فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
بينات من الآيات
المخاض الصعب
[ 22] [ فحملته فانتبذت به مكانا قصيا ]
حينما أرادت مريم أن تتزهد لتعبد الله ، انتبذت مكانا شرقيا ، قريبا ، في بيت المقدس في غرفة فيه ، و اتخذت من دونهم حجابا ، و أخذت تتبتل الى ربها ، و لكنها بعد الحمل انتبذت مكانا قصيا ، أَضف الى ذلك أن الحمل كان صعبا و مجهدا ، لانها لم ترد ( عليها السلام ) أن يظهر ذلك للناس ، لذلك ابتعدت عنهم .
[ 23] [ فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ]
كم طالت الفترة بين حمل مريم و بين مخاضها ؟ هناك أحاديث عديدة : بعضها يقول : ستة أشهر و هو الحديث الأقوى ، و بعضها يقول تسع ساعات ، لأنها حملت في بداية النهار ، و فرغت من حملها في نهايته ، و بعضهم يقول ساعتين - الله أعلم - و انما نحن مع هذه الآية التي تصور لنا حالة صعبة كانت تعيشها مريم (ع) بحيث ان المخاض يجبرها على أن تلتجىء الى جذع النخلة ، فحينما جاءها المخاض ، لم تجد دارا أو بيتا تلتجىء اليه ، و انما وجدت شيئا واحدا وهو جذع نخلة .
[ قالت يا ليتني مت قبل هذا ]
فتاة عذاراء ، تركت الدنيا ولم تر مسؤوليات الحياة ، - سواء كانت مسؤوليات البيت أو مسؤوليات المجتمع - لأنها كانت متعبدة ، و متحررة من علاقات الدنيا ، و ياتيها المخاض ، و هذه أول تجربة لها في الحياة ، فلم تعرف كيف تتصرف تجاهها ، كما انها كانت وحيدة في الصحراء ، و لم تجد من يمد لها يد العون ! آنئذ شعرت بمشقة بالغة و كرب عظيم فقالت :
[ وكنت نسيا منسيا ]
و الانسان يريد الحياة و ما فيها من علاقات ليشاع له الذكر الطيب بين الناس و لذلك يتحمل الانسان كل الصعوبات ، فهو يخوض الحرب مثلا ، و يعرض نفسه للموت من أجل ان يقال : ان فلان بطل شجاع ، و لكن مريم تناست حتى هذه الرغبة في ذاتها ، و تمنت لو انها كانتنسيا منسيا .
و النسي المنسي ، هو الذي نسي و نسي أنه قد نسي ، فصار و كأنه لم يكن أبدا ، فقد ينسى الانسان شيئا ، ولكنه يتذكر أنه قد نسي شيئا ، فيفكر حتى يتذكر ، أما ان تنســى و تنــسى انك قد نسيت ، فهذا هو النسي المنسي ، وكأن مريم ( عليها السلام ) تمنت لو نسيت ولم يبق لها أي أثر يذكر .
الخلف الطيب :
[ 24] [ فناداها من تحتها ]
اختلف المفسرون فيمن ناداها ؟! هل كان جبرائيل باعتبار ان مريم كانت واقفة على ربوة و جبرائيل كان واقفا تحت الربوة ، لذلك كان هو المنادي ، أو كان عيسى ، و أتصــور أن المنادي هو عيسى الوليد الجديد ، وهذا ينسجم مع سياق الحديث القرآني ، بينما جبرائيل لميكن اسمه مذكورا في سياق هذه الآيات .
[ ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ]
يبدو أن مريم حينما حملت فكرت في ما بعد الحمل .. ماذا سيحدث ؟ ماذا سيقــول عنهــا الناس ؟ و حينما وضعت تركزت هذه الفكرة في ذهنها فاحتارت ماذا تفعل ؟ و الى أين تذهب ؟ لذلك فان أول كلمة قالها عيسى لها هي : ألا تحزني - أي لا تحملي هموم المستقبل - و هكذا يجب أن تكون المرأة بالنسبة الى مسؤوليات الحياة الزوجية ، فبعض النساء يقلقن من شؤون الحياة ، و يفكرن كثيرا في مستقبل الطفل ، و هذه الأفكار غير صحيحة ، لأن الذي خلق هذا الطفل ، و قدر للمرأة أن تكون أما سوف يعينها عليــه ، و علينا أن نعيش لحظتنا ، بالرغم من ضرورة التخطيط للمستقبل ، إلا ان التخطيط عمل الفكر بينما الهم عمل القلب ، و ليس من الصحيح ان نتحمل هذه اللحظة خوف هم المستقبل ، و حزن الماضي ، فتصبح الحياة فيها جحيما ، و يبدو من السياق ان كلمة السري أقرب الى مفهوم النهر الرافد ، اذ أنه (ع) أشاراليها بوجود نهر في أسفل الربوة ، هذا من جهة و من جهة ثانية فقد أِار اليها ماذا تطعم و قال :
[ 25] [ وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ]1 - في الأحاديث أن مريم رفعت رأسها الى السماء - و قالت يا إلهي في الأيام العادية التي كنت فيها شابة ، ولا أعاني فيها مرض ولا ألم ، كان الطعام ينزل علي من السماء بدون صعوبة ، والآن في هذه الحالة علي أن أهز جذع النخلة حتى تتساقط علي رطبا جنيا ؟! لماذا ؟ فجاءها الوحي أو قال لها عيسى - لا أعلم بالضبط - انه في ذلك اليوم كانت علاقتك فقط بي و ما كنتي تعرفين إلا الله ، أما الآن فقد توزعت علاقتك بين الله و ابنك ، و لذلك لابد أن تهزي جذع النخلة .
2 - و هناك تفسير آخر لهذه الآية و هو : أن على الانسان أن يتحمل صعوبات الحياة ، و من دون التعب لا يحصل الانسان على شيء ، فقسم من التعب عليك ، و القسم الآخر الله سبحانه هو الذي يدبره و يقدره .
[ تساقط عليك رطبا جنيا ]
في الأحاديث ( إن أفضل ما تطعم النفساء من الأطعمة الرطب ) لأن الرطب يحتوي على كل المواد التي يحتاجها الجسم ، و بنسبة احتياج الجسم ، يقول بعض العلماء ان في التمر 13 مادة حياتية و خمسة أنواع من الفيتامين ، لهذا تطعم المرأة الواضع في بعض الدول التمر لمدة أربعين يوما .
[ 26] [ فكلي واشربي وقري عينا ]
لا تفكري بهذا الولد كيف يصبح في المستقبل ؟ انه سوف يصبح قرة عين لك .
[ فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ]لقد بدأت مساعدة عيسى لوالدته من تلك اللحظات الأولى ، و السبب هو ان عيسى كان معجزة في الحياة ، أما في سائر الحالات الطبيعية ، فان على الولد أن يساعد امه متى كبر و اشتد عوده ، و يجب أن تفكر الأم و هي تخوض غمرات الحياة الصعبة أن مستقبلها سيكون مضمونابسبب هذا الولد ، و ان بعد العسر يأتي اليسر ، و العبرة التي نستلهمها هي : ان الصيام في الشرائع السابقة كان مقرونا بعدم التكلم ، فعيسى أشار لمريم بأن تقول للناس : إنني صائمة من دون أٍن تقول كلاما ، لانها اذا تكلمت بطل صومها ، و بالرغم من ان هذا النوع من الصوم قد نسخ في شريعة النبي محمد ( صلى الله لعيه وآله ) الا ان بعض ايجابياته لا تزال باقية حيث جاء في رواية ماثورة عن الامام الصادق (ع) :
" ان الصوم ليس من الطعام و الشراب وحده ، ان مريم قالت : " اني نذرت للرحمان صوما " - أي صمتا - فاحفظوا ألسنتكم ، و غضوا أبصاركم ، ولا تحاسدوا ولا تنازعوا " (1)و إنما تستعمل الاشارة بدليل الآيات التالية التي تفيد بأن مريم أشارت بيدها الى ولدها ليعلم القوم انها لا تتكلم .