فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس

و أعتزلكم وما تدعون من دون الله
هدى من الايات

علاقة الانسان بربه يجب أن تكون فوق علاقاته ألأخرى بل تكون موجهة لسائر العلاقات ، و إطارا لسائر الروابط الاجتماعية ، وفي طليعتها رابطة الانسان بأسرته .

ومــن القضايا الطبيعية في حياة الانسان ، إستلهامه من أبيه : الفكرة و الخبرة ، فالأجيال البشرية تتلاحق و يرث كل جيل ، أفكار السابقين ، و يورثها لللاحقين ، و الله سبحانه قد أركز في الانسان غريزة التقليد و إتباع الآباء ، كما أركز في الآباء غريزة التعليم لنقل أفكارهم الى أبنائهم بل وإكراههم عليها .

بيد إن هذه الغريزة التي هي من السنن الكونية يجب أن لا تترك بعيدة عن التوجيه ، بل على الانسان أن يوجهها في ذاته و يوجهها في الآخرين ، فالابن الذي يطيع والده و يتبعه من دون تفكير لا يكون فقط عاجزا عن إبتداع تجارب جديدة ، بل يكون أيضا غير صالح لنقل التجربة فالتجربة ينقلها جيل يكتوي بنارها ، و يعرف قيمتها و يستلهمها بأرادته و حريته ، اما الجيل الذي يضطر الى قبول تجربة السابقينو إستلهــام أفكارهم فانه لا يمكنه أن يعرف قيمة التجربة ، و بالتالي لا يمكنه أن يستفيد من هذه الخبرة شيئا كثيرا ، إذ يصبح آلة عمياء لا يستوعب الحقائق التي تجري حوله .

من هنا .. يركز القرآن الحكيم في هذه الآيات على مسألة نقل الأفكار من الجيل السابق الى الجيل اللاحق و يحدد في ذات الوقت طريقة التعامل بين الأجيال .

كثيرا ما يفكر الجيل الناشيء فيجد أن أفكار الأجيال السابقة إنما هي أفكار خاطئة و غير سليمة ، و لذلك يتوجه هذا الجيل نحو التغيير و الاصلاح و تطوير الأفكار و الأساليب ، فيحدث الصراع بين الأجيال ، كل جيل يوجه الحياة الى طرف معين و هذا ليس من مصلحة المجتمع ، فالمجتمع الذي يعيش صراع الاجيال ينهار بسرعة ولا تكتسب الأجيال الناشئة فيه تجارب الأجيال السابقة .

وفي هذه الآية الكريمة نجد القرآن الحكيم يركز على طريقة التعامل بين الأجيال ليقول : حتى لو كان الخلاف حول محور أساسي كعبادة الله فينبغي ان يتم عبر أساليب مرنة ، لذلك نجد إبراهيم يوجه خطابه لأبيه قائلا : " سلام عليك سأستغفر لك ربي " .


ولكن إذا لم تنفع المرونة ينبغي أن يكون الاعتزال ، لأنه هو الحل الأخير ، فحينما وجد إبراهيم إن أباه لم يهتد ، وإن قضية التوحيد لا يمكن أن تخضع لأهواء والده و لضلالات الأجيال السابقة ، فانه قرر أن يثور ، ولكن كيف كانت ثورته ؟

إنه لم يقتل أباه و لم يتمرد عليه ، وإنما إعتزل ما يعبد بعد أن جادله بالحسنى و أعتقد أن هذين الاسلوبين ، الأسلوب المرن ثم إسلوب الاعتزال هما أمثل طريقة للتعامل بين الاجيال في قضايا الصراع و في حالات التغيير .

هناك ملاحظة تبدو في هذه الآيات وهي : إن القرآن الحكيم يركز الضوء هنا على مشهد واحد فقط من قصة إبراهيم الخليل ( عليه الصلاة و السلام ) ، و هو مشهد الحوار مع أبيه ، بينما ترك سائر المشاهد كمشهد صراعه مع النظام القائم و مع المجتمع الجاهلي ، و لعل السبب ان هذه السورة تركز على موضوع علاقة الانسان بأسرته ، و علاقته بالأقربين إليه .

كما إن القرآن الحكيم يبين حقيقة أخرى و هي : إن الانسان الذي يترك أهله و يعتزلهم لوجه الله ، فان الله سبحانه سوف يعوضه بآخرين ، أحسن منهم ، و القرآن الحكيم يؤكد هذه الفكرة في هذا المشهد من حياة إبراهيم الخليل ، حيث يبين بأن الله قد عوضه عن أسرته السابقة بأسرة جديدة ، و جيل جديد ، ووهب له إسماعيل و إسحاق و يعقوب و ذرية طيبة منهم ، و نجد تكرارا لهذه الفكرة في الدرس القادم ..


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس