فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس

من مأمنه يؤتى الحذر
[ ياخذه عدو لي و عدو له ]

لماذا يربي الله موسى (ع) في بيت عدوه ؟

لأن الله سبحانه و تعالى يريد أن يقول للبشرية جميعا : أيها االبشر ! أنا خالقكم و أموركم بيدي ، فها أنا ذا أربي موسى في بيت فرعون عدوي وعدوه ، تحت عيني فرعون ، ثم اسلطه عليه ، وهذا دليل على أن قوة الله و قدرته قد تأتي من داخل قصور الطغاة ، و كما يقول المثل : ( من مأمنه يؤتى الحذر ) .


(1) كليات مفاتيح الجنان / ص 43.


[ و ألقيت عليك محبة مني ]

ألبس الله سبحانه موسى (ع) ثوب المحبة كما يلبس الانسان ثوبا ، بحيث ينجذب إليه و يحبه كل من يراه .


1 / في تنمية المواهب :

[ ولتصنع على عينى ]

أراد الله أن ينــمي مواهب موسى (ع) بصورة استثنائية تمهيدا لتحميله الرسالة ، و كذلك بالنسبة الى جميع الأنبياء (ع) حيث أن الله سبحانه يختار أنبياءه منذ طفولتهم فيعرضهم للامتحانات ، و ينمي مواهبهم بطرق معينة ، وهذا لا يخالف الفكرة الإسلامية حول : انالانبياء يتعرضون لامتحانات كما يتعرض غيرهم ، قال تعالى : " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " . (1)إن الله سبحانه و تعالى يعرض أنبياءه لامتحانات صعبة الى درجة لا يتحملها الانسان العادي ، واذا لم يتحملها النبي فلا يختاره ، و لكن مع ذلك هناك نعمة تسبق نعمة الامتحان ، و هي بناء النبي بناء استثنائيا استعدادا لتحميله مسؤوليات ضخمة في المستقبل ، و يمكن أن نضرب مثلا لهذه الحالة بالتدريب في الوحدات الخاصة في الجيش .

هؤلاء المنتمون الى هذه الوحدات يتعرضون لتدريب صعب و شاق لتنمو مواهبهم ، و تتدرب أجسادهم على الصعاب ، و لكن هل يكتفي المدرب بهذه(1) سورة البقرة / 124.


التدريبات الصعبة الشاقة ؟ كلا .. إنما يمتحنهم بعد ذلك امتحانا ، فاذا سقط أحدهم في الامتحان يسرح .

النبي كذلك يتعرض منذ نعومة أظفاره لصعوبات ، فعيسى (ع) تعرض لصعوبة ما ، حيث انه ولد من غير أب ، فاتهموا أمه الطاهرة مريم (ع) ، فانقذهما الله من هذه التهمة ، و ابراهيم (ع) ولد في وضع مشابه لوضع موسى (ع) ، حيث كان نمرود يقتل الأبناء و يستحيي النساء ،فولدته أمه في هذا الوضع و نجاه الله سبحانه ، و نبينا محمد (ص) تعرض منذ طفولته لليتم .


2 / في بيت فرعون :

[ 40] [ إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله ]حينما انقذ الله موسى من فرعون ، أنقذه من خطر مادي ، ولكن ينقذه هنا من خطر معنوي و نفسي ، ذلك هو تربيته بدون أم و أب ، فيفتقد الى الحنان ، و افتقاده الى حنان الوالدين قد يسبب له عقدة نفسية ، فيفقد السلامة النفسية الضرورية لاستقبال الوحي ، ولكن اللهقدر أن يحل هذه المشكلة .

أخذ فرعون هذا الطفل الصغير من بني إسرائيل فالقى الله محبته في قلبه ، ولكنه مع ذلك تجلد ، وقال : أيها الجلاد إضرب عنقه ، لانه عرف أن ملامحه هي ملامح بني إسرائيل ، فتدخلت زوحته آسية بنت مزاحم : " و قالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسىأن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون " (1) وقبل فرعون ترجي زوجته ، وبعث الى من حوله من المراضع فجئن ، ولكن موسى (ع) هذا الطفل الصغير أبى ، ان يرتضع من أي ثدي ، و هنا جاءت أخته التي أمرت من قبل أمه(1) سورة القصص /9 .


بأن تقص أثر التابوت ، و تمشي وراءه ، و كانت واقفة بباب فرعون حين بعث الى من حوله من المراضع ، فأدخلت و قالت : أني أعرف من يرضعه و يكفله لكم .


3 / العودة الى الأم :

[ فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن ]

تقر عين الأم بوجود طفلها و تطمئن ، و يستفيد الطفل من هذا الاطمئنان . و القرآن يشير هنا الى حنان الأمومة الضروري لتنمية مواهب الطفل ، لان الطفل لا يفهم شيئا آنئذ ، ولكن الأم وحدها هي التي تفهم مدى حنانها الى طفلها ، وان الطفل قرة عينها وان افتقادهيسبب حزنا لها .


