فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
بينات من الآيات
[ 76] بما أن آيات الذكر لا تسدي إلينا الوصايا و المواعظ فحسب ، بل تعالج بعمق الانحرافات النفسية التي تجعل الانسان يتورط في علاقات شاذة مع زينة الحياة الدنيا ، من مال و ولد ، سواء بالغرور بها أو بالاستسلام لها من دون إرادة أو تفكير ، وهكذا يؤكد السياق هنا أن ( قرار ) الاهتداء الى الله من مسؤولية البشر ، فعليه أن يخطو الى ربه الخطوة الأولى . حيث سيتولاه الله بعدئذ برحمته فيزيده هدى .
[ و يزيد الله الذين اهتدوا هدى ]
و ليس على الانسان أن يلاحظ لحظاته الحاضرة فقط ، وإنما ينظر بعيدا الى المستقبل ، و ماذا يجب أن يعمل فيه .
إن الأعمال الحسنة بالرغم من أنها قد تبدو ضائعة في بادىء الرأي ، الا أنها باقية ، و ستعود الى صاحبها بصورة مضاعفة ، لذلك نجد القرآن الحكيم يقول ، عن الباقيات الصالحات ، " و خير مردا " أي أٍنها ترد إليك أضعافا مضاعفة بعد أن تزكو و تنمو .
[ و الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا و خير مردا ]فجزاؤه أفضل ، و عاقبته أحسن .
بلى إن كل فعل صالح تقوم به اليوم يصبح غدا جنات واسعة تعيش فيها باذن الله خالدا . حتى الكلمات التي يلهج بها اللسان ، وقد يستهين بقدرها المرء تصبح موادا أولية لبناء قصوره في الجنة .
جاء في حديث ماثور عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام ) عن جده الأكرم محمد ( صلى الله عليه وآله ) انه قال :
" لما أسري بي الى السماء دخلت الجنة فرأيت فيها قيعانا يقفا (1) و رأيت فيها ملائكة يبنون ، لبنة من ذهب و لبنة من فضة ، و ربما أمسكوا ، فقلت لهم : ما لكم ربما بنيــتم و ربما أمسكتم ؟ فقالوا : حتى تجيئنا النفقة ، فقلت لهم : وما نفقتكم ؟ قالوا :
قول المؤمن في الدنيا : سبحان الله و الحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، فاذا قال بنينا ، و إذا أمسك أمسكنا " (2)[ 77] ثم يبين بأن أولئك الذين يتعلقون باموال الدنيا ، و يزعمون بان سعيهم و عملهم ينبغي أن يكون من أجل الدنيا ، و من أجل الحصول على المال و الولد . ان هؤلاء على خطأ كبير ، لأن زينة الحياة الدنيا ليس من المؤكد الحصول عليها ، فقد يحصل الانسان عليها وقد لا يحصل .
ولو افترضنا أنه حصل عليها فليس من المضمون أن تكون رحمة ، بل قد تكون عذابا له ، اما في الدنيا أو في الآخرة . وأخيرا فان ما يحصل عليه الانسان قد يسعده في الدنيا ، و لكن هل الدنيا نهاية رحلة الانسان ؟ كلا ..
إذن عليه ان لا يحصر كل اهتمامه ، وكل سعيه من أجل الحصول على المال(1) أي اراضي بيضاء .
(2) تفسير نور الثقلين / ج 3 / ص 356.
و الولد ، كما عليه أن لا يتعلق بغير الله و يجعله إلها يعبده من دونه ، فان المال قد يصبح معبود الانسان ، كذلك الولد ، و العلم و الغنى .
وعموما إن على الانسان أن لا يفقد ذاته من أجل شيء ، أنى كان ذلك الشيء .
فاذا عشقت العلم لمجرد العلم ، و ليس لمنفعتك ولا لمنفعة الناس ، وإذا أحببت الفن للفن لا لمنفعتك ولا لمنفعة أحد ، وأي شيء في الحياة لو عشقته عشقا مجردا من دون أن تفكر في مدى منفعته لك أو لمجتمعك أو لقيمك ، فان ذلك لن يكون مجديا . لأن هذا الشيء سوف ينتهي ولن يعطيك شيئا ، بل سوف تخسر نفسك ، و تخسر آمالك و تطلعاتك .
نعم : العلم في حدود الايمان ، و الفن من أجل سعادتك و سعادة الناس ، و السلطة من أجل العدالة ، و الثروة من أجل العمارة ، و هكذا سائر أشياء الحياة الدنيا إن كانت من أجل القيم و في حدود القيم كانت نافعة لأننا آنئذ نحب تلك الأشياء لأننا نحب القيم ، أماإذا انعكست الآية وأردنا أن تكون القيم وراء الأشياء ، و تحولت الحياة الى شيء يعبد من دون الله ، فان هذا لن ينفعنا ، لا في الدنيا ولا في الأخرة ، يقول ربنا سبحانه :
[ أفرءيت الذي كفر بآياتنا لاوتين مالا و ولدا ]
في مقابل الباقيات الصالحات التي يدخرها الانسان لمستقبله ، هناك من يسعى و يدخر جهوده ليس من أجل الباقيات الصالحات ، و ليس من أجل الله ، ولا رسالته ، ولا من أجل المجتمع ، إنما لكي يصبح أكثر أموالا و أولادا .
و القرآن الكريم يقول : " أفرأيت الذي كفر " أي انظر و تدبر في عاقبة هذا الرجل الذي كفر بآياتنا . إن الانسان الذي يسعى من أجل المال و الولد في حدود الايمان بالله و في حدود القيم فلا بأس عليه ، أما الذي يكفر بالآيات من أجل المال و الولد و غرورا بهما فما عليه إلا ينتظر عاقبته ، و يبدو من الآية : إن الانسان يشعر في قرارة نفسه بالضعف ، و فطرته تدعوه الى أن يجبر هذا الضعف الذاتي بالايمان بالله ، وبآياته المبثوثة في الكون ، و المنزلة على النبي في الكتاب ، إلا ان الشيطان قد يضله عن هذا السبيلالحق ، و يغويه بالتمسك بالمال و الولد بزعم انهما يغنياه شيئا و يجبران ضعفه الذاتي ، ولكن هيهات .
هل يعلم هذا الانسان بأنه سيحصل على المال و الولد حتى يؤكد ذلك تأكيدا و يقول : " لأوتين مالا " بلام التأكيد و نونه ؟ كلا .. وأبسط دليل على عدم علم الانسان بالغيب هو أن يحاول كتابة قائمة تفصيلية لما سيعمله غدا ثم يحاول في اليوم الثاني بكلجهده أن يعمل كل الأعمال التي كتبها في برنامجه ، و لكنه سيجد نفسه قد فشل في تطبيق كثير من بنوده لأي سبب من الأسباب .. يقول الامام علي (ع) :
" عرفت الله بفسخ العزائم و نقض الهمم "
[ 78] [ أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا ]
إن ضمان تطبيق شيء لا يكون إلا عن طريق أمرين : اما العلم بالمستقبل ، واما قدرة الله ، ولكن الانسان الذي ليس لديه ضمانة من الله ولا علم له بالمستقبل كيف يعتمد على شيء غير موجود . جاء في حديث في سبب نزول الآية ما يلي :
عن أبي جعفر ( عليه السلام ) في قوله عز وجل : " أفرءيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا و ولدا " ( ان العاص بن وائل بن هشام القرشي ثم السهمي وهو أحد المستهزئين ، و كان الخباب بن الأرث على العاص ، بن وائل حق ، فأتاه يتقاضاه ، فقال له العاص : ألستم تزعمون ان في الجنة الذهب و الفضة و الحرير ؟ قال : بلى ، قال : فموعد ما بيني و بينك الجنة فوالله لأوتين فيها خيرا مما أوتيت في الدنيا ، يقول الله عز وجل : " أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول و نمد له من العذاب مدا و نرثه ما يقول و ياتينا فردا و اتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم و يكونون عليهم ضدا " و الضد القرين الذي يقرن به ) (1)[ 79] [ كلا سنكتب ما يقول ]
وأما ما يحصل عليه عمليا من نعم ومكاسب مادية في الحياة الدنيا ، فمن يضمن أنها ستكون مصدر سعادة له ، بل على العكس من ذلك قد تجره الى تعاسة و عذاب .
[ و نمد له من العذاب مدا ]
إن هذه النعم ليست سعادة بالنسبة إليه ، و إنما هو ذنب عجلت عقوبته ، كما جاء في الحديث وهو لا يشعر بذلك .
[ 80] [ ونرثه ما يقول و يأتينا فردا ]
معنى الآية - كما ذكروا - إن الله يرث ما يقوله الفرد عن المال و الأولاد ، و بتعبير آخر : يرث الله منه ما يعتمد عليه .
إن ما يحصل عليه من المال و الولد سيذهب عنه بعد حين ، و الذين كان لديهم أموال و أولاد ذهبوا عن أموالهم و أولادهم أيضا ، و لم يصحبوا معهم الى القبر سوى قطعتين من الكفن .
الله سبحانه هو الباقي وهو الذي يرث الأرض و من عليها ، فالأولاد والأموال لا(1) نور الثقلين / ج 3 / ص 356
تبقى له ولا هو يبقى لها ، و يوم القيامة يأتي وحده عاريا حافيا حاسرا ، لا يملك أي شيء " ويأتينا فردا " .
[ 81] [ إن البشر يبحث عن شيء أو شخص يعتمد عليه ، و يجبر به ضعفه الذاتي ، و يعالج به شعوره بالضعة و الذلة . فقد يتخذ المال و الأولاد جابرا لضعفه فيعتز بها ، و قد يبحث عن آلهة من أصنام بشرية أو حجرية - فيقول عنه ربنا :
[ و اتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا ]
هؤلاء بدورهم أتخذوا آلهة إنتموا إليها من أجل أن يكونوا أعزاء ، و أساسا إلانتمــاء الى جهة ما سواء كانت عشيرة ، أو حزبا ، أو تيارا سياسيا ، أو سلطة حاكمة ، أو ما أشبه ، إن لم يكن من أجل الله ، ومن أجل القيم و الرسالة ، فلابد أن تكون من أجل العزة الدنيوية ، ذلك ان الانسان حينما يشعر بنقصه الذاتي فيرى نفسه مهيئا ضعيفا يحاول الانتماء الى جهة معينة ، كان ينتمي الى تيار حزبي مثلا لكي يعطيه العزة التي يبحث عنها ، وهناك طائفة كبيرة من الناس - وللأسف - يسيرون على هذا النهج ، فهم بالاضافة الى أنهم لن يجدوا عندهم العزة ، فانهم سيكونون عليهم ضدا .
[ 82] [ كلا سيكفرون بعبادتهم و يكونون عليهم ضدا ]
آنئذ سيندمون ندما شديدا ، و يتحسرون على شبابهم الذي ضيعوه في خدمة هذا التجمع الزائف ، و قيادته الكافرة ، و يقولون : لقد اتبعناه و وفرنا له العزة و السلطة على حساب مصلحتنا ، و مصلحة امتنا ، و قيم رسالتنا ، ولم نحصل مقابل ذلك إلا على سخط الله من جهةو عداوة من انتمينا إليهم . وهذه النهاية المأساوية ليست مقصورة على يوم القيامة ، بل هي كثيرا ما تتحقق في الدنيا قبل الاخرة ، إن الطاغية الذي نتخذه من دون الله إلها ، تسمع له ، و تطيع أمره ، و تزعم انه عز لك ، إنه يكفر بعبادتك ولا يوفر الحماية لك ، بلإنه سيكون ضدك لأنه يعيش لنفسه فحسب ، وإذا خالفت مصالحه مصالحك فانه سوف يضر بك عرض الحائظ ، و كل تاريخ الطغاة شاهد حق على هذه الحقيقة ، و لعلك تقول : إني لا أعبده ، بل أطيعه . كلا .
إنك تعبده حين تسمع له ، و تطيع أمره ، و ما جوهر العبادة إلا الطاعة . جاء في حديث شريف في تفسير هذه الآية .
عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في قوله : " وإتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم و يكونون عليهم ضدا " يوم القيامة أي يكون هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ضدا يوم القيامة ، و يتبرؤون منهم ومن عبادتهم الى يومالقيامة ثم قال : ليس العباده هي السجود ولا الركوع ، وإنما هي طاعة الرجال ، من أطاع مخلوقا في معصية الخالق فقد عبده ، و قوله عز وجل : " إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا " قال : لما طغوا فيها ، وفي فتنتها ، وفي طاعتهم ، و مد لهم في طغيانهم و ضلالتهم ، أرسل عليهم شياطين الانس و الجن " تؤزهــم أزا " أ تنخسهم نخسا ، و تحضهم على طاعتهم و عبادتهم ، فقال الله عز وجل ": " فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا " أي في طغيانهم و فتنتهم و كفرهم " (1)