‹ صفحه 487 ›
وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ، وهم كالسماء المرفوعة والجبال المنصوبة
والكعبة المستورة والعين الصافية والنجوم الهادية والشجرة المباركة ، أضاء
نورها وبورك زيتها ، محمد خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم ، وعلي وصي الأوصياء
وإمام المتقين وقائد الغر الحجلين ، وهو الصديق الأكبر والفاروق الأعظم
ووصي محمد ووارث علمه ، وأولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم كما قال الله :
( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى
ببعض في كتاب الله ) ( 1 ) ، فقدموا من قدم الله وأخروا من أخر الله واجعلوا
الولاية
والوراثة لمن جعل الله .
فقام عمر فقال لأبي بكر - وهو جالس فوق المنبر - : ما يجلسك فوق
المنبر وهذا جالس محارب لا يقوم فيبايعك ، أو تأمر به فتضرب عنقه ، والحسن
والحسين عليهما السلام قائمان ، فلما سمعا مقالة عمر بكيا ، فضمهما عليه السلام
إلى
صدره فقال : لا تبكيا فوالله ما يقدران على قتل أبيكما ، وأقبلت أم أيمن ( 2 )
حاضنة رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت : يا أبا بكر ! ما أسرع ما أبديتم حسدكم
ونفاقكم ، فأمر بها عمر فأخرجت من المسجد وقال : ما لنا وللنساء ، وقام
بريدة الأسلمي وقال : أتثب يا عمر على أخي رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي
ولده ؟ ، وأنت الذي نعرفك في قريش بما نعرفك ! ألستما اللذين قال لكما
رسول الله صلى الله عليه وآله : انطلقا إلى علي وسلما عليه بإمرة المؤمنين ،
فقلتما :
أعن أمر الله وأمر رسوله ؟ قال : نعم ، فقال أبو بكر : قد كان ذلك ولكن
رسول الله قال بعد ذلك : لا يجتمع لأهل بيتي النبوة والخلافة ، فقال : والله ما
قال هذا رسول الله صلى الله عليه وآله ، والله لا سكنت في بلدة أنت فيها أمير ،
فأمر
به عمر فضرب وطرد ، ثم قال : قم يا ابن أبي طالب فبايع ، فقال : فإن لم
000000000000000000
( 1 ) الأحزاب : 6 .
( 2 ) موالاة النبي صلى الله عليه وآله وحاضنته ، اسمها بركة بنت ثعلبة بن عمرو
حصن ، مهاجرة
جليلة هاجرت الهجرتين إلى أرض الحبشة وإلى المدينة وشهدت حنينا وأحدا خيبرا وكانت
في
أحد تسفي الماء وتداوي الجرحى وكان النبي يخاطبها : يا أمه ، ويقول : هي أمي بعد
أمي ، وتوفيت
في أوائل عهد عثمان .
‹ صفحه 488 ›
أفعل ؟ قال : إذا والله نضرب عنقك ، فاحتج عليهم ثالث مرات ، ثم مد يده
من غير أن يفتح كفه فضرب عليها أبو بكر بذلك منه ) .
ثم نادى علي عليه السلام قبل أن يبايع والحبل في عنقه : يا ( ابن أم إن
القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ) ( 1 ) ، ( ثم تناول يد أبي بكر فبايعه ) ، وقيل
للزبير : بايع ، فأبى ، فوثب إليه عمر وخالد ( بن الوليد ) والمغيرة بن شعبة في
أناس ( معهم ) ، فانتزعوا سيفه ( من يده ) فضربوا به الأرض حتى كسروه ثم
لببوه ، فقال الزبير - وعمر على صدره - : يا ابن صهاك ! أما والله لو أنت سيفي
في يدي لحدت عني ، ثم بايع ، قال سلمان : ثم أخذوني فوجؤوا عنقي حتى
تركوها كالسلعة ( 2 ) ثم أخذوا يدي فبايعت مكرها ، ثم بايع أبو ذر والمقداد
مكرهين ، وما أحد من الأمة بايع مكرها غير علي عليه السلام وأربعتنا ، ولم يكن
أحد منا أشد قولا من الزبير ، فإنه لما بايع قال : يا ابن صهاك ! أما والله لولا
هؤلاء الطلقاء ( 3 ) الذين أعانوك لما كنت تقدم علي ومعي سيفي ، لما أعرف من
جبنك ( ولؤمك ) وكن وجدت من تقوى بهم وتصول ( بهم ) ، فغضب عمر
وقال : أتذكر صهاكا ؟ فقال : ومن صهاك ، وما يمنعني من ذكرها ، وقد
كانت صهاك زانية ، أو تنكر ذلك ؟ أوليس كانت أمة ( حبشية ) لجدي
( عبد المطلب ) ، فزنى بها جدك فولدت أباك الخطاب ، فوهبها عبد المطلب
لجدك بعد ما ( زنى بها ) ، فولدته ، وإنه لعبد جدي ولد زنا ، فأصلح أبو بكر بينهما
وكف كل واحد منهما عن صاحبه ، قال سليم ( بن قيس ) : فقلت : يا سلمان
( أف ) - بايعت ( أبا بكر ) ولم تقل شيئا ؟ - إلى آخر ما يأتي في الباب الخامس
عشر ) ( 4 ) .
أقول : وهذا الباب ليس من الأبواب التي تتناهى فتستوعب غايته ،
ولا من العلوم التي تحصر فتطلب نهايته ، ولو طلب الجائس في تلك الديار
0000000000000000000
( 1 ) الأعراف : 150 .
( 2 ) السلعة : خراج كهيئة الغدة .
( 3 ) في المصدر : الطغاة .
( 4 ) سليم بن قيس : 90 - 78 ، عن البحار 28 : 278 - 261 .
‹ صفحه 489 ›
زيادة لوجد ، وفيما أوردنا على حسب الأسباب
والأحوال كفاية لمن اقتصد ،
بل الظاهر أنه لم يسقط من يدي مما وجد في الكتب المعتبرة من رواياته إلا
شئ قليل ، وقد تركنا ما شارك سلمان غيره في الرواية ، وجملة مما وجدناه
في كتب أهل الضلالة والغواية .
ولنختم الباب بما وعدناه سابقا من ذكر كتاب سلمان ، الذي هو
ثاني ما صنف في الإسلام - على ما صرح به ابن شهرآشوب في معالم
العلماء ( 1 ) - ، وذكر الشيخ طريقة إلى ذلك الكتاب في الفهرس ( 2 ) ، وذكر بعض
أجزائه الصدوق في التوحيد ( 3 ) وقال : ( إنه ذكره بتمامه في كتاب النبوة ) ،
وبعض أجزائه الصفار في البصائر عن أبي الفضل العلوي عن سعيد بن عيسى
البصري عن إبراهيم بن الحكم إلى آخر ما سيأتي ، فنقول :
أخبرني إجازة خاتم الفقهاء والمجتهدين وأكمل الربانيين من العلماء
الراسخين ، ومروج شريعة سيد المرسلين ، المنجلي من أنوار درر أفكاره
مدلهمات غياهب الظلم من ليالي الجهالة ، والمستضئ من ضياء شموس
أنظاره خفايا زوايا طرق الرشد والدلالة ، المنتقل إلى جوار رحمة الله الباري ،
شيخنا الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري ( 4 ) - ألبسه الله جلابيب الرحمة
والغفران ، وأسكنه في أعلى غرف الجنان - في داخل حرم أبي إبراهيم
موسى بن جعفر عليهما السلام ، مما يلي رأس الجواد عليه السلام ، لثمان خلون من
ربيع الأول من شهور سنة ثمانين ومأتين بعد الألف عن مستنده في مناهج
الأحكام المولى أحمد النراقي ( 5 ) ، عن أبيه البدر الأزهر المولى مهدي بن أبي ذر
( 6 ) ،
عن شيخه العالم العليم الشيخ يوسف بن أحمد بن إبراهيم ( 7 ) ، عن المولى رفيعا
000000000000000000
( 1 ) معالم العلماء : 2 .
( 2 ) الفهرس : 80 .
( 3 ) التوحيد : أبواب 41 ، 182 ، 286 ، 316 .
( 4 ) ولد في سنة 1214 وتفي في ليلة السبت الثامنة عشر من جمادى الآخرة سنة 1281 (
منه ) .
( 5 ) الفقيه الأديب وفخر أهل المعقول والمنقول العالم الرباني أحمد بن مهدي
النراقي ، الذي يكفي في
حقه أن يقال إنه أستاذ الشيخ الأنصاري رحمه الله ، المتوفى في ربيع الأول سنة 1245
، من تصانيفه :
مستند الشيعة وعوائد الأيام ومعراج السعادة وغيرها .
( 6 ) الشيخ العالم الفقيه النحرير مهدي بن أبي ذر الكاشاني النراقي ، تلمذ على
ملا إسماعيل الخاجوئي
وتوطن بعد الفراغ من التحصيل في كاشان وتفي سنة 1209 ، من تصنيفاته : معتمد الشيعة
،
مشكلات العلوم ، جامع السعادات .
( 7 ) الفاضل المتبحر مرجع الفقهاء الأعلام وفقيه أهل البيت عليهم السلام يوسف بن
أحمد بن إبراهيم
البحراني الحائري المتولد سنة 1107 في بلاد البحرين والمتوفى بعد الظهر يوم السبت
الرابع من شهر
ربيع الأول سنة 1186 بالطاعون ، ودفن في مشهد الحسين عليه السلام ، له تصانيف
رائقة نافعة
جامعة أحسنها الحدايق الناضرة ثم الدرر النجفية .
‹ صفحه 490 ›
المشهدي ، عن ملاذ الأخيار وغواص بحار الأنوار المولى محمد باقر المجلسي ، عن
العالم الرباني المولى محمد صالح المازندراني ، عن خلاصة الفضلاء الشيخ بهاء
الملة والدين محمد بن الحسين العاملي .
وأخبرني إجازة شيخي وأستاذي ومن إليه في العلوم الشرعية
استنادي ، زبدة أعاظم المحققين ونخبة أفاخم المدققين أكمل المتبحرين
وأفضل المتأخرين ، صاحب المناقب الجليلة حاوي المراتب النبيلة المسدد
المؤيد بالألطاف السبحانية ، عالم العلم الرباني الشيخ عبد الحسين الطهراني
- أدام الله تعالى علاه وحفظه من كل سوء ووقاه - في داره بمشهد الحسين
عليه السلام في ليلة الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر ربيع المولود من شهور سنة
ست وسبعين بعد المأتين والألف ، عن محط رحال أفاضل زمانه مرجع جميع
الفقهاء في عصره وأوانه ، البحر الزاخر الشيخ محمد حسن بن الشيخ باقر ( 1 ) ،
عن العالم الصفي الشيخ جعفر النجفي ( 2 ) ، عن سيد الأعاظم وبحر العلوم والمكارم
السيد محمد مهدي الطباطبائي ، عن طواد العلم الباذخ وعماد الفضل الراسخ
0000000000000000000
( 1 ) الشيخ الأجل الأفقه مربي الفضلاء وشيخ
الفقهاء محمد حسن بن باقر النجفي ، مرجع الأحكام
صاحب جواهر الكلام ، ابتدأ بتصنيفه وهو ابن خمس وعشرين ، توفي في غرة شعبان سنة
1266
في النجف الأشرف ودفن بها .
( 2 ) علم الأعلام وسيف الإسلام خريت طريق التحقيق والتدقيق ، مالك أزمة الفضل
بالنظر
الدقيق النقاد الخبير الشيخ الكبير شيخ الفقهاء صاحب كشف الغطاء جعفر بن خضر
الجناحي
النجفي ، ينتهي نسبه الشريف إلى مالك الأشتر النخعي ، ألف كشف الغطاء في السفر وله
أيضا
مصنفات أخر منها الحق المبين في الرد على الإخباريين وشرح على بعض أبواب المكاسب
القواعد ،
توفي في رجب سنة 1180 .
‹ صفحه 491 ›
المتبحر الماهر الآغا محمد باقر ، عن أبيه الأجل الشيخ محمد أكمل ، عن المولى
الأمجد والثقة المسدد جمال الملة والدين محمد ( 1 ) ، عن أبيه المعروف بطنطنة
الفضل بين لابتي المشرقين الآغا حسن ( 2 ) ، عن نور مصباح المجتهدين وضياء
المسترشدين المولى محمد تقي بن مقصود على المتخلص بمجلسي ، عن شيخه
بهاء الدين محمد العاملي .
وأخبرني إجازة الفاضل الكامل العلامة والمحقق المدقق الفهامة
النحرير المتبحر الماهر المحدث الفقيه السيد البهي الكوكب الدري الميرزا
محمد هاشم بن الميرزا زين العابدين ابن السيد أبي القاسم بن السيد الأجل
البارع الفقيه السيد حسين بن الفاضل المتبحر أبي القاسم جعفر بن حسين
الموسوي الخوانساري - وفقه الله تعالى لمرضاته - ، عن السيد السند المؤيد المعتمد
المتبحر في فنون الفضائل السيد صدر الدين محمد بن السيد صالح بن السيد
محمد بن السيد زين العابدين الموسوي العاملي الإصفهاني النجفي ، عن أبيه ،
عن جده ، عن شيخه وأستاذه برهان الفقهاء والمحدثين وترجمان الفضلاء
والمتبحرين الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي ، عن السيد المحدث العلي
السيد هاشم التوبلي ، عن المحدث الصفي فخر الدين بن الطريح النجفي ،
عن شيخه محمد بن حسام المشرقي ، عن شيخه بهاء الملة والدين ، عن أبيه
البارع الورع عز الدين حسين بن عبد الصمد بن شمس الدين محمد بن علي بن
حسين بن صالح الجبعي العاملي الحارثي الهمداني ، عن روض الفضل
وروضته وطود العلم ودوحته العالم الرباني زين الدين ابن علي بن أحمد بن
محمد بن جمال الدين بن تقي بن صالح بن شرف الجبعي العاملي المشتهر بالشهيد
الثاني ، عن شيخه الجليل أحمد بن محمد بن خاتون العاملي ، عن مروج المذهب
0000000000000000000
( 1 ) العالم المدقق النقاد صاحب التصانيف
الرائقة جمال الدين محمد الخوانساري ، كانت أمه أخت
المحقق السبزواري صاحب الذخيرة ، توفي في شهر رمضان سنة 1125 .
( 2 ) المولى الأجل أستاذ الحكماء والمتكلمين نادرة عصره ووحيد دهره صاحب المؤلفات
الرشيقة
كشرح الدروس الموسوم بمشارق الشموس الحسين بن محمد الخوانساري ، توفي في آخر سنة
1099 في
إصبهان ، أخذ الحكمة عن المحقق الأمير أبي القاسم الفندرسكي وقرأ المنقول على
المجلسي الأول .
‹ صفحه 492 ›
في بلاد العجم والعرب زين الدين أبي الحسن علي بن الحسين بن عبد العالي
الكركي الشهيد المدعو بالمحقق الثاني ، عن الفقيه النبيه علي بن هلال
الجزائري ، عن قدوة السالكين وزبدة العارفين المحدث الفقيه أحمد بن محمد بن
فهد الحلي ، عن الأجل الأفخم الشيخ علي بن الخازن ، عن سند الفقهاء الجلة
ورئيس المذهب والملة الشيخ الأجل محمد بن مكي الشهير بالشهيد الأول ،
عن فخر الفقهاء والمحدثين وذخر الحكماء والمتكلمين محمد ( 1 ) ، عن أبيه
الغطريف ومالك أزمة التآليف آية الله في العالمين جمال الملة والحق والدين
أبي منصور الحسن بن الشيخ الفقيه سديد الدين يوسف بن علي بن المطهر الحلي
المشهور بالعلامة ، عن السيدين السندين الجليلين صاحب الكرامات الباهرة
رضي الدين وأخيه الفقيه جمال الدين أحمد بن موسى بن طاووس ( 2 ) ، عن السيد
الأيد محمد بن معد الموسوي ، عن برهان الدين محمد بن محمد القزويني ، عن
أمين الإسلام أبي علي فضل بن الحسن الطبرسي المفسر ، عن الشيخ أبي علي
الحسن ، عن أبيه شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي ، عن
أبي الحسين علي بن أحمد بن أبي جيد ، عن محمد بن الحسن بن الوليد ، عن
الحميري ، عمن حدثه ، عن إبراهيم بن الحكم الأسدي ، عن أبيه ، عن
شريك بن عبد الله ، عن عبد الأعلى التغلبي ، عن أبي وقاص ، عن سلمان
الفارسي .
وعن شيخ الطائفة ، عن عروة الإسلام والمفتخر بين الأعلام بتوقيع
000000000000000000000
( 1 ) الشيخ الإمام سلطان العلماء ومنتهى
الفضلاء والنبلاء ، فخر الملة والدين أبو طالب محمد بن
حسن الحلي الذي أعطي لقب فخر المحققين تارة وفخر الدين أخرى من والده وكفى بذلك
فخرا ، ولد
في جمادى الأولى سنة 682 وكان مربيه أبيه الشريف ، وكفى في فضله إن والده أمره في
وصيته
بإتمام ما بقي ناقصا من كتبه بعد حلول الأجل وإصلاح ما وجد فيها من الخلل توفي في
جمادى الثاني
سنة 771 ، له تصنيفات رائقة كإيضاح الفوائد وحاشية الإرشاد والكافية الوافية في
الكلام .
( 2 ) أبو الفضائل والمناقب والمآثر والمكارم السيد الجليل أحمد بن موسى بن طاووس
، وهو المراد
بابن طاووس كلما أطلق في الفقه والرجال ، يروي عنه العلامة الحلي وولده غياث الدين
وابن
داود الحلي وغيرهم ، توفي رحمه الله سنة 673 وقبره في الحلة مزار معروف مشهور
كالنور على
الطور ، من تصانيفه كتاب بشرى المحققين وكتاب الملاذ في الفقه ، كتاب الفوائد
العدة في الأصول .
‹ صفحه 493 ›
الإمام الهمام أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالمفيد ، عن شيخه
الأجل الأكمل الصدوق رئيس المحدثين محمد بن علي بن بابويه ، عن
أبي الحسين محمد بن إبراهيم بن إسحاق الفارسي ( 1 ) ، قال : حدثنا أبو سعيد
أحمد بن محمد النسوي ، قال : حدثنا أبو نصر أحمد بن محمد بن عبد الله الصعدي
بمرو ، قال : حدثنا محمد بن يعقوب بن الحكم العسكري وأخوه معاذ بن
يعقوب ، قالا : حدثنا محمد بن سنان الحنظلي ، قال : حدثنا عبد الله بن عاصم ،
قال : حدثنا عبد الرحمن بن قيس ، عن أبي هاشم الرماني ، عن زاذان ، عن
سلمان الفارسي رضي الله عنه قال :
كان من البلاء العظيم الذي ابتلى الله عز وجل به قريشا بعد نبيه ( 2 )
صلى الله عليه وآله ليعرفها أنفسها ويجرح شهادتها على ما ادعته على رسول الله بعد
وفاته ،
ودحض حجتها وكشف غطاء ما استترت ( 3 ) في قلوبها وأخرجت ضغاينها
لآل الرسول عليهم السلام وأزالتهم عن إمامتهم وميراث كتاب الله فيهم ، ما عظمت ( 4
)
خطيئته وشملت فضيحته ووضحت هداية الله فيه لأهل دعوته وورثة نبيه ،
وأنارت به قلوب أوليائهم وعممهم ( 5 ) نفعه وأصابهم برهانه ( 6 ) : إن ملك الروم
لما بلغه وفاة رسول الله وخبر أمته واختلافهم في الاختيار عليهم وتركهم
سبيل هدايتهم ، وادعائهم على رسول الله صلى الله عليه وآله إنه لم يوص إلى أحد
بعد وفاته ، وإهماله إياهم ( حتى ) ( 7 ) يختاروا لأنفسهم وتوليتهم الأمر بعده
الأبعد ( 8 ) من قومه ، وصرف ذلك عن أهل بيته وذريته وأقربائه ، دعا علماء
بلاده وأساقفتهم فناظرهم في الأمر الذي ادعته قريش بعد نبيها وفيما جاء به
00000000000000000000
( 1 ) الطالقاني ( خ ل ) .
( 2 ) في البحار : نبيها .
( 3 ) في الإرشاد : ما أسرت .
( 4 ) قوله : ما عظمت : اسم كان أو خبره أو عطف بيان للبلاء العظيم .
( 5 ) غمرهم ( خ ل ) .
( 6 ) بركاته ( خ ل ) ، أقول في إرشاد القلوب : أضاء به برهانه .
( 7 ) زيادة من إرشاد القلوب .
( 8 ) الأباعد ( خ ل ) .
‹ صفحه 494 ›
محمد صلى الله عليه وآله ، فأجابوه بجوابات من
حججهم على أن محمدا صلى الله عليه
وآله رسول الله ، فسأل أهل مدينته أن يوجههم إلى المدينة لمناظرتهم
والاحتجاج عليهم ، فأمر الجاثليق ( 1 ) أن يختار من أصحابه وأساقفته ، فاختار
منهم مأة رجل ، فخرجوا يقدمهم جاثليق لهم قد أقرت العلماء له جميعا بالفضل
والعلم متبحرا في علمه ، يخرج الكلام من تأويله ويرد كل فرع إلى أصله ليس
بالخرق ( 2 ) ولا بالترق ( 3 ) ولا بالبليد ولا الرعديد ( 4 ) ولا النكل ( 5 ) ولا
الفشل ، ينصت
لمن يتكلم ويجيب إذا سئل ويصبر إذا منع ، فقدم المدينة بمن معه من أخيار
قومه وأصحابه حتى نزل القوم عن رواحلهم ، فسئل أهل المدينة عمن أوصى
إليه محمد صلى الله عليه وآله ومن قام مقامه ، فدلوه على أبي بكر ، فأتوا مسجد
رسول الله صلى الله عليه وآله ، فدخلوا على أبي بكر وهو في حشدة من قريش ، منهم
عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد وعثمان بن عفان ،
وأنا في القوم ، فوقفوا عليه فقال زعيم القوم : السلام عليكم ، فردوا السلام
عليه ، فقال : أرشدونا إلى القائم مقام نبيكم ، فإنا قوم من الروم على دين
المسيح عيسى بن مريم قدمنا لما بلغنا وفاة نبيكم واختلافكم لنسئل عن
صحة نبوته ونسترشد لديننا ونتعرض ( 6 ) دينكم ، فإن كان أفضل من ديننا
دخلنا فيه وسلمنا وقبلنا الرشد منكم طوعا وأجبناكم إلى دعوة نبيكم وإن
يكن على خلاف ما جاءت به الرسل وجاء به عيسى عليه السلام رجعنا إلى دين
المسيح ، فإن عنده من عهد ربنا في أنبيائه ورسله دلالة ونورا واضحا ، فأيكم
صاحب الأمر بعد نبيكم ؟
فقال عمر بن الخطاب : هذا صاحبنا وولي الأمر بعد نبينا ، قال
0000000000000000000000
( 1 ) الجاثليق صاحب مرتبة من المراتب
الدينية النصرانية ، وبعدها مراتب أسماؤها : مطران ،
أسقف ، قسيس ، شماس ، وقيل الجاثليق مرتبة اسم صاحبها : بطريق .
( 2 ) ضد الرفق ( منه ) .
( 3 ) الخفة والطيش ( منه ) .
( 4 ) الجبان ( منه ) .
( 5 ) الجبان الضعيف ( منه ) .
( 6 ) في الحار والإرشاد : نتعرف .
‹ صفحه 495 ›
الجاثليق : هو هذا الشيخ ؟ فقال : نعم ، قال : أيها الشيخ ! أنت القائم الوصي
لمحمد صلى الله عليه وآله في أمته وأنت العالم المستغني بعلمك مما علمك نبيك من
أمر الأمة وما تحتاج إليه ؟ قال أبو بكر : لا ، ما أنا بوصي ، قال له : فما أنت ؟
قال عمر : هذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال النصراني : أنت خليفة
رسول الله ! استخلفك في أمته ؟ قال أبو بكر : لا ، قال : فما هذا الاسم الذي
ابدعتموه وادعيتموه بعد نبيكم ؟ فإنا قد قرأنا كتب الأنبياء فوجدنا الخلافة
لا تصلح إلا لنبي من أنبياء الله ، لأن الله جعل آدم خليفة في الأرض فرض
طاعته على أهل السماء والأرض ونوه باسم داود عليه السلام فقال : يا داود ! إنا
جعلناك خليفة في الأرض ، فكيف تسميت بهذا الاسم ومن سماك به ،
أنبيك سماك به ؟ قال : لا ولكن تراضوا الناس فولوني واستخلفوني ، فقال :
أنت خليفة قومك لا خليفة نبيك ، وقد قلت : إن النبي صلى الله عليه وآله لم يوص
إليك وقد وجدنا في سنن الأنبياء أن الله لم يبعث نبيا إلا وله وصي يوصي
إليه ويحتاج الناس كلهم إلى علمه وهو مستغني عنهم ، وقد زعمت أنه لم
يوص كما أوصت الأنبياء وادعيت أشياء لست بأهلها وما أريكم إلا وقد
دفعتم نبوة محمد صلى الله عليه وآله وقد أبطلتم سنن الأنبياء في قومهم ، قال : ثم
التفت الجاثليق إلى أصحابه فقال : إن هؤلاء يقولون : إن محمدا لم يأتهم
بالنبوة وإنما كان أمره بالغلبة ، ولو كان نبيا لا وصي كما أوصت الأنبياء ،
وخلف فيهم كما خلفت الأنبياء من الميراث والعلم ، ولسنا نجد عند القوم أثر
ذلك ، ثم التفت كالأسد فقال : يا شيخ ! أما أنت فقد أقررت إن النبي لم
يوص إليك ولم يستخلفك وإنما تراضوا الناس بك ولو رضي الله عز وجل لرضي
الخلق وأتباعهم لهوائهم واختيارهم لأنفسهم ، ما بعث الله النبيين مبشرين
ومنذرين وآتاهم الكتاب والحكمة ليبينوا للناس ما يأتون ويذرون ما فيه
يختلفون ، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، فقد دفعتم النبيين عن
رسالاتهم واستغنيتم بالجهل من اختيار الناس عن اختيار الله الرسل للعباد
واختيار الرسل لأمتهم ، ونريكم تعظمون بذلك الفرية على الله وعلى نبيكم
ولا ترضون إلا أن تتسموا بعد ذلك بالخلافة ، وهذا لا يحل إلا لنبي أو وصي
‹ صفحه 496 ›
وإنما تصح الحجة لكم بتأكيدكم النبوة لنبيكم وأخذكم بسنن الأنبياء في
هديهم وقد تغلبتم فلا بد لنا أن نحتج عليكم فيما ادعيتم حتى نعرف سبيل ما
تدعون إليه ونعرف الحق فيكم بعد نبيكم ، أصواب ما فعلتم بإيمان أو جهل أم
كفرتم ؟ ! ثم قال : يا شيخ ! أجب .
قال : فالتفت أبو بكر إلى أبي عبيدة ليجيب عنه ، فلم يحر جوابا ، ثم
التفت الجاثليق إلى أصحابه فقال : بناء القوم على غير أساس ولا أرى حجة
لهم ، أفهمتم ؟ قالوا : بلى ، قال لأبي بكر : يا شيخ ! أسئلك ؟ قال : سل ، قال :
أخبرني عني وعنك ، ما أنت عند الله وما أنا عند الله ؟ قال : أما أنا فعند
نفسي مؤمن وما أدري ما أنا عند الله فيما بعد ، وأما أنت فعندي كافر
ولا أدري ما أنت عند الله ، قال الجاثليق : أما أنت فقد منيت نفسك بالكفر
بعد الإيمان وجهلت مقامك في إيمانك أمحق أنت فيه أم مبطل ، وأما أنا فقد
منيتني الإيمان بعد الكفر ، فما أحسن حالي وما أسوء حالك عند نفسك إذ
كنت لا توقن بما لك عند الله ، فقد شهدت لي بالفوز والنجاة وشهدت لنفسك
بالهلاك والكفر ، ثم التفت إلى أصحابه فقال : طيبوا نفسا ( 1 ) فقد شهد لكم
بالنجاة بعد الكفر ، ثم التفت إلى أبي بكر فقال : يا شيخ ! أين مكانك الساعة
من الجنة إذا أدعيت الإيمان وأين مكاني من النار ؟ قال : فالتفت أبو بكر إلى
عمر وأبي عبيدة مرة أخرى ليجيبا عنه فلم ينطق أحدهما ، قال : ثم أنه قال :
ما أدري أين مكاني وما حالي عند الله ، قال الجاثليق : يا هذا ؟ أخبرني كيف
استجزت لنفسك أن تجلس هذا المكان وأنت محتاج إلى علم غيرك ، فهل في
أمة نبيكم محمد من هو أعلم منك ؟ قال : نعم ، قال : ما أعلمك وإياهم إلا
وقد حملوك أمرا عظيما وسفهوا بتقديمهم إياك على من هو أعلم منك ، فإن
كان الذي هو أعلم منك يعجز عما سئلتك كعجزك ، فأنت وهو واحد في
دعواكم ، فأرى نبيكم إن كان نبيا فقد ضيع علم الله تعالى وعهده وميثاقه
الذي أخذه على النبيين من قبله فيكم في إقامة الأوصياء لأمتهم حيث لم يقم
000000000000000000000
( 1 ) في إرشاد القلوب : طيبوا أنفسكم .
‹ صفحه 497 ›
وصيا لتفزعوا إليه فيما تتنازعون في أمر دينكم فدلوني على هذا الذي هو أعلم
منكم ، فعساه في العلم أقل ( 1 ) منكم في محاورة وجواب وبيان ما يحتاج إليه
من أثر النبوة وسنن الأوصياء ، ولقد ظلمك القوم وظلموا أنفسهم فيك .
قال سلمان : فلما رأيت ما نزل بالقوم من البهت والحيرة والذل
والصغار وما حل بدين محمد صلى الله عليه وآله وما نزل بالقوم من الحزن ، نهضت
لا أعقل أين أضع قدمي ، إلى باب أمير المؤمنين عليه السلام ، فدققت عليه الباب ،
فخرج وهو يقول : ما دهاك يا سلمان ؟ قال : قلت : هلك دين محمد وهلك
الإسلام بعد محمد وظهر أهل الكفر على دينه وأصحابه بالحجة ، فأدرك
يا أمير المؤمنين دين محمد والقوم قد ورد عليهم ما لا طاقة لهم به ولا بد
ولا حيلة ، وأنت اليوم مفرج كربها وكاشف بلويها وصاحب ميسمها
وتاجها ومصباح ظلمها ومفتاح مبهمها ، قال : فقال علي عليه السلام : وما
ذاك ؟ قال : قلت : قد قدم قوم من ملك الروم في مأة رجل من أشراف
قومهم يقدمهم جاثليق ( لهم ) ( 2 ) ، لم أر مثله ، يورد الكلام على معانيه ويصرفه
على تأويله ويؤكد حجته ويحكم ابتدائه ، لم أسمع مثل حججه ( 3 ) ولا سرعة جوابه
من كنوز علمه ، فأتى أبا بكر وهو في جماعة فسأله عن مقامه ووصية رسول الله
صلى الله عليه وآله ، فأبطل دعويهم بالخلافة وغلبهم بادعائهم تخليفهم مقامه ،
فأورد
على أبي بكر مسألة أخرجه بها عن إيمانه وألزمه الكفر والشك في دينه ، فعلتهم
لذلك ذلة وخضوع وحيرة ، فأدرك يا أمير المؤمنين دين محمد صلى الله عليه وآله فقد
ورد عليهم ما لا طاقة به ، فنهض أمير المؤمنين عليه السلام معي حتى أتينا القوم
وقد ألبسوا الذلة والمهانة والصغار والحيرة ، فسلم علي عليه السلام ثم جلس
فقال : يا نصراني ! أقبل علي بوجهك واقصدني بحجتك فعندي جواب
ما يحتاج الناس إليه فيما يأتون ويذرون وبالله التوفيق .
قال : فتحول النصراني إليه فقال : يا شاب ! إنا وجدنا في كتاب
0000000000000000000
( 1 ) في البحار : أكثر .
( 2 ) زيادة من البحار .
( 3 ) في الإرشاد : حجته .
‹ صفحه 498 ›
الأنبياء إن الله عز وجل لم يبعث نبيا قط إلا وكان
له وصي يقوم مقامه ،
وقد بلغنا اختلاف عن أمة محمد في مقام نبوته وادعاء قريش على الأنصار
وادعاء الأنصار على قريش واختيارهم لأنفسهم ، فاقدمنا ملكنا وفدا وقد
اختارنا لنبحث عن دين محمد ونعرف سنن الأنبياء فيه والاستماع من قومه
الذين ادعوا مقامه أحق ذلك أم باطل قد كذبوا عليه ، كما كذبت الأمم بعد
أنبياءها على نبيها ودفعت الأوصياء عن حقها ، فإنا وجدنا قوم موسى
عليه السلام بعده عكفوا على العجل ودفعوا هارون عليه السلام عن وصيته واختاروا
ما أنتم عليه وكذلك سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله
تبديلا ، فقدمنا فأرشدنا القوم إلى هذا الشيخ ، فادعى مقامه والأمر له من
بعده ، فسئلناه عن الوصية إليه عن نبيه ، فلم يعرفها وسئلناه عن قرابته
منه ، إذ كانت الدعوة من إبراهيم عليه السلام فيما سبقت في الذرية في إمامته أنه
لا ينالها إلا ذرية بعضها من بعض ولا ينالها إلا مصطفى مطهر ، فأردنا أن
نتبين ( لنا ) ( 1 ) السنة من محمد صلى الله عليه وآله وما جاء به النبيون واختلاف
الأمة على الوصي كما اختلف على من مضى من الأوصياء ومعرفة العترة
فيهم ، فإن وجدنا لهذا الرسول وصيا قائما بعده وعنده علم ما يحتاج إليه الأمة
ويجيب بجوابات بينة ويخبر عن أسباب البلايا والمنايا وفصل الخطاب
والأنساب وما يهبط من العلم في ليلة القدر في كل سنة وما تنزل به الملائكة
والروح إلى الأوصياء ، صدقنا بنبوته واجبنا دعوته واقتدينا بوصيه وآمنا به
وبكتابه المنزل وبما جاءت به الرسل قبله ، وإن يكن غير ذلك رجعنا إلى
ديننا وعلمنا أن محمدا صلى الله عليه وآله لم يبعث ، وقد سئلنا هذا الشيخ فلم نجد
عنده تصحيح نبوة محمد ، وإنما ادعوا له وكان جبارا غلب على قومه بالقهر
وملكهم ولم يكن عنده أثر النبوة ولا ما جاءت به الأنبياء قبله ، وأنه مضى
وتركهم بهما ( 2 ) من يغلب بعضهم بعضهم بعضا وردهم جاهلية جهلا ، مثل ما كانوا
0000000000000000000
( 1 ) زيادة من إرشاد القلوب .
( 2 ) البهم - بالضم - هو المجهول الذي لا يعرف ، أي تركهم كالبهائم لا راعي لها
وأشباها لا تميز
بينهم بالإمامة والرعية .
‹ صفحه 499 ›
يختارون بآرائهم لأنفسهم أي دين أحبوا وأي ملك أرادوا ، فأخرجوا محمدا من
سبيل الأنبياء وجهلوه في رسالته ودفعوا وصيه وزعموا أن الجاهل يقوم مقام
العالم ، وذلك هلاك الحرث والنسل وظهور الفساد في البر والبحر ،
وحاشا الله أن يبعث نبيا إلا مطهرا مسددا مصطفى على العالمين ، فإن العالم أمير
الجاهل أبدا إلى يوم القيامة ، فسئلته عن اسمه فقال الذي إلى جنبه : هذا
خليفة رسول الله ، فقلت : إن هذا الاسم لا نعرفه لأحد بعد النبي إلا أن يكون
لغة من لغات العرب ، فأما الخلافة فلا تصلح إلا لآدم وداود والسنة فيها
للأنبياء والأوصياء ، وإنكم لتعظمون الفرية على الله ورسوله فانتفى من
العلم واعتذر من الاسم وقال : إنما تراضوا الناس بي فسموني خليفة وفي
الأمة من هو أعلم مني ، فاكتفينا بما حكم على نفسه على من اختاره ، فقدمت
مسترشدا وباحثا عن الحق ، فإن اتضح ( 1 ) لي اتبعته ولم تأخذني في الله لومة
لائم ، فهل عندك أيها الشاب شفاء لما في صدورنا ؟
فقال علي عليه السلام : بلى عندي شفاء لصدوركم وضياء لقلوبكم
وشرح لما أنتم عليه وبيان لا يختلجكم الشك معه وإخبار عن أموركم وبرهان
لدلالتكم ، فأقبل علي بوجهك وفرغ لي مسامع قلبك وأحضرني ذهنك وع ما
أقول لك : إن الله بمنه وطوله وفضله ، له الحمد كثيرا دائما ، قد صدق وعده
وأعز دينه ونصر محمدا صلى الله عليه وآله عبده ورسوله وهزم الأحزاب وحده فله
الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير ، تبارك وتعالى اختص محمدا
صلى الله عليه وآله واصطفاه وهداه وانتجبه لرسالته إلى الناس كافة برحمته وإلى
الثقلين برأفته ، وفرض طاعته على أهل السماء وأهل الأرض ، وجعله إماما
لمن قبله من الرسل وخاتما لمن بعده من الخلق ، وورثه مواريث الأنبياء
وأعطاه مقاليد الدنيا والآخرة واتخذه نبيا ورسولا وحبيبا وإماما ، ورفعه إليه
وقربه عن يمين عرشه بحيث لم يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، فأوحى الله
إليه في وحيه ما أوحى : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) ( 2 ) ، وأنزل علاماته على
00000000000000000000
( 1 ) في البحار والإرشاد : وضح
( 2 ) النجم : 11 .
‹ صفحه 500 ›
الأنبياء وأخذ ميثاقهم لتؤمنن به ولتنصرنه ، ثم قال : ( أأقررتم وأخذتم على
ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) ( 1 ) ، وقال : (
يجدونه
مكتوبا عندهم في التورية والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل
لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم
فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم
المفلحون ) ( 2 ) ، فما مضى حتى أتم الله عز وجل مقامه وأعطاه وسيلته ورفع له
درجته فلن يذكر الله عز وجل إلا كان معه مقرونا ، وفرض دينه ووصل
طاعته بطاعته فقال : ( ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ) ( 3 ) ، وقال : ( ما آتاكم
الرسول فخذوه وما نهيكم عنه فانتهوا ) ( 4 ) ، ، فأبلغ عن الله عز وجل رسالته
وأوضح
برهان ولايته وأحكم آياته وشرع شرايعه وأحكامه ودلهم على سبيل نجاتهم
وباب هدايته وحكمته ، وكذلك بشر به النبيون قبله وبشر به عيسى روح الله
وكلمته إذ يقول في الإنجيل : أحمد العربي الأمي صاحب الجمل الأحمر
والقضيب ، وأقام لأمته وصيه فيهم وعيبة علمه وموضع سره ومحكم آيات
كتابه وتاليه حق تلاوته وباب حطته ووارث كتابه وخلفه مع كتاب الله
فيهم وأخذ فيهم الحجة ، فقال صلى الله عليه وآله : قد خلفت فيكم ما أن تمسكتم
به لن تضلوا أبدا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وهما الثقلان ، كتاب الله
الثقل الأكبر حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، سبب بأيديكم وسبب بيد الله
عز وجل ، وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فلا تتقدموهم فتمرقوا
ولا تأخذوا عن غيرهم فتعطبوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ، وأنا وصيه
والقائم بتأويل كتابه والعارف بحلاله وحرامه وبمحكمه ومتشابهه وناسخه
ومنسوخه وأمثاله وعبره وتصاريفه ، وعندي علم ما تحتاج إليه أمته من بعده
00000000000000000
( 1 ) آل عمران : 81 .
( 2 ) الأعراف : 157 .
( 3 ) النساء : 80 .
( 4 ) الحشر : 7 .
‹ صفحه 501 ›
وكل قائم وملتو ، وعندي علم البلايا والمنايا والوصايا والأنساب وفصل
الخطاب ومولد الإسلام ومولد الكفر وصاحب الكرات ودولة الدول ، فاسئلني
عما يكون إلى يوم القيامة وعما كان على عهد عيسى عليه السلام منذ بعثه الله
تبارك وتعالى ، وعن كل وصي وكل فئة تضل مأة وتهدي مأة وعن
سائقها وقائدها وناعقها إلى يوم القيامة ، وكل آية نزلت في كتاب الله في ليل
( نزلت ) ( 1 ) أو نهار وعن التورية والإنجيل والفرقان العظيم ، فإنه صلى الله
عليه وآله لم
يكتمني شيئا من علمه ولا شيئا تحتاج إليه الأمم من أهل التورية والإنجيل
وأصناف الملحدين وأحوال المخالفين وأديان المختلفين ، إذ كان خاتم النبيين
بعدهم ، وعليهم فرضت طاعته والإيمان به والنصرة له ، تجدون ذلك مكتوبا في
التورية والإنجيل والزبور وفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ، ولم
يكن ليضيع عهد الله عز وجل في خلقه ويترك الأمة تائهين بعده ، وكيف
يكون ذلك وقد وصفه الله بالرأفة والرحمة والعفو والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر وإقامة القسطاس المستقيم ، وإن الله عز وجل أوحى إليه كما أوحى
إلى نوح والنبيين من بعده ، وكما أوحى إلى موسى وعيسى ، فصدق الله وبلغ
رسالته وأنا على ذلك من الشاهدين ، وقد قال الله تعالى : ( فكيف إذا جئنا من
كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) ( 2 ) ، وقال : ( كفى بالله شهيدا بيني
وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) ( 3 ) ، وقد صدقه الله تعالى ، وأعطاه الوسيلة
إليه وإلى الله عز وجل فقال : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع
الصادقين ) ( 4 ) ، فنحن الصادقون ، وأنا أخوه في الدنيا والآخرة والشاهد منه
عليهم بعده ، وأنا وسيلته بينه وبين الله ، وأنا وولدي ورثته وأنا وهم كسفينة
نوح في قومه ، من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق ، وأنا وهم كباب حطة في
بني إسرائيل ، وأنا بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعده ، وأنا الشاهد
0000000000000000000
( 1 ) زيادة من الإرشاد .
( 2 ) النساء : 41 .
( 3 ) الرعد : 43 .
( 4 ) التوبة : 119 .
‹ صفحه 502 ›
منه في الدنيا والآخرة ، ورسول الله صلى الله عليه وآله على بينة من ربه ، وفرض
طاعتي على أهل الإيمان وأهل الكفر وأهل النفاق ، فمن أحبني كان مؤمنا
ومن أبغضني كان كافرا ، والله ما كذبت وما ضللت ولا ضل بي وإني لعلى
بينة بينها ربي لنبيه محمد صلى الله عليه وآله ، فبينها لي ، فاسئلوني عما كان
وعما
هو كائن إلى يوم القيامة .
قال : فالتفت الجاثليق إلى أصحابه وقال : هذا والله هو الناطق
بالعلم والقدرة الفائق والراتق ، ونرجوا من الله تعالى أن نكون قد صادفنا
حظنا ونور هدايتنا ، وهذه والله حجج الأوصياء من الأنبياء على قومهم ، قال :
ثم التفت إلى علي عليه السلام فقال : كيف عدل بك القوم عن قصدهم إياك
وادعوا ما أنت أولى به منهم ، ألا وقد حق القول عليهم فضروا أنفسهم وما ضر
ذلك الأوصياء مع ما أغناهم الله عز وجل به من العلم واستحقاق مقامات
رسله ، فأخبرني أيها العالم الحكيم عني وعنك ، ما أنت عند الله وما أنا عنده ؟
قال علي عليه السلام : أما أنا فعند الله عز وجل مؤمن وعند نفسي مؤمن مستيقن
بفضله ورحمته وهدايته ونعمته علي ، وكذلك أخذ الله عز وجل ميثاقي على
الإيمان وهداني لمعرفته ، ولا أشك في ذلك ولا أرتاب لم أزل على ما أخذه الله
علي من الميثاق ولم أبدل ولم أغير وذلك بمن الله ورحمته وصنيعه ( 1 ) ، أنا في
الجنة
لا أشك في ذلك ولا أرتاب ، لم أزل على ما أخذ الله علي من الميثاق ، فإن
الشك شرك لما أعطاني الله من اليقين والبينة ، وأما أنت فعند الله كافر
بجحودك الميثاق والإقرار الذي أخذه الله عليك بعد خروجك من بطن أمك
وبلوغك العقل ومعرفة التمييز للجيد والردي والخير والشر ، وإقرارك بالرسل
وجحودك لما أنزل الله في الإنجيل من أخبار النبيين ، ما دمت على هذه الحال
كنت في النار لا محالة ، قال : فأخبرني عن مكاني من النار ومكانك من
الجنة ؟ فقال عليه السلام : فلم أدخلها فاعرف مكاني من الجنة ومكانك من
النار ، ولكن أعرفك ذلك من كتاب الله عز وجل ، إن الله جل جلاله بعث
000000000000000000
( 1 ) في البحار والإرشاد : صنعه .
‹ صفحه 503 ›
محمدا صلى الله عليه وآله بالحق وأنزل عليه كتابا
لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، أحكم فيه جميع علمه ، وأخبر رسول الله
صلى الله عليه وآله عن الجنة بدرجاتها ومنازلها ، وقسم الله جل جلاله الجنان بين
خلقه لكل عامل منهم ثوابا منها ، وأحلهم على قدر فضائلهم في الأعمال
والإيمان ، فصدقنا الله وعرفنا منازل الأبرار وكذلك منازل الفجار وما أعد لهم
من العذاب في النار ، قال : ( لها سبعة أبواب لكل باب منهن جزء مقسوم ) ( 1 ) ،
فمن مات على كفره وشركه ونفاقه وظلمه وفسوقه فلكل باب منهم جزء
مقسوم ، وقد قال الله تعالى : ( إن في ذلك لآيات للمتوسمين ) ( 2 ) ، وكان
رسول الله صلى الله عليه وآله هو المتوسم ، وأنا والأئمة من ذريتي المتوسمين إلى
يوم
القيامة .
قال : فالتفت الجاثليق إلى أصحابه وقال : لقد أصبتم إرادتكم وأرجو
أن تظفروا بالحق الذي طلبنا ، إلا أنه قد نصبت له مسائل ، فإن أجابنا عنها
نظرنا في أمرنا وقبلت منه ، قال عليه السلام : فإن أجبتك عما تسألني عنه وفيه
تبيان وبرهان واضح لا تجد له مدافعا ولا من قبوله بدا أن تدخل في ديننا ؟
فقال : نعم ، فقال علي عليه السلام : الله عليك راع كفيل إذا وضح لك الحق
وعرفت الهدى أن تدخل في ديننا أنت وأصحابك ، قال الجاثليق : نعم
لك الله علي راع كفيل أن أفعل ذلك ، فقال علي عليه السلام : فخذ على
أصحابك الوفاء ، قال : فأخذ عليهم العهد ، ثم قال علي : سل عما أحببت .
قال : أخبرني عن الله أحمل العرش أم العرش يحمله ؟ قال عليه السلام :
الله حامل العرش والسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، وذلك قول الله
عز وجل : ( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من
أحد بعده إنه كان حليما غفورا ) ( 3 ) ، قال : فأخبرني عن قوله عز وجل : ( يحمل
عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) ( 4 ) ، فكيف ذلك وقلت : أنه يحمل العرش
0000000000000000000
( 1 ) الحجر : 44 .
( 2 ) الحجر : 75 .
( 3 ) فاطر : 41 .
( 4 ) الحاقة : 17 .
‹ صفحه 504 ›
والسماوات والأرض ؟ قال علي عليه السلام : إن العرش خلقه الله تبارك وتعالى
من أنوار أربعة : نور أحمر احمرت منه الحمرة ، ونور أخضر اخضرت منه
الخضرة ، ونور أصفر اصفرت منه الصفرة ، ونور أبيض أبيض من البياض ،
وهو العلم الذي حمله الله الحملة وذلك نور من عظمته ، فبعظمته ونوره ابيضت
منه قلوب المؤمنين ، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون ، وبعظمته ونوره ابتغى من
في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة
والأديان المتشتتة ، وكل محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته ، لا يستطيع
لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، فكل شئ محمول والله تعالى
الممسك لهما أن تزولا والمحيط بهما وبما فيهما من شئ ، وهو حياة كل شئ
سبحانه ونور كل شئ ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، قال :
فأخبرني عن الله عز وجل أين هو ؟ قال عليه السلام : هو هيهنا وهيهنا وهيهنا وهو
فوق وتحت ومحيط بنا ومعنا ، وهو قوله تعالى : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو
رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا
ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم ) ( 1 ) ، والكرسي محيط
بالسماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم ، فالذين يحملون
العرش هم العلماء وهم الذين حملهم الله علمه ، وليس يخرج هن هذه الأربعة
شئ خلقه الله عز وجل في ملكوته ، وهو الملكوت الذي أراه الله أصفيائه
وأراه الله عز وجل خليله فقال : ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض
وليكون من الموقنين ) ( 2 ) ، فكيف يحمله حملة العرش وبحياته حييت قلوبهم
وبنوره اهتدوا إلى معرفته وانقادوا .
قال : فالتفت الجاثليق إلى أصحابه فقال : هذا والله الحق من
عند الله عز وجل على لسان المسيح والنبيين والأوصياء ، قال : أخبرني عن
الجنة هي في الدنيا أم في الآخرة وأين الآخرة والدنيا ؟ قال عليه السلام : الدنيا
000000000000000000
( 1 ) المجادلة : 7 .
( 2 ) الأنعام : 75 .
‹ صفحه 505 ›
في الآخرة والآخرة محيطة بالدنيا إذا كانت النقلة من الحياة إلى الموت
ظاهرة وكانت الآخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون ، وذلك إن الدنيا نقلة
والآخرة حياة ومقام مثل ذلك النائم ( 1 ) ، وذلك أن الجسم ينام والروح لا تنام
والبدن يموت والروح لا تموت ، قال الله عز وجل : ( وإن الدار الآخرة لهي
الحيوان لو كانوا يعلمون ) ( 2 ) ، والدنيا رسم الآخرة والآخرة رسم الدنيا وليس
الدنيا الآخرة ولا الآخرة الدنيا ، إذا فارق الروح الجسم يرجع كل واحد منهما
إلى مأمنه بدأ وما منه خلق ، وكذلك الجنة والنار موجودة في الدنيا وفي
الآخرة موجودة ، لأن العبد إذا مات صار في دار في الأرض : أما روضة من
رياض الجنة وأما بقعة من بقاع النار ، وروحه إلى إحدى دارين : إما في دار
نعيم مقيم لا يموت فيها ، وإما في دار عذاب أليم لا يموت فيها ، والرسم لمن عقل
موجود واضح ، وقد قال الله تعالى : ( كلا لو تعلمون عليم اليقين ، لترون الجحيم ،
ثم لترونها عين اليقين ، ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم ) ( 3 ) ، وعني الكافر ، فقال
:
إنهم كانوا في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا ( 4 ) ، ولو علم
الإنسان علم ما هو فيه مات خوفا من الموت ومن نجا فبفضل اليقين ، قال :
فأخبرني عن قوله تعالى : ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم
القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ) ( 5 ) ، فإذا طويت
السماء
وقبضت الأرض فأين تكون الجنة والنار ، وهما فيهما ؟ قال : فدعا بدواة
قرطاس ثم كتب فيه : الجنة والنار ، ثم درج القرطاس ودفعه إلى النصراني
وقال : أليس قد طويت هذا القرطاس ؟ قال : نعم ، قال عليه السلام : فافتحه ،
قال : ففتحه ، قال : هل ترى آية النار وآية الجنة أمحاهما طي القرطاس ؟
000000000000000000
( 1 ) في الإرشاد : كالنائم .
( 2 ) العنكبوت : 64 .
( 3 ) التكاثر : 5 - 8 .
( 4 ) الآية في القرآن كذا : ( الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا
يستطيعون سمعا ) .
الكهف : 101 .
( 5 ) الزمر : 67 .
‹ صفحه 506 ›
قال : لا ، فهكذا في قدرة الله ، إذا طويت السماوات وقبضت الأرض لم
تبطل الجنة والنار كما لم تبطل طي هذا الكتاب آية الجنة وآية النار ، قال :
فأخبرني عن قوله تعالى : ( كل شئ هالك إلا وجهه ) ( 1 ) ، فما هذا الوجه وكيف
هو وأين يؤتى وما دليلنا عليه ؟ قال عليه السلام : يا غلام ! علي بحطب ونار ، فأتى
به ، فأمر أن تضرم ، فلما استوقدت واشتعلت قال له : يا نصراني ! هل تجد
لهذه النار وجها دون وجه ؟ قال : لا حيثما أتيتها فهو وجه ، قال عليه السلام :
فإذا
كانت النار المخلوقة المدبرة في ضعفها وسرعة زوالها لا تجد لها وجها ، فكيف
من خلق هذه النار وجميع ما في ملكوته من شئ كيف يوصف بوجه أو يحد
بحد أو يدرك ببصر أو يحيط به عقل أو يضبط به وهم وقال الله تعالى : ( ليس
كمثله شئ ) ( 2 ) ؟ ! .
قال الجاثليق : صدقت أيها الوصي العليم الحكيم الرفيق ، أشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالحق
بشيرا ونذيرا ، وأنك وصيه وصديقه ودليله وموضع سره وأمينه على أهل بيته
وولي المؤمنين من بعده ، من أحبك وتولاك هديته ونورت قلبه وأغنيته
وكفيته وشفيته ، ومن تولى عنك وعدل عن سبيلك ضل وغبن عن حظه
واتبع هواه بغير هدى من الله ورسوله ، وكفى هداك ونورك هاديا وكافيا
وشافيا ، قال : ثم التفت الجاثليق إلى القوم فقال : يا هؤلاء ! قد أصبتم
أمنيتكم وأخطأتم سنة نبيكم فاتبعوه تهتدوا وترشدوا ، فما دعاكم إلى ما فعلتم ،
ما أعرف لكم عذرا بعد آيات الله والحجة عليكم ، أشهد إنها سنة في الذين
خلوا من قبل ولا تبديل لكلمات الله ، وقد قضى عز وجل الاختلاف على
الأمم والاستبدال بأوصيائهم بعد أنبيائهم ، وما العجب إلا منكم بعد
ما شاهدتم ، فما هذه القلوب القاسية والحسد الظاهر والضغن والإفك المبين ،
قال : وأسل النصراني ومن كان معه وشهدوا لعلي عليه السلام بالوصية ولمحمد
00000000000000000
( 1 ) القصص : 88 .
( 2 ) الشورى : 11 .
‹ صفحه 507 ›
صلى الله عليه وآله بالنبوة وإنه الموصوف المنعوت
في التورية والإنجيل ، ثم خرجوا
منصرفين إلى ملكهم ليردوا إليه ما عاينوا وما سمعوا ، فقال علي عليه السلام :
الحمد لله الذي أوضح برهان محمد صلى الله عليه وآله وأعز دينه ونصره وصدق
رسوله وأظهره على الدين كله ولو كره المشركون والحمد لله رب العالمين وصلى الله
عليه وآله ، قال : فتباشر القوم بحجج علي عليه السلام وبيان ما أخرجه إليهم
فانكشف عنهم الذلة وقالوا : أحسن الله جزاك يا أبا الحسن في مقامك بحق
نبيك ، ثم تفرقوا وكان الحاضرون لم يسمعوا شيئا مما فهمه القوم الذين هم
عندهم أبدا وقد نسوا ما ذكروا به والحمد لله رب العالمين .
قال سلمان الخير : فلما خرجوا من المسجد وتفرق الناس وأرادوا
الرحيل أتوا عليا عليه السلام مسلمين عليه يدعون ( الله ) ( 1 ) له واستأذنوا ،
فخرج إليهم
( علي ، فجلسوا ) ( 2 ) ، فقال الجاثليق : يا وصي محمد صلى الله عليه وآله وأبا
ذريته ! ما
نرى الأمة إلا هلكت كهلاك من مضى من بني إسرائيل من قوم موسى
وتركهم هارون وعكوفهم على أمر السامري ، وإنا وجدنا لكل نبي بعثه الله
عدوا شياطين الإنس والجن يفسدان على النبي دينه ويهلكان أمته
ويدفعان وصيه ويدعيان الأمر بعده ، ، وقد أرانا الله ما وعد الصادقين من
المعرفة بهلاك هؤلاء القوم وبين لنا سبيلك وسبيلهم وبصرنا ما أعماهم عنه ،
ونحن أولياءك وعلى دينك وعلى طاعتك ، فمرنا بأمرك إن أحببت أقمنا معك
ونصرناك على عدوك وإن أمرتنا بالمسير سرنا وإلى ما صرفتنا إليه صرفنا ،
وقد نرى صبرك على ما ارتكب منك ، وكذلك شيم الأوصياء وسنتهم بعد
نبيهم ، فهل عندك من نبيك عهد فيما أنت فيه وهم ؟
قال علي عليه السلام : نعم والله إن عندي لعهد من رسول الله صلى الله عليه
وآله مما هم صائرون إليه وما هم عاملون ، وكيف يخفى علي أمر أمته وأنا منه
بمنزلة هارون من موسى ومنزلة شمعون من عيسى ، أوما تعلمون أن وصي
00000000000000000000000
( 1 ) زيادة من البحار ، أقول : في الإرشاد :
مودعين له .
( 2 ) زيادة من البحار والإرشاد .
‹ صفحه 508 ›
عيسى شمعون بن حمون الصفا ابن خاله ، اختلف عليه أمة عيسى وافترقوا
أربع فرق وافترقت الأربع على اثنتين وسبعين فرقة ، كلها هالكة إلا فرقة
واحدة ، وكذلك أمة موسى افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها هالكة إلا
فرقة واحدة ، وقد عهد إلي محمد صلى الله عليه وآله أن أمته يفترقون على ثلاثة
وسبعين فرقة ، ثلاث عشر فرقة تدعى مودتنا كلها هالكة إلا فرقة ، وإني لعلى
بينة من ربي وإني عالم بما يصير القوم إليه ، ولهم مدة وأجل معدود ، لأن الله
عز وجل يقول : ( وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ) ( 1 ) ، ولقد صبرت
عليهم القليل لما هو بالغ أمره وقدره المحتوم فيهم وذكر نفاقهم وحسدهم ، وإنه
سيخرج أضغانهم ويبين مرض قلوبهم بعد فراق نبيهم ، قال الله تعالى : ( يحذر
المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤوا إن الله مخرج ما
تحذرون ) ( 2 ) : أي تفعلون ( 3 ) ، ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل
أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون ، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم أن نعف عن
طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ) ( 4 ) ، فقد عفى عن القليل من هؤلاء
ووعدني أن يظهرني على أهل الفتنة ويرد الأمر إلي ولو كره المبطلون ،
وعندكم كتاب من رسول الله صلى الله عليه وآله في المصالحة والمهادنة على أن
لا تحدثوا ولا تأووا محدثا ، فلكم الوفا على ما وفيتم ولكم العهد والذمة على ما
أقمتم على الوفاء بعهدكم وعلينا مثل لك لكم ، وليس هذا أوان نصرنا
ولا يسل بسيف ولا يقام عليهم بحق ما لم يقبلوا أو يعطوني طاعتهم إذ كنت
فريضة من الله عز وجل ومن رسوله مثل الصلاة والحج والزكاة ، فهل يقام
هذه الحدود إلا بعالم قائم يهدي إلى الحق وهو أحق أن يتبع ، ولقد أنزل الله
سبحانه : ( قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن
يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف
تحكمون ) ( 5 ) ، فأنا رحمك الله فريضة من الله ومن رسوله عليكم ، بل أفضل
0000000000000000000
( 1 ) الأنبياء : 111 .
( 2 ) التوبة : 64 - 66 .
( 3 ) تعملون ( خ ل ) ، تعلقون ( خ ل ) .
( 4 ) التوبة : 64 - 66 .
( 5 ) يونس : 35 .
‹ صفحه 509 ›
الفرائض وأعلاها وأجمعها للحق وأحكمها لدعائم الإيمان وشرايع الإسلام ،
وما يحتاج إليه الخلق لصلاحهم ولفسادهم ولأمر دنياهم وآخرتهم ، فقد تولوا
عني ودفعوا فضلي وفرض رسول الله صلى الله عليه وآله إمامتي وسلوك سبيلي ، فقد
رأيتم ما شملهم من الذل والصغار من بعد الحجة ، وكيف أثبت الله عليهم
الحجة ، وقد نسوا ما ذكروا به من عهد نبيهم وما أكد عليهم من طاعتي ،
وأخبرهم من مقامي وبلغهم من رسالة الله في فقرهم إلى علمي وغنائي عنهم
وعن جميع الأمة بما أعطاني الله ، فكيف آسي ( 1 ) على من ضل عن الحق بعد
ما تبين له واتخذ هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على
بصره غشاوة ، فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ، إن هداه للهدى وهما
السبيلان : سبيل الجنة وسبيل النار والدنيا والآخرة ، فقد ترى ما نزل بالقوم
من استحقاق العذاب الذي عذب به من كان قبلهم ( من الأمم ) ( 2 ) ، وكيف
بدلوا كلام الله وكيف جرت السنة فيهم من الذين خلوا من قبلهم ، وعليكم
بالتمسك بحبل الله وعروته وكونوا من حزب الله ورسوله وألزموا عهد رسول الله
وميثاقه عليكم ، فإن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا ، وكونوا في أهل
ملتكم كأصحاب الكهف ، وإياكم أن تفشوا أمركم إلى أهل أو ولد أو حميم
أو قريب ، فإنه دين الله عز وجل الذي أوجب له التقية لأوليائه فيقتلكم
قومكم ، وإن أصبتم من الملك فرصة ألقيتم على قدر ما ترون من قبوله ، وإنه
باب الله وحصن الإيمان لا يدخله إلا من أخذ الله ميثاقه ونور له في قلبه
وأعانه على نفسه ، انصرفوا إلى بلادكم على عهدكم الذي عاهدتموني عليه ،
فإنه سيأتي على الناس برهة من دهركم ملوك بعدي وبعد هؤلاء ، يغيرون
دين الله ويحرفون كلامه ويقتلون أولياء الله ويعزون أعداء الله ، وتكثر البدع
وتدرس السنن حتى تملأ الأرض جورا وعدوانا وظلما وبدعا ، ثم يكشف الله
بنا أهل البيت جميع البلايا عن أهل دعوة الله بعد شدة من البلاء العظيم حتى
0000000000000000
( 1 ) أي أحزن ، من الأسى - بالفتح والقصر -
وهو الحزن .
( 2 ) زيادة من إرشاد القلوب والبحار .
‹ صفحه 510 ›
تملأ الأرض قسطا وعدلا كما ظلما وجورا ، ألا وقد عهد إلي رسول الله
صلى الله عليه وآله إن الأمر صاير إلي بعد الثلاثين من وفاته وظهور الفتن
واختلاف الأمة علي ومروقهم ( 1 ) عن دين الله ، وأمرني بقتال الناكثين
والمارقين والقاسطين ، فمن أدرك منكم ذلك الزمان وتلك الأمور وأراد أن
يأخذ بحظه من الجهاد معي فليفعل ، فإنه والله الجهاد الصافي ، صفاه لنا
كتاب الله وسنة نبيه ، فكونوا رحمكم الله من أحلاس ( 2 ) بيوتكم إلى أوان ظهور
أمرنا ، فمن مات منكم كان من المظلومين ومن عاش منكم أدرك ما تقربه
عينه إن شاء الله ، ألا وإني أخبركم أنه سيحملون على خطة ( 3 ) من جهلهم
وينقضون علينا عهد نبينا صلى الله عليه وآله لقلة علمهم بما يأتون وما يذرون ،
وسيكون منهم ملوك يدرس عندهم العهد وينسون ما ذكروا به ، ويحل بهم ما
يحل بالأمم حتى يصيروا إلى الهرج والاعتداء وفساد العهد ، وذلك لطول
المدة وشدة المحنة التي أمرت بالصبر عليها وسلمت لأمر الله في محنة عظيمة
ويكدح فيها المؤمن حتى يلقى الله ربه ، وواها للمتمسكين بالثقلين وما يعمل
بهم ، وواها لفرج آل محمد عليهم السلام من خليفة مستخلف عريف ( 4 ) مترف يقتل
خلفي وخلف الخلف ، بلى اللهم لا تخلو الأرض من قائم بحجة أما ظاهرا
مشهورا أو باطنا مستورا ، لئلا تبطل حجج الله وبيناته ويكون محن لمن اتبعه
واقتدى به ، وأين أولئك وكم أولئك ، أولئك الأقلون عددا ، الأعظمون
عند الله خطرا ، بهم يحفظ الله دينه وعلمه حتى يزرعها في صدور أشباههم
ويودعها أمثالهم ، هجم بهم العلم على حقيقة الإيمان ، واستروحوا روح اليقين ،
وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، واستلانوا ما استوعر منه المترفون ، وصحبوا
الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى ، أولئك حجج الله في أرضه وأمناؤه
على خلقه فواشوقاه إليهم وإلى رؤيتهم ، وواها لهم على صبرهم على عدوهم ،
00000000000000000000
( 1 ) مرق السهم من الرمية - كنصر - : خرج من
الجانب الآخر .
( 2 ) إحلاس البيوت : ما يبسط تحت حر الثياب ، كن حلس بيتك أي لا تبرح .
( 3 ) الخطة - بالضم - : الأمر والقصة .
( 4 ) في البحار : عتريف ، أقول : رجل عتريف أي خبيث فاجر ، أمر عريف أي معروف
‹ صفحه 511 ›
وسيجمعنا الله وإياهم في جنات عدن ومن صلح من آبائهم وأزواجهم
وذرياتهم .
قال : ثم بكى وبكى القوم معه وودعوه وقالوا : نشهد لك بالوصية
والإمامة والأخوة ، وإن عندنا لصفتك وصورتك ، وسيقدم وفد بعد هذا
الرجل من قريش على الملك وليخرجن إليهم صورة الأنبياء وصورة نبيك
وصورة ابنيك الحسن والحسين وصورة فاطمة زوجتك سيدة نساء العالمين بعد
مريم الكبرى البتول ، وإن ذلك لمأثور عندنا ومحفوظ ، ونحن راجعون إلى الملك
ومخبروه بما أودعتنا من نور هدايتك وبرهانك وكرامتك وصبرك على ما
أنت فيه ونحن المرابطون لدولتك الداعون لك ولأمرك ، فما أعظم هذا البلاء
وما أطول هذه المدة ، ونسأل الله التوفيق والثبات ، والسلام عليك ورحمة الله
وبركاته ) ( 1 ) .
أقول : ويحتمل قويا إن ما نقلناه سابقا من أمالي الشيخ من خبر
الجاثليق مختصر من هذا الخبر ، وإن اشتمل على زيادة لعلها من اختلاف نسخ
هذا الخبر ، والحمد لله على التوفيق والهداية ، وقال المجلسي رحمه الله : ( إن
المحدثين فرقوا أجزاء هذا الخبر على الأبواب وهي مروية في الأصول المعتبرة
وهذا مما يدل على صحتها ) ( 2 ) ، والسلام .
00000000000000000000000
( 1 ) روى هذا الخبر في إرشاد القلوب 2 : 315
- 299 ، بحار الأنوار ، الطبعة القديمة 8 : 190 - 185 ،
مع اختلافات ذكرنا أهمها تتميما للفائدة .
( 2 ) بحار الأنوار ، الطبعة القديمة 8 : 191 .
‹ صفحه 513 ›
الباب الثاني عشر
في كلماته وحكمه ومواعظه واحتجاجاته
وما يتعلق بذلك
‹ صفحه 515 ›
روى الصدوق رحمه الله في الخصال عن أبيه ، عن محمد بن يحيى العطار ،
عن ( محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران ) الأشعري ، عن الحسن بن الحسين
اللؤلؤي ، عن إسحاق الضحاك ( 1 ) ، عن منذر الجوان ، عن أبي عبد الله عليه السلام
قال : ( قال سلمان رحمة الله عليه : عجبت لستة : ثالثة أضحكتني وثلاثة ( 2 )
أبكتني ، فأما التي أبكتني : ففراق الأحبة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحزبه ،
وهول المطلع ، والوقوف بين يدي الله ( عز وجل ) ، وأما التي أضحكتني :
فطالب الدنيا والموت يطلبه ، وغافل ( و ) ليس بمغفول عنه ، ضاحك ملأ فيه
لا يدري أرضى الله أم سخط ( 3 ) . ( 4 )
وفي كتاب القرائن من المحاسن للبرقي مرفوعا عنه قال : ( أضحكتني
ثلاث وأبكتني ثلاث : فأما الثلاث التي أبكتني : ففراق الأحبة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ، والهول عند غمرات الموت ، والوقوف بين يدي
00000000000000000
( 1 ) كذا في جميع النسخ التي بأيدينا ولعل
الصواب : ( إسحاق الجلاب ) فصحف ( ذيل المصدر ) .
( 2 ) في المصدر : عجبت بست : ثلاث أضحكتني وثلاث . . .
( 3 ) غضب ( خ ل ) .
( 4 ) الخصال 1 : 326 ، الإختصاص : 230 ، صفة الصفوة 1 : 548 .
‹ صفحه 516 ›
رب العالمين ، يوم تكون السريرة علانية ، لا أدري إلى الجنة أصير أم إلى النار
- إلى آخر ما مر ) ( 1 ) ، ورواه الكراجكي في معدن الجواهر ( 2 ) مثله .
وروى ثقة الإسلام في الكافي عن علي بن إبراهيم ، عن هارون بن
مسلم ، عن مسعدة بن صدقة قال : ( دخل سفيان الثوري ( 3 ) على أبي عبد الله
عليه السلام فرأى عليه ثياب بيض كأنها غرقى البيض ، فقال له : إن هذا
اللباس ليس من لباسك ! فقال له : إسمع مني - إلى أن قال : - ثم أتاه ( 4 ) قوم
ممن يظهرون الزهد ويدعون الناس أن يكونوا معهم على مثل الذي هم
( عليه ) من التقشف ( 5 ) ، فقالوا ( له ) : إن صاحبنا حصر ( 6 ) عن كلامك ولم
تحضره حججه ، فقال ( عليه السلام ) لهم : فهاتوا حججكم - إلى أن قال : - ثم
( من ) قد علمتم بعده في فضله وزهده سلمان وأبو ذر رضي الله عنهما ، وأما سلمان
فكان إذا أخذ عطاؤه ( 7 ) رفع منه قوته لسنته ، حتى يحضر عطاؤه من قابل ،
فقيل له : يا أبا عبد الله ! أنت في زهدك تصنع هذا وأنت لا تدري لعلك تموت
اليوم أو غدا ، فكان جوابه أن قال : ما لكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم علي
الفناء ( 8 ) ، أما علمتم يا جهلة ! إن النفس قد تلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها
من العيش ما يعتمد عليه ، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنت - الخبر ) ( 9 ) .
الغرقى - كزبرج - القشرة الملتزقة ببياض البيض ، أو البياض الذي
يؤكل ، وفي المجمع : ( في الحديث : إن النفس قد تلتاث - اه - ، كأن المعنى
00000000000000000000
( 1 ) المحاسن كتاب الإشكال والقرائن : 4 .
( 2 ) معدن الجواهر ورياضة الخواطر باب الثلاثة : 35 .
( 3 ) أحد أعلام العامة المتوفى سنة 161 ، وفي جامع الرواة : أنه ليس من أصحابنا .
( 4 ) في المصدر : فأتاه .
( 5 ) التقشت - محركه - قذر الجلد ورثاثة الهيئة وسوء الحال وترك النظافة والترفة
.
( 6 ) الحصر : العي في المنطق والعجز في الكلام .
( 7 ) في المصدر : عطاه .
( 8 ) في الأصل : لي البقاء .
( 9 ) فروع الكافي 5 : 68 ، كتاب المعيشة .
‹ صفحه 517 ›
تضطرب ولم تنبعث مع صاحبها ، والتأثت علي أموري : أي اختلطت ،
والالتياث : الاختلاط والالتفاف - انتهى ) ( 1 ) .
وعن الحسين بن الأهوازي ( 2 ) في كتاب الزهد عن حماد بن
عيسى ، عن حسين بن المختار ، رفعه إلى سلمان رضي الله عنه أنه قال : ( لولا
السجود لله ومجالسة قوم يتلفظون طيب الكلام كما يتلفظ طيب التمر ، لتمنيت
الموت ) ( 3 ) .
أقول : هذا هو الوجه في الجمع بين ما دل على حب لقاء الله ، وبين
ما دل على كراهة الموت عن كثير من الأنبياء والأولياء ، وما ورد من
استدعاء طول العمر وبقاء الحياة ، وذكر الأصحاب له وجوها آخر من أرادها
وجدها ( 4 ) ، وهذا أحسنها .
000000000000000000000
( 1 ) مجمع البحرين 2 : 263 .
( 2 ) الحسين بن سعيد بن حماد بن مهران الأهوازي مولى علي بن الحسين عليهما السلام
ثقة عين جليل
القدر ، روى عن الرضا عليه السلام وعن أبي جعفر وعن أبي الحسن الثالث عليهما
السلام ، أصله
كوفي ، وانتقل مع أخيه الحسن إلى الأهواز ، ثم تحول إلى قم فنزل على الحسن بن أبان
وتوفي بقم
رحمه الله ( الخلاصة ) .
( 3 ) الزهد ، الباب الرابع : 79 ، البحار 6 : 130 ، مستدرك الوسائل 1 : 332 .
( 4 ) ذكر العلامة المجلسي رحمه الله خمسة أوجه للجمع بين الأخبار نقلنا بعضها
تتميما للفائدة قال :
( الثالث : إن ما ورد في ذم كراهة الموت فهي محمولة على ما إذا كرهه لحب الدنيا
وشهواتها
والتعلق بملاذها ، وما ورد بخلاف ذلك على ما إذا كرهه لطاعة الله تعالى وتحصيل مرضاته
وتوفير ما
يوجب سعادة النشأة الأخرى ، ويؤيده خبر سلمان - عني ما جاء في المتن - ، الخامس :
إن العبد يلزم
أن يكون في مقام الرضا بقضاء الله ، فإذا اختار الله له الحياة فيلزمه الرضا بها
والشكر عليها ، فلو كره
الحياة والحال هذه فقد سخط ما ارتضاه الله وعلم صلاحه فيه ، وهذا مما لا يجوز ،
وإذا اختار الله
تعالى له الموت يجب أن يرضى بذلك ، ويعلم أن صلاحه فيما اختاره الله له فلو كره
ذلك كان مذموما ،
وأما الدعاء لطلب الحياة والبقاء لأمره تعالى بذلك فلا ينافي الرضا بالقضاء ، وكذا
في الصحة
والمرض والغنى والفقر وسائر الأحوال المتضادة يلزم الرضا بكل منها في وقته ،
وأمرنا بالدعاء لطلب
خير الأمرين عندنا ، فما ورد في حب الموت إنما هو إذا أحب الله تعالى ذلك لنا ،
وأما الاقتراح عليه في
ذلك وطلب الموت فهو كفر لنعمة الحياة ، غير ممدوح عقلا وشرعا ، كطلب المرض والفقر
وأشباه
ذلك ، وهذا وجه قريب ويؤيده كثير من الآيات والأخبار والله تعالى يعلم - انتهى
كلامه رفع
الله مقامه ) .