فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
بينات من الآيات
[ 21] من العوامل التي تبعد الانسان عن إحساسه بالمسؤولية و تعطيه مبررا لتنصله عنها في الحياة هو الاعتقاد بإله غير الله ، أنى كانت صورة ذلك الاله ، و أنى كان إسمه .
بل إن تعلق الانسان بأي شيء تعلقا ذاتيا بعيدا عن الله ، يدعوه الى أن يتقرب الى ذلك الشيء و يجعله واسطة بينه و بين الله في زعمه ، لا لشيء إلا لكي يتخلص من ثقل المسؤولية ، ذلك لأنه من الصعب جدا على الانسان الاحساس بانه مسؤول أمام قوة قاهرة عليمة حكيمة محيطة به ، تجازيه على كل صغيرة و كبيرة تبدر منه ، لذلك فهو يحاول - جهده - أن يتهرب من هذه المسؤولية ، و لولا إحساس المؤمنين برحمة الله لما استطاع أي منهم ان يتحمل ضغط المسؤولية على قلبه .
و القرآن الحكيم يؤكد - المرة تلو الأخرى - على عدم وجود اي شيء أو شخص يمكنه أن يقف أمام قدرة الله ، و ذلك لكي يواجه الانسان ربه عاريا عن كل التبريرات و الحجج الواهية ، و بالتالي يصبح جديا في حياته ، و يترك اللهو و اللعب ، و من ثم يتحمل هذا الحمل العظيم و هو امانة المسؤولية التي أبت السماوات و الأرض و الجبال أن يحملنها ، و حملها الانسان ، إنه كان ظلوما جهولا .
و تؤكد هذه الآية إن الاله الحقيقي هو الذي يستطيع أن يحيي الأموات ، فهل هذه الآلهة المزعومة تستطيع ذلك ؟ أم هل يقدر أحد ان يدعي ذلك ؟ كلا بل تراهم يعترفون في لحظات الحاجة ، عن مدى ضعفهم و استكانتهم ، حتى إن نمرود الذي ادعى - مرة - إنه يحيي و يميت ،إنهار عندما رأى النيران الملتهبة - التي عمل جلاوزته المستحيل من أجل تأجيجها و تهيئتها لحرق شخص و احد - قد خمدت و تحولت الى برد و سلام على إبراهيم ، فقال : من أراد أن يتخذ إلها فليتخذ مثل إله إبراهيم ، و كذلك بهت حينما حاج إبراهيم في ربه ، و ذلك عندماقال له : إن الله يأتي بالشمس من المشرق فات به من المغرب .
كل شيء في السماء و الأرض من أًصغر شيء الى أكبر شيء ، دليل على وحدة الربوبية في الوجود ، حيث إن الانسجام و التناغم الدقيق الذي نراه فيما بين الأنظمة المختلفة التي تحكم الكون دليل وجود مدبر له ، فالنظام الذي يدير أضخم المجرات هو نفس النظام الذي يديرالذرة الصغيرة المتواضعة .
يقــول الامام علي (ع) : " ما دلتك الدلالة إلا على إن فاطر النملة هو فاطر النخلة " ، بلى لأن النظام الذي يحكم الدورة الحياتية في جسد النملة هو نفس النظام الذي يحكم إنتقال الماء و الهواء و الأملاح في هيكل النخلة .
[ أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ]
و هكذا تبين هذه الأية فكرة و حدانية الله سبحانه و تعالى ، في حياتنا العملية و قد سبق أن قلنا : إن توحيد الله سبحانه و تعالى ، توحيدا حقيقيا هو أحد أبرز العوامل التي تساعد الانسان على تحمل المسؤولية في الحياة ، و هو ما تسعى الى ترسيخه سورة الأنبياء، كما إن الاعتقاد بآلهة من دون الله هو أحد أبرز التبريرات التي تحول دون تحمل المسؤولية .
[ 22] [ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ]
لو كان في السماوات و الأرض آلهة غير الله سبحانه و تعالى ، إذا لاضطرب النظام فيهما ، لأن تعدد السلطة يسبب فساد المملكة و اختلال أمورها ، جاء في حديث نجده في كتاب التوحيد باسناده إلى هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبد الله (ع) و كان من قول أبيعبد الله له : " لا يخلو قولك : إنهما إثنان من أن يكونا قديمين قويين أو يكونا ضعيفين أو يكون أحدهما قويا و الآخر ضعيفا ، فإن كانا قويين فلم لا يدفع واحد منهما صاحبه و ينفرد بالتدبير ، و إن زعمت إن أحدهما قوي و الآخر ضعيف ثبت إنه واحد كما نقول ، للعجز الظاهر في الثاني ، و إن قلت : إنهما إثنان لا يخلو من أن يكونا متفقين من كل جهة أو متفرقين من كل جهة ، فلما رأينا الخلق منتظما ، و الفلك جاريا ، و اختلاف الليل و النهار و الشمس و القمر دل صحة الأمر و التدبير و ائتلاف الأمر إن المدبر واحد ، ثميلزمك إن ادعيت إثنين فلابد من فرجة بينهما حتى يكونا إثنين ، فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما ، فيلزمك ثلاثة ، فان ادعيت ثلاثة لزمك ما قلنا في الاثنين حتى يكون بينهما فرجتان فيكون خمسا ، ثم يتناهى في العدد الى مالا نهاية في الكثرة " . (1)
هذا من الناحية العقلية ، أما من الناحية النفسية فان فكرة تعدد الآلهة جاءت لتعكس حالة التبرير و الصراع عند البشر ، ذلك إن الأساطير التي تتحدث عن تعدد الآلهة وإن كانت خرافة و بعيدة عن الحق و الحقيقة إلا إنها تمثل إنعكاسا لنفسية واضعيها و المعتقدين بها ، لذلك فباستطاعتنا أن نكتشف من خلالها طبيعة البشر عبر(1) نور الثقلين / ج 3 / ص 417 - 418 .
الآزمنة المختلفة ، و نصل الى قناعة بأنه و إن تغيرت صورة الانسان و أشكال حياته فان طبيعته لم و لن تتغير .
و الأساطير دائما تقص علينا قصص الآلهة المزعومة و هي تقاتل بعضها أو لا أقل تتنافس مع بعضها في السلطة و تقر بأن كل إله له تفكير و إرادة يختلف تماما عن شركائه الآخرين .
مثلا يزعم المجوس و جود إلهين كبيرين هما : ( أهور مردا ) إله الخير و ( أهريمــن ) إله الشر ، ( أهريمن ) هذا خلق الشر ، فخلق ( أهور مردا ) الخير مضادا له ، و الصراع قائما بينهما . وفي بعض المذاهب المسيحية المنحرفة نرى هذه الأسطورة أيضا ، و هي إن الأب يريد أن يعذب الناس ، فيأتي الإبن و يشفع لهم رغما عن أبيه !
و في الأساطير اليونانية القديمة كثيرا ما نقرأ عن معارك طاحنة تجري بين الآلهة في السماء . ومن هنا نعرف إن فكرة تعدد الآلهة نابعة من حالة الفرار عن المسؤولية و البحث عن ملجأ موهوم يخلص الفرد من ثقل الجزاء ، و إن الزعم بتعدد الآلهة يعكس حالة الصراع الداخلي بين الشهوات و العقل و يأتي لتبرير الشهوات التي تأمر بها النفس الأمارة أمام العقل الناهي عنها أو النفس اللوامة .
إن كل ذلك دليل على إنه إذا كان الآلهة متسالمين مع بعضهم البعض إذا لم تكن هذه الحاجة المزعومة الى الآلهة المتعددة ، لان إحتياج الانسان المزعوم للاعتقاد بتعدد الآلهة ينعدم آنئذ .
لذلك نــرى القــرآن الحكيم يبين بأن فكرة تعدد الآلهة المنعكسة عن تناقض الذات ، و التي تعتقد بأن في السماوات و الأرضين آلهة متصارعة إنما هي فكرة خاطئة لأن وجود سلطات متصارعة في الكون يؤدي لفساد و اختلال نظام الموجودات .
[ فسبحان الله رب العرش عما يصفون ]
رب العرش رمز لاله السماوات و الأرض و كل شيء ، و العرش يعني القدرة و الهيمنة ، و ليس هو مكان يجلس عليه ربنا سبحانه و تعالى ، و لعل هذه الخاتمة البليغة توحي بأن عدم معرفة الله هو السبب لتصور شريك له ، إذ أن الزعم بوجود شريك للرب دليل على جهل صاحبه بأن الله سبحانه هو الملك الجبار الذي لا يغلب سلطانه ، ولا يمكن الفرار من حكومته .
[ 23] و دليل قدرة الله المطلقة و سلطانه الشامل العظيم إنه فوق السؤال ، و إنه لا احد يخرج عن إطار المسؤولية أمامه :
[ لا يسأل عما يفعل و هم يسألون ]
[ 24] [ أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم ]
كما إننا نأتي بالبرهان و الدليل على إلوهية الله ، فعليكم أيها المشركون أن تأتوا ببرهان و دليل على إلوهية آلهتكم . و إن هذه الآية توحي بفكرة هامة وهي : إن الذين يدعون وجود إله غير الله سبحانه و تعالى ، إنما يزعمون ذلك إنطلاقا من أهواء نفسية يبررونبها عدم إلتزامهم بمسؤولياتهم أمام الله ، فاذا طالبتم ببرهان عقلي أو حجة منطقية فسيعجزون عن ذلك و تتبخر دعاويهم ، حيث لا تصمد ظلمات أنفسهم أمام وهج الحقيقة .
[ هذا ذكر من معى و ذكر من قبلى ]
هذه ليست فكرة جديدة موضوعة في رسالة السماء ، فكل الرسالات الالهية تؤكد على وحدانية الله .
و من عوامل الضلالة النفسية ، إحساس الانسان بضرورة التوافق الاجتماعي ، و القــرآن الحكيم يذكرنا هنا - وفي آيات عديدة - بأن كثرة الضالين ليست دليل صدقهم ، بل الحق المدعم بالبرهان العلمي هو المقياس ..
[ بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون ]
[ 25] واذا كان الناس في بلد ( مثل مكة يوم نزلت فيها هذه الآيات ) يشركون بالله ، فان هؤلاء هم خط الضلالة ، وفي مقابلهم صراط الهدى اقدر و أعمق جذورا .
[ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه إله إلا أنا فاعبدون ]إن رسالات الله لا تختلف في فكرة التوحيد ، و ما نراه في بعض الديانات من تعدد الآلهة إنما هو نتيجة التشويه ، و التحريف الذي طرأ عليها، و إلا فان اليهودية الحقيقية و المسيحية الأصيلة و كل ما سبقها من الديانات إنما هي كالإسلام تدعو الى توحيد الله ، وعدم عبادة غيره بأي حال من الأحوال ، و بأية صورة من الصور ، و سواء بشكل مباشر أو غير مباشر .