فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
بينات من الآيات
[ 30] [ أو لم ير الذين كفروا أن السموات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما ]
أي كانتا متصلتين ففصلهما الله عن بعضهما ، كيف كانت السماوات و الأرض متصلة ففصلت ، ( رتقا ثم فتقا ) ؟
و الجواب :
أولا : لقد كانت المادة الأولى التي خلقها الله سبحانه ، و كان عليها عرش قدرته و سلطانه ، ذات كتلة شديدة التركيز ، فأحدث الرب فيها انفجارا هائلا ، لا يزال صداه منتشرا في أطراف الفضاء برغم مرور (15 ) مليار سنة عليه . كما تقول نظريات العلم الحديث ، وتضيف : إن الكون لا يزال في اتساع ، ولا تزال أجهزة التلسكوب التي تغور بنا في عمق الفضاء الرحيب ، تكشف لنا عن مجرات ناشئة أو هي في طور الخلق .
وإن نظرة علمية الى هذه الحقائق كفيلة بأن تبلور في نفوسنا فطرة الإيمان .
ثانيا : وآية واضحة من تجليات هذه الحقيقة ، نراها في ظاهرة الأمطار ، كيف كانت السماء رتقا لا تمطر و كيف كانت الأرض رتقا لا تنبت ففتقهما الرب . (1)وهكذا يخرج الله الخبء في السماوات و الأرض ، و يفتق ما رتق من الأشياء باستخراج كنوزها ، و استظهار مكنونها ، سبحانه .
إذن فالحياة ليست لعبا ولا لهوا كما يزعمون ، بل لكل شيء هدف ، و على الانسان أن يشخص هدفه و يسعى نحوه .
[ و جعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ]
لقد تم خلق الكون بالفتق بعد الرتق ، و الفصل بعد الوصل ، أما وجود الحياة فوق الأرض فتم عن طريق الماء ، و هذه هي الأخرى من أحدث النظريات العلمية ، و الماء يشكل ( 70% ) من وجود الانسان ، و بالذات من وجود المخ الذي تتجلى فيه الحياة بأبرز صورها .
[ 31] [ و جعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم ]
تقوم الجبال بدور الرواسي و هي الثقل الذي يثبت الأرض كما تثبت المرساة السفينة .
إن الجبال أشبه ما تكون بدرع واقية ، تلف حول الأرض ومن أعماقها لتحافظ على توازنها :
أولا : في مواجهة الرياح و العواصف التي تتعرض لها الأرض .
ثانيا : بمقاومة الزلازل العاتية التي يتعرض لها كوكبنا بسبب ضغط الغارات التي في جوفها .
(1) انظر نور الثقلين / ج 3 / ص 424 - 426 .
ثالثا : لتخفيف أثر جاذبية القمر على اليابسة كما تؤثر على مياه البحر .
أرأيت كيف وضع الله هذه الجبال في مواقعها ، و كيف ربطها ببعضها في دقة و متانة ، و كيف ألزمها مواضعها ؟ فهل لك أن تختار لنفسك اللعب و اللهو .. و تزعم أن لا هدف وراء حياتك ؟
[ وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ]
و بين هذه الجبال طرق يتحرك الناس عبرها من مكان لمكان ، و يتفاعل أهل كل طرف مع الآخرين ، و لهذه الطرق فائدتان :
الاولى : الاهتداء من خلالها الى الأهداف و الأماكن التي ينشدها الانسان .
الثانية : السير عبرها و الاهتداء بها الى معرفة الله عن طريق التفكر في الجبال التي تحفها . و كلمة " لعلهم يهتدون " تحتمل المعنيين معا .
[ 32] [ و جعلنا السماء سقفا محفوظا ]
حينما ننظر الى السماء سواء نظرة بدائية كما كان ينظر إليها آباؤنا قبل ألف عام ، أو نظرة علمية كما يراها العالم الفلكي اليوم ، فاننا نرى الأجرام الكثيرة تسبح فيها صغيرة و كبيرة ، وبعضها ذو خطر علينا فمن الذي حفظنا من هذه الأخطار ؟!
إن البدوي في الصحراء عندما يرى النيران في السماء ليلا يسميها شهبا ، أما عالم الفلك فيعرف بانها قذائف ضخمة ، لولا الغلاف الواقي حول الأرض لدمرت الأرض تدميرا ، فمن الذي جعل السماء سقفا محفوظا غير الله ؟!
ففي كل يوم يتوجه عشرون مليون جرم الى الأرض بسرعة خاطفة ، تبلغ حوالي ( 50 ) كيلو مترا في الثانية ، و لولا السقف المحفوظ الذي يحيط بالأرض لكانت الصخرة الصغيرة منها و التي تبلغ حجمها واحد من ألف جزء من الغرام ، ذات أثر هدام بسبب سرعتها الفائقة التي تبلغ سرعة نواة القنبلة الذرية ، كيف وان بعضها يبلغ قطرها عشرات الكيلو مترات ؟!
و لقد حفظ الله - برحمته - الكرة الارضية منها بالغلاف الواقي المكون من الغازات التي تذوب أو تبخر ما يصل إليها من هذه الأجرام الخطيرة .
كما تتعرض الأرض لأمواج هائلة من الأشعة المضرة ، سواء منها تلك التي تبعثها الشمس أو تقذفها النجوم الأخرى ، فيقوم الغلاف الواقي بدور المصفاة حيث تأذن لما ينفع منها الأرض بالمرور من خلالها و تمنع القسم الخطير منها .. و لو انخرق هذا الغلاف ، بقدر كيلو متر واحد ، لكانت آثار الأشعة الكونية على الأرض مدمرة .
أو ليس الحكمة الالهية مشهودة من وراء هذا السقف المحفوظ ؟ أو كان خلق السماوات و الأرض لعبا ؟! سبحان الله عما يصفون .
إن الغلاف الواقي يقوم أيضا بحفظ حرارة الأرض على مقياس معين ينفع الناس و الأحياء ، و لولاه ، لكانت أمواج الحرارة تحرق الرطب و اليابس . كما إنه يقوم أيضا بادخار كميات من المياه المتبخرة لنقلها من المحيطات الكبيرة الى الصحارى .. أو ليس كل ذلك شاهد صدق ، على إن الله لم يخلق الحياة عبثا ؟ سبحانه . (1)[ و هم عن آياتها معرضون ]
(1) راجع تفسير " نمونه " / ج 13 / ص 400 - 402 .
فبالرغم من كل هذه الآيات التي بثها الله في السماء ، فان الناس يعرضون عنهــا ، لا لأنهم لم يزودوا بالبصيرة الكافية لوعيها ، و لكن لانهم يعرضون عنها تعمدا .
[ 33] [ و هو الذي خلق الليل و النهار ]
و هذه الآية تشير الى الزمن ، و لقد وصل العلماء الى صنع ساعة تقيس الزمن بدقة فائقة تصل الى واحد من ألفي جزء من الثانية ، و مقياس الليل و النهار الزمني لا يتغير ولا بمقدار جزء من هذه الألفين أو أقل ، و ليس ذلك إلا دليلا على إن خلق الكون لم يكن عبثا، و هكذا يجب أن تكون حياتنا قائمة على أساس الدقة و الجدية ، و تكييف النفس مع حقائق الحياة .
إن جوهر الحق و المسؤولية في الحياة هو البحث عن الهدف ، و السعي الحثيث نحوه .
[ و الشمس و القمر كل في فلك يسبحون ]
هما يسبحان و يتحركان و البشر أيضا يتحرك ، ولكن لابد أن تكون حركته ضمــن إطار و خطة من أجل الوصول الى شيء ، لأن الحركة من دون هدف لعب و لهو .
سنة الموت :
و تتجلى جدية الحياة ، و انها ليست لعبا و لهوا ، في أمرين : الموت و الابتلاء . و لقد جعل الله الموت حتما على البشر :
[ 34] [ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون ]فكل الناس ميتون ، و لعل الأدب القرآني السامي يذكر هنا ضمير المخاطب ليجعلنا جميعا في جو رهيب بحيث نشعر بمرارة النهاية لكي لا نلعب ولا نلهوف في الحياة .
و ما دام الرسول و هو أكرم الخلق على الله قد مات فهل يخلد أحد بعده ؟!
[ 35] [ كل نفس ذائقة الموت ]
و تعبير ذائقة يقرب المعنى للذهن أكثر ، إذ يصور الموت و كأنه شربة يذوقها الجميع ، لكي نتحسس بمرارة الموت عن طريق التذكر المستمر له ، و لعل الاية توحي بأنه ليس هناك إنسان إلا و يتحسس الموت بوعي تام ، حتى لو كان الموت قد وافاه أثناء نومه .
بلى لابد أن نتذوق جميعا كأس الموت غصة بعد غصة ، أفلا نعتبر بمن مضى منا ؟ ومن لم يتعظ بهذه النهاية الرهيبة فبم - يا ترى - يعتبر ؟ لقد قال أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - يوما وقد تبع جنازة فسمع رجلا يضحك : " كأن الموت فيها على غيرنا كتب ، وكأن الحق فيها على غيرنا و جب ، و كأن الذي نسمع عن الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون ، نواريهم أجداثهم ، و نأكل تراثهم ، كأنا مخلدون بعدهم ، وقد نسينا كل واعظة ورمينا بكل جائحة " . (1)[ و نبلوكم بالشر و الخير فتنة وإلينا ترجعون ]
الخير أفضل من الشر ، و لكن القرآن يأتي بذكر الشر قبل الخير ليبين لنا بأننا محكومون بارادة الله ، فلنتكيف مع هذه الارادة . و لكي نعي حقيقة هامة تبين(1) نور الثقلين / ج 3 / ص 428 . و في الأصل " نريهم ولعله خطأ مطبعي ، و االجائحة : النازلة و الشدة .
الآيات الوجه المشتركة لظواهر الحياة المختلفة ، فمع أن الشر يختلف عن الخير في ظاهره ، إلا انهما يلتقيان في نقطة واحدة هي إنهما لبلاء الانسان حيث يتقلب البشر بين الخير و الشر ، بين العافية و المرض ، بين الغنى و الفقر ، و الأمن و الخــوف و .. و .. ولا حيلة له فيها . فهل رأيت مريضا يحب الاستمرار في زوبعة الألم ، أم هل صادفت فقيرا يستمرىء البقاء في سواد الفقر ، أو خائفا لا يريد التخلص من ضائقــة الخوف ؟ ، ولكن تدبير الله المحيط بنا يقلبنا بين الشر و الخير ليفتننا بهما ، ثم يبعثنا إليه ليحاسبنا ، أفلا نوقظ أنفسنا من نومة الغافلين ؟! لكي لا نتخذ الحياة لهوا و لعبا .
و مادامت نهاية الانسان الى الله ، فهو مسؤول أن يجير كل الظروف ، خيرها و شرها ، في صالح الهدف الأسمى ، و يفكر في المستقبل بدل أن يتأثر سلبا بالظرف الذي يعيشه خيرا أو شرا تأثرا آنيا ، فيطغى بسبب الخير ، أو ينهزم و ينحرف بسبب الشر ، و هذه من طبيعة الانسان فهو ينسى أهدافه بسبب ظروفه المحيط به .
ولا ريب إن الذي يعي حقيقة البعث يكون بعيدا عن اللعب و اللهو .
[ 36] [ وإذا رءاك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون ]مع هذه الآيات الجلية في الآفاق ، و في أنفسهم ، تجد الكفار يستهزئون بالحق و يتخذونه لعبا ، أما القرآن فيبين بأن الحق لا ينبغي أن نستهزىء به ، لأنه ينتقم ممن يستهزىء به قريبا أو بعد أمد محدود .
و كم هو صلف هذا الانسان ، ففي الوقت الذي يتميز غضبا حين يسمع إن الرسول يذكر آلهتهم التي لا تغني عنهم شيئا ، و يتساءل : هذا هو الشخص الذي يذكر الآلهة ( ولا ينقل كلام الرسول فيها إحتراما لها ) ، في ذات الوقت تراه يكفر بالرحمن الذي أسبغ عليه نعمه ظاهرة و باطنة ؟!!