ أ لا ترى أن الرجل
إذا كان قليل العقل قيل له ما أخف دماغه و القسوة و الرقة من القلب و هو قوله فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ و تعب البدن و دعته من
القدمين إذا تعبا في المشي يتعب البدن و إذا أودعا أودع البدن و كسب البدن و
حرمانه من اليدين إذا عمل بهما ردتا على البدن و إذا لم يعمل بهما لم يردا على
البدن شيئا .
[386]