4 / في محنة القتل :

مرة أخرى ينجي موسى من الخطر المعنوي فيقول :

[ و قتلت نفسا فنجيناك من الغم و فتناك فتونا ]

انقذه الله سبحانه و تعالى مرة أخرى من الموت ، ولكن الله لم ينقذه من الموت فقط ، بل انقذه ايضا من الغم ، حيث ان موسى (ع) بعد أن قضى في صراعه على القبطي ، اغتم بسبب هذه الفعلة ، و القلب المصاب بالغم لن يكون مستعدا لتلقي الرسالة ، فأنجاه الله من هذاالغم ، لكي يكون مستعدا لتلقي زخات الرسالة ، و كم نجانا الله وأنقذنا من أمثال هذا الغم ، الذي يسبب تراكمات في النفس ، و بالتالي عقدا نفسية تحجب الانسان عن فهم الرسالة .

[ فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى ]

أي بقي عشر سنين في مدين عند عمه شعيب ، ثم بعد انتهاء هذه السنوات العشر جاء على قدر .. يعني جاء و قد قدر الله مجيئه تقديرا .

ونحن كثير من أعمالنا نحسبها صدفة ، بينما هي اقدار من الله سبحانه ، و هكذا قدر لموسى أن يأتي بعد عشر سنوات ، وأن يتيه في الصحراء ، و تلد زوجته ، و يحتاج الى قبس من النار .. قدر له كل ذلك ، ثم جيء به لاستقبال الرسالة .

الأحداث هي التي تدفعك لان تختار طريقا ، قد يكون فيه خيرك ، فمثلا : بعض الناس قد لا توجد لديه رغبة أساسا في السياسة ، ولا يتدخل فيها ، لكن قد ينتمي ابنه الى حركة إسلامية ، فيطارده الأمن ، و يفتش عنه في بيته ، فيسبه الأمن هو و أهله ، فينتبه الأب و تنتبه الأم و الأخوة ، ثم قد ينتمون الى هذه الحركة و قد يصبحون قادة لها أو شهداء فيها .

إذا جاءك قدر من هذه الأقدار ، فاعرف بأن نعمة من الله سبحانه قد هبطت عليك ، وان الله يريد لك الجنة ، و يريد لك أن تكون ذا شأن ، فلا تغلقن الأبواب أمام الأقدار الخيرة ، ولا تمنع نفسك من بركات السماء .

ثم تاتي مرحلة التربية ، و يجب على الانسان أن يشكر مربيه الذي رباه على الخير و التقوى و الاستقامة و . . و .. منذ طفولته المبكرة ، و يجب على الانسان أن يشكر ربه الذي وفر له مثل هؤلاء المربين الذين يربونه على الصفات الحسنة ، و شكر الله على التربية الفاضلة التي تلقيتها هو أن تستجيب للرسالة التي تهبط عليك .


التبربية المثلى :

[ 41] [ و اصطنعتك لنفسي ]

خلق الله الانسان لنفسه ، و خلق الأشياء للانسان ، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي : [ عبدي ! خلقت الأشياء لأجلك ، و خلقتك لأجلي ، و هبتك الدنيا بالاحسان و الآخرة بالايمان ] (1)خلق الله الانسان ليكون منه خلفاؤه في الأرض ، و سخر له كل شيء من الطبيعة ، و كل شيء منه ، العلم و الارادة و العقل ، ولكن كثير من الناس لا يشكرون ربهم ، ولا يعرفون منزلتهم فيهبطون الى حضيض الأنعام ، بل أضل سبيلا : " إن هم إلا كالأنعام بل هم أضلسبيلا " (2) و الاصطناع الرباني أكثر بروزا عند الأنبياء ، لان الله يوفر للأنبياء التربية المثلى ، و يولدون من آباء و أمهات مؤمنين ، فهم في قمة الكمال و الصلاح ، ولولا صلاح الأبوين لما اختار الله سبحانه و تعالى من أولادهم أنبياء .

جاء في الآية الكريمة حول نبينا محمد (ًص) : " و تقلبك في الساجدين " (3)فسرت هذه الآية إن النبي كان يتقلب في صلب الآباء و الامهات الساجدين لله سبحانه ، وأن جميع آباء النبي مؤمنين و صالحين .

[ 42] [ اذهب أنت و أخوك بآياتي ولاتنيا في ذكرى ]

بعد أن وفرنا لك وسائل و ظروف الاستجابة للرسالة ، من وسائل مادية و معنوية ، و هديناك الى الرسالة ، احمل أنت و أخوك الرسالة بقوة ولا تضعفا ولا تهنا في تبليغها .


ما هو الذكر ؟

قد يكون الذكر هو الرسالة ، و قد يكون الذكر هو ذكر الله الذي يربي نفس(1) مشارق أنوار اليقين .

(2) سورة الفرقان / 44 .

(3) سورة الشعراء / 219 .


الانسان لتحمل صعوبات تبليغ الرسالة .. فأنت حين تبلغ الرسالة تتعرض لمجموعة من الصعاب و المشاكل ، و تجاوز تلك الصعاب و المشاكل لا يكون إلا بذكر الله سبحانه ، فبذكر الله يطمئن قلبك ، و تشتد إرادتك ، لذلك على الانسان الذي يحمل الرسالة ألا يني ولا يفترعن ذكر الله أبدا ، كي ينصره الله على المشاكل .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس