فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس

وما أعجلك عن قومك يا موسى
هدى من الآيات

ذهــب نبــي الله موسى (ع) يناجي ربه ، فما عاد الا وقد حصلت الردة في قومه ، و في الوقت الذي يدلل الأمر على أهمية حضور القيادة في المجتمع لتقاوم محاولات التحريف من قبل الانتهازيين ، تشير الآيات الى أن علاقة بني اسرائيل بموسى (ع) كانت علاقة بشخصه لابرسالته ، مما أدى لانحرافهم بعد غيابه عنهم و تمردهم على خليفته هارون ، و كان من الضروري تغيير هذه العلاقة ، فأمر الله بمد غيبة موسى لهذا الهدف .

و قد انتقد النبي موسى (ع) هذا الوضع ، و حذرهم من غضب الله أن يحل عليهم ، و تساءل عن سبب هذه الردة .. و حينما حاول بنو اسرائيل التبرير احتج عليهم الله بأنه اعطاهم عقولا يميزون بها و كان ذلك أبرز حجة عليهم ، أما الحجة الثانية فكان شخص هارون وصي موسىالذي نصحهم و لكنهم لم يسمعوا له .

بينات من الآيات :

[ 83] [ وما أعجلك عن قومك يا موسى ]

لماذا أسرعت الي و تركتهم وراءك ؟

[ 84] [ قال هم أولاء على أثري ]

أن قومي لا يزالون يقتفون أثري ، و يسيرون على نهجي .

[ و عجلت إليك رب لترضى ]

دفعني الى العجلة حبي لك و شوقي للقائك ، و هذه الآية توحي بمدى حب موسى لربه ، حيث بادر الى لقاء ربه ، و كان على عجل لنيل رضاه سبحانه . و هكذا حال من ذاق حلاوة مناجاة ربه ، و أنس بقربه ، و تجلى الرب لقلبه ، فمشى في ارجاءه الوجل ، و اهتزت جنبات فؤاده بنور الشوق ، فوجد من نور خالقه ما جذبه الى ما يقربه اليه ، ولاح له من جمال بارئه ما أنساه كل جمال ..

لذلك كان رسول الله (ص) يجلس في محراب الصلاة على أشد من الجمر شوقا الى ميعاد اللقاء ، فاذا حان وقت الصلاة هتف ببلال المؤذن : أرحنا يا بلال بالصلاة .

و هكذا المؤمنون الصادقون يدعون الرب ليتجلى لقلوبهم بنور معرفته ، فيكونون :

" ممن دأبهم الارتياح اليك و الحنين ، و دهرهم الزفرة و الأنين ، جباههم ساجدة لعظمتك ، و عيونهم ساهرة في خدمتك ، و دموعهم سائلة من خشيتك ، و قلوبهم متعلقة بمحبتك ، و أفئدتهم منخلعة من مهابتك ..."(1)(1) الصحيفة السجادية / ص 249.


و يكررون أبدا :

" يا من أنوار قدسه لابصار محبيه رائقة ، و سبحات وجهه لقلوب عارفيه شائقة ، يا منى قلوب المشتاقين ، و يا غاية آمال المحبين ! " (!)[ 85] و كان غياب موسى قد ترك فرصة مناسبة للآنتهازيين أن يسعوا الى مصالحهم .

[ قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك و أضلهم السامري ]

يبدو أن السامري كان منافقا ، و كان يتحين الفرص للقفز الى أريكة الحكم ، و كانت مجموعة من الانتهازيين و ضعفاء النفوس ملتفين حوله ، و لعلهم كانوا يتآمرون مع بعضهم ضد القيادة الرسالية .

و الآن حيث تأخر موسى ( عليه السلام ) و ظنوا أنه قد أدركته الوجفاة ، بادروا الى الفتنة ، لكي يبعدوا خليفة موسى الشرعي هارون ( عليه السلام ) عن السلطة ، فأشاع السامري فيهم أن موسى قد مات ، و صنع لهم العجل كرمز لسلطته ، و أمرهم بعبادته ، مستغلا حب بني إسرائيل للذهب و رواسب الشرك عندهم ، أو ليسوا قد طالبوا نبيهم بأن يجعل لهم إلها حين مروا بقوم يعبدون الصنم ؟

و لعل ذلك كان ضرورة حضارية ، حيث أن موسى ( عليه السلام ) قضى على جيوب الفساد عند بني اسرائيل بعد هذه الفتنة ، و لو لم تقع الفتنة فربما كان السامري و قومه ينجحون في مؤامرتهم بعد وفاة موسى ( عليه السلام ) .

أما الآن فقــد افتضــح السامري ، و عاد موسى بكل ما تميز به من الحزم و الشدة في الله .


(1) المصدر


[ 86] [ فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ]

غضبان عليهم ، أسفا مما حدث .

[ قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا ]

كالرجوع الى الأرض المقدسة ، و الجانب الأيمن من الطور ، و البركة ، و أن يقيم حضارتكم إن أنتم استقمتم ؟!

[ أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي ]بالطبع لم يكن بنو إسرائيل يتحدون الله حتى ينزل عليهم غضبه ، و لكن إتباعهم السامري هو الاسترسال مع الظروف و الشهوات ، و هذا يدل على أن البشر بأنفسهم و بمحض إرادتهم يختارون نوع واقعهم و مصيرهم ، و الذي يتجسد هنا بغضب الله .

[ 87] [ قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ]

أي لم ننحرف بكامل وعينا ، و بما نملكه من عقل و ارادة .

[ و لكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها ]

هذا الانحراف جاء من غيرنا ، فالسامري هو الذي جمع لنا الذهب و الفضة التي جمعناها من القوم و حملناها وصنع لنا بها عجلا ، و الواقع انهم حاولوا بذلك تبرير واقعهم الفاسد و رفع المسؤولية عن أنفسهم .

[ فكذلك ألقى السامري ]

رأس الفئة الانتهازية التي عادة ما تكون موجودة في المجتمعات ، و الآية الآتية تشــير الى أن المتورط في عملية الاضلال ليس السامري و حده ، بل كانوا فئة متآمرة ، و لعل معنى القى السامري : انه القى في روعهم و خدعهم ، و قالوا معناه : القى زينة القوم في النار ، أو هو ايضا القى زينته فيها .

[ 88] [ فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار ]

جسدا أٍي ميتا لا حياة فيه ، و الخور هو صوت الثور .

و هناك أقوال في العجل ، فبعض المفسرين قالوا : ان العجل كان يتحرك لأن السامري أخذ قبضة من أثر جبرائيل (ع) الذي جاء راكبا على فرس ليغري فرعون و قومه حين رفضت خيولهم دخول البحر ، و كان التراب الذي يدوس عليه فرس جبرائيل يتحرك ، و الذي قام به السامري أن جعل هذا التراب في جسد العجل ، فأخذ يتحرك و يخور بسببه .

و قال بعض المفسرين : ان العجل كان في مكان بحيث يظهر رأسه فقط للحاضرين ، ثم يأتي شخص من وراء العجل و ينفخ في دبره فيخرج خوار من فمه ، أو أنه صنع بحيث يصوت اذا جرت فيه الرياح .

[ فقالوا هذا إلهكم و إله موسى فنسي ]

[ 89] ولكن هل كانت أعذار بني اسرائيل و تبريراتهم مقبولة عند الله ؟ كلا .. لقد أجابهم بأن هناك حجتان عليكم تبطل ادعاءكم :

اولا : العقل .. فأنتم عقلاء تستطيعون أن تهتدوا الى الحق لو تفكرتم ..

[ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ]فليس من صفات الاله : أنه لا حراك به ، ولا ارادة يضر بها أو ينفع .

[ 90] ثانيا : حجة القيادة الربانية .

[ و لقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني و أطيعوا أمري ]لقد دعاهم هارون الى طاعته ، بصفته القيادة الشرعية ، و أوضح لهم أن ما يدعيه السامري و جماعته باطل .

ومن الآية نستوحي بأن الصراع كان قائما على قيادة المجتمع ، بين الخط الرسالي الذي يمثله موسى و هارون (ع) ، و بين الخط الجاهلي أصحاب الردة الى الجاهلية ، و لعل هذا الفريق كانوا هم قيادات بني إسرائيل قبل بعثة موسى فيهم ، كما كانت قبيلة بني أمية قبل الاسلام ، فتآمرت للوصول الى السلطة بعد غياب الرسول حتى تسنى لها ذلك على عهد معاوية بن أبي سفيان .

[ 91] [ قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ]يبدو من الآية ان تعلق بني اسرائيل لم يكن بالرسالة بقدر ما كان بشخص موسى (ع) ، فقد كان هارون أخاه من أبيه و أمه ، و كان امتدادا له في المجتمع ، و الوصي عليهم من بعده ، و لكنهم لم يستجيبوا له ، عندما دعاهم لطاعته ، و قرروا البقاء على الانحراف حتى يعود اليهم موسى (ع) .

و كانت هذه الفتنة مفيدة لبني إسرائيل ، فقد أفرزت الفئات التي لا تزال تمثل رواسب الجاهلية و الفئات المصلحية عن الأخرى المؤمنة الصادقة في ايمانها . أما الفائدة الثانية فهي التحصن ضد الانحرافات الفكرية و الاجتماعية التي قد يتعرضون لها في المستقبل و ذلك بعد غياب موسى عنهم .

ان من طبيعة البشر هي التمحور حول الأشياء دون القيم ، و ارتفاع الانسان الى مستوى الايمان بالغيب و عبادة الله تعالى متجردا عن الأهواء و عن الضغوط المختلفة ، يعتبر قمة الحضارة الانسانية . ذلك لأنه يعني ان الانسان قد أنهى صراعه الداخلي لصالح عقله ، ويتحدى كل الشهوات المحيطة بقلبه ، و كل الضغوطات المحيطة به في مجتمعه ، حتى يخلص عبادته لله ، ولا يهبط الى مستوى الشيئية في الحياة ، و هذا الأمر يحتاج الى مزيد من التوجيه و التربية .

ولو ترك الانسان و طبعه ، لهبط الى مستوى عبادة الأصنام ، لأنها تعني التفاف الانسان حول الأشياء ، و الخضوع لسلبيات الحياة و ضغوطها ، بينما الايمان بالله يعني الارتفاع عن كل ذلك و النظر الى الأشياء بأنها مخلوقات لله .

و قد هبط بنو اسرائيل الى مستوى عبادة الأشياء حينما غاب عنهم نبيهم موسى (ع) ، ثم هداهم الله اليه بعد الضلالة ، وفي ذلك عبر عظيمة .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس