فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس

يحيى مثل الوريث الصالح
هدى من الآيات

في اطار الحديث عن الانسان من بنيه ، تحدثت الآيات الأولى من سورة مريم عن زكــريا ، ذلك الشيخ الطاعن في السن ، و الذي ظلت في قلبه رغبة كامنة بثها لربه ، فوهب له الله يحيى (ع) .

و ها هي الآيات القرآنية تبين لنا صفات يحيى ، ومن خلال صفاته يتبين لنا كيف ينبغي أن يكون الولد ، و كيف ينبغي أن يتطلع الوالد الى ولده فيما يرتبط به ، و فيما يرتبط بالمجتمع .

وهناك وجه آخر لهذه العلاقة وهي علاقة الأم بابنها حيث يبينها السياق من خلال قصة مريم ، تلك الوالدة الرسالية التي وهب الله لها غلاما زكيا ، و كانت مثلا ، و قدوة ، و اسوة لكل الوالدات .

و من خلال العرض القرآني لصفات يحيى و قصة مريم ، تتبين لنا عدة أمور :

الأمر الأول : ان التربية المثالية التي يتوجب على الوالد أن يقوم بها تجاه ابنه ينبغي أن تسير في عدة خطوط :

1 / أن يتطلع الوالد الى أن يكون ابنه امتدادا له ، و مجسدا للميزات التي تتصف بها عائلته ، فالانسان وريث حضارة قد تعب من أجلها الآخرون ، و قد تراكمت التجارب البشرية حتى تحولت الى حضارة ورثها الفرد ، كما ان تجاربه هو ، و مكاسبه ، و خبراته ، قد تجمعتهي الأخرى ، و تراكمت عنده و تحولت الى قواعد سلوكية ، وقيم انسانية ، و عمرانية ، كل ذلك يتجمع عند الانسان ، وعليه أن يسلمها الى الجيل الثاني ، و هذه هي مسؤولية الانسان كما هي رغبته الفطرية ، وان رغبة الانسان الفطرية تتلخص في كلمة و هي : أنه يريد أن يرىاذا أغمض عينيه ، ورحل عن الحياة ، من يتابع مسيرته ، و يجسد قيمه ، و يحتفظ بخبراته و مكاسبه .

2 / ينبغي أن يكون الوالد عالما ، بأن الجيل القادم سوف لا يكون بالضبط مثل جيله ، بل سيكون جيلا له خبراته ، و عليه مسؤولياته ، وله ظروفه الخاصة ، و بالتالي ينبغي أن تتوجه تربيته لابنه باتجاه بناء الجيل القادم ، حسب ظروف و متغيرات و مسؤوليات ذلك الجيل ، ليعيش أبناؤه لمبادئهم المتطورة كما يعيشون ماضيهم التليد ، ولكي لا يكون لهم بعد واحد هو تكرار الماضي ، و اجترار مافيه ، بل يكون لديهم بعد آخر هو بناء الحاضر و التطلع للمستقبل .

3 / أن يربي الانسان ابناءه على الارتباط بالماضي ، و عدم الانفصال عنه ، و أحد نتائــج ذلك هــو : أن الأب عندما تقعد به السنون عن العمل ، و يصبح جليس البيت ، فان ابنه لا يتركه وحده ، بل يحن اليه ، و يكون بارا به .

و هكذا فان الصفات التي تتكون عند الأبناء هي : أن يكونوا امتدادا للحضارة التليدة و حماة لها ، بل يكونوا بناة لحضارة جديدة ، و هذه الصفات الثلاثة تجسدت في يحيى (ع) .

الأمر الثاني : ان القرآن الحكيم يضرب لنا أمثلة مثيرة ، تتجسد فيها نوعية خاصة من طبيعة ذلك الموضوع الذي يريد أن يبينه .

فاذا أراد أن يضرب مثلا لعلاقة الأب بابنه فانه لا يأتي بأي أب وأي ابن ، أو يضرب لنا من واقعهما مثلا ، كلا .. فذلك لا يثير الانسان ، بل يبين قصة تأريخية ، ذات نوعية فريدة و يضربها مثلا ، لا لكي تبقى في الذاكرة فقط ، و انما ايضا لأن ذلك المثل يبقى مثالا بارزا كالشمس لا يحتاج الانسان للبحث عنها ، وفي هذا المورد يذكر لنا القرآن قصة يوسف و والده يعقوب ، و اذا أراد أن يضرب لنا مثلا عن تطلعات الأب تجاه ابنه ، و صفات الابن تجاه هذه التطلعات فانه يضرب مثلا من قصة زكريا مع ابنه يحيى ، واذا أراد أن يضربلنا مثلا عن علاقة الأم بابنها فانه لا يبحث عن أي أم في العالم ، وانما يضرب المثل من قصة مريم الصديقة التي كانت متحررة من الدنيا ، ولكن الله سبحانه لم يشأ لها أن تبقى هكذا متحررة فأراد أن يبتليها بالإبن و هذه هي سنة الحياة . لقد شاء أن يقول لها : عليكأن تتحملي مسؤوليتك كام ، الى جنب مسؤولياتك كمربية ، و هادية للناس ، أو متعبدة و زاهدة في المسجد ، و هكذا بين القرآن الحكيم الحالات النفسية ، و الحالات المادية الصعبة التي يجب ان تجتازها الأم و تبقى صامدة ، و هل هناك حالة أصعب من فتاة عمرها عشر سنوات، لم تتزوج ، ولم تر بشرأ ، حملت فهجرت بيتها ، و تركت أهلها الى الصحراء ، فجاءها المخاض الى جذع النخلة ، وهي لا تعرف ماذا تصنع ؟!

فلتكن هذه المرأة مثلا لكل النساء لكي لا يتهربن من مسؤوليات الأمومة التي هي مسؤولية الحياة الطبيعية ، بل ينتظرن العاقبة ، تلك العاقبة . التي انتظرتها مريم ورأت كما رأى الناس كيف كانت حسنة و خيرا و رحمة .

الأمر الثالث : الجمع بين رسالية الانسان و طبيعته ، فلكي تكون رساليا ليس من الضروري أن تترك طبيعتك ، و مسؤوليتك الاجتماعية في الحياة ، بل يمكن أن تكون رساليا ، و في نفس الوقت أبا أو ابنا أو أما ، و تحتفظ بكل المسؤوليات الاجتماعية التي يقوم بها أي فرد عادي .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس