فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
بينات من الآيات
وآتيناه الحكم صبيا
[ 12] [ يا يحيى خذ الكتاب بقوة وءاتيناه الحكم صبيا ]
ولد يحيى واعطاه الله الرسالة ، وأمره بأن يجعل كل حياته ، و جماع عزمه ، و شدة بأسه في الالتزام بتبليغ هذه الرسالة ؛ فقد يأخذ الانسان شيئا وهو غير مطمئن الى طبيعته أو نتيجته ، بينما يبحث فرد آخر عن نفس الشيء ، ويأخذه بقوة وهو مطمئن به مصمم على الدفاع عنه ، وهكذا أمر الله يحيى بأن يأخذ الرسالة ، ولعله لذلك بقي يحيى حصورا فلم يتزوج ، شأنه شأن عيسى (ع) بل أعطى كل حياته للرسالة الالهية ، متحديا الحالة المادية التي طغت على بني اسرائيل ذلك اليوم وانغماسهم في الشهوات العاجلة .
ونتساءل : لماذا أعطى الله يحيى الحكم صبيا ؟ و الجواب : -اولا : اكراما لوالده العظيم و لكي يكون آية لبني اسرائيل ، و للناس جميعا ، و لأنه جاء ليصحح مسيرة الأمة بعد انحرافها ، و قد استشهد في سبيل الله ، و كان من الطبيعي أن يكثر الطغاة الدعايات المضللة حوله ، فأعطاه الله آية لصدقه .
ثانيا : لأنه منذ نعومة أظفاره كان في مستوى تلقي الوحي ، فقد جاء في حديث مأثور عن أبي الحسن الرضا (ع) :
" ان الصبيان قالوا ليحيى اذهب بنا نلعب ، قال : ما للعب خلقنا ، فأنزل الله تعالى : " وآتيناه الحكم صبيا " . (1)حينما طلب زكريا من الله سبحانه و تعالى أن يرزقه وليا فان أقصى ما كان يأمله هو أن يكون انسانا رساليا ، ولكن الله تفضل عليه ، وفضله على الآخرين ، فأعطاه ولدا يحمل مسؤولية الرسالة ، و جعله اماما للناس . ولما يزل صبيا .
و هكذا فلنعلم بأننا اذا أخلصنا لربنا ، و دعوناه دعاء خفيا ، متضرعين اليه ، آنئذ لا يستجيب الله لنا دعاءنا فقط بل و يعطينا أكثر مما كنا نأمل .
وكان تقيا :
[ 13] [ وحنانا من لدنا و زكاة و كان تقيا ]
هذه هي الصفات النفسية التي كانت عند يحيى :
الصفة الولى : هي أنه كان يحن على الناس ، إننا نجد أن أكثر الناس يعيشون لأنفسهم ، وقليل أولئك الذين يعيشون للناس جميعا ، بعيدين عن السجن المحيط بذواتهم ، وهذه هي الصفة الاجتماعية المثلى التي يجب أن يتحلى بها الابن ، وعلى الوالد أن يربي ابنه على الروح الجماعية ، فلا يقل له : لا تخرج مع أولاد الجيران لأنهم يضربونك ، أو لا تدعهم يرون هذا المتاع عندك لئلا يطلبونه منك ، فهذا مثل للتربية الخاطئة ، بل على العكس من ذلك اذا أعطيت لابنك درهما قل له : اذا اشتريت شيئا تقاسمه مع زملائك ، فيجب أن تربي ابنك منذ نعومة أظفاره على أن يحن على الناس ، و يرى نفسه مسؤولة عن الآخرين .
و ينبغي أن يكون هذا الحنان في اطار توحيد الله سبحانه ، فقد يكون للحنان جانب سلبي ، و هو أن يحن الانسان على الآخرين فيخضع لهم ، و يخرج عن حدود(1) تفسير نور الثقلين / ج 3 / ص 325.
الله ، و هذا خطأ ، انما يجب عليه أن يحن عليهم ، و يخضع لله ، و هكذا كان يحيى ، و لعل الآية تشير الى ذلك .
الصفة الثانية : التقوى . و الأحاديث كثيرة عن تقوى يحيى (ع) و كيف كان يخاف الله و يخشاه ، يقال : بأن زكريا كان يمنع ابنه يحيى من أن يحضر مجالسه لأنه لم يكن يحتمل مواعظ والده ، ولكن يحيى جاء و اختبأ تحت المنبر ، فصعد زكريا و أخذ يخوف الناس نار جهنم، و اذا به يجد يحيى يخرج من تحت المنبر باكيا ، و يهيم على وجهه في الصحراء ، فأخذ الناس يبحثون عنه في كل مكان ، فلم يجدوه الا بعد فترة جالسا على ماء ، يبكى بكاء مرا ، و يناجي ربه ، و يدعوه أن ينجيه من نار جهنم ، و قد ورد في حديث شريف ، عن أبي بعير قال: قلت لأبي عبد الله (ع) عن قوله في كتابه " حنانا من لدنا " قال :
" انه كان يحيى اذ قال في دعائه يا رب يا الله ! ناداه الله من السماء لبيك يا يحيى سل حاجتك " (1)[ 14] الصفة الثالثة : -
[ وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا ]
انه كان يحسن معاملة والديه ، و يعتني بهما . و يبدو ان هذه الصفات الثلاث التي وردت في الآية و هي : الحنان ، و التقوى ، و البر ، تنبع جميعا من صفة واحدة و هي : العلاقة الايجابية مع أبيه و أمه و مجتمعه .
ان الولد المشاكس يسميه القرآن جبارا ، و الجبار هو الذي يعيش لنفسه فقط ، و حسب أهوائه ، و يتصرف حسب بغضه و حبه ، و يرى نفسه أعلى من الآخرين ، و لكن يحيى لم يكن جبارا ، ولم يكن عصيا ، أي لم يكن يهدف العصيان و التمرد(1) المصدر / ص 326 .
على والديه أو على الناس .
[ 15] [ و سلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا ]ان من الأمور التي كان قد طلبها زكريا هي أنه قال : " و اجعله رب رضيا " ، و في هذه الآية نرى استجابة الله تعالى لهذا الطلب ، فقد عاش يحيى سالما ، و معه السلام ، فالمجتمع أحبه ، و الله أحبه ، و في المستقبل - بعد موته - سوف يحبه الناس .
ان يحيى قد استشهد في سبيل الله ، ولكن الشهادة في نظر الاسلام تعتبر سلاما بالنسبة الى المؤمن ، فالانسان اذا كان يجب أن يموت ولابد ! فلتكن ميتته الشهادة ، ليحصل على السلام الذي يعني النجاة و الخير ، بلى ان للانسان ثلاثة مواقع صعبة عليه أن يمر بها :
يوم يولد ، و يوم يموت ، و يوم يبعث حيا ، و اذا كان في هذه الأيام الثلاثة محاطا من قبل الله بالسلام فانه سعيد حقا ، جاء في حديث مأثور عن الامام الرضا (ع) انه قال :
" إن أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاث مواطن ، يوم يولد و يخرج من بطن أمه فيرى الدنيا ، و يوم يموت فيرى الآخرة وأهلها ، و يوم يبعث فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا ، وقد سلم الله عز وجل على يحيى في هذه الثلاثة المواطن ، و آمن روعته فقال : " و سلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا " و قد سلم عيسى بن مريم على نفسه في هذه الثلاثة المواطن فقال : " و السلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا " (1)