سيرة الإمام الحسن (ع)

الصفحة السابقة الصفحة التالية

سيرة الإمام الحسن (ع)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 61

وقد قسم كل ما يملكه نصفين، ثلاث مرات في حياته، وحتى نعله، ثم وزعه في سبيل الله كما يقول عنه الراوي مخاطبا إياه: وقد قاسمت ربك مالك ثلاث مرات حتى النعل والنعل . (1) جاء أعرابي وطرق الباب، وأنشد الأبيات التالية: لم يبق لي شيء يباع بدرهم * يكفيك منظر حالتي عن مخبري إلا بقايا ماء وجه صنته * ألا يباع وقد وجدتك مشتري فأمر الإمام خازنه بإحضار ما في الخزانة، فكانت اثني عشر ألف درهم، وقال: هذه بقية النفقة، فقال الإمام: أعطه وأحسن ظنك بالله، فأنشد:

(هامش)

(1) البحار ج 43 / 332. (*)

ص 62

عاجلتنا فأتاك وابل برنا * طلا ولو أمهلتنا لم تمطر فخذ القليل وكن كأنك لم تبع * ما صنته وكأننا لم نشتر روى المؤرخون صورا كثيرة من ألوان جوده وكرمه ومعروفه، التي كان يغدق بها على السائلين والفقراء والمحرومين لإنقاذهم مما كانوا يعانون من آلام الحاجة والبؤس والشقاء ابتغاء لوجه الله وثوابه، لا للجاه والدنيا وتدعيم ملك وسلطان ولا لمكافأة على المدح والثناء كما كان يصنع ابن هند وغيره من حكام الأمويين والعباسيين. ومن ذلك ما رواه أبو الحسن المدائني قال: خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر (عليهم السلام) حجاجا فلما كانوا في بعض الطريق جاعوا وعطشوا وقد فاتتهم أثقالهم فنظروا إلى خباء فقصدوه فإذا فيه عجوز فقالوا:

ص 63

هل من شراب؟ فقالت: نعم، فأناخوا بها وليس عندها إلا شويهة في كسر الخباء فقالت: احتلبوها فتذوقوا لبنها، ففعلوا ذلك وقال لها: هل من طعام؟ فقالت: هذه الشويهة ما عندي غيرها أقسم عليكم بالله إلا ما ذبحها أحدكم بينما أهئ لكم حطبا واشووها وكلوها، ففعلوا وأقاموا حتى بردوا، فلما ارتحلوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه فإذا رجعنا سالمين فألمي بنا فإنا صانعون إليك خيرا، ثم ارتحلوا. فأقبل زوجها فأخبرته خبر القوم والشاة فغضب وقال: ويحك تذبحين شاة لأقوام لا تعرفيهم ثم تقولين: نفر من قريش. ثم بعد وقت طويل ألجأتهم الحاجة واضطرتهم السنة إلى دخول المدينة فدخلاها يلتقطان البعر فمرت العجوز في بعض السكك تلتقط البعر فبصر بها الحسن (عليه السلام) فعرفها فناداها وقال لها يا أمة الله تعرفيني؟

ص 64

فقالت: لا. فقال (عليه السلام): أنا أحد ضيوفك في المنزل الفلاني ضيفك يوم كذا سنة كذا. فقالت: بأبي أنت وأمي لست أعرفك. قال (عليه السلام): فإن لم تعرفين فأنا أعرفك، فأمر غلامه فاشترى لها من غنم الصدقة ألف شاة وأعطاها ألف دينار، وبعث بها مع غلامه إلى أخيه الحسين فعرفها وقال: بكم وصلك أخي الحسن؟ فأخبرته، فأمر لها مثل ذلك، ثم بعث معها غلامه إلى عبد الله بن جعفر (رضي الله عنه) فقال: بكم وصلك الحسن وأخوه؟ فقالت: وصلني كل واحد منهما بألف شاة وألف دينار، فأمر لها بألف شاة وألف دينار وقال: والله لو بدأت بي، ثم رجعت إلى زوجها وهي من أغنى الناس. مر (عليه السلام) على فقراء قد وضعوا على وجه الأرض كسيرات من الخبز كانوا قد التقطوها وهم يأكلون منها،

ص 65

فدعوه إلى مشاركتهم، فأجابهم إلى ذلك وهو يقول: إن الله لا يحب المتكبرين، ولما فرغوا من الطعام دعاهم إلى ضيافته، فأطعهم وكساهم. (1) قيل للحسن (رضي الله عنه) لأي شيء نراك لا ترد سائلا، وإن كنت على فاقة؟ فقال: إني لله سائل، وفيه راغب، وأنا استحي أن أكون سائلا وأرد سائلا، وإن الله تعالى عودني عادة أن يفيض نعمه علي، وعودته أن أفيض نعمه على الناس، فأخشى إن قطعت العادة أن يمنعني العادة، وأنشد يقول: إذا ما أتاني سائل قلت مرحبا * بمن فضله فرض علي معجل ومن فضله فضل على كل فاضل * وأفضل أيام الفتى حين يسئل (2)

(هامش)

(1) حياة الإمام الحسن للقرشي. (2) نور الأبصار: 177. (*)

ص 66

إن رجلا جاء إليه وسأله حاجة فقال له: يا هذا حق سؤالك إياي يعظم لدي، ومعرفتي بما يجب تكبر علي، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات الله عز وجل قليل، وما في ملكي وفاء بشكرك، فإن قبلت مني الميسور، ورفعت عني مؤنة الاحتيال والاهتمام لما أتكلفه من واجبك فعلت. فقال: يا ابن رسول الله اقبل القليل، واشكر العطية، واعذر على المنع. فدعا الحسن (عليه السلام) بوكيله، وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها فقال: هات الفاضل من الثلاثمائة ألف درهم، فاحضر خمسين ألفا، قال: فما فعل بالخمسمائة دينار؟ قال: هي عندي، قال: أحضرها، فأحضرها، فدفعها له. ومن كرمه وجوده: أنبأنا أبو هارون، قال: انطلقنا حجاجا فدخلنا

ص 67

المدينة فقلنا: لو دخلنا على ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحسن ابن علي وسلمنا عليه، فدخلنا عليه فحدثناه بمسيرنا وحالنا، فلما خرجنا من عنده بعث إلى كل رجل منا أربعمائة أربعمائة، فقلنا للرسول: إنا أغنياء وليس بنا حاجة، فقال الرسول: لا تردوا عليه معروفه. فرجعنا إليه فأخبرناه بيسارنا وحالنا، فقال: لا تردوا علي معروفي، فلو كنت على غير هذه الحال كان لكم يسيرا (1) أما إني مزودكم: إن الله [تبارك وتعالى] يباهي ملائكته بعباده يوم عرفة فيقول: عبادي جاؤوني شعثا يتعرضون لرحمتي فأشهدكم أني قد غفرت لمحسنهم وشفعت محسنهم في مسيئهم . وإذا كان يوم الجمعة فمثل ذلك.

(هامش)

(1) ترجمة الإمام الحسن من تهذيب الكمال: ج 2 / 271. (*)

ص 68

قضاء الحاجة: ذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق، في ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام) (1) حديث 253، بعد حذف السند: عن أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: خرج الإمام الحسن (عليه السلام) يطوف بالكعبة، فقام إليه رجل:فقال يا أبا محمد اذهب معي في حاجتي إلى فلان، فترك الطواف وذهب معه، فلما اعترضه رجل حاسد للرجل الذي ذهب معه، فقال: يا أبا محمد تركت الطواف وذهبت مع فلان إلى حاجته؟ تواضعه قال: فقال له الحسن (عليه السلام): كيف لا أذهب معه؟ ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من ذهب في حاجة أخيه المسلم فقضيت حاجته كتبت له حجة وعمرة، وإن لم تقض له

(هامش)

(1) طبع مؤسسة المحمودية بيروت. (*)

ص 69

كتبت له عمرة، فقد اكتسبت حجة وعمرة ورجعت إلى طوافي. متى ذل الناس؟ في شرح الأخبار ج 3 ص 131. عن عمرو بن بشير (1)، قال: قلت لأبي إسحاق: متى ذل الناس؟ قال: لما مات الحسن بن علي (عليه السلام)، وقتل حجر بن عدي، وأدعى معاوية زيادا (2). تواضعه: وورد أنه كان جالسا في مكان، وعندما عزم على

(هامش)

(1) في مقاتل الطالبيين ص 50: عمر بن بشير. (2) زياد بن أبيه، كما هو معلوم، مجهول الأب، ومطعون النسب، ادعاه معاوية لأبي سفيان، وجعله أخوه وهو ابن زانية وعاهرة مشهورة في مكة، ومن ذوات الرايات الحمر. (*)

ص 70

الانصراف دخل رجل فقير الحال، فحياه الإمام السبط (عليه السلام) ولاطفه، ثم قال له: إنك جلست على حين قيام منا، أفتأذن لي بالانصراف؟ فأجابه الرجل: نعم يا ابن رسول الله. وهذا الحديث يكشف عن حسن معاشرته بالإضافة إلى تواضعه. معجزاته (عليه السلام): معاجزه روى ابن شهر آشوب في مناقبه، عن أبي حمزة الثمالي، عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قال: كان الحسن ابن علي جالسا فأتاه آت فقال: يا ابن رسول الله قد احترقت دارك؟ قال: لا، ما احترقت. إذ أتاه آت، فقال: يا ابن رسول الله، قد وقعت النار في دار إلى جنب دارك حتى ما شككنا أنها ستحرق دارك ثم إن الله صرفها عنها. واستغاث الناس من زياد [ابن أبيه] إلى الحسن بن

ص 71

علي (عليهما السلام) فرفع يده وقال: اللهم خذ لنا ولشيعتنا من زياد ابن أبيه (1) وأرنا فيه نكالا عاجلا إنك على كل شيء قدير. قال فخر: خراج في إبهام يمينه يقال له: السلعة (2) وورم إلى عنقه، فمات.

(هامش)

(1) يقال لزياد ابن أبيه لأنه كان مجهول النسب ومطعون في طهارة المولد، وكانت أمه سمية عاهرا بغيا من بغايا مكة أو الطائف نزا عليها عشرة رجال من قريش، منهم أبو سفيان وكل واحد منهم يدعي أنه منه، وقال أبو سفيان مدعيا له والله إني لصببت الماء في رحم أمه وأخيرا لمصلحة معاوية السياسية ادعاه لأبي سفيان وجعله أخاه، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ابن الزانية، الولد للفراش وللعاهر الحجر، وهذه واحدة من جرائمه الموبقة والفضائح السافرة التي يؤاخذ عليها. المؤلف (2) السلعة: خراج أسود من الدم نتيجة تخثره في إبهام القدم ويسمى في الطب الحديث غنغرينه ، ثم يصعد تدريجيا إلى الساق والبدن فيقتل صاحبه لا محالة إن لم يبتر القدم أو الساق قبل استفحاله، ولا علاج له غير القطع أو البتر. المؤلف (*)

ص 72

ادعى رجل على الحسن بن علي (عليهما السلام) ألف دينار كذبا ولم يكن له عليه، فذهبا إلى شريح [القاضي] فقال للحسن (عليه السلام): أتحلف؟ قال: إن حلف خصمي أعطيه. فقال شريح للرجل: قل: بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة. فقال الحسن: لا أريد مثل هذا لكن قل: بالله إن لك علي هذا، وخذ الألف. فقال الرجل ذلك وأخذ الدنانير، فلما قام خر إلى الأرض ومات، فسئل الحسن (عليه السلام) عن ذلك، فقال: خشيت أنه لو تكلم بالتوحيد يغفر له يمينه ببركة التوحيد، ويحجب عنه عقوبة يمينه (1).

(هامش)

(1) بحار الأنوار ج 43 / 327 و328. (*)

ص 73

 قضاؤه (عليه السلام):

 في الكافي، بعد حذف السند، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر الباقر، وأبا عبد الله الصادق (عليهما السلام) يقولان: بينا الحسن بن علي (عليهما السلام) في مجلس أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ أقبل قوم فقالوا: يا أبا محمد أردنا أمير المؤمنين (عليه السلام). قال: ما حاجتكم؟ قالوا: أردنا أن نسأله عن مسألة، وهي: أن امرأة جامعها زوجها فلما قام عنها قامت بحموتها فوقعت على جارية بكر فساحقتها فألقت النطفة فيها فحملت، فما تقول في هذا؟ فقال الحسن (عليه السلام): معضلة وأبو الحسن لها وأقول: يعمد إلى المرأة فيؤخذ منها مهر الجارية البكر في أول وهلة لأن الولد لا يخرج منها حتى يشق فتذهب

ص 74

عذرتها، ثم ترجم المرأة لأنها محصنة، وينتظر بالجارية حتى تضع ما في بطنها، ويرد إلى أبيه صاحب النطفة، ثم تجلد الجارية الحد. قال: فانصرف القوم من عند الحسن، فدخلوا على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: ما قلتم لأبي محمد وما قال لكم؟ فأخبروه، فقال: لو إنني المسؤول ما كان عندي أكثر مما قال ابني. (1) في مناقب ابن شهرآشوب: عن القاضي النعمان في شرح الأخبار بالإسناد، عن عبادة بن الصامت أن أعرابيا سأل أبا بكر فقال، إني أصبت بيض نعام فشويته وأكلته وأنا محرم فما يجب علي؟ فقال أبو بكر: يا أعرابي، أشكلت علي في قضيتك،

(هامش)

(1) بحار الأنوار ج 43. (*)

ص 75

فدله على عمر، ودله عمر على عبد الرحمن، فلما عجزوا قالوا: عليك بالأصلع، أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فقال: سل أي الغلامين شئت، فقال الحسن: يا أعرابي ألك إبل؟ قال: نعم، قال: فاعمد إلى عدد ما أكلت من البيض، نوقا فاضربهن بالفحول، فما فضل منها فاهده إلى بيت الله [الحرام] العتيق، الذي حججت إليه، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) إن من النوق السلوب، ومنها ما يزلق: فقال: إن يكن من النوق السلوب (1) وما يزلق فإن من البيض ما يمرق، قال: فسمع صوت معاشر الناس: إن الذي فهم هذا الغلام هو الذي فهمها سليمان بن داود (عليه السلام) (2).

(هامش)

(1) السلوب من النوق: التي ألقت ولدها بغير تمام، وأزلقت الناقة: أسقطت النطفة، ومرقت البيضة: فسدت. (2) المناقب لابن شهرآشوب ج 4 / 10 البحار ج 43 / 335، 354، 355، حياة الإمام الحسن (عليه السلام) للقرشي ج 1 / 86، 87. (*)

ص 76

نقل السيد جعفر مرتضى العاملي في كتابه الإمام الحسن (عليه السلام) ص 102 إلى 106 ما لخصه: وثم قصة أخرى، وهي قضية الذي أقر على نفسه بالقتل، حينما رأى أن بريئا سيقتل بسببه، فحكم عليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بعدم وجوب القود، فإنه إن كان قد قتل فعلا، فقد أحيا نفسا، ومن أحيا نفسا، فلا قود عليه. قال ابن شهرآشوب: في الكافي والتهذيب: عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) سأل فتوى ذلك الحسن (عليه السلام) فقال يطلق كلاهما، والدية من بيت المال، قال: ولم؟ قال: لقوله تعالى: *(ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)*. (1)

(هامش)

(1) المناقب لابن شهر آشوب ج 4 / 11 والآية من سورة المائدة: 32. (*)

ص 77

وأيضا... فهناك أسئلة أخرى من ذلك الرجل عن الناس، وأشباه الناس، وعن النسناس، فأحاله الإمام علي (عليه السلام) على ولده الحسن (عليه السلام) فأجابه عنها. (1)

  إخباره المغيبات

عن أبي أسامة زيد الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خرج الحسن بن علي (عليهما السلام) إلى مكة ماشيا سنة من السنين، فورمت قدماه، فقال بعض مواليه: لو ركبت لسكن عنك بعض هذا الورم الذي برجلك. قال: كلا، إذا أتينا المنزل فإنه سيستقبلك عبد أسود، معه دهن لهذا الورم، فاشتر منه ولا تماكسه. فقال مولاه: بأبي وأمي، ليس أمامنا منزل فيه أحد يبيع هذا الدواء! قال: بلى، إنه أمامك دون المنزل.

(هامش)

(1) تفسير فرات الكوفي ص 8 وعن البحار ج 7 / 150. (*)

ص 78

فسارا أميالا، فإذا الأسود يستقبله، فقال الحسن (عليه السلام): دونك الرجل فخذ من الدهن واعطه ثمنه. فقال له الأسود: ويحك يا غلام، لمن أردت هذا الدهن؟ قال: للحسن بن علي (عليهما السلام) قال: انطلق بي إليه. فأخذ بيده حتى أدخله عليه، فقال: بأبي أنت وأمي، لم أعلم أنك تحتاج إليه، ولا أنه يراد ذلك، ولست آخذ له ثمنا، إنما أنا مولاك، ولكن ادعو الله أن يرزقني ذكرا سويا، يحبكم أهل البيت، فإني خلفت امرأتي وقد أخذها الطلق. فقال له الحسن (عليه السلام): انطلق إلى منزلك، فإن الله تبارك وتعالى وهب لك ذكرا سويا، وهو لنا شيعة. فرجع الأسود من فوره، فإذا بأهله قد وضعت غلاما سويا، فرجع إلى الحسن (عليه السلام) فأخبره بذلك، ودعا له خيرا، ومسح الحسن (عليه السلام) بذلك الدهن رجليه فما برح من مجلسه حتى سكن ورمه، ومشى على قدميه.

ص 79

وروي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان في الرحبة، فقام إليه رجل، وقال: أنا من رعيتك وأهل بلادك. فقال (عليه السلام): لست من رعيتي ولا من أهل بلادي، وإن ابن الأصفر (1) بعث إلى معاوية بمسائل أقلقته، فأرسلك إلي بها . قال: صدقت يا أمير المؤمنين، كان في خفية وأنت قد اطلعت عليها، ولم يعلم غير الله. قال: سل أحد ابني هذين : قال: أسأل ذا الوفرة (2) - يعني الحسن (عليه السلام) - فأتاه فقال: جئت لتسأل (3): كم بين الحق والباطل؟ وكم بين السماء والأرض؟ وكم بين

(هامش)

(1) ابن الأصفر: أي ملك الروم، لأن أباهم الأول كان أصفر اللون. لسان العرب - صفر - 4 / 465 . (2) الوفرة: شعر الرأس إذا وصل إلى شحمة الأذن: لسان العرب - وفر - 5 / 288 . (3) في بعض النسخ: أسألك. (*)

ص 80

المشرق والمغرب؟ وما قوس قزح؟ وما المؤنث؟ وما عشرة أشياء بعضها أشد من بعض؟ [قال: نعم]. قال الحسن (عليه السلام): بين الحق والباطل أربعة أصابع، فما رأيته بعينك فهو الحق وما سمعته (1) بأذنيك باطل كثير، وبين السماء والأرض دعوة المظلوم مد البصر، وبين المشرق والمغرب مسيرة يوم للشمس، وقزح اسم للشيطان، لا تقل قوس قزح، هو قوس الله، وعلامة الخصب، وأمان لأهل الأرض من الغرق. وأما المؤنث فهو من لا يدري أذكر هو أم أنثى، فإنه ينتظر فيه، فإن كان ذكرا احتلم، وإن كانت أنثى حاضت وبدا ثدياها، وإلا قيل له: بل، فإن أصاب بوله الحائط فهو ذكر، وإن انتكص بوله على رجليه كما ينتكص بول البعير فهو امرأة.

(هامش)

(1) فنسخة: تسمعه. (*)

ص 81

وأما عشرة أشياء بعضها أشد من بعض، فأشد شي خلقه الله الحجر، وأشد منه الحديد، يقطع به الحجر، وأشد من الحديد النار، تذيب الحديد، وأشد من النار الماء، يطفئ النار، وأشد من الماء السحاب، يحمل الماء، وأشد من السحاب الريح، تحمل السحاب، وأشد من الريح الملك الذي يردها، وأشد من الملك ملك الموت الذي يميت الملك، وأشد من ملك الموت الموت الذي يميت ملك الموت، وأشد من الموت أمر الله تعالى [الذي] يدفع الموت . حكمته وعلمه (عليه السلام): ذكر ابن عساكر في تاريخه - تاريخ دمشق - في ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام) (1)، بعد حذف السند، عن

(هامش)

(1) طبع بيروت ص: 163 - 168 في حديث: 274 - 285. (*)

ص 82

الهمداني إسحاق عن الحارث الأعور [قال..] إن عليا (عليه السلام) سأل ابنه الإمام الحسن (عليه السلام) وهو لا يتجاوز العشر سنوات عن أشياء من أمر المروءة. قال: با بني ما السداد؟. قال: يا أبت، السداد دفع المنكر بالمعروف. قال: فما المروءة؟ قال: العفاف، وإصلاح المرء ماله. قال: فما السماحة؟. قال: البذل في العسر واليسر. قال: فما الشح؟. قال: إن ترى ما في يديك شرفا، وما أنفقته تلفا. قال: فما الإخاء؟. قال: الوفاء في الشدة والرخاء. قال: فما الحلم؟. قال: كظم الغيظ، وملك النفس. قال: فما الغنى؟. قال: رضى النفس بما قسم الله لها وإن قل، فإنما الغنى غنى النفس. قال: فما الفقر؟. قال: شره النفس في كل شيء. قال: فما المجد؟. قال: إن تعطي في الغرم، وإن تعفو

ص 83

عند الجرم. قال: فما العقل؟. قال: حفظ القلب كلما استرعيته. قال: فما الخرق؟. قال: معاداتك أمامك، ورفعك عليه كلامك. قال: فما الثناء؟. قال: إتيان الجميل، وترك القبيح. قال: فما الشرف؟ (1). قال: موافقة الإخوان، وحفظ الجيران. قال: فما السفه؟. قال: اتباع الدناة، ومصاحبة الغواة. قال: فما الغفلة؟. قال: تركك المسجد وطاعتك المفسد. قال: فما الحرمان؟. قال: تركك حظك وقد عرض عليك (2).

(هامش)

(1) سبق السؤال بغير هذا الجواب في البداية. (2) البداية والنهاية لابن كثير ج 8 ص 40. (*)

ص 84

 ومن حكمه (عليه السلام):

 حياة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حافلة بتوجيه المسلمين إلى الله تعالى، والترغيب إليه، والحث على طاعته، فهم يتوسلون لذلك بكل السبل، وشتى الوسائل، ولم يقتصر برنامجهم التثقيفي على القاء الدروس فقط، بل تضمن السلوك العملي بالإضافة إلى الخطب، والوصايا، والكتب، كما حفظ لهم التاريخ بعض كلماتهم القصار، وهي لا تساويها مطولات غيرهم، لما اشتملت عليه من كنوز المعرفة، وعلاج الكثير من أمراضنا الاجتماعية، والدعوة إلى الحق والفضيلة. نقدم في الفصل بعض ما ورد من كلماته: قال (عليه السلام): لا تعاجل الذنب بالعقوبة واجعل بينهما للاعتذار طريقا. وقال (عليه السلام): المزاح يأكل الهيبة، وقد أكثر من الهيبة

ص 85

الصامت. وقال (عليه السلام): الفرصة سريعة الفوت، بطيئة العود. وقال (عليه السلام): تجهل النعم ما أقامت، فإذا ولت عرفت. وقال (عليه السلام): ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم. وقال (عليه السلام): اللؤم أن لا تشكر النعمة. وقال (عليه السلام): الخير الذي لا شر فيه: الشكر مع النعمة، والصبر على النازلة. وقال (عليه السلام): العار أهون من النار. وقال (عليه السلام): هلاك المرء في ثلاث الكبر والحرص والحسد، فالكبر هلاك الدين، وبه لعن إبليس، والحرص عدو النفس، وبه أخرج آدم من الجنة، والحسد رائد السوء، ومنه قتل قابيل هابيل. وقال (عليه السلام): لا أدب لمن لا عقل له، ولا مروءة لمن لا همة له، ولا حياء لمن لا دين له، ورأس العقل معاشرة الناس بالجميل، وبالعقل تدرك الداران جميعا، ومن

ص 86

حرم العقل حرمهما جميعا (1). وقال (عليه السلام): مكارم الأخلاق عشر: صدق اللسان، وصدق البأس، وإعطاء السائل، وحسن الخلق، والمكافأة بالصنائع، وصلة الرحم، والترحم على الجار، ومعرفة الحق للصاحب، وقري الضعيف، ورأسهن الحياء. وقال (عليه السلام): فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها (2). وقال (عليه السلام): ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد (3). وقال (عليه السلام): علم الناس علمك، وتعلم علم غيرك،

(هامش)

(1) أعيان الشيعة: 4 ق 1 / 107. (2) الحسن بن علي لعبد القادر أحمد اليوسف ص 60. (3) مطالب السؤول: 69 ط 1. (*)

ص 87

فتكون قد أتقنت علمك، وعلمت ما لم تعلم (1). وقال (عليه السلام) لرجل أبل من علة: إن الله قد ذكرك فاذكره، وأقالك فاشكره. وقال (عليه السلام): إذا أضرت النوافل بالفريضة فارفضوها. وقال (عليه السلام): من تذكر بعد السفر اعتد. وقال (عليه السلام): بينكم وبين الموعظة حجاب العزة. وقال (عليه السلام): إن من طلب العبادة تزكى لها. وقال (عليه السلام): قطع العلم عذر المتعلمين (2). وقال (عليه السلام): أحسن الحسن الخلق الحسن (3). وقال (عليه السلام): يا ابن آدم عف عن محارم الله تكن عابدا، وارض بما قسم الله تكن غنيا، وأحسن جوار من جاورك تكون مسلما، وصاحب الناس بمثل ما تحب أن

(هامش)

(1) كشف الغمة: 170. (2) تحف العقول ص 169. (3) الخصال ص 29. (*)

ص 88

يصاحبوك به تكن عدلا. يا ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك فخذ مما في يديك لما بين يديك. وقال (عليه السلام): ما فتح الله عز وجل لأحد باب مسألة فخزن عنه باب الإجابة، ولا فتح لعبد باب شكر فخزن عنه باب المزيد، ولا فتح على رجل باب عمل فخزن عنه باب القبول. وقال (عليه السلام): المعروف ما لم يتقدمه مطل، ولا يتبعه من، والاعطاء، قبل السؤال من أكبر السؤدد، المسؤول حر حتى يعد ومسترق حتى ينجز، الفرصة سريعة الفوت. وقال (عليه السلام): وسئل عن البخل، فقال: هو أن يرى الرجل ما أنفقه تلفا، وما أمسكه شرفا. وقال (عليه السلام): لا تأت رجلا إلا أن ترجو نواله (1)، وتخاف

(هامش)

(1) كشف الغمة 17. (*)

ص 89

يده، أو تستفيد من علمه، أو ترجو بركة دعاءه، أو تصل رحما بينك وبينه. وقال (عليه السلام): من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه. وقال (عليه السلام): حسن السؤال نصف العلم. وقال (عليه السلام): إذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة فأصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معرفة أعانك، وإن قلت صدق قولك، وإن صلت شد صولتك (1). وقال (عليه السلام): المصائب مفاتيح الأجر. وقال (عليه السلام): النعمة محنة فإن شكرت كانت كنزا، وإنه كفرت كانت نقمة. وقال (عليه السلام): من عدد نعمه محق كرمه. وقال (عليه السلام): الوحشة من الناس على مقدار الفطنة بهم.

(هامش)

(1) البحار: ج 44 / ص 139. (*)

ص 90

عن الإمام الحسن (عليه السلام): - إنه خطب الناس فقال: إنا أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كل مسلم فقال سبحانه: *(قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى، ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا)* فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت (1). وقال (عليه السلام): المعروف ما كان ابتداء من غير مسألة، فأما من أعطيته بعد المسألة فإنما أعطيته بما بذل لك من ماء وجهه. ومن مواعظه لجنادة بن أمية قال الإمام أبي محمد الحسن (عليه السلام): لما قال له جنادة عظني يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: استعد لسفرك، وحصل زادك قبل حلول أجلك، واعلم أنك تطلب الدنيا

(هامش)

(1) مجمع البيان سورة الشورى: آية / 23. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

سيرة الإمام الحسن (ع)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